العالم المجاهد الشهيد: محمد خير زيتوني

(1944- 1980م )

clip_image002_ceac8.jpg

عائلة "الزيتوني"... تعمل في طب الأعشاب منذ قرن ونصف :

      كتب الأستاذ مضر رمضان مقالة عن عائلة الزيتوني نشره في يوم السبت 20 حزيران 2009م يقول فيه :

(عندما نفتح سجل العائلات والمهن في مدينة "حلب" ليس لنا أن نخفي الدور الهام الذي سجلته عائلة "الزيتوني" التي أصبح اسمها مرتبط بمدينة "حلب" من جهة ومن جهة أخرى مرتبط بالمداواة عبر الأعشاب أو بما يسمى طب الأعشاب لأنه إذا سرت في مدينة "حلب" وعلى وجه الخصوص عند منطقة "أغير" و"باب الحديد" سترى كثيراً من اللافتات تدلك على عيادات "الزيتوني" للمداواة عبر الأعشاب..

         (وعن تاريخ هذه العائلة وسر ارتباطها بطب الأعشاب كان لنا لقاء مع السيد "محمد أنس الزيتوني" ، والذي حدثنا عن عائلته المرتبطة بطب الأعشاب تاريخيا فقال: «إن عائلة "الزيتوني" من العائلات القديمة في "حلب" والتي صار لها تاريخ عريق في هذه المدينة وكانت هذه العائلة مشهورة بمزاولة مهنة طب الأعشاب منذ القدم حيث اشتهر أجدادي بمعرفتهم الكبيرة بالأعشاب والزهور وما إلى ذلك إلى أن بدأ جدي الحاج "أمين الزيتوني" رحمه الله في حوالي العام (1850) باستخدام هذه الأعشاب في سبيل معالجة بعض الأمراض، وكان في ذلك الوقت يعتمد على التجريب والبحث العملي إلى أن اكتسب خبرة كبيرة من مزاولته لهذه المهنة التي كان دافعه إليها انتشار بعض الأمراض التي لم يكن لها علاج وبروز الفقر كصفة عامة على الناس، فاتبع طريقة العلاج عبر الأعشاب مستندا إلى المعالم الدينية والعادات القديمة ومطورا إياها حتى صارت علما في حد ذاته اعترف له المجتمع، ومن جهة أهم كان لجدي هدف في تقديم خدمة لجيرانه وأبناء حارته وأهله مقابل مردود بسيط كان يتقاضاه آنذاك، وفي ذلك الوقت - كما يحكي لنا أعمامنا وأجدادنا- كان هناك عدد من الأناس الذين يتبعون أساليب معينة في العلاج من بعض الأمراض إلا أن جدي الحاج "أمين" كان يعتبر أهمهم وأكثرهم معرفة حيث شفي على يده كثير من الأمراض التي كانت تعتبر أمراضا مستعصية ولهذا السبب دعي الحاج "أمين الزيتوني" أول طبيب أعشاب في "حلب"».

         وفي لقاء آخر مع الشاب "براء الزيتوني" الذي يعمل بذات المجال حدثنا عن آلية انتقال هذا العلم عبر الأجيال والظروف التي مرت بها إلى أن غدت مهنة ومكسبا للقوت والعيش لأبناء "الزيتوني" حتى وصلت إلى أبناء الجيل الحالي فقال:

        «لم يكن جدي الحاج "أمين" ليقتصر بهذه المعارف على ذاته بل أورث تلك العلوم التي جمعها عن طريق التجربة والبحث العملي لأولاده وأهمهم كان الحاج "مصطفى" الذي عمل على تطوير الأدوات التي يعمل بها وتوسيع دائرة المعارف لديه عبر البحث والتجربة ليقوم بدوره على تصدير هذا العلم بأسراره إلى أولاده ومنهم جدي الحاج "عبد القادر" إذ عملوا على تحويل هذا العلم إلى مهنة يكسبون منها عيشهم وقوتهم، حتى وصلت إلينا نحن جيل الشباب بصيغتها الحالية وقد عمل كل جيل سلف على تطوير هذه المهنة بإيجاد خلطات جديدة تكون علاجا لأمراض جديدة، حتى أصبحت اليوم بين أيدينا واضحة المعالم وصريحة الاتجاهات، وعبر هذا التاريخ هناك الكثير من أبناء "الزيتوني" لم يلتزموا هذه المهنة كوالدي الذي لم يتعلمها ولم يعمل بها إلا أن سلسلة هذه المهنة لم تنقطع لأنني وفي سبيل الحفاظ على تاريخ ومسيرة هذه المهنة وبطلب من والدي ومن جدي أخذتها أنا والكثير من أولاد أعمامي عن جدي الحاج "مصطفى الزيتوني" الذي يعتبر من أهم رواد طب الأعشاب في العائلة وفي "حلب" لأنه أدخل على هذا العلم الكثير من المعارف والتجارب الجديدة التي طورت المهنة عمليا وعلميا».

           أما عن الآلية التي يعمل بها أبناء الجيل الحالي وإمكانيتهم لتطوير هذا العلم حدثنا "الزيتوني براء" قائلا: «نحن اليوم نعمل بأساسات وضعها أجدادنا ولا نعمل على إضافة خلطات جديدة لأسباب كثيرة منها أن طب الأعشاب لم  يعد كما كان في السابق الركيزة الأولى في العلاج، إذ أن الكثير من أبناء اليوم يتوجهون باتجاه الطب الكيميائي وليس لديهم قناعة بطب الأعشاب فيكون طب الأعشاب بمثابة الحل الأخير ومن الأسباب أيضا أن طب الأعشاب يحتاج إلى التجريب العملي وليس بالإمكان أن نقوم بتجربة هذه الخلطات الجديدة بشكل عشوائي على الناس ومن جهة أخرى نستطيع القول أن طب الأعشاب، قد أخذ كفايته حاليا ولم يعد بالإمكان خلق أعشاب جديدة وخلطات جديدة».

         ويتابع "الزيتوني" في حديثه عن إمكانية بقاء العائلة في هذا المجال فيقول: «على الرغم من أن الكثير من أبناء عائلة "الزيتوني" يعملون اليوم بطب الأعشاب وأغلبهم مصر على الاستمرار رغم الظروف الصعبة التي يعيشها طب الأعشاب في أيمانا هذه، إلا أنني شخصيا لا أنوي الاستمرار بهذا المجال وذلك لأن طب الأعشاب أصبح مستهدفا من قبل الكثير من المشعوذين والدجالين الذين راحوا يسيؤون استخدام هذا العلم كما يسيؤون إلى من يتعامل فيه ومن ناحية أهم فإنه حتى اليوم لا يتم دعم هذا العلم من قبل المجتمع أو من قبل الجهات المعنية، حيث أنه من النادر جدا أن تجد منهاجا معينا أو كتابا خاصا يعلم مبادئ المداواة بالأعشاب وذلك لندرة العاملين بهذا المجال ولاعتمادهم على الخبرة والتجربة أكثر من اعتمادهم على المنهج والترتيب العلمي».

