أحدثكم عن/ أستـاذ الأجيـال!

محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

كثيراً ما حكي لي الأديب/ صلاح حسن رشيد- عن أستاذه الدكتور/ الطاهر أحمد مكي- وكل حكايـة سمعتها؛ لها مغزى بعيد جداً، تصلح درساً في الأخلاق النبيلة، والسجايا الحميدة! فقال –على سبيل المثال: "كنتُ في زيارة لأستاذنا/ الطاهر مكي؛ فاتصلتْ به إحدى الباحثات، لتسأله عن هاتف لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، بخصوص مسألة في الميراث، فردَّ عليها قائلاً: أنا أُجيبكِ على سؤالكِ. فتعجَّبتْ، قائلة: ولكنكَ لستَ فقيهاً يا أستاذنا، فقال لها: يا بُنيَّتي، أنا أزهري ودرعمي، درستُ الفقه على المذاهب الأربعة! ثمَّ أجاب على فتواها!

أجلْ! هذا العِلْم، وهذه الثقافة؛ جلَّلتْ هامة (أستاذ الأجيال) وجعلته مثلاً يحتذى!

حكايـة ثانية؛ رواها صلاح رشيد –أيضاً- تكشف عن كرم "الأستاذ" ووقوفه بجوار تلامذته؛ فقال: ذات يوم زار الدكتور مكي أحد تلاميذه، وعندما رآه كاسف البال، وحزيناً مضطرباً، سأله عن السبب؟ فقال الطالب: سيؤجَّل زفافي لعامٍ آخر؛ لعدم مقدرتي على توفير النفقات! فلمْ يمضِ اليوم؛ فإذا بالطاهر مكي يأتي بالمبلغ المطلوب، ويعطيه لتلميذه، ففرَّجَ عنه كُربته!

أجل! هذه الطباع، وهذه المشاعر؛ نَقَشَتْ اسم (أستاذ الأجيال) في ذاكرة التاريخ!

حكايـة ثالثة؛ منذ بضع سنوات؛ نُوقشتْ رسالة علمية عن (الطاهر مكي) بكلية البنات بجامعة عين شمس، فاعتذر عن عدم الحضور! ولمَّا سألناه عن السبب، قال: "أردتُ أن أترك حرية المناقشة والنقد للمناقشين والحاضرين، لأنهم بمثابة أبنائي وزملائي؛ حتى لا يتحرَّج أحد منهم بإبداء رأيه صراحة"!

 أجل! هذا الحياء، وهذا التواضع؛ زيَّنَ حياة (أستاذ الأجيال) وجعله أُسوةً حسنةً لغيره!

 من أجل ذلك؛ وصفه الدكتور/ عبد الصبور شاهين قائلاً: إنَّ الطاهر مكي عالِم كبير زاهد، يعمل في صمت، بعيداً عن الضجيج!

 وعندما فاز الأديب/ بهاء طاهر، بجائزة النيل للآداب؛ قال على الفور: "إنَّ أستاذي "الطاهر مكي" كان أحقّ مني بالجائزة"!

* * *

 (الطاهر مكي) أديب موهوب بحق؛ فعندما يكتب في موضوع ما؛ يظل كتابه هو (العمدة) في هذا المجال! فكتابه (القصة القصيرة) ليس هو الأول فحسب، بلْ هو الأفضل أيضاً، وكتابه ( الشِّعر العربي روائعه ومدخل لقراءته) لا يزال هو الرقم الصعب في بابه! كما يعدّ كتابه (مقدمة في الأدب الإسلامي) أول دراسة ميدانية في دراسة آداب الشعوب الإسلامية! بلْ إنَّ مقالته التي نشرها بمجلة "الدوحة" عام 1986م عن الشيخ/ حسن البنَّا- لمْ تستطع كتائب "الإخوان المسلمين" أنْ تأتي بمثلها أبداً، فمازال (الإخوان) يعترفون بأنها أفضل مقالة تحليلية لشخصية مؤسس الجماعة!

أجل! فالطاهر مكي كاتب موسوعي، صاحب مشروع نقدي فريد؛ يقوم على إبراز نفائس الحضارة الإسلامية، واستخراج بحوث الاستشراق الرصينة ونقدها. من ذلك كتابه "بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال" وكتاب "الحب عند دانتي وابن حزم". فضلاً عن الدراسات الأندلسية، التي هي ميدانه الأول والأهم! مثل: "الأدب الأندلسي من منظور إسباني"، و"أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوربي الوسيط". ولعلَّ تحقيقه لمخطوطتيّ (طوق الحمامة) و(الأخلاق والسِّيَر) لابن حزم؛ شاهد على تفوقه في فن التحقيق! وكذلك تحقيقه لكتاب (الوافي في العروض والقوافي) لأبي البقاء الرندي، وغيرها. بلْ إنه أول من كشف عن رحلة المستشرق الإسباني دومينجو باديا، الذي أعلن إسلامه، وغيَّر اسمه إلى (علي بك العباسي) وتعلَّم العربية، وزار مكة والمدينة أثناء موسم الحج!

وهناك الكثير والكثير مما جادت به قريحة –أستاذ الأجيال- من المؤلفات التي سارت بها الركبان، وتخطتْ اليابس والماء، منها: كتاب (امرؤ القيس حياته وشعره) و(مع شعراء الأندلس والمتنبي) و(الأدب العربي المعاصر في مصر). كما ترجم عدة كتب، منها )الرمزية) و(مناهج النقد الأدبي) و(الشعر العربي في إسبانيا وصقلية) و(الحضارة العربية في إسبانيا) و(التربية الإسلامية في الأندلس) و(صلاح الدين الأيوبي في الأدب الشعبي الأوربي) وغيرها من المؤلفات التي لاقتْ قَبولاً حسناً بين الباحثين؛ فبايعه الباحث والأديب (وديع فلسطين) عميداً للأدب الأندلسي! وقال عنه المحقِّق/ عصام الشنطي": إنَّ دراسات الطاهر مكي ومؤلفاته في التراث والتحقيق والحضارة تأتي في المرتبة الأولى"!

* * *

 من المعروف لدى العامة والخاصة؛ أنَّ مؤلفات (الأكاديميين) جافة، وعقيمة! حتى إنَّ "الناشرين" يرفضون نشرها؛ لأنها كريهة كالمحيض، أوْ كأرجل الفئران، ورءوس الشياطين! لكن مؤلفات (الطاهر مكي) بخلاف هؤلاء الهامدين المحنَّطين؛ فدور النشر تتسابق علىى نشر كتبه وتوزيعها! ففي مقدمة الطبعة السادسة لكتابه (دراسة في مصادر الأدب) يقول: "استطعتُ في هذه الطبعة أنْ أصمَّ أُذُنيَّ عن الإلحاح عليَّ في التعجيل بطباعته، بعد أنْ نفد تماماً، واشتدَّ الطلبُ عليَّ، إذْ رأيتُ أنني بحاجة ماسة إلى أنْ أُعيد النظر فيه .. وهذا ما حدث فعلاً"!

 بالفعل؛ فـ(الطاهر مكي) عندما يشرع في التأليف، يرتفع به إلى درجة الرسائل المقدسة، فلا نجد في كتاباته الحشو ولا التكرار، ولا العبث والاستهبال! بلْ هي كلمات موزونة بميزان الذهب، والفكرة عنده متسلسلة ينتظمها عقد فريد يربط بين المقدمات والنتائج برباط محكم بديع! فمثلاً يقول في مقدمة كتابه (الأدب المقارن أصول وتطوره ومناهجه): "هذا كتاب أتعبني كثيراً، ومؤكد أن قارئه سوف يتعب معي! إذْ كان عليَّ أن أطوف بأركان الدنيا بحثاً وراء الأدباء من كل الطبقات –عظاماً ومتوسطين ولا شيء، والرحَّالة والمؤلفين، والأنواع الأدبية، والمذاهب النقدية في لغات عديدة، وأسماء لا تنتهي .. وعلى امتداد مساحة من الزمان، تتجاوز آلاف الأعوام، ومع ذلك أحسستُ وأنا أعاني كتابته بلذة لا تعدلها لذة، ومتاع لا يعدله متاع، وأثِق أنَّ متعة القارئ لن تقلّ عن متعتي بحال"!

* * *

 عمدة القول؛ إنه إذا ذُكِر روَّاد (دار العلـوم) أمثال: علي مبارك، وحفني ناصف، وطنطاوي جوهري؛ ومحمد عبد المطلب، وحسين المرصفي، وتمَّام حسان؛ ذُكِرَ (الطاهر مكي) معهم جنباً إلى جنبٍ! فطوال حياته لمْ ينافق مسئولاً قط، ولمْ يتقرَّب من السلطة أبداً، بلْ نأى بنفسه عن مواضع الشبهات، ومطامع الدنيا، وتفرَّغ للإبداع والبحث العلمي .. لذلك؛ استعانت به الجامعات لوضع مناهجها في الأدب والنقد، والإشراف على الدراسات العليا.

 منذ أكثر من ربع قرن؛ كتب مقالاً مدويًّا في مجلة "الهلال" طالب فيه بضرورة فصل "دار الكتب المصرية" عن "هيئة الكتاب"! وفعلاً استجابت الدولة لطلبه، وتمَّ الفصل بينهما، وبسبب ذلك؛ عاداه "رئيس الهيئة" -الذي كان يشغل رئيس الهيئتيْن في وقتٍ واحد- عداوةً شديدة!

 وكان شجاعاً لا يخشى في الحق لومة لائم! من ذلك اكتشافه سطو الدكتور/ محمد مندور في كتابه "نماذج بشرية" على كتاب (النماذج العالمية في الأدب الفرنسي والعالمي) للكاتب الفرنسي جان كالفيه!

في ذات الوقت؛ نرى "الطاهر مكي" ابن مدينة (إسنـا) مثالاً رفيعاً للوفاء .. فما مرةٍ التقيته أوْ هاتفته؛ إلاَّ وذكر لي شيخه/ أحمد الشريف –عالِم (قوص) الذي تعلَّم على يديْه، وقال لي: إنه كثيراً ما يدعو له، ويقرأ على روحه من سور القرآن المجيد!

بلْ إنه عندما كتب مقدمة ديوان (مواكب الفجر) لصديقه الشاعر المرحوم/ محمد أمين الشيخ- لمْ ينسَ أيام الصِّبا التي قضاها بمدينة "قوص"! إذْ يقول: "بعد رحلةٍ من العمر طالتْ؛ عدتُ إلى مهابط صبانا الأولى في قوص أقفُ على أطلال الأمس، وأستروِح ذكريات الماضي، وأستروح شقاواتنا، وطموحاتنا؛ التي ذهب الزمن بأكثرها، وطامن غرورنا، وهدهدَ من أحلامنا، وأبقى في أعماقنا بقية جذوة حب لا تهدأ ولا تخمد بهذه البقعة الطيبة من أرض مصر؛ التي التقتْ على ثراها روائع حضاراتنا المتعاقبة .. فقد احتفظتْ في أعماقها بكل جلال الماضي، منطوية على نفسها في كبرياء دون أن تذهب الحسرة بطيبة أهلها، أوْ تفسِد أخلاقهم الوديعة، في انتظار اللحظة المواتية، يمسون على خيرٍ، ويصبحون في رجاء"!

 من ذلك أيضاً؛ أنه ظلَّ وفيًّا لقصة حب عاشها في شبابه الباكر حينما كان في إسبانيا، وقد أشار إليها من طرف خفيٍّ في الإهداء الذي افتتح به كتابه (دراسة في مصادر الأدب) إذْ يقول: "إلى راهبة .. إلى قلب كبير، وعقل ذكي وَسِعني ذات يوم حين ضاقت بي الدنيا".

* * *

 لا جَرَمَ أنَّ الدنيا مازال فيها من الوفاء، والناس فيهم أوفياء .. فكما أنَّ الأزهر لنْ ينسى الشيخ المراغي، والجامعة لنْ تنسى طه حسين، كذلك لنْ تنسى (دار العلـوم) ابنها البار، وأديبها الكبير (الطاهر مكي)!

 أجل! لنْ تنسى –أبداً- تاريخه المُشرِّف، ومواقفه الشجاعة، ومؤلفاته الجادّة، ومحاضراته التي مازال يتردد صداها بالغدوّ والآصال!

إنه (أستاذ الأجيـال) الذي تخرَّجَ على يديْه الأدباء، والعلماء، والشعراء، والكُتَّاب، والأساتذة الكبار، وأرباب البيان، وقادة الرأي العام!

 من هنا أقول: إنَّ (الطاهر مكي) أحق مَنْ يُطلَق عليه لقب (الأستـاذ) بعد عباس العقَّاد!

ولِمَ لا؟ ألمْ يكن عصامياً مثله؟ ألمْ يختر حياة (الرهبنة) مثله؟ ألمْ ينهج نهجه في التأليف والتصنيف؟ ألمْ يحاكيه في سيرة حياته طولاً وعرضاً؟ ألمْ ينذر حياته للعلم فقط؟

 بلى! للعلم .. ولا شيء سواه! (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ). [المجادلة :11].