محمد رشيد رضا وشكيب أرسلان

محمد رشيد رضا وشكيب أرسلان

أو إخاء أربعين عاما

أ.د مولود عويمر

اللقاء الأول في بيروت

تعرف الشيخ محمد رشيد رضا على الأمير شكيب أرسلان في بيروت في عام 1895 بعد أن تعرف عليه من بعيد من خلال مطالعة مقالاته في الصحف العربية وقراءة شعره وحفظ كثيرا من قصائد ديوانه "الباكورة"، ومتابعة أخباره مع الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

وهكذا سجل أرسلان هذا اللقاء الأول: "جاءني وكنت نازلا في فندق ببيروت يقال له "كوكب الشرق"، فرأيت شابا سريا، ظاهرة عليه سيماء النجابة والأصالة، وضئ الطلعة، وقور المجلس، غالبا عليه الأدب وحب العلم."

واستمرت العلاقة بين الرجلين وان اختلفا أحيانا في قضايا سياسية إلا أنهما بقيا على صلة قوية، وتعاون مثمر، وكثيرا ما تبادل الزيارات الرسائل كما سنوضحه لاحقا للتنسيق والتشاور في قضايا عامة وخاصة.

التعاون المثمر في مجال الإصلاحح

وحرص كل واحد منهما على الترويج لعمل الآخر، والتعريف به. وهكذا كتب الشيخ محمد رشيد رضا عن شكيب أرسلان في عام 1911 في مجلة المنار، معرّفا به للقراء، مشيدا بأدبه الراقي، ومثنيا على نضاله في سبيل القضايا العربية. وجمعتهما لقاءات عديدة في مصر والشام وسويسرا لتبادل الآراء ووجهات النظر، والتنسيق في قضايا التنوير والتحرير في العالم الإسلامي.

 

مجلتا المنار والأمة العربية تحت المجهر الاستعماري::

شكلت مجلة المنار لمحمد رشيد رضا والأمة العربية لشكيب أرسلان مصدر قلق للقوى الاستعمارية وكل القوى الداخلية في العالم العربي والإسلامي المناهضة لحركة الإصلاح والتجديد، محاولة إيقاف المد التنويري والتحرري الذي حوته هاتان المجلتان الرائدتان.

كانت مجلة المنار محل دراسة ومتابعة مراصد الاستعمار والإستشراق، ولعل من أهم الدراسات التي أنجزت حولها وتأثيرها في الحياة الدينية والفكرية في العالم العربي المعاصر ما كتبه المستشرق الفرنسي المعروف هنري لاؤست في عام 1932 قائلا أن هذه المجلة تختلف كثيرا في منهاجها ورسالتها وتأثيرها عن كل الجرائد والمجلات التي كانت تعج بها مصر والعالم العربي والإسلامي في الثلث الأول من القرن العشرين.

كما تابعت المصالح الاستعمارية حركة مجلة الأمة العربية التي أصدرها شكيب أرسلان في جنيف بين 1930 و1938. واهتم بها الباحثون الغربيون تحليلا ونقدا، أذكر منهم بسيس جوليات، وليام كليفيلون، آن بونيفيل، وخاصة لفي بروفنسال. فهذا المستشرق الفرنسي الذي كرس حياته لدراسة الحضارة الإسلامية في الأندلس، بادر في عام 1947 بنشر بحث عميق عن أرسلان ومجلته "الأمة العربية" في مجلة أكاديمية قريبة من الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وهي مجلة المشرق المعاصر.

مراسلات بين رضا وأرسلان

تبادل الشيخان مئات الرسائل منذ لقائهما في عام 1895 في بيروت، واحتفظ أرسلان بالرسائل التي وصلته وهو في سويسرا بينما فقد الرسائل الأخرى. وقد نشر الكثير منها في كتابه: "السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة".

وتبرز هذه الرسائل التي تمتد على خمسة عشر عاما الصلة القوية التي تربط العلمين، وتكشف عن صفحات مجهولة من تاريخ حركة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.

وكم تمنيت أن ينشر القائمون على تراث الأمير أرسلان رسائله الكثيرة مع أعلام الجزائر أمثال عبد الحميد بن باديس، مبارك الميلي، الطيب العقبي، أبي يعلى الزواوي وأحمد توفيق المدني...الخ.

أرسلان ورضا في ديوان الصحافة الجزائرية

لقد سبق وأن تناولنا في مقال نشرناه في جريدة البصائر اهتمام الصحافة الجزائرية بشخصية الأمير شكيب أرسلان والتعريف بنضاله وكتاباته. وقلنا أن الأمير شكيب أرسلان أكثر الشخصيات الأدبية والسياسية المشرقية حضورا في الصحافة الجزائرية، فلا ينافسه في المرتبة الأولى من حيث اقتباس المقالات أي مفكر أو سياسي من المشرق العربي.

وقد نقلت هذه الصحف مقالات محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وأحمد حسن الزيات ومصطفى صادق الرافعي... لكن عددها محدود ولا يرقى إلى ما نشرته من نصوص الأمير أرسلان. فهو يتمتع بمكانة خاصة في قلوب النخبة الجزائرية بمختلف أطيافها والسبب في ذلك في نظري يعود إلى انخراطه الكلي في نضال وكفاح شعوب المغرب العربي.

ولم تقتصر مساندته على الكتابة عن قضايا المغرب العربي وإنما خاض في سبيلها معارك خطيرة، وسخر كل ما يملكه من مال وحظوة ونفوذ وعلاقات لمساعدة الزعماء المغاربة على تجاوز محنهم، وفتح لهم قنوات لإيصال أصواتهم إلى العالم. فهو رجل قول وعمل، ومجاهد في ميادين متعددة، ومكافح في جبهات مختلفة..

أما الشيخ محمد رشيد رضا، فكان تأثيره محصورا في أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بفضل علاقته بالشيخ محمد عبده، ومجلته الشهيرة المنار وتفسيره المعروف.

نقلت مجلة الشهاب عدة مقالات للشيخ رشيد رضا. ولما سمع الشيخ ابن باديس بوفاته أسرع إلى نشر الخبر لتعزية الأمة الإسلامية التي خسرت عالما مجتهدا، قل نظيره في ذلك الزمان، ومما جاء في حديث الشيخ ابن باديس أن الأستاذ رضا كان "نسيج وحده في هذا العصر فقها في الدين، وعلما بأسرار التشريع، وإحاطة بعلوم الكتاب والسنة ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسير العمران والاجتماع."

وكتب الشيخ ابن باديس بعد ذلك مقالا في ثلاث حلقات تناول فيها الجوانب المختلفة من حياته وأعماله مؤكدا في الأخير على أثره في العالم الإسلامي قائلا: " هذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم إصلاحا وهداية، بيانا ودفاعا، كلها من آثاره."

أما الشيخ محمد البشير الإبراهيمي فتربطه علاقة متينة بالشيخ رشيد رضا الذي تعرف عليه في القاهرة في سنة 1911 وجالسه كثيرا في دمشق رفقة الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ محمد الخضر حسين، فقال عن ذلك المجلس الذي كان الشيخ رشيد رضا " يفيض من كلامه العذب في شؤون مختلفة."

وذكر كذلك بخصاله وعلمه الغزير ملحا على فضله في إنقاذ تراث أستاذه الإمام محمد عبده. واعتبر الشيخ الإبراهيمي الشيخ رضا أحد الروافد العلمية والفكرية التي استفادت منها جمعية العلماء الجزائريين في فلسفتها ورسالتها الإصلاحية.

كما كتب الشيخ باعزيز بن عمر مقالا عن الشيخ رضا، بين فيه قيمته العلمية، وكشف عن تأثيره في الحركة الإصلاحية المعاصرة خاصة من خلاله مجلته الشهيرة المنار.

ولقد نقلت هذه المجلة بعض ما قيل عنه اقتباسا من مجلة الأزهر. كما نشرت للأستاذ محب الدين الخطيب مقالا مطوّلا عن رشيد رضا نقلا عن مجلته "الفتح". كذلك نشرت الشهاب صورة كبيرة للشيخ رضا مع هذه العبارة " حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار". ذلك تقدير علماء الجزائر لرجال الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي.