حسن البنا.. 66 عاما على الرحيل، ودعوته في أوج قوتها

حسن البنا..

66 عاما على الرحيل، ودعوته في أوج قوتها

صلاح عبد المقصود

وزير الإعلام في الحكومة الشرعية

في مثل هذا اليوم من عام 1949 م استشهد الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية في العالم. 

ولد رحمه الله في 14 أكتوبر 1906، وتخرج في دار العلوم 1927م.

أسس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية، بمشاركة ستة من الشباب الذين اقتنعوا بمشروعه الدعوي، كانوا بسطاء؛  لكنهم اليوم من عظماء التاريخ، كان منهم العامل، والجنايني، والسائق، والحلاق، والميكانيكي -نعم هذه مهنهم- ولكن الرجل صهرهم في بوتقة الدعوة، وأسس بهم، بتوفيق الله، أكبر جماعة. 

لم يهمل الإمام رحمه الله المرأة، فقد كان ينظر إليها على أنها تمثل نصف المجتمع، وتربي النصف الآخر، فأسس قسم الأخوات المسلمات منذ بواكير الدعوة، وجعل على رأسه السيدة لبيبة أحمد، وبالمناسبة كانت تعمل كاتبة صحفية، وتترأس مجلة نسائية اجتماعية هي مجلة الشرق.  

اهتم بالإعلام فأصدر أول صحيفة للإخوان، باسم: جريدة الإخوان المسلمين سنة 1933. 

اهتم رحمه اللفه بالفنون بعدّها تشكل وجدان المجتمع، فأسس مسرح الإخوان المسلمين، في ثلاثينيات القرن الماضي، وكتب له بنفسه أول الأعمال التي جسدها. 

ووجه عددا من فريق مسرح الإخوان للدراسة المتخصصة ليصقلوا مواهبهم بالدراسة المنهجية. 

أسهم مسرح الإخوان في تخريج عدد من كبار الفنانين، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الفنان عبدالمنعم مدبولي، والفنان عبدالمنعم إبراهيم، والفنان المخرج التلفزيوني والسينمائي سعد أردش، وغيرهم الكثير، عليهم جميعا رحمة الله. 

وكان لهذا المسرح الفضل -بعد الله- في تعريف أبناء الصعيد، وأبناء الريف المصري، بقضايا العرب والمسلمين، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.  حيث كان المسرح  آنذاك أفضل وسيلة لتوصيل الأفكار وصناعة الوجدان في مناطق تزيد نسبة الأمية فيها عن  70% في ذلك الزمان. 

شارك رحمه الله في جهاد الاحتلال الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأرسل شباب المجاهدين المتطوعين ليشاركوا الشيخ عز الدين القسام في مقاومته للاحتلال الصهيوني عام 1936م. 

وبعدها حرك كتائب المتطوعين لمقاومة الاحتلال الصهيوني في عام 1948، وقاوم  الاحتلال الإنجليزي في القاهرة ومدن القناة، وكبده خسائر موجعة، ليستكمل أبناؤه من بعده طريق مقاومة المحتل، في مدن القناة، أو في الداخل الفلسطيني، في الستينيات وما بعدها حتى يومنا هذا، حيث ترفع راية المقاومة كتائب العزة والكرامة وشرف الأمة، في حركة حماس.  رغم حصار الأعداء وبعض الأشقاء، بل رغم تآمرهم وغدرهم. 

أسس العديد من المشروعات الاقتصادية، والتعليمية، والصحية، والتربوية، والثقافية، إضافة للفرق الكشفية والرياضية، ووضع لأتباعه برامج تربوية جمعت بين إصلاح الروح، وتنوير العقل، وتنمية الفكر، وإيقاظ الوعي، والاهتمام بأمر الوطن وهموم الأمة. 

تعرض رحمه الله للتضييق والاضطهاد، ونقل بأمر الإنجليز  في عام 1941 م إلى أقصى جنوب مصر، في محافظة قنا، وذلك عندما أوعز الإنجليز إلى رئيس الحكومة والحاكم العسكري حسين سري، أن يبعده عن العاصمة -مركز التأثير السياسي والثقافي والاجتماعي- فكان ما أمروا به، حيث وجه رئيس الحكومة -وزير التعليم آنذاك- الدكتور محمد حسين هيكل بتنفيذ الأمر، ففعل الرجل. 

لكن  -وللأمانة- فإن الدكتور هيكل اعترف في كتابه: مذكرات في السياسة المصرية -وليس عن طريق التسريبات- اعترف بأن نقل الشيخ حسن البنا إلى أقاصي صعيد مصر تم بطلب من الإنجليز.  

وفي عام 1942 م ترشح الإمام البنا لانتخابات مجلس النواب، وطلب الإنجليز أيضا من رئيس حكومة الوفد آنذاك، مصطفى النحاس، إسقاطه في الانتخابات. 

وللأمانة أيضا، فإن رئيس الحكومة الذي فرضه الإنجليز على الملك بمدافع الدبابات، اعترف للشيخ البنا - صراحة وليس تسريبا-  بأن الإنجليز طلبوا مني أن أمنعك من الترشح!

كانت حركة الإخوان في هذا العام تتعرض لتضييق شديد، وصدر قبلها قرار بإغلاق مقارها وشعبها في كل المحافظات، عدا مركزها العام في القاهرة. 

فدخل الإمام البنا في تفاوض، انتهى بصفقة تم بموجبها سحب طلب ترشحه، مقابل إطلاق حرية العمل والدعوة لجماعته، وكان فتحا كبيرا له وللجماعة. 

كتب رحمه الله مقاله الأول في صحيفة الفتح التي كان يترأسها الأستاذ محب الدين الخطيب عام 1928، وكان بعنوان <<الدعوة إلى الله>>، أما آخر مقال كتبه قبل اغتياله بشهرين، فكان في ديسمبر 1948 م، في جريدة الإخوان المسلمين اليومية، وكان بعنوان: <<بين المنعة والمحنة>>!!

عشرون عاما بين مقاله الأول ومقاله الأخير. 

عشرون عاما بين تأسيس الجماعة، وقرار الحكومة بحلها ومصادرة أموالها، واعتقال أبنائها، ثم اغتيال مرشدها.    

لكنها كانت سنوات مباركة، أقام رحمه الله فيها بناء الجماعة، ونشر فروعها وشعبها في آلاف القرى المصرية، وتعدى بمصر إلى المحيط الإقليمي والإسلامي والدولي. 

لم يمت رحمه الله إلا بعد أن وفقه الله لنشر فكرته ومشروعه الدعوي في العديد من الدول، والأهم من ذلك تطبيق الجماعة لشعارها الخالد في حركتها  داخل مجتمعاتها، ذلك الشعار الذي سيبقى ما بقيت الحياة؛ لأنه موصول بالله لا بالبشر:

الله غايتنا.. والرسول قدوتنا..  والقرآن دستورنا.. والجهاد سبيلنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. 

انشغل رحمه الله بتأليف الرجال، لا بتأليف الكتب والمجلدات، وجعل أساس دعوة الإخوان الحب والتعارف بين أبنائها. 

بمجرد أن يجلس أحد الإخوان لأحد أبناء الدعوة لأول مرة، وقد يكون من المغرب أو الهند، أو إندونيسيا، أو أوربا. ما إن يلتقي به ويتعرف عليه، إلا وسرى ذلك التواصل في الله بينهما، وكأنه يعرفه من سنوات. 

هذا التعارف، وذاك الحب في الله، هو ما جعله الله سببا في قوة هذه الجماعة وصمودها، رغم العواصف والمحن التي تعرضت لها على مدار عمرها المديد. 

وليس أدل على ما أقول مما كتبه الأستاذ إحسان عبدالقدوس منذ سبعين عاما بمجلة روز اليوسف في 1945/9/13م، تحت عنوان: "الرجل الذي يتبعه نصف مليون"، كتب يقول عن الإخوان :

( اركب أي سيارة أجرة، وقل للسائق: "ا?خوان المسلمين يا أسطى" و? تزد، ولن يلتفت إليك السائق ليسألك: ماذا تقصد با?خوان المسلمين، و? أين تقع هذه الدار التي يطلق عليها هذا ا?سم، بل سيقودك إلى هناك دون سؤال، بعد أن يرحب بك بابتسامة لم تتعود أن تراها على وجوه سائقي سيارات ا?جرة، وقد يرفض أن يتناول منك أجرًا، و? شك أنه سيُحمّلك س?مه قبل أن تغادره إلى فضيلة ا?ستاذ حسن البنا، المرشد العام ل?خوان المسلمين!!

وستمر في طريقك داخل الدار بمخازن الذخيرة التي يملكها ا?خوان، وهي الشباب، شباب ترى على وجوههم نور التقوى وا?يمان، وفي عيونهم حماسة الجهاد،  وبين شفاههم ابتسامة تدعو إلى المحبة وا?خاء، وفي يد كل منهم مسبحة انحنى عليها بروحه يذكر اسم الله، وهم مع ذلك شباب "مودرن"؛ ? تحس فيهم الجمود الذي امتاز به رجال الدين وأتباعهم، و? تسمع في أحاديثهم التعاويذ الجوفاء التي اعتدنا أن نسخر منها.

إنهم واقعيون يحدثونك حديث الحياة ? حديث الموت، قلوبهم في السماء، ولكن أقدامهم على ا?رض، يسعون فيها بين مرافقها، ويناقشون مشاكلها، ويحسون بأفراحها وأحزانها. وقد تسمع فيهم من "ينكت" ومن يحدثك عن ا?قتصاد، والقانون، والهندسة، والطب، إنهم ذخيرة وستنطلق عند ا?شارة ا?ولى فاحذروا.. ويستقبلك ا?ستاذ حسن البنا بابتسامة واسعة وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر يختمهما بضحكة كلها بـِشـْر وحياة.

والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إ? بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تت?ءم كثيرًا مع زيه ا?فرنجي وطربوشه ا?حمر الغامق، ولن تملك نفسك من التساؤل: كيف استطاع الرجل أن يجمع حوله كل هؤ?ء ا?خوان؟ وكيف استطاع أن ينظمهم كل هذا التنظيم، بحيث إذا عطس فضيلته في القاهرة صاح رئيس شعبة ا?خوان في أسوان "يرحمك الله"؟.. انتهى كلام إحسان عبد القدوس.

لقد كتب الأستاذ البنا العديد من الرسائل والخطب والمقالات، لكنني اليوم، وفي هذا المناخ الذي يعيشه أبناؤه في أقطار عربية كثيرة، ويواجهون فيه مع قوى إسلامية ووطنية الاحتلال الصهيوني في فلسطين، أو قوى العمالة والانقلاب، والغدر والاغتصاب في عدة ساحات عربية. 

اليوم، وفي ذكرى استشهاده -السادسة والستين- أضع هذه الكلمات لنتأملها.. 

يقول رحمه الله:

"سيتذرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم. وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2). 

ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. ... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:10-14) 

فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟

نعم  ياسيدي.. أبناؤك مصرون على أن يكونوا أنصار الله، وها هم في شوارع المحروسة.. في مدنها وميادينها، في شوارعها وقراها، في نجوعها وكفورها، يواجهون الانقلاب الغادر الذي اغتصب إرادة الشعب..

يواجهونه مع الشرفاء من أبناء مصر للشهر العشرين، دون توقف، ولو ليوم واحد، في ملحمة لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا، قدموا فيها آلاف الشهداء، وعشرات الألوف من المصابين والمعتقلين.

أبناؤك يا سيدي مصرون على استعادة الحرية والشرعية والكرامة والعدالة الاجتماعية رغم المحاكم الظالمة التي نصبت لهم.

أبناؤك يا سيدي يحاكمون، وفي مقدمتهم الرئيس المنتخب من الشعب بانتخابات شهد لها العالم، وتوجه لهم تهم ظالمة وكبيرة تصل إلى الخيانة والعنف والقتل، رغم أن رئيسهم لم يسكن القصر، وأصر على البقاء في بيته الصغير المؤجر، ورفض أن يتقاضى راتبه، واحتسب أجر خدمته لشعبه عند الله. 

يتهمهم القضاء الظالم بارتكاب الجرائم وهم المجني عليهم!!

يأمر بمصادرة الأموال والممتلكات، وهي من عرقهم جمعوها من حلال، لا من نهب أو فساد!

 نعم سيدي.. ها هم أبناؤك في العديد من العواصم العربية، يواجهون الظلم والاستبداد، والديكتاتورية، والانقلاب على إرادات الشعوب. 

البعض يرى أن جماعة الإخوان تعيش اليوم في العديد من الدول العربية محنة قاسية لم تعهدها من قبل منذ تأسيسها في عام 1928 م، وأنا أتفق معهم.

لكنني أقول إن جماعة الإخوان اليوم في أوج قوتها، رغم ما تتعرض له من تآمر، ومن تحالف العسكر مع المال المنهوب، والإعلام الكاذب، والقضاء الفاسد، ورغم تحالف بعض الأطراف الإقليمية والدولية.

رغم كل ذلك إلا أنها في مقدمة المواجهة، تقاوم وتضحي بإصرار وإبداع، وتمسك بخيار السلمية الذي لم ولن تحيد عنه، لأنه بمشيئة الله سيوصلها مع شركائها من القوى الإسلامية والوطنية إلى النصر المبين، في مصر وفي كل الساحات التي تكافح من أجل حريتها وكرامتها وعيشها الكريم. 

سلام عليك يا شهيد، وعهد مع الله أن نواصل الطريق لنصل إلى عزة الدين والأوطان. 

وأنتم أيها الإخوان امضوا في طريقكم واصبروا وصابروا  وأبشروا.