محمود محمد شاكر الرجل الذي غُيّب عنه الإنصاف 1

محمود محمد شاكر

الرجل الذي غُيّب عنه الإنصاف (1/2)

زغلول عبد الحليم

ولد محمود سعد الدين شاكر غزة 1327هـ في العاشر من المحرم ليلة عاشوراء الموافق أول فبراير 1909م. ولد بالإسكندرية بمنزل حافظ باشا – وهو السابع في ترتيبه بين أخوته. "أحمد وعلى وصفيه ومحمد وفاطمة وحسن ومحمود وعزيزة"

وقد توفي حسن صغيراً. حكي عنه شقيقه محمد الذي يكبره من أنه كان لأخيه محمود مربيه سودانيه عصبيه المزاج وكانت إذا غضبت من أحد أفراد الأسرة.. فإنها تصعد به حيث حجرتها فلا تدع أحداً يحمله أو يداعبه. وتقول عايدة الشريف في كتابها: محمود شاكر قصة قلم، من منشورات كتاب الهلال رقم 563 صادر في نوفمبر 1997، (إننا لا نحيط من سنة 1909 بما حدث لمحمود شاكر في طفولته إلى دخوله أول مراحل التعليم)([1]). وقد ذكر شاكر نفسه فيما ذكرته عايدة الشريف أيضاً أنه قال: (وكان مما قدر الله أن أفتح عيني على ثورة 1919 وعلى دار تموج بالثوار فعقلت من الأمر ما عقلت ورأيت بعيني رجالاً وسمعت بإذني آراء ورضيت بقلبى وأعانتني فطرتي  بضرب من التمييز كان يرج نفسي رجاً شديداً، وأنا بعد في نضارة الصبا. ولم أكد حتى إنطلقت أجوب مجتمعاً يفور بالمتناقضات يتشقق بالصراع المر في ميادين مختلفة من الدين إلى العلم إلى الأدب إلى الفن إلى السياسة إلى السنن الموروثة ومضت بي الأيام وأثخنتني التجارب وهلك رجال، ونشأ رجال، فرأيت وسمعت، ورضيت وسخطت وعلمت من أسرار الصراع ما لم أكن أعلم..) صـ 168 وما بعده (يتصرف).

رسب محمود شاكر في شهادة الإبتدائية وفي العربية بالذات!! سبحان الله العلي العظيم.

ومع عودة الكلمة العربية إلى مكانها في نفس محمود شاكر التي كانت سبب نجاحه في امتحان الابتدائية سنة 1921 ودخل محمود شاكر مدرسة الخديوية الثانوية بالقاهرة القسم العلمي ولكنه كان شغوفاً بالشعر متيماً بالأدب كلفا بالتاريخ..

وبدأ يراسل الأديب الكبير مصطفي صادق الرافعي وأخذ يتردد على الشيخ سيد ابن على المرصفي فحضر دروسة التي يلقيها بعد الظهر في جامع السلطان برقوق ثم قرأ عليه في بيته "الكامل/ للمبرد والحمامه/لأبي تمام وشيئاً من الأماني للقالي وبعض أشعار الهذليين. ووسط هذه القراءات كان أثر الشيخ المرصفي عليه أثراً شديداً فقد أثار اهتمامه وصرف قلبه كله إلى الشعر الجاهلي.

وهذا هو التحول الثاني في حياته بعد التحول الأول الذي تم بحفظ لديوان المتنبي. وفي
عام 1982 كان شاكر في السنة الثانية بالجامعة احتدم الخلاف بينه وبين الدكتور/ طه حسين تلميذ الشيخ المرصفي أيضاً – واحتدم الخلاف بين شاكر وطه حسين حول أصالة الشعر الجاهلي – تلاه مقاطعته (أي شاكر) للجامعة بل مغادرته لمصر كلها إلى جزيرة العرب بعد نشر قصيدته (كلمة مودع) في مجلة الزهراء.

وباختصار شديد للغاية.

في يوليو 1952 إندلعت الثورة بزعامة جمال عبد الناصر. وكان محمود شاكر من المتحمسين لها جداً.. وإن كان الحماس سيخفت كما سنرى بعد ذلك.. تمت الوحدة بين مصر وسوريا ثم تأييد عبد الناصر للثورة العراقية 1959 ولقائدها عبد الكريم قاسم، هذا الأمر الذي أشفق منه محمود شاكر على من لا يعرف قصة التمزيق الذي أحدثه الاستعمار في كيان الأمة العربية والإسلامية منذ بدأ سلطانه عليها و.......... و........... ولما كانت الأزمة مع الاتحاد السوفياتي وخلاف عبد الناصر مع خرتشوف سبباً في القبض على الشيوعيين في مصر. وقد سبقهم الإخوان المسلمون وأصبح الشارع المصري يتهامس بما يدور في المعتقلات والسجون من تجاوزات كان محمود شاكر في حالة هلع فلا يخفي سخطه واستنكاره.. كان أن دخل السجن لأول مرة في فبراير إلي أكتوبر 1959 ميلادية وعندما خرج كان المؤتمر القومي للقوي الشعبية قد ظهر للوجود.. ومع التفكير في إنشاء التنظيم الطليعي وهو
تنظيم سري ينبع من الاتحاد الاشتراكي العربي . لقد فسد العقل العربي بفساد المنهج الذي خالف عقيدته وخصوصية حضارته ولم يحترم دلالة الكلمة فصار أضحوكة بين الأمم التي تحترم خصوصياتها وكانت البداية قبل محمود شاكر بكثير، بدأت بغزو بونابرت مصر والذي أعتبرها البعض بداية النهضة! أي نهضة والمسيحية الشمالية أستعدت لهدم الأمة الإسلامية وإفساد حضارتها بإفساد أهلها. وقد درس محمود شاكر على أستاذة المرصفي فاستفاد من العلم الشرعي ما يؤهله أن يكون من كبار العلماء أو كما يصفه البعض بقولهم صاحب النعوت (فقيه، لغوي، شاعر، علامة) شاكر وكانت قصة اقدامه على الانتحار هى حجر الزاوية في حياة محمود شاكر . لقد أنعزل عن مجتمعه من بدايات الصبا ولم ينصفه المجتمع في حياته أو بمعني أوضح لقد أبي المجتمع أن ينصف محمود شاكر! مات مهموماً حزيناً بعد أن خاض من المعارك الفكرية ما تعجز عنه العصبة أولى القوة .

لقد أفني محمود شاكر حياته دفاعاً عن (الثقافة والهوية والحضارة العربية الإسلامية). وقد عاش منذ شبابه المعني الحقيقي لفساد الحياة الأدبية وقد أتعبه وأرهقه حتى ترك وطنه منذ إلي الجزيرة العربية وقد تمثل فساد الحياة الأدبية أيام شاكر في سرقة مؤلفه عن المتنبي. سرقة (الدكتور) طه حسين أستاذه في كلية الآداب !! ثم مأساة القول بانتحال الشعر الجاهلي التي أعلنها طه حسين وأوجعت شاكر وقضت مضجعه! مع أن شاكر وطه حسين تتلمذا على يد شيخ واحد هو المرصفي رحمه الله. وكان طه حسين هو الجامعة.

كرة محمود شاكر الجامعة والحياة وطه حسين وفكره وإهانته للشعر الجاهلي وشكلت عزلته مأساة كاملة له فأصبح قريب إلي الحدة في القول والغضب الذي لا يعرف حداً خاصة إذا أنتهكت خصائص لغته وحضارته! ولكنه لا يلبث أن يعود إلى طبيعته ودماثة خلقة وهو يودعك عند باب بيته ليقول لك في بساطة شديدة: (إبقي تعالي يوم الجمعة القادمة!) محمود شاكر صاحب النعوت (الفقية، المحقق، اللغوي، الشاعر، العلامة).

أدخلة الدكتور/ لويس عوض وعصابته السجن. سُرقت مؤلفاته. أهانه طه حسين بإهانته الشعر الجاهلي الذي هو ديوان العرب. سجنته ثورة 1952 وأحبها وأحب زعيمها.. حاصرته الهموم رغم المقاومة الشرسة والاحتمال القوي لكل ما مر به من صعوبات. رجل صنعته العقيدة.

وهل هناك فساد أقوي مما تعرض له محمود شاكر الذي لم ينصفه مجتمعه حتي رحل عن دنيا الناس وفاضت روحه الطاهرة إلي بارئها يوم الخميس 3 من ربيع الآخر 1418هـ الموافق السابع من أغسطس عام 1997 من الميلاد فترك في القلوب حسرة لا تنقضي وأودع العيون دمعة لا تجف. رحمه الله ورضي عنه.

ومن أروع ما ترويه الأستاذة/ عايدة الشريف عما أصاب الدكتور/ عبد الصبور شاهين غفر الله له ولنا – من جلسته مع محمود شاكر ليعرض عليه ترجمته لكتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن بنى حتى يكتب له مقدمة يقول الدكتور/عبد الصبور شاهين:

"تصفحها وتمعن في بعض صفحاتها، التفت إلي وشواني شياً على السفود – كما يقولون طيلة ثماني ساعات من الظهر إلي ما بعد العشاء علمني فيها أن على المترجم أن ينقل النص بالعربية التي تليق وليس بالعربية التي تحاكي النص الفرنسي فهذا نمط من الحرفية يضر أكثر مما ينفع بحيث تستعبدنا النصوص التي يرد بها المستشرقون ومن لف لفهم فإذا كانوا يتكلمون عن آيات قرآنية أو أحاديث نبوية فينبغي أن نأتي منها بالصحيح وأما الخبيث فننفيه أو نعلق عليه. ويستطرد الدكتور/عبد الصبور قائلاً:

"حملت صحائفي تحت إبطي كأنما أحمل خيبتي تحت ذراعي. وأنا أبكي من مصر الجديدة إلى الإمام الشافعي تخيلي – يقول للمذيعة – وسرت في تلك الليلة وحدي لا أدري بالطريق من الدوامة التي لفتني وشواني وأقول شواني شياً ما زلت أشعر بأثارة حتى الآن" صـ316 وما بعدها ( بتصرف ) .

هكذا علم محمود شاكر عبد الصبور شاهين .

علم محمود شاكر صاحب النعوت أبناً له هو عبد الصبور شاهين الذي قدم للعربية الترجمة الرائعة لكتاب (الظاهرة القرآنية) للمهندس العظيم (مالك بن بني) بمقدمة للعلامة محمود شاكر صاحب النعوت (فقيه، لغوي، شاعر، محقق) ومما يحسب للعلامة محمود شاكر أنه وضع (المنهج فوق مالك) وهو صديقة!

المنهج فوق مالك . المنهج فوق عبد الصبور . هذا هو محمود شاكر. المنهج فوق طه حسين. هذا (هو العلامة المحقق، الشاعر، اللغوي، الفقيه) الذي مات محسوراً من فرط التجاهل.

هكذا علم محمود شاكر أبناء الأمة. لا سرقة. لا انبهار بمعارف لا تمثل خصائص أمته. إنه المنهج على الدقة والأمانة والاستقامة.

التذوق هو منهجه. ويعني به (معايشة النص قبل الحكم عليه) والرجوع إلى ينابيع وكنوز إرث أجداده العرب القدماء على عكس ما قام به أستاذة الدكتور/ طه حسين الذي درس الأدب العربي كله وكأنه تاريخ مضي زمنه فصار كالأصداف الفارغة، ولكن محمود شاكر درس الأدب العربي كأعمال لغوية فنية تتلألأ في نفس أصحابة على صفحاته، كما يضئ اللؤلؤ بين ألاف الأصداف الفارغة. هذا هو الفرق بين منهج الدكتور/ طه حسين الإستشراقي ومنهج محمود شاكر المنتمي لحضارته. تناقص بين المنهجين واضح لكل ذي عينين كان مدعاة للصراع بين المدرستين إلى يوم الناس هذا. وتذكر الأستاذة/ عايدة الشريف أن محمود شاكر (ذكر في كتابة "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) كيف أنه محي من ذاكرته كل المذاهب الفاسدة من حوله.. محيلاً إياها إلي صفحة بيضاء يسجل عليها رحلته كمستكشف يرتاد رحلة مجهدة إلى ينابيع وكنوز إرث أجداده العرب القدماء). صـ231 وما بعدها ( بتصرف ).


 

محمود محمد شاكر الرجل الذي غُيّب عنه الإنصاف .. (2/2)

بقلم/ زغلول عبد الحليم

وتستطرد الأستاذة/ عايدة الشريف قائلة:

(ولأنه كان يشعر في الوقت نفسه أن يُعبد طريق رحلته حتي يسير فيه من بعده  فقد وضع اللافتات الإرشادية والمنارات كلما اعترت الرحلة الصعاب في هيئة يوميات أو أولويات الشعر عامة والشعر الجاهلي خاصة، والأدب بجميع فروعة والتاريخ وعلم الدين بفروعه المختلفة والفلسفات بمذاهبها المتضاربه ولم يترك حتي العلوم البحتة كالحساب والجبر وما إليهما أي كل ما هو صادر عن الإنسان.

أن الشق التاريخي.. هو نفسه (الطبقة الترابية) التي تكلست فوق وجه الأدب العربي، وأرهق محمود شاكر في إزاحتها والتي استغرقت سنوات
من 1926 حتى1936 تعلم فيها علماً يفوق عشرات الأكاديميين وقد أجاد مرحلة الثقافة الشفاهية على يد أستاذة / المرصفي حتى اعترف له أخيه وهو شيخ المحدثين في عهدنا بالاقتدار ثم رشحه عنه في تحقيق الستة عشر جزء من تفسير الطبري كما كتب ذلك في مقدمته ولأن محمود شاكر له تاريخ طويل مع ما يسمي منهجاً ويدرك جيداً الغموض الذي أحاط بهذا اللفظ.. ويعرف ما أدي إليه من خلط كثير من الآداب وتفسيرها وشرحها وأن هذا اللفظ يزداد مع الزمن غموضاً وإبهاماً لذلك ينبه : فاعلم أن حديثي هنا هو عن الذي يسمي المنهج الأدبي على وجه التحديد أي: عن المنهج الذي يتناول الشعر والأدب بجميع أنواعه والتاريخ وعلم الدين بفروعه المختلفة والفلسفة بمذاهبها المتضاربة وكل ما هو صادر عن الإنسان إبانه من نفسه وعن جماعته.. إلي أن يقول فهذا الذي سميته منهجاً ينقسم إلى شطرين شطر في تناول المادة وشطر في معالجة التطبيق. فشطر المادة يتطلب قبل كل شيء جمعها في مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصاً دقيقاً وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية وبمهارة