محمد نبهان.. شيخ قراء "حماة" المجاهدة

عبد العزيز المشوح

حماة القرآن.. عليكم سلام

محمد نبهان.. شيخ قراء "حماة" المجاهدة

عبد العزيز المشوح

كنا ونحن في المرحلة الابتدائية نردد النشيد الوطني "حماة الديار عليكم سلام" فتأخذنا الحماسة والانفعال الجماعي لنشيد الوطن دون أن نفقه شيئاً من معانيه، حتى إذا كبرنا، وكبرت همومنا! علمنا أن معنى ذلك تخليد للبطولة والفداء من أجل الوطن، وإشادة بأولئك الذين يدافعون عن أرضهم ومقدساتهم، وهذا جميل إن كانت النية خالصة لله، مربوبة على طاعته، والإذعان لمبادئه وتعاليمه.

وإن كنا نرى أن الأولى أن توجه هذه التحية لأولئك الجنود المجهولين من حملة كتاب الله وحفظته، الساهرين على تعليم الأجيال كلماته ومعانيه، لأن هذا الغرس هو الذين سينمو ويثمر أجيالاً مخلصة تدافع عن وطنها وأمتها، وهي السياج المتين، والحصن الحصين، لكل ما تتعرض له هذه الأمة من مؤامرات المتآمرين، وكيد الكائدين، ولقد شهدنا "حماة الديار" أولئك، عندما ابتعدوا عن منهج الله، وخلت قلوبهم من معاني القرآن، ونفحاته الروحانية، وامتلأت بالشهوات والمطامع الدنيوية الرخيصة، كيف ولوا هاربين أمام العدو لا يلوون على شيء، حفاة عراة، لسان حالهم يقول: "انج سعد فقد هلك سعيد"!.

تذكرت هذه المعاني، وأنا أتسلم من شيخي الفاضل محمد نبهان مصري: الإجازة في قراءة حفص بعد مدة طويلة كنت أتردد عليه فيها بين الفينة والأخرى، أسمعه قراءتي، فيقوم هذه، ويصحح الأخرى ويذكرني بمبادئ التجويد وقواعده. ويوصلني عن طريق شيوخه بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأي نعمة هذه التي يغمرني بها هذا الشيخ الجليل؟! وأي بركة أسداها إلي؟! وأي خير هذا الذي أوصلني إليه؟ فلئن كانت الحركة الإسلامية قد أوصلتني بالإسلام ونبيه فكراً وحركة وسلوكاً، فإن شيخي الفاضل قد أوصلني – أيضاً- برسول الله صلى الله عليه وسلم روحاً وقلباً وصفاءً وتسامياً.. فالتقت الأنفاس، وتعانقت الأرواح، ورقت القلوب، وترقرقت الدموع.. فلا تسمع إلا همساً، وتتبعنا أثر القائد الرائد لعل قدماً تقع على قدم، وآية وراء آية، ولكمة خلف كلمة، وحرفاً إثر حرف، ونفساً يتبعه نفس، فنكون من الفائزين، ونرد حوض نبينا مع الواردين، اللهم آمين.

وإذا كانت هذه المناجاة من أثر هذا الحديث، فلابد من أن نرد الفضل إلى أهله، وننوه بالشيخ ومكانته وعلمه. وقد سبقني إلى ذلك الدكتور الأخ: منير غضبان حين تحدث عن أستاذ شيخنا وشيخ قراء حماة في عصره الشيخ: سعيد العبدالله، حفظه الله وأدام عليه الصحة والعافية وجزاه عن الإسلام والمسلمين السعادة والرضوان.

فشيخنا الفاضل: "هو أبو الحسين محمد نبهان بن حسين مصري قجّو، ولد في حماة في 25 صفر 1363 هـ الموافق 20 مارس 1944م، درس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة ثم ضعف بصره حتى كف وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم التحق بمعهد الحفاظ والدراسات القرآنية، وتخرج فيه، وتلقى القراءات العشر عن الشيخ: سعيد بن عبدالله المحمد شيخ قراء مدينة حماة في عصره، وعيّن نائباً لمدير المعهد، ودرس فيه، ثم انتقل إلى مكة المكرمة سنة 1401هـ - 1981م، ودرس القرآن والقراءات في جامعة أم القرى وهو ما يزال فيها حتى الآن، أسأل الله أن يختار له الخير حيث كان، إنه سميع مجيب.

ولقد كان الشيخ: محمد نبهان مصري وأستاذه سعيد العبدالله من الدرر التي نثرتها كنانة حماة المدينة المجاهدة الصابرة، مدينة العلماء وحفاظ القرآن ومقرئيه، فكانا من نصيب مكة المكرمة وهي أولى بهما، فهي مهبط الوحي، وامتداد لهذا الرعيل المبارك ممن تلقوا القرآن غضاً طرياً على ألسنة مشايخهم من الحفاظ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولئن كانت العلوم الأخرى تحصل بالجهد والمشقة الفردية، فإن قراءة كتاب الله عز وجل لا تحصل إلا بالتلقي عن الحفظة والمقرئين والعلماء الذين تلقوه عن أسلافهم الأتقياء الصالحين، ولئن كان للرسم العثماني في كتابة القرآن مزايا وأغراض كثيرة فإن أهمها "حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال، ولا يأخذوه عن هذا الرسم الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة، وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان:

الأولى: التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده، فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف، مهما تكن قاعدة رسمه، واصطلاح كتابته، فقد تخطئ المطبعة في الطبع، وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده، كالقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام، والروم والإشمام ونحوها، فضلاً عن خفاء تطبيقها، ولهذا قرر العلماء: أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها، بل لابد من التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة، وإن كنت في شك فقل لي بربك هل يستطيع المصحف وحده – بأي رسم يكون- أن يدل قارئاً، أياً كان على النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة، مثل: "كهيعص، حم، عسق، طسم"! ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه: (ما لك لا تأمنا على يوسف) من كلمة تأمنا.

الثانية: اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك خاصية من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها عن سائر الأمم.

منحة لا محنة

ومن هنا كانت محنة الشيخين – حفظهما الله - وإخوتهم الكثر في هجرتهم من بلادهم خيراً، ومنحة استفاد منها طلاب العلم ورواده: القراءة الصحيحة والحفظ المتقن، والقراءات المروية عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بلسان الوحي متمثلين بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: 104)، وقول رسولنا الكريم عن معاوية رضي الله عنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" (صحيح مسلم).

1- إنني إذ أنوه بفضل مشايخنا وعلمائنا، فإنني أؤكد حقيقة لا نتذكرها إلا عندما نفقد هؤلاء الأعلام أطال الله في أعمارهم فننساهم أحياء وعند فقدهم نقيم عليهم مأتماً وعويلاً.

والجدير بنا أن نكرمهم في حياتهم، وأن ننشر علمهم وفضلهم، وخاصة أننا نرى يد المنون تتخطف علماء أفاضل أمثال: "ابن باز، والطنطاوي، والزرقا، والمجذوب، والعرقسوسي، وعطية، والقطان.."، وغيرهم كثير.

2- إننا نفتقد هذه الأيام الأسوة الحسنة، والمثال الرائد، الذي نطالب الأجيال أن تتأسى به، وتسير على نهجه، وتقتبس من علمه وفضله، فحري بنا أن نتخذهم أسوة وقدوة ونعرّف الأبناء فضلهم ومكانتهم.

3- إن في سيرة حياتهم، وعلو همتهم، وطريقة تعليمهم، وما كتبوا من كتب، نبراساً يحتذى، وطريقاً يتبع خاصة أنهم حرموا نعمة البصر، فأبدلهم الله بها نور البصيرة والهدى والمعرفة.

منهج رباني وخلق قرآني

وإنها لمناسبة جميلة أن أذكر بفضل شيخنا حفظه الله، من دأب على العلم ومتابعة له، وصبر على التلاميذ ورعاية لهم، والسؤال عن أحوالهم، وتقديم ما يستطيع من عون ومساعدة لهم، وتجعله بالخلق الحسن دماثة، وملاطفة، ومحاسنة، وسعة صدر، ومقدرة على المتابعة والتحمل: فما إن تنتشر أنوار الفجر بين جبال مكة وفجاجها، حتى ينبعث صوت القرآن في منزل الشيخ يفوح عطراً وينتشر أريجاً، ويعبق به المكان فتحل السكينة، وتصفو النفوس، وتسمو الأرواح.

فالطلاب يتتابعون في قراءاتهم كل بدوره. فهذا يقرأ لحفص، وذاك لورش، والثالث لقالون، فيطلب من هذا مراعاة المد، أو الغنة، أو الإدغام. وقد يشرح فكرة أو يقف عند كلمة. فهذا ديدنه من شروق الشمس إلى الظهيرة، ومن العصر إلى ما بعد العشاء. فرادى وجماعات، شيباً وشباباً، نساء ورجالاً، كل بدوره وكل بوقته، فجزاك الله يا شيخنا خير الجزاء، فإن كنت قد حرمت نعمة البصر فقد عوضك الله نور البصيرة ومن عليك بنور القرآن فكنت هادياً مهدياً.

ولم يمنع الشيخ متابعة طلابه ومريديه من التأليف والكتابة فصدر له من الكتب وجميعها في أصول التجويد والقراءات، ما يلي:

1- المذكرة في التجويد.

2- الرياش في رواية الإمام شعبة بن عياش.

3- القمر المنير في قراءة الإمام المكي عبدالله بن كثير.

4- الثمر اليانع في رواية الإمام قالون عن نافع.

وسوف يصدر تباعاً إن شاء الله:

1- عبير من التحبير في القراءات الثلاث المتممة للقراءات العشر.

2- فوح العطر في رواية الإمام الدوري عن أبي عمرو.

3- الإستبرق في رواية الإمام ورش عن نافع طريق الأزرق.

أخيراً: إذا كان هذا ما ملأ الشيخ به المكتبة القرآنية، فإن ما ملأ به المدارس ومراكز التحفيظ والجامعات من موطنه في حماة المجاهدة إلى أم القرى العشرات بل المئات من حفظة، وقراء يلهجون بذكره، ويدعون له مؤتسين بمنهجه سائرين على طريقه في وقت قلّ فيه الأسوة وفقد الرواد.