         وفي تعريفه لطب الأعشاب وكيفية التعامل مع الأمراض والمرضى يحدثنا السيد "عبد القادر الزيتوني" أحد أبناء العائلة وأشهرهم في المداواة عبر الأعشاب فيقول: «إن طب الأعشاب لا يعتبر طبا أساسيا في يومنا هذا، بسبب وجود الكثير من الأمراض الجديدة التي لم يعرف سببها حتى الآن وأهم ما يرتكز عليه طب الأعشاب هو معرفة سبب المرض لذا فهو يعتبر طبا مساعدا وليس أساسيا، فعندما نقوم بدراسة حالة مريض ما وإعطائه الدواء العشبي المناسب نبحث دائما عن سبب الألم الذي يعانيه المريض لأننا عندما نكتشف السبب نستطيع أن نوصف الخلطة العشبية المناسبة وهنا يأتي دور الخبرة في التعامل مع المريض والخبرة في التعامل مع الخلطات إذ أنه ليس بالإمكان وصف أي خلطة باعتبارها عشبية لا تؤذي، لأن بعض الأعشاب تكون سامة في حالتها الطبيعية».

           وقد أنجبت تلك العائلة الكريمة عدداً من العلماء ، منهم : الشيخ عمر عبد القادر زيتوني، والدكتور مصطفى الزيتوني الذي درس الطب في الأزهر الشريف ، وافتتح مشفى في حلب الجديدة، وقد تميز ذلك المشفى بأن مديره شيخ معمم، والممرضات منقبات، والدكاترة متميزين، وكان الشيخ الطبيب مصطفى زيتوني يساعد المرضى والمحتاجين، وقد ينقل معداته إلى بيوت المرضى لإجراء بعض العمليات البسيطة، والشيخ الشهيد محمد خير الزيتوني، وقد قدمت العائلة الشهيد أحمد أنس زيتوني قرباناً على مذابح الحرية ، كما قدمت الشيخ الشاب عبد القادر عمر زيتوني شهيداً جميلاً في سجون الظالمين والطغاة ..

وفي هذه الصفحات سوف نتناول شخصية عالم مجاهد شهيد أفنى عمره في خدمة الدعوة إلى الله ...ألا وهو محمد خير زيتوني رحمه الله تعالى ، وأدخله فسيح جناته .

مولده ونشأته : 

clip_image004_60bd5.jpg

        ولد الشيخ (محمد خير زيتوني) في حي أقيول بحلب الشهباء، عام 1944م، وليس عام 1948، كما ذهب أستاذنا عبد الله الطنطاوي، والأستاذ محمد عادل فارس، والشيخ حسن عبد الحميدـ، لأبوين صالحين تقيَّين، بلغ من صلاحهما حرصُهما الشديد على المال الحلال، فلا يغذّيان أنفسهما وأولادهما إلا من المال الحلال، وقد زرعا هذا في نفوس الأولاد، فشبُّوا عليه، وكان محمد خير أحرص الجميع عليه .

       وشيء آخر كانا يحرصان عليه، هو مَلء البيت بتلاوة القرآن الكريم ، في الصباح والمساء، الأمر الذي حبّب القرآن العظيم إلى نفس محمد خير ، فعكف عليه حتى حفظه على يد أبيه الشيخ عبد القادر زيتوني وهو فتى !..

       كان والده الشيخ (عبد القادر زيتوني) مشرق الوجه، قصير القامة، يرتدي جبة وعمامة بيضاء، زاهداً متواضعاً، ولد في حلب عام 1918م، وتلقى العلم على الشيخ عبد الله سراج الدين، وعلى الشيخ بكري رجب -رحمة الله عليهما-، وكان يعمل خياطاً، وقد سخر وقته ونفسه وعمله في خدمة الدين حيث كان يخيط الجبة للعلماء وطلاب العلم، ويبيع العمائم والطواقي والمسابح والعطر في دكانه ..دخل مرة إلى سكنة هنانو، فوجد مسجداً مهجوراً قد تهدمت جدرانه، فأصلحه، وغسله، وفرشه، ثم ذهب إلى الأوقاف، وألحّ عليهم، فوظفوه فيه إماماً وخطيباً، وفي زمن الوحدة تحدث عن جرائم جمال عبد الناصر، فعزل عن الخطابة، فتوجه إلى مسجد آخر، وبقي يخطب أكثر من 20 سنة، وحدث مرة أن ضابطاً مسيحياً أهان الشيخ عبد القادر، فاحترق بيته في نفس اليوم، فأرسل جنوده، فأحضروا الشيخ، وطلب منه السماح، واعتذر له، فعفا الشيخ عبد القادر عنه، وكان يعطي درساً في جامع بانقوسا قرب باب الحديد، عندما يغيب الشيخ عبد الله سراج الدين، وقد حضرتُ بعض تلك الدروس، وكان أحدها عن التوسل، ردّ فيه الشيخ على بعض السلفية، فقال : رسول الله أرجى للقبول من أعمالنا، واستشهد بالحديث أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، وكان يعطي درساً بعد صلاة الفجر من يوم الاثنين في الجامع الأموي الكبير، وكان يدرس في جامع الطباخ في أقيول .. توفي عام 1986م .

        وأما الوالدة ( نديمة زيتوني ): فهي شريفة النسب من بيت الزيتوني، من مواليد حلب عام 1925م،  تمتاز بالحنان في تربية أولادها، تربي أبناءها على حب الخير والرحمة بالضعفاء وتلاوة القرآن والمحافظة على الصلاة، وقد أنجبت من الشيخ (عبد القادر زيتوني) تسعة أولاد : 5 ذكور ، و4 بنات ..وهم :

1-حسين زيتوني : من مواليد حلب 1941م، عاش حتى أدرك الثورة السورية، وهاجر إلى أورفة في تركيا، وتوفي عام 2016م .

2- أحمد موفق زيتوني :

clip_image006_726ec.jpg

من مواليد عام 1947م، حصل على الثانوية من مدرسة المعري، درس الحقوق في جامعة حلب، وكان يعمل تاجراً للحديد في حلب .

3-ياسر زيتوني

clip_image008_c1cec.jpg

        درس المرحلة الابتدائية في حلب، ثم درس الصف السابع في المدرسة الشرعية في إدلب على يد الشيخ محمد خير زيتوني الذي أخذه ليشرف على تربيته هناك حيث كان يعمل مدرساً وموجهاً في الثانوية الشرعية (النهضة ) في إدلب عام 1975 – 1979م ، يذهب الشيخ إلى التعليم، ويعود بعد انتهاء الدوام، وينام فيها أثناء مناوبته يوم في الأسبوع .

4-عبد المنعم زيتوني :  

  clip_image010_46934.jpg

      من مواليد حلب ا يناير عام 1951م، درس حتى أنهى المرحلة الابتدائية، عمل حداداً في حلب، وبعد الثورة لجأ إلى مدينة بورصة في تركيا  .

ومن أخواته: زوجة الشيخ خالد توامة، وصفاء: وهي صغرى أخواته، وقد توفيت بعد الثورة.

الشيخ محمد خير زيتوني في طفولته :

     في هذه البيئة الصغيرة الصالحة نشأ الفتى محمد خير زيتوني على حبّ الله ورسوله والإسلام.

    حيث ترعرع (محمد خير زيتوني) في بيئة فقيرة، فوالده كان يتقاضى راتباً زهيداً قدره / 70/ ل . س، وعندما كان محمد خير في الصف الخامس أراد الشيخ عبد القادر من ولده محمد خير أن يترك المدرسة، ثم وضعه عند نجار موبيليا أرمني في حلب، وكان محمد خير منذ طفولته ملتزماً بالصلاة، فراح يلحّ على المعلم الأرمني لكي يسلم، ويصلي، وكان يشرح له أهمية الصلاة، فطرده المعلم من العمل، وقال لوالده: ولدكم يريدني أن أترك ديني، وأسلم، فكانت هذه الحادثة سبباً لعودته إلى المدرسة، حيث درس محمد خير زيتوني في مقتبل عمره القرآن مع التجويد عند الشيخ محمد نجيب خياطة، والشيخ محمد ويس -رحمة الله عليهما- .

دراسته، ومراحل تعليمه :

       ثم دخل الفتى (محمد خير زيتوني) المدرسة، كسائر فتيان حيّه، وأنهى فيها المرحلتين : الابتدائية، والإعدادية . ولحبّه وحبّ أبويه الإسلام، ترك المدرسة النظامية الرسمية، ودخل المدرسة الشعبانية الشرعية، ليدرس العلوم الشرعية والعربية على أيدي عدد من كبار علماء حلب، وفي طليعتهم العلامة الشيخ عبد الله سراج الدين، والعلامة الشيخ أحمد القلاش، وسواهما من العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة .

        وكان الفتى محمد خير متفوّقاً في دراسته وسلوكه وأخلاقه، فأحبّه مشايخه، واستمرّت الصِلات الطيبة بين التلميذ وبين أساتذته العلماء، إلى أيامه الأخيرة في حلب؛ فقد رأوه مكبّاً على علوم الدين وعلوم اللغة العربية، يرتاد مجالس العلم والعلماء، والمكتبات العامة والخاصة، يطالع كتب الفقه والتفسير والحديث، ويسأل سؤال طالب العلم الذي يرغب في العلم ليتقوّى به على طاعة الله، وخدمة الإسلام والمسلمين، وليس لحمل شهادة تكون مطيّة لوظيفة يعتاش منها هو وأسرته، كأكثر خريجي المعاهد والجامعات .

       ثم انتسب إلى كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر، وتخرّج فيها عام 1977 م .

في تيّار الحياة :

       بعد أن تخرّج في الكلية الشرعية (الشعبانية) عمل الشيخ محمد خير إماماً في مساجد حلب، وليس في مسجد واحد، كسائر الأئمة .

        والسبب في ذلك، أن الشيخ محمد خير ما كان ليرضى أن يكون موظّفاً لدى الأوقاف كسائر الموظفين، يغيّب الشموس، ليقبض الفلوس .

       كان يريد أن يكون (إماماً) للناس، وأن يعيد للمسجد رسالته ووظيفته في هذه الحياة، كما أرادها الإسلام، وطبّقها الرسول القائد، فكان الشيخ الشاب محمد خير يصلّي بالناس صلاة تتميز من صلاة كثير من الأئمة، بالخشوع في تلاوته المعبّرة عن المعنى المراد، وليست كأيّ تلاوة تصحّ بها الصلاة فحسب … كانت تلاوته متميّزة في شدّتها ورقّتها، وفي وقفاتها، وفي وصل الآيات بعضها مع بعض، وكذلك كان الخشوع في الوقوف والركوع والقيام والسجود، وفي التكبير والسلام …

       وبعد الصلاة صِلات … صلة مع هذا الفتى الذي توسّم فيه الخير، وذاك الشاب … يجيب على أسئلة المستفتين من الكبار والصغار، ويجلس معهم، ويصحبهم إلى بيته، ويكرمهم بلا تكلف، ويزورهم في بيوتهم، ويتعرّف إلى الآباء والإخوة ، ينصحهم، ويدعوهم إلى أن يعمروا بيوت الله، بصوته المشحون بالحنان، وبابتسامته العذبة التي لا يفارق طيْفُها مُحَيَّاه الطلْق، ويلقي كليمات قصيرات بعد بعض الصلوات، ولكنها ذات معنى، وفيها روح، وليست مجرد كلمات ترمي بها الريح في مكان سحيق … فيجتمع عليه الناس في الحيّ الذي يصلّي إماماً بمسجده، والعيون المتجسسة التي تحصي على الناس أنفاسهم تتابعه، والمخالب تكتب التقارير عن خطورة هذا الشيخ على الحيّ الذي يصلي فيه ! وتقترح نقله إلى مسجد آخر ، فيُنقل الشيخ ، وقد أسس خليّة قبل أن يغادر الحيّ ، وأحكم الصلة ببعض الشباب والرجال ليتابعوا ما بدؤوه معه …

        وهكذا كان الشيخ الشاب يتنقّل من مسجد إلى آخر، وكان يستفيد من تجاربه في المسجد الذي سبق أن عمل فيه، حتى تراكمت لديه الخبرات الدعوية، وهو ما يزال في ريعان الشباب، وأفاد منها عملنا المسجدي .

       وكان يطوف القرى، ويدعو إلى الله على طريقة جماعة التبليغ وكان يصحبه ثلة من زملائه منهم الشيخ عبد المجيد نصار، وعبد الإله نصار، ويصلي الجمعة بالناس حيث خطب في مساجد السفيرة وفي الجامع الكبير في عندان .

         وفي عام 1965 تفتّق ذهن الشيخ عن أسلوب طريف في الدعوة إلى الله . إن أهل المساجد صالحون بجملتهم، وينالهم حظهم من دروس الشيوخ وخطبهم … لكن أهل " السينمات " بعيدون عن هذا .

         أفلا ينبغي أن نغشاهم في أماكنهم ؟! ولكن كيف ندخل السينما، ونشارك في التفرّج على " أفلامها "، ومعظم ذلك فسق ؟!

       قرر الشيخ أن يدخل إلى السينما قبيل انتهاء " الفلم " من الباب المعدّ للخروج، وحيث يفتح الباب في الدقائق الأخيرة من عرض الفيلم .

       ويصعد إلى المسرح فور إشعال الأضواء، ويفاجأ الناس بشيخ ينادي فيهم : أيها الناس، يا جنود محمد، يا أحباب الله … ثم يعِظُهم موعظة قصيرة مؤثّرة … وحين يشعر أنه ملَك قلوبهم، يدعوهم إلى التوجّه إلى المسجد الأقرب …، وتستجيب له الجماهير .

       ويحسّ أصحاب دور السينما بالخطر، بسبب ضياع زبائنهم، وتتولى السلطات مهمة " الحفاظ على الناس من الهداية " فتعتقل الشيخ .

في الجندية :

        سيق الشيخ الشاب إلى خدمة العلم كسائر الشبان، ولكنه لم يكن مثلهم، بل كان الداعية الذي لا يفكر إلا بالأسلوب الأمثل للاتصال بالناس، ودعوتهم إلى هذا الدين العظيم الذي وهب له حياته، وآلى على نفسه أن تكون نفسُه الفداءَ له، وأن يكون وقته وراحته وماله وكلُّ إمكاناته مسخّرةً له، مبذولةً في سخاء من أجله .

        وساءت حركتُه الضباطَ ( إياهم ) وخاصة قائد اللواء 132 العقيد المأفون : محيي الدين خليل الذي كان يتلقّى التقارير عنه خاصة، وعن العسكريين الآخرين عامّة، فهدّده وتوعّده بالسجن، وما في السجن من ( مبهجات ) النظام، ولكنّ الشيخ المجنّد الداعية لم يكفّ عما انتدب نفسه إليه، ودخل السجن، وكان داعية في السجن، وتأثّر به عدد من العساكر، فنقلوه إلى قطعة أخرى، وإلى سجن آخر، والمجنّد الداعية ماضٍ في طريقه، ودائرة المتأثرين به تزداد اتساعاً ..لقد تنقل أثناء خدمة العلم في 20 وحدة عسكرية : الرستن، ثم تدمر، ودرعا، وحلب، ودير الزور، ..

         وكلما ضيّقوا عليه، وجد المخارج لنشاطه، وكان الله يوفّقه فيما هو فيه، لما علم من إخلاصه وصدقه في جهاده، وصبره ومصابرته على أعدائه … كان توفيق الله حليفه حيثما حلّ، وارتحل ...وتسرح من الخدمة عام 1970م .

في مصر :

       ذكرنا أن الشيخ (محمد خير زيتوني) انتسب إلى الأزهر الشريف، وكان يذهب إلى مصر مرّة كل عام، ويبدو أن نفسه كانت تتوق إلى البلاد التي ظهر فيها الإمام حسن البنا ودعوته المباركة، التي كان ينتمي إليها، ويحبّها، ويفتديها بكل شيء … كان يحنّ للإمام الشهيد، وللسيد قطب الشهيد، ولتلاميذهما، وخاصة الذين ذاقوا ألوان العذاب في سجون الفراعين الصغار، فكان يفتش عنهم، ويجلس إليهم، ويستمع منهم، ويغذي فكرة الجهاد والاستشهاد من تضحياتهم، فزار السيدة المجاهدة الجليلة زينب الغزالي، وسمع منها الكثير، كما كان يزور محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية بمصر، فيقتبس منه الذكر والطاقة الروحية، وإذا رأى أي مخالفة يهمس في أذن الشيخ على انفراد، وينصح له، وبنى علاقة حميمة مع الخطيب المتميّز الداعية عبد الحميد كشك، رحمه الله رحمة واسعة . وكان يحضر خطبة الجمعة لديه في مسجد ( دير الملاك ) في القاهرة، وبعد الصلاة يذهب إلى غرفته ، ويصيح، وهو واقف في الباب :

السلام عليكم ورحمة الله .

فيهتف الشيخ الكشك :

أهلاً بالشيخ محمد السوري . تفضلْ !

        ويتزود الشيخ محمد خير من علم الشيخ، ومن روحه وتجاربه، ما يجعله يعود إلى حلب بزادٍ روحيّ هائلٍ ، تمثّل في دعائه المستمرّ بأن يرزقه الله الشهادة في سبيله وأن يجعله أهلاً لها … كان يقول :

- يا رب … أنت تعلم أني نويت الشهادة في سبيلك ، فلا تحرِمْني منها يا كريم .

        وهناك في مصر، تعرّف إلى العديد من الإخوان خريجي سجون فرعون مصر ، وزار مع بعضهم، قبر الإمام الشهيد رحمه الله تعالى، كما صحبه أحد أساتذته في الأزهر، وهو أستاذ وأخ جليل ، صحبه إلى حلوان ، ومن بعيدٍ أشار له بإصبعه إلى منزل الشهيد سيد قطب ، رحمه الله رحمة واسعة، ومع أن الدكتور أوصى محمد خير ألا يقف أو يفعل ما يلفت نظر المخبرين، ولكن هيهات … كيف يستطيع الشيخ محمد خير أن يرى منزل شيخه وأستاذه الذي حبّب إليه الجهاد والبذل والاستشهاد، يرى منزل سيد قطب، كما يرى سائر المنازل الأخرى …

          ترقرقت الدموع في العيون، واهتزت المشاعر، ووجف القلب، وتَمْتَمَتْ الشفاهُ بالدعاء، وعاد إلى حلب ليصف لإخوانه الصغار والكبار تلك اللحظات الرهيبة، أمام قبر الإمام الشهيد، وعند منزل الأستاذ الشهيد .

أبرز صفاته :

         كان - رحمه الله –قويَّ البنية، أميَل إلى الطول، أبيض أشقر، وجهه المحلّى بلحيته الشقراء، كقرص الشهد، وعيناه الزرقاوان عينا عُقاب، نشيط، تغلب عليه الحركة، فلا يكاد يهدأ في المسجد والرحلات وحيث كان .

لباسه نظيف ، تغلب عليه البساطة وعدم التكلّف .

وطعامه يسير ، ومن الموجود . إذا زار أحد إخوانه سأله : ما عندك اليوم من الطعام .

وإذا زرتَه سألك : ما رأيك بأكْلة مجدّرة ؟

ما رأيك بمحشي يطيّر العقل ؟

          كان كريماً، ويداعب ضيفه، ولا يتكلّف له . تسمعه وهو يقدّم الطعام ، أو يدعوك إلى الفطور أو الغداء أو العشاء عنده … تسمعه يقول : وما أنا من المتكلفين .

          والدعابة طبع فيه ، وهي دعابة مهذّبة جداً … إذا زاره أخ حليق قال له، وطيفُ ابتسامةٍ عذبة يزيّن شفتيه : أطال الله لحيتك .

         وكان الشيخ يتحدّث باللغة العربية الفصيحة أو بلهجة عامية مفصّحة، يأمر أهله وأولاده بها، وينصح بها إخوانه ويعدّها من شعائر الإسلام ، وقد أمرنا بها الإمام الشهيد في وصيته الثالثة من وصاياه العشر .

          كان خدوماً لإخوانه ، في المسجد ، والبيت ، والرحلات خاصة ، وكم كان الشبان والفتيان يفرحون عندما يذهبون معه في رحلة ، فيها سباحة وسياحة فكرية ودعوية … كان يعمل ويتعب في تلك الرحلات أكثر من أي أخ فيها .

           وكان متسامحاً ، وَصولاً متواضعاً ، ذكيّاً ، فطناً ، فهيماً ، ذا ذوق رفيع ، ونفس صافية نقيّة شفّافة ، وحاضر البديهة ، لا تفارق الابتسامة شفتيه ، يحاول التعرُّف إلى من يلقاه من الناس ، ويحاول تقديم ما يستطيع من خدمات وتسهيل أمور ، فهو يلبّي كلّ طلبٍ فيه رضا الله وخدمةُ الدعوة ، مهما كلّفه من جهد ومال ومشقّة … يسترخص كل شيء في سبيل الله ، ولإخوانه ودعوته .

          همومُ الأمة هي همومه يتفطّر قلبه لمصاب أخ ، أو رؤية منكر، وتبلغ به السعادة مداها عند زوال ما نزل … يحاول تضميد الجراح ، وإيقاف النزيف ، وتخفيف حدّة الآلام والأحزان الملمّة بأبناء الدعوة والإسلام .

        وكان التزامه بالإسلام أروع التزام ، يطبّق مبادئه وتعاليمه وسننه تطبيقاً عملياً … قولاً وفعلاً ، وكان سلوكه منبثقاً من فكره المنهجي الملتزم .

        كان يجمع بين صفتين كريميتين، كأعلى مستوىً يمكن أن يتحلّى به تقيّ ، وهما الذلّة على المؤمنين ، والعزّة على الكافرين . وإذا وجِد من يتحلّى بإحدى الصفتين فإن التحلّي بهما جميعاً يعدُّ من المزايا النادرة .

         وكان شجاعاً ، مقداماً ، ونذكر هنا حادثتين من مجموع حوادث كلها تبرهن على شجاعته الفائقة . أما الأولى فكانت في مصر ، عندما كان طالباً في الأزهر ، فقد تقدّم عدد من إخواننا السوريين الذين يدرسون في الأزهر ، بمذكرة إلى اتحاد المحامين العرب في القاهرة شرحوا فيها الأوضاع المتردّية للحرّيّات ، وما صاحب الدستور العلماني الذي أراد حافظ أسد أن يفرضه على الشعب السوري ، من مظاهرات سلمية احتجاجية قوبلت بالرصاص والدماء ، وتحدّثت المذكّرة الطلابية عن التضييق على الحريّات العامة ، وقهر المواطنين ، واعتقال العلماء … وتفاعلَ المحامون مع المذكرة التي قدّمها الشيخ محمد خير ، وعندما علم أحد مشايخ حلب ، من المحسوبين على النظام ، نصحه ونصح إخوانه بأن يسحبوها ، لأنهم سيعودون إلى سورية ، وسوف يتحملون مسؤوليتها ، فأبى الشيخ محمد خير أن يسحبها ، ووقف معه إخوانه، وأصرّوا على عدم سحبها، وقال الشيخ محمد خير لذلك الشيخ الناصح:

هذه المذكرة أضعف الإيمان ، ومن أقلّ الواجبات علينا .

         وأما الحادثة الثانية فكانت مع الطاغية الجبان فايز النوري، رئيس ما يسمى " محكمة أمن الدولة " بدمشق، عندما حاكمه بادره بهذا السؤال الروتيني :

هل أنت من الإخوان المسلمين ؟

        فأجابه الشيخ محمد خير بقوة جريئة : إنه لشرف كبير أن أكون من الإخوان المسلمين.

وعرف الطاغية أي رجل أمامه ، فحكم عليه بالإعدام .

        وهذا ما كان يتطلع إليه الشيخ … أن يفوز بالشهادة في سبيل الله ، فالله يصطفي الشهداء من الأبرار الأخيار . ولطالما تطلّع الشيخ إلى الشهادة ، ودعا ربّه سرّاً وعلانية أن يرزقه الشهادة في سبيل الله .

قصص من داخل السجن

        هذه بعض قصصٍ رواها إخوة كانوا معتقلين مع الشيخ في اعتقاله الأخير الذي انتهى باستشهاده ، رحمه الله . وهي قصص تدل على ذكائه ، وتجرّده ، وجرأته ، وكرمه …

1. في بدايات الاعتقال أراد المحقق أن يربط بين الشيخ وبين الأخ (محمد أيمن الخطيب) (الذي استُشهد هو الآخر فيما بعد)، وذلك ليثبّت على الشيخ علاقة بالعمل العسكري:

المحقق : ما علاقتك بأيمن الخطيب ؟!

الشيخ : بيني وبينه عداوة " كار "

المحقق : ( مستغرباً ) : كيف ؟!

الشيخ : أنا شيخ المسجد، أؤمُّ الناس وأخطب فيهم وأدرّسهم … ثم هو يختطف مني شباب المسجد من أجل أن يقوم هو بتوجيههم وتربيتهم، وكأنه أدرى منّي بالتوجيه والتربية !.

2- وفي موقف آخر في التحقيق :

المحقق : أنت تحرّض الناس على السلطة ، وتزعُم أنها سلطة غير شرعية ، وأن طاعتها ليست واجبة عليهم …

الشيخ : انظُرْ ! إن الله قد أخذ على أهل العلمِ الميثاقَ بأن يبيّنوا الحق ولا يكتموه . وإن واجبي الشرعي يحتّم عليّ أن أقوم بهذا الواجب إبراءً لذمّتي أمام الله .

3. وتلقى الشيخ ألواناً هائلة من التعذيب، تركت على ظهره وساقيه وقدميه آثار السياط ، بل خلّفت جروحاً عميقة ، ثم التهابات، ثم ندوباً ظاهرة وأخاديد مشوِّهةً .

       وكان الشيخ - رحمه الله – يحرص على ستر ذلك كله ، ولا يحدِّث أحداً بما تعرَّض له من التعذيب، خوف أن يذهب ذلك ببعض ثوابه !.

4. وكان في الشهور التي قضاها في سجن القلعة ، وهي أكثر الشهور سعةً وانفراجاً ، كان يعقد لإخوانه المعتقلين معه في المهجع دروساً ودوراتٍ في عدد من العلوم الإسلامية ، وحلقات لحفظ كتاب الله تعالى وحديث نبيه  .

        وبين حين وآخر كان والده الشيخ عبد القادر يرسل إليه بعض المال ، لعلّه يخفف عن نفسه بهذا المال بعض الضيق . فماذا كان الشيخ محمد خير يفعل بهذا المال ؟!

        لقد كان يتفنّن بأساليب إنفاقه على إخوانه المعتقلين، فكان يشتري اللحم المشويّ من " مطعم " صغير في باحة السجن … ويطعم به إخوانه . أو كان يوزّع المال على من يراهم أشدّ حاجة من غيرهم، أو يوزِّعه مكافآت على حفظة القرآن الكريم، والحديث الشريف … والمهم أنه لا ينبغي أن يبيت ليلته، بعد تسلّمه المال من والده ، قبل أن يوزّع هذا المال على إخوانه .

ثناء العلماء، والشعراء عليه :

        وصفه محمد علاء الدين الجميلي بقوله: ( ما رأت عيني مثله – رحمه الله – كان يخرج الناس من السينما إلى صلاة الجمعة بأسلوب فريد مؤثر ....) .

       وقال الأخ أبو الفضل السوري : ( رافقته في كثير من الأحيان فقد كان دمث الأخلاق جريئاً حافظاً لكتاب الله تعلو محياه ابتسامة جميلة ..) .

وكان يقدم للناس أحلى المواعظ قبل أن يعتقل .

        ويقول الأستاذ نذير علوش: ( العالم المجاهد محمد خير زيتوني من يجالسه يحب أن يبقى معه مئة عام من غير أن يفارقه ، فهو صاحب المزاح اللطيف والفكر العميق ، كنا نجلس حوله فيقدم له أحدهم علبة السجائر ليضيفه فيقول له : شكراً أنا لا أغير دخاني فأنا أدخن فقط حمراء شرق، وبالهجة الحلبية العريضة، فيتساءل الجميع ما هذا النوع من السجائر لم نسمع به من قبل، فيقول رحمه الله : هذا هو دخاني ! ويشير إلى الشاي إنه أحمر، ويشرق شرقاً .

        وسألته عن رؤيا رأيتها في صيف عام 1978م : فقد رأيت حافظ أسد يمشي في شوارع جسر الشغور فسكت الشيخ وأطرق وخنقته العبرة واختفت البسمة من وجهه الأشقر الجميل وقال : إن صدقت رؤياك فسوف تخرب جسر الشغور لأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة . وما هي إلا أيام حتى قصف النظام جسر الشغور ودمر بيوتها وقتل الكثير من سكانها ..) .

        وقال محمد سعيد الملاح : ( العالم الأزهري الشيخ محمد خير الزيتوني كان غال على قلوبنا جميعاً وكتابه كفاية المصلي من أجمل كتب الفقه التي قرأتها واستمتعت بها لقد كنت الكثير من المؤلفات الإسلامية المعاصرة النابضة بالحياة من الشيخ محمد خير زيتوني، والشيخ موفق سيرجيه)

       وكان (نجدت محمد ويس) يذهب إلى باب الفرج خصوصاً في صلاة التراويح في رمضان للصلاة خلفه حيث يقرأ جزءاً من القرآن كل يوم ثم يقوم بجولة بعد التراويح على السوق ينصح الذين يلعبون بالنرد لكسب النقود ...) .

        وتحدث عنه الأخ زهير سالم، فقال: ( الشيخ محمد خير كان أخاً لنا يؤمنا في صلاة الفجر في مسجد العريان في حلب، وكان كثيراً ما ينوب عن والده، وتوثقت بيننا علاقة ..).

        وتقول الأخت الصابرة (عزيزة جلود): ( رأيته في زنزانته بالمخابرات العسكرية بحلب كان كلما حان وقت الأذان يؤذن بصوت عال فيأتي السجان ويضربه ولكن بعد الضرب يتابع الآذان ولا يهتم لذلك ..نظرت إليه من ثقب الباب فرأيت وجهاً كأنه قطعة من نور وقد قيل لي إنه أثناء محاكمته قال له القاضي : هل صحيح أنك قلت بجواز قتل النصيرية في سورية فقال : لا لم أقل بالجواز بل قلت يجب قتل النصيرية ، فأدخلوا قضيباً من خشب في فمه حتى خرج من رقبته أو ظهره وبقي هكذا حتى استشهد رحمه الله ...) .

         وقال الأستاذ عبد الله زنجير : ( الشيخ محمد خير زيتوني مؤلف كتاب كفاية المصلي والمدرس في جامع بلال بحي صلاح الدين وشهيد تدمر سنة 1980م أعطاني مرة دعوة للشيخ أحمد حسون لحضور حفل المولد سنة 1979م ، أوصلتها له وحضر وقتها ! وعندما اعتقل كان لديه 5 ذكور مثل أزرار الورد ، شقر يشبهون والدهم الجميل الخلق والخلقة، منهم أحمد أنس الذي كان يتواصل مع أخي سليم رحمه الله صديق والده ورفيقه في معتقل كفرسوسة ..اليوم أرثي الشاب البطل أحمد أنس زيتوني الشهيد ابن الشهيد، الذي قتلته داعش قبل أيام ورمت بجثمانه الطاهر في كفر حمرة ...) .

        ويقول الشيخ أحمد صباغ : ( كنت أحضر عنده في جامع بلال، ونحيي ليلة القدر، وكان في يده عصا من خيزران، وكان يوقظ أي أخ ينام، يتمتع بالنشاط، دائم الابتسامة، قوي ، لا يهاب أحداً ...) .

      ويقول شقيقه ( عبد المنعم زيتوني) : ( الشيخ الشهيد محمد خير زيتوني من مواليد 1944م، كان مجنداً في الخدمة العسكرية، فلم يفتر عن الدعوة إلى الله، ولذلك تنقل أثناء خدمته في أكثر من / 20 / وحدة، وكان له في كل وحدة عدداً من التلاميذ الشباب، وكانت شخصيته قوية فلم يحلق لحيته، وفي زمن الرئيس نور الدين الأتاسي حضر خطبة العيد وعندما انتهت صلاة العيد قام الشيخ محمد خير زيتوني بين المصلين، وألقى موعظة، وهاجم النظام الحاكم ، وهرب من الباب الشمالي في الجامع الأموي ..) .

         ويقول عبد القادر عثمان: ( كان محمد خير زيتوني بطلاً متواضعاً طيب القلب، وكنت ملازماً له في جامع (الحدادين ) في باب الحديد ، وكنت أحمله في سيارتي ونذهب معاً إلى أريحا لزيارة الأحباب والإخوة هناك ....) .

        ويقول المهندس محمود العبسو مدير أوقاف السفيرة سابقاً: ( كان الشيخ محمد خير زيتوني يؤم الناس في مسجد صغير بباب الفرج في حلب، ويصلي التراويح، ويختم القرآن في رمضان، وقد روي أنه عندما كان في خدمة العلم في حمص، واقترب المغرب، ولم يكن قد صلى العصر، فاستأذن من المدرب لأداء الصلاة، فلم يأذن له، فترك التدريب، وذهب للصلاة، فعاقبه المدرب بنقله إلى حلب، فكان يخطب الجمعة في جامع النقشية في السفيرة، وهو عسكري ).

         ويقول الشيخ سامي قطيع (إدلب) : ( كان بيني وبين الشيخ محمد خير زيتوني أخوة في الله خاصة منذ عام 1973م، وكان شعلة لم يتأثر بالرياح من أي جهة هبت . وكان يتقدم الصفوف في كل أمر صعب لا يبالي ولا تأخذه في الله لومة لائم فينير الطريق أمام إخوانه بشعلته الفكرية والعلمية، ويحرق أعشاش وأوكار الفساد والظلم والمبادئ الهدامة الفاسدة التي تشكل حجر عثرة في طريق الدعوة والتي زرعها بين المسلمين أصحاب المبادئ المتفرقة ..وكان رحمه الله ينير الطريق للدعاة لكي يسهل السير إلى الله، ولكي يتقدم إخوان الطريق ، فنرجو الله أن يحشره مع سيد الشهداء حمزة لأنه وقف في وجه السلطان الجائر، فأمره ، ونهاه،  فقتله ) .

          وقال الأستاذ عبد الله عبد العزيز طحان: ( أخي الكريم الشيخ محمد خير زيتوني كان نعم الأخ والصديق لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان مندفعاً محباً لدعوته ودينه وقدم روحه من أجل ذلك، ومعرفتي به منذ عام 1969م، 1970م عندما كان في خدمة العلم، قضينا أربعة سنوات في مدرسة النهضة في إدلب من عام 1976 إلى صيف 1980م، وكان معنا كوكبة من الإخوة المدرسين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: وليد شعبان، ومحمد زيدان، وعبد الرحيم خطيب - رحمة الله عليهم-، وبعضهم لا زال على قيد الحياة من أمثال الأخ محمد وليد حلاق ...) .

        وتحدث عنه الشيخ حسن عبد الحميد: (489 - فقيه الدعوة " محمد خير زيتوني

في حي أقيول بحلب ولد 1948م .

        تلقى علومه الشرعية على أيدي عدد من كبار علماء حلب منهم الشيخ أحمد القلاش رحمه المولى .

ثم تخرج من الأزهر منتسباً لكلية اللغة العربية ..

       كان قوي البنية شجاعاً مقداماً يغلب عليه الحركة والنشاط والبساطة وعدم التكلف، خدوماً ومحبا لإخوانه، يحمل هموم الأمة ..

       وينفطر قلبه لمصاب أخ أو رؤية منكر ، وتبلغ به السعادة مداها عند زواله

أمام الجامع الكبير وجد شبابا يلعبون القمار قذف برجله الطاولة، فأطارها امتاراً وسط دهشة الشباب وذهولهم، فولوا هاربين .

        عرفته مساجد حلب إماماً وخطيباً وداعياً إلى الله، فأعاد للمسجد رسالته ووظيفته في هذه الحياة، وتجمع الناس حوله في الحي  والمخالب تكتب التقارير عن خطورة هذا الشيخ، فينقل منه .

عمل في مساجد حلب كلها وله بعد الصلاة صلات

بل إنه ابتكر أسلوبا جديدا للدعوة إلى الله ؟؟

بدخول السينما قبيل انتهاء الفيلم بدقائق من الباب المعد للخروج

وما أن تستطع الأضواء حتى يفاجأ الناس بشيخ ينادي فيهم أيها الناس ..

يا جنود محمد .. يا أحباب الله ..

ثم يعظهم موعظة قصيرة ويدعوهم لأقرب مسجد

ويعتقل الشيخ ؟؟؟

في مصر لازم جنود الدعوة

وبنى علاقة حميمة مع الخطيب المتميز

فارس المنابر الشيخ الداعية عبد الحميد كشك رحمه الله .

عرفته ثوريا منذ نعومة أظفاره

كان له غرفة في مسجد باب الفرج سمح لي بالنوم فيها ليلة وفي آخر الليل

اكتشفت أن على الرف قنبلة فطار النوم من عيوني .

كلفته مرة بالخطبة نيابة عني على منبر الصديق بالباب فلم يجد من السيرة

إﻻ حوادث الاغتيال التي جرت في التاريخ الإسلامي وقصة اغتيال كعب بن الأشرف .

كان رحمه الله يدرس النساء في مسجد أبو بكر الصديق في الباب ولما قصصت ذلك للشيخ العلامة أحمد القلاش فقال لي : هذا جميل الصورة ذو لحية شقراء قد تحبه النساء فأبدلته باﻷخ العزيز الشيخ عبد الجبار الزيدي وكان ذا صوت رخيم في المدائح النبوية وأكرمني لما زرت دبي بمأدبة في قلب الجامعة وطلبت منه أنشودة فأنشد طلع البدر علينا .

ومن شجاعة الزيتوني البطل لما سمع بأن حفلا فنيا فاجرا سيكون في قلعة حلب جند عشرات الشباب وزحفوا على أسوار القلعة من جهتها الشمالية ووصلوا إلى المكان فدمروه وكسروه وعادوا سالمين

      استيقظ أهل حلب فوجدوا الجدران قد امتلأت بنعي المجاهد الكبير مروان حديد

واحتارت الدولة من طبع هذا النعي، ولم تعرفه ؟ .

لا يخاف في الله لومة لائم ؟؟

في التحقيق معه في محكمة أمن الدولة

سأله الطاغية فايز النوري

هل أنت من الإخوان المسلمين ؟؟؟

فأجابه بقوة إنه لشرف كبير لي .

فعرف الطاغية أي رجل أمامه

فحكم عليه بالإعدام.

ولطالما تطلع الشيخ إلى الشهادة في سبيل الله

ودعا ربه سرا وعلانية أن يرزقه الشهادة

وكان يعقد لإخوانه في الشهور التي قضاها في سجن القلعة الدروس والدورات وحلقات لحفظ كتاب الله وحديث رسول الله عليه السلام .

صاحب الكتاب العظيم في الفقه الحنفي( كفاية المصلي )

       رحمك الله يا محمد خير زيتوني آيها المجاهد البطل اعتقل 79 ، وناله من التعذيب ما ناله وكان صابراً محتسباً في سجن تدمر الصحراوي لقي مع إخوانه الأطهار الأبرار المآسي، ونال الشهادة فيه كان يكبر بصوت جهوري قوي عال

قبل صعوده إلى حبل المشنقة .

رحمه المولى

كان نموذجاً رفيعاً بين شباب الدعوة

ملئ إيماناً وعلماً وصبراً وجهاداً .

وشاهت الوجوه، ولا نامت أعين الجبناء

في جنات النعيم إن شاء الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون )

والله أكبر... والعزة لله

      زاره الأهل بعد سجنه بعدة أشهر في سجن القلعة بدمشق .

أحواله الاجتماعية :

       وفضيلة الشيخ (محمد خير زيتوني) متزوج من امرأة فاضلة من عائلة الزيتوني هي (فدوى زيتوني)، درست حتى الصف الخامس الابتدائي، وهي ربة بيت، وما زالت على قيد الحياة، وقد أنجب منها ستة أولاد :

1- أكبرهم أسامة : عمره 48 سنة،  وبه كنيته

  clip_image012_8dbca.jpg

2-عبد القادر ( أيمن) : وعمره / 46/ عاماً، يعمل نجاراً في حلب، كما عمل في تصليح البطاريات  .

3- ومعاذ : وعمره /42 / سنة، يعمل خياطاً في حلب، لجأ بعد الثورة إلى سرمدا .

4- وسعد : وعمره /40/ سنة ، درس حتى السنة الثانية في كلية الحقوق، ولم يستطع إكمال دراسته .

5- والشهيد أحمد أنس :

 clip_image014_4465e.jpg

      الشهيد أبو الخير، عمره  46 سنة، كان يعمل خياطاً، وقد شارك في الثورة السورية منذ الحراك السلمي في حي صلاح الدين،  استشهد في كفر حمرة بعد أن أسرته داعش لمدة /15/ يوماً، في شباط 2014م - رحمه الله تعالى- .

6-وعصام : وعمره / 38 / سنة : الذي ولد بعد اعتقال والده بعدة أشهر، وقد أسماه بهذا الاسم حباً وتقديراً للداعية المجاهد (عصام العطار) حفظه الله، حصل على دار المعلمين في حلب .

مؤلفاته :

ترك الشيخ عدة مؤلفات، ولو طال به العمر لأتحف المكتبة الإسلامية بالكتب الرائعة المفيدة، ولكن استشهاده المبكر حال دون ذلك، ومن أبرز مؤلفاته :

1-             كفاية المصلي : وهو أشهر كتبه ، قدم له الشيخ أحمد قلاش ، وفي طبعة أخرى قدم له عبد الله الأنصاري ، وأثنى على الكتاب ومؤلفه .

وقد تناول فيه المؤلف الطهارة ، وأنواع المياه، والتيمم ، ثم دخل في موضوع الصلاة ، وبين أركانها وسننها ومبطلات الوضوء والصلاة ، وكان يقارن بين المذهبين الحنفي والشافعي ، وينقل عن الأئمة الثقات ويوثق أقوال الفقهاء ...ويعتبر من أفضل كتب الفقه في موضوعه .

2-             رسالة المسجد في الإسلام : تطواف الشيخ في العديد من المساجد يدل على مدى إدراكه لأهمية المسجد ورسالته ، فهو اللبنة الأولى التي رسخها الرسول القدوة – فداه أبي وأمي – في المدينة المنورة بعد الهجرة، ثم كان الإخاء ثانياً ولكنه كان يتم ضمن إطار المسجد، فالمسجد في الإسلام ليس مكاناً للعبادة فقط، بل هو مجلس للشورى، وموطن للمحبة والتعارف بين أفراد المجتمع، وهو منبر إعلامي ودعوي ، فيه تتصافح القلوب والأيادي، ويتسامح الناس، وهو مكان للعلم والفتوى والقضاء، وهو مدرسة للذكر والربانية والفقه، فيه كانت تعقد ألوية الجهاد، وتعلن الأعراس، يمرح فيه الأحباش ويمارسون الرياضة، فهو الجامع والجامعة...لذا كان الشيخ محمد خير الزيتوني موفقاً في اختيار هذا الموضوع نظراً لأهميته في المجتمع الإسلامي ونشر تعاليم الدين ..

3-             سلسلة الأربعينيات : الزجر عن ظلم المسلم وسوء الظن به – ابن حجر العسقلاني .ورسالة للشيخ يوسف النبهاني وقد أهدى بعض كتبه للشيخ عبد الله سراج الدين والشيخ عبد الله علوان ...

استشهاده : 

clip_image016_13513.jpg

        اعتُقِل الشيخ محمد خير زيتوني مع آلاف الإخوان في الشهر الخامس عام 1979، وكان صابراً محتسباً، وبعد أن حوكِم تلك المحاكمة الصوريّة المهزلة في محكمة أمن الدولة، قادوه إلى سجن تدمر، حيث وضع في المهجع رقم / 8 / ليلقى الألاقي مع إخوانه البررة الأحرار الأطهار .

        ويروي شقيقه (ياسر زيتوني ) أن الشيخ – رحمه الله - خطب داخل سجن القلعة بدمشق حيث استفتح الخطبة بالآيات من أول سورة النساء، ثم استشهد بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم : عالم متكبر، وشيخ زان، وملك كذاب .

       وشرح الحديث، وأفاض حول الملك الكذاب دون خوف، ولا ارتباك حتى إن بعض الشرطة والحرس جلسوا، واستمعوا لخطبته .

          وقد روى بعض الإخوة الناجين من مجازر سجن تدمر الرهيب (أبو عمار سندة وغيره) أنه قد رأى رؤيا، وقد أولها بأنه قد اقترب أجله، فتوضأ، ولبس البياض، وصلى ركعتي الشهادة، ثم نودي باسمه، فخرج مع ثلة من إخوانه، في شهر آب عام 1980م، فسمعوا الشيخ محمد خير زيتوني يكبّر بصوته الجهوري قبل أن يصعد إلى حبل المشنقة . وهذه كانت عادة الإخوان، فقد كان الأخ يكبّر بصوتٍ قويٍّ عالٍ، وهو يصعد إلى حبل المشنقة، أو قبيل إطلاق الرصاص عليه .

          رحم الله الأخ الشيخ محمد خير زيتوني، ورحم إخواننا الشهداء والمعتقلين جميعاً، فقد كان نموذجاً رفيعاً بين شباب الدعوة، مُلِىء إيماناً، وعلماً، وصبراً، وجهاداً …

         وقد نال ما تمنّى إن شاء الله تعالى، وهو الآن – فيما نحسب، ولا نزكّي على الله أحداً ، ولكننا نشهد بما علمنا من حاله – إنه الآن يرتع في رياض الجنة، في حوصلة طير أخضر إن شاء الله تعالى .

         وشاهت الوجوه الغُبْر ، ولا نامت أعين الجبناء .

مراجع الترجمة :

1-             رابطة أدباء الشام - العالم المجاهد الشهيد محمد خير الزيتوني – بقلم عبد الله الطنطاوي .

2-             محمد خير زيتوني : الشيخ الشهيد القوي في الحق – صحيفة العهد – العدد 34 إعداد زينب أبو طوق موقع صحيفة العهد .

3-             جهد المقل – الشيخ حسن عبد الحميد – مخطوط .

4-             الشيخ الشهيد محمد خير زيتوني – محمد عادل فارس .

5-             معلومات من أشقاء الشيخ : عبد المنعم، وياسر ، وابن الشيخ : سعد بتاريخ 3 / 1/ 2018م .

وسوم: العدد 759