السلطان صلاح الدين الأيوبي

محمد فاروق الإمام

فاتح القدس

محمد فاروق الإمام

[email protected]

الناصر لدين الله أبو المظفر يوسف بن أيوب، مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام وشمال العراق والحجاز. اشتهر بلقبه السابق صلاح الدين في سورية قبل أن يصبح سلطاناً لمصر ويتسمى بالناصر لدين الله.

ولد صلاح الدين في تكريت عام 532هـ/1138م في ليلة مغادرة نجم الدين قلعة تكريت حينما كان والياً عليها، ويرجع نسب أسرته حسب ما يرجح أنها من قبيلة الراودية الكردية، على الرغم من نفي الأيوبيين هذا النسب، فقد ذكر الحسن بن داود الأيوبي في كتابه "الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية" ما قيل عن نسب أجداده وقطع أنهم ليسوا أكرادًا، بل نزلوا عندهم فنسبوا إليهم. وقال: "ولم أرَ أحداً ممن أدركتُه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا النسب".

كما أن الحسن بن داوود قد رجَّح في كتابه صحة شجرة النسب التي وضعها الحسن بن غريب، والتي فيها نسبة العائلة إلى أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي (محمد) بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هُدْبة بن الحُصَين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مُرَّة بن عُوف بن أسامة بن بَيْهس بن الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مُرّة بن نَشبَة بن غَيظ بن مرة بن عوف بن لؤي بن غالب بن فِهر (وهو جد قريش). والله أعلم!

وكان نجم الدين والد صلاح الدين قد انتقل إلى بعلبك حيث أصبح والياً عليها مدة سبع سنوات وانتقل إلى دمشق وقضى صلاح الدين طفولته في دمشق، حيث قضى فترة شبابه في بلاط الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي. وكان من القادة في جيش نور الدين، أرسله نور الدين من دمشق في الحملات إلى الشام وإلى مصر ليستكمل عمل عمه أسد الدين شيركوه على رأس الجيش لمواجهة الصليبين في الشام، وفي مصر بسط سيطرته عليها والعمل على صد الحملة الصليبية، وفي ذات الوقت ليستكمل انتزاعها من الفاطميين الذين كانت دولتهم في أفول، فنجح في عرقلة هجوم الصليبيين سنة 1169م بعد موت عمه شيركوه، و قمع تمرداً للجنود الزنوج، كما فرض نفسه كوزير للخليفة العبيدي العاضد، فكان صلاح الدين هو الحاكم الفعلي لمصر.

كان الوزير الفاطمي شاور قد فر من مصر هرباً من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة وقتل ولده الأكبر طيء بن شاور فتوجه شاور إلى الشام مستغيثاً بنور الدين بن زنكي في دمشق وذلك في شهر رمضان عام 558?/1163م ودخل دمشق في 23 من ذي القعدة من السنة نفسها فوجه نور الدين معه أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره، كان صلاح الدين في جملتهم في خدمة عمه وخدمة جيش الشام وهو كاره للسفر معهم، وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان؛ قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخا، وأنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك.

وكان نور الدين كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته فانتدبه لذلك وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور معهم فخرجوا من دمشق على رأس الجيش وفي جمادى الأولى سنة 559?/آذار 1164م فدخلوا مصر وسيطروا واستولوا على الأمر في رجب من السنة نفسها.

ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصودة وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالإفرنج عليه فحاصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها. ولكن تحت ضغط من هجمات مملكة القدس الصليبية والحملات المتتالية على مصر بالإضافة إلى قلة عدد الجنود الشامية أجبر على الانسحاب من مصر. وأعاد الملك نور الدين بن عماد الدين زنكي رحمه الله إرسال الجيش من دمشق لمجابهة الصليبين. وبلغ إلى علم نور الدين في دمشق وكذلك أسد الدين مكاتبة الوزير الخائن شاور للإفرنج وما تقرر بينهم فخافا على مصر أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد هناك فتجهز أسد الدين في قيادة الجيش وخرج من دمشق وأنفذ معه نور الدين العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد متوافقاً لوصول الإفرنج إليها، واتفق شاور والمصريون بأسرهم والإفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة.

وتوجه صلاح الدين في قيادة الجيش إلى الإسكندرية فاحتمى بها وحاصره الوزير شاور في جمادى الآخرة من سنة 562?/آذار 1167م، ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس وتم الصلح بينه وبين المصريين وسيروا له صلاح الدين فساروا إلى دمشق .

عاد أسد الدين من دمشق إلى مصر مرة ثالثة وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر ناكثين العهود مع أسد الدين طمعاً في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين في الشام لم يسعهما الصبر فسارعا إلى مصر، أما نور الدين فبالمال والجيش ولم يمكنه المسير بنفسه للتصدي لأي محاولة من قبل الإفرنج، وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله وسار الجيش.

يقول بن شداد:

(لقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت من دمشق مع عمي باختياري وهذا معنى قول القرآن: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) (البقرة:216).

وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر سير إلى أسد الدين في دمشق الشام يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعاً وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 564?/كانون الأول 1168م. ولما علم الإفرنج بوصول أسد الدين على رأس الجيش من دمشق إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان وعدهم بمال في مقابل ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالإفرنج أخرى، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، فقتله وأصبح أسد الدين وزيراً وذلك في سابع عشر ربيع الأول سنة 564?/19 كانون الأول 1168م، ودام آمراً وناهياً وصلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة نفسها فمات أسد الدين. ولما بلغ صلاح الدين قصد الإفرنج دمياط استعد لهم بتجهيز الرجال وجمع الآلات إليها ووعدهم بالإمداد بالرجال إن نزلوا عليهم وبالغ في العطايا والهبات وكان وزيراً متحكماً لا يرد أمره في شيء، ثم نزل الإفرنج عليها واشتد زحفهم وقتالهم عليها وهو يشن عليهم الغارات من الخارج والعسكر يقاتلهم من الداخل، فانتصر عليهم فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم وقتل من رجالهم عدد كبير.

في عام 1170م أغار صلاح الدين على غزة التي كان يسيطر عليها الصليبيون، وفي السنة التالية انتزع أيلة من مملكة أورشليم الصليبية وأغار على مقاطعاتي شرق نهر الأردن الشوبك والكرك.

في البداية لم يكن مركز صلاح الدين في مصر مستقراً بسبب الاضطراب الذي سببه توالي عدد كبير من الخلفاء العبيديين في مدد قصيرة، تحكم في قراراتهم سلسلة من الوزراء.

بعد موت العاضد سنة 1171م، دفع صلاح الدين العلماء إلى المناداة بالمستضيء العباسي خليفة والدعاء له في الجمعة والخطبة باسمه من على المنابر، وبهذا انتهت الخلافة العبيدية في مصر، وحكم صلاح الدين مصر كممثل لنور الدين الذي كان يقر بخلافة العباسيين.

حدّث صلاح الدين اقتصاد مصر، وأعاد تنظيم الجيش مستبعداً العناصر الموالية للعبيديين، و اتبع نصيحة أبيه أيوب بألا يدخل في مواجهة مع نور الدين الذي كان يدين له رسمياً بالولاء. لكن بعد موت نور الدين سنة 1174م اتخذ صلاح الدين لقب "سلطان" في مصر مؤسساً الأسرة الأيوبية، وماداً نفوذه في اتجاه المغرب العربي.

كان شيركوه عندما انطلق إلى جنوب مصر للقضاء على مقاومة مؤيدي العبيديين قد واصل الاتجاه جنوبا بحذاء البحر الأحمر باسطاً نفوذه على اليمن و مُدخلها تحت حكم الأيوبيين.

كان صلاح الدين قد تراجع في مناسبتين عن غزو مملكة بيت المقدس، وذلك في عامي 1170 و 1172م حيث كان يسعى للإبقاء على أمن بلاد مصر والنوبة، فكاد هذا يكون سبباً في وقوع مواجهة مباشرة مفتوحة بين صلاح الدين ونور الدين إلا أن موت نور الدين حسم المسألة، وكان ابنه الصالح إسماعيل طفلا، فسار صلاح الدين إلى دمشق فدخلها واستقبل فيها بترحاب بينما انتقل الصالح إسماعيل إلى حلب وظل يقاوم حتى مقتله سنة 1181م.

في دمشق توج السلطان صلاح الدين وعضّد مُلكه بالزواج من أرملة نورالدين، عصمت الدين خاتون، ثم بسط نفوذه على حلب والموصل عامي 1176 و 1186م على الترتيب، و بينما كان يحاصر حلب يوم 22 أيار عام 1176م حاول الحشاشون اغتياله، فأجروا محاولتين كانت ثانيهما وشيكة إلى حد أنه أصيب. بعد ذلك فرض صلاح الدين نفوذه على الجزيرة في شمال العراق وأخضع الزنكيين في الموصل وسنجار والأرتوقيين في ماردين وديار بكر، كما بسط نفوذه على الحجاز.

يقول أبو شامة المقدسي في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين: "لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بحلب بخروج ما في أيديهم من المعاقل، والقلاع، فعادوا إلى عادتهم في نصب الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد، فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جاولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان رحمه الله محترزاً خائفاً من الحشيشية، لا ينزع الزردية عن بدنه ولا صفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئا لوجود صفائح الحديد، وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان بذلك.

ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم. وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضراً، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، ومازال يخضخضه فيه حتى سقط ميتاً ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية منهزماً، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.

وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له في وسط سرادقه برجاً من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان. واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى سكن العسكر."

بينما كان صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه على عمق سورية فقد كان غالباً يترك الصليبيين لحالهم مرجئا المواجهة معهم وإن كانت غالبا لم تغب عنه حتميتها، إلا أنه كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم، وكان الاستثناء هو موقعة مونتجيسارد يوم 25 تشرين الثاني عام 1177م حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ ترك الجند تسعى وراء الغنائم وتتشتت، فهاجمته قوات بولدوين السادس ملك أورشليم و أرناط و فرسان المعبد و هزمته. إلا أن صلاح الدين عاد وهاجم الإمارات الإفرنجية منالغرب وانتصر على بولدوين في موقعة مرج عيون في عام 1179م وكذلك في السنة التالية في موقعة خليج يعقوب، ثم أرسيت هدنة بين الصليبيين وصلاح الدين في عام 1180م.

إلا أن غارات الصليبيين عادت فحفزت صلاح الدين على الرد. فقد كان أرناط يتحرش بالتجارة وبالحجاج المسلمين بواسطة أسطول له في البحر الأحمر، فبنى صلاح الدين أسطولا من 30 بارجة لمهاجمة بيروت في عام 1182م، وعندها هدد أرناطُ بمهاجمة مكة والمدينة، فحاصر صلاح الدين حصن الكرك معقل أرناط مرتين في عامي 1183م و1184م، ورد أرناط بمهاجمة قوافل حجاج مسلمين سنة 1185م.

تروى مصادر فرنسية من القرن الثالث عشر أن أرناط قد أسرَ في غارة أختَ صلاح الدين وإن كان ذلك غير مشهود في المصادر المعاصرة، سواء الإسلامية أو الإفرنجية، بل يُذكر أن أرناط هاجم قافلة قبل ذلك و أن صلاح الدين أرسل حراساً لحماية اخته وابنها الذين لم يصبها أذى.

بعد أن استعصى حصن الكرك المنيع على صلاح الدين أدار وجهه وجهة أخرى وعاود مهاجمة عزالدين مسعود بن مودود الزنكي في نواحي الموصل التي كان قد بدأت جهوده في ضمها سنة 1182م، إلا أن تحالف عز الدين مع حاكم أذربيجان وجبال حال دون تحقق مراده، ثم إن صلاح الدين مرض فأرسيت معاهدة في عام 1186م.

في عام 1187م سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس في يد صلاح الدين بعد أن هزمت القوات الصليبية في موقعة حطين بتاريخ 4 تموز عام 1187م. حيث التقت قوات صلاح الدين في حطين مع القوات المجتمعة لجاي ذي لوزينان نائب ملك أورشليم، وريموند الثالث ملك طرابلس، وفي تلك الموقعة كادت قوات الصليبيين تفنى على يد جيش صلاح الدين وكانت طامة كبرى ونقطة تحول في تاريخ الصليبيين. كما أسر أرناط وأشرف صلاح الدين بنفسه على إعدامه انتقاما لتحرشه بالقوافل، كما أسر جاي ذي لوزينان إلا أنه أبقى على حياته.

تروي مصادر أوروبية أنه وعلى غير العادة فإن صلاح الدين أمر بإعدام ما يقرب من مئة من فرسان المعبد و الهوسبتاليين لأنهم كانوا أخطر وحدات الصليبيين وأكثرها تدريباً و انتماء عقيدياً، وإن كان ذلك غير مشهود في المصادر الإسلامية المعاصرة.

دخلت قوات صلاح الدين القدس يوم 2 تشرين الأول عام 1187م بعد أن استسلمت المدينة وكان صلاح الدين قد عرض شروطاً كريمة للاستسلام، إلا أنها رفضت، فبعد بدء الحصار رفض أن يمنح عفواً للأوروبيين من سكان القدس حتى هدد باليان بقتل كل الرهائن المسلمين الذين كان عددهم يقدر بخمسة آلاف، وتدمير قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فاستشار صلاح الدين مجلسه ثم قبِل منح العفو، على أن تُدفع فدية لكل فرنجي في المدينة سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، إلا أن صلاح الدين سمح لكثيرين بالخروج ممن لم يكن معهم ما يكفي لدفع الفدية عن جميع أفراد أسرهم.

قبل القدس كان صلاح الدين قد استعاد كل المدن تقريباً من الصليبيين، ما عدا صور التي كانت المدينة الوحيدة الباقية في يد الصليبين. من الناحية الإستراتيجية ربما كان من الأفضل لصلاح الدين فتح صور قبل القدس لكون الأولى بموقعها على البحر تشكل مدخلا لإمدادات الصليبيين من أوروبا، إلا أنه اختار البدء بالقدس بسبب أهميتها الروحية لدى المسلمين، ويقال أنه لم يبتسم في حياته قط حتى حرر القدس.

كانت صور في ذلك الوقت تحت إمرة كونراد أمير مونتفرات الذي حصنها فصمدت أمام حصارين لصلاح الدين. كان صلاح الدين قد أطلق سراح جاي ذي لوزينان و أعاده إلى زوجته سيبيلا ملكة أورشليم، فلجئا أولا إلى طرابلس ثم إلى أنطاكيا، و حاولا عام 1189م استعادة صور إلا أن كونراد حاكمها رفض دخولهما لأنه لم يكن يعترف بجاي ملكا، فذهب جاي لحصار عكا.

حفّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا و أجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عرفت بضريبة صلاح الدين، قاد الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هم رِتشَرد (قلب الأسد) ملك إنجلترا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وملك ألمانيا فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس، إلا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة، و انضم الآخران إلى حصار عكا التي سقطت في عام 1191م، و أُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم بمن فيهم نساء و أطفال، فانتقم صلاح الدين بقتل كل الفرنجة الذين أسروا ما بين 28 آب و10 أيلول.

في 7 أيلول عام 1191م اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة رتشرد في موقعة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلا أن الصليبيين لم يتمكنوا من اجتياح الداخل وبقوا على الساحل و فشلت كل محاولاتهم لغزو القدس فوقّع رِتشَرد في عام 1192م معاهدة الرملة مع صلاح الدين مستعيداً بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور كما فتحت القدس للحجاج المسيحيين. العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي ورتشرد مثالاً على الفروسية والاحترام المتبادلين رغم الخصومة العسكرية، فعندما مرض رتشرد بالحمى أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجا لتبريد الشراب، وهو إلى جانب كونه فعلاً كريماً يعد استعراضاً للقدرة، وعندما فقد رتشرد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين اثنين.

عرض رتشرد على صلاح الدين فلسطين موحدة للمسيحيين الأوربيون والمسلمين العرب بطريق تزويج أخت رتشرد بأخو صلاح الدين وأن تكون القدس هدية زفافهما.

إلا أن الرجلين لم يلتقيا أبداً وجها لوجه وكان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل.

كانت المواجهة مع ريتشارد ومعاهدة الرملة آخر أعمال صلاح الدين، إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل ريتشارد، مات صلاح الدين من الحمى في دمشق في 3 آذار عام 1193م، الموافق يوم الأربعاء 27 من صفر عام 589?. و عندما فُتحت خزانته الشخصية وجدوا أنه لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرماً واحداً ذهباً سورياً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات.

صلاح الدين مدفون في ضريح في المدرسة العزيزية قرب الجامع الأموي في دمشق إلى جوار الملك نور الدين زنكي، وكان فلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا عندما زار دمشق توجه إلى مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية على قبره عليها نقش معناه "ملك بلا خوف و لا ملامة علّم خصومه طريق الفروسية الحق"، كما أهدى نعشا رخاميا للضريح إلا أن جثمان صلاح الدين لم ينقل إليه وبقي في النعش الخشبي ، بينما بقي الهدية في الضريح خاويا إلى اليوم.

في ساعة موته كتب القاضي الفاضل قاضي دمشق إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضي عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام}.

بالرغم من أن الدولة التي أسساها صلاح الدين لم تدم طويلا من بعده، إلا أن صلاح الدين يعد في الوعي الإسلامي محرر القدس و استلهمت شخصيته في الملاحم و الأشعار و حتى مناهج التربية الوطنية في الدول العربية، كما ألفت عشرات الكتب عن سيرته، و تناولتها المسرحيات و التمثيليات و الأعمال الدرامية.

لا يزال صلاح الدين يضرب به المثل على القائد المسلم المثالي الذي يعمل على مواجهة أعداءه بحسم ليحرر أراضي المسلمين، دون تفريط في الشهامة و الأخلاق الرفيعة.

بالرغم من كونه خصما عنيدا للأوربيين فإن صلاح الدين في الوعي الأوربي ظل نموذجا للفارس الشهم الذي تتجسد فيه أخلاق الفروسية بالمفهوم الأوربي، حتى أنه توجد ملحمة شعبية شعرية من القرن الرابع عشر تصف أعماله البطولية.

كما أن الشاعر دانتي أليجييري مؤلف الكوميديا الإلهية قد وضعه في المطهر مع عدد من الشخصيات التي عدها كافرة - وفق معتقده المسيحي الكاثوليكي - لكنها في نظره شخصيات صالحة و سامية أخلاقيا (وضع دانتي الرسول محمد صلى الله عليه و سلم في المطهر كذلك).

و يدرك الأوربيون أنه بالرغم من المذابح التي أوقعها الصليبيون عندما غزوا القدس في عام 1099م فإن صلاح الدين قد عفا عن كل المسيحيين الكاثوليك (الأوروبيين) و حتى عن الجنود المنهزمين طالما كانوا قادرين على دفع الفدية، في حين عومل الأرثودكس (و منهم العرب) حتى بأفضل من ذلك لأنهم عادة ما كانوا يعارضون الغزو الأوربي الصليبي.

و بالرغم من الاختلاف في العقيدة فإن القُواد المسيحيين امتدحوا صلاح الدين، خصوصا رتشرد قلب الأسد الذي قال عنه أنه أمير عظيم و أنه بلا شك أعظم و أقوى قائد في العالم الإسلامي؛ كما رد صلاح الدين بأنه لم يكن هناك قائد مسيحي أشرف من رتشرد.

قال عنه المؤرخون الأوربيون أن "من الحق أن كرمه وورعه و بعده عن التعصب؛ تلك الليبرالية والنزاهة التي كانت النموذج الذي ألهم مؤرخينا القدماء؛ هي ما أكسبه احتراماً في سورية الإفرنجية لا يقل عن الذي له في أرض الإسلام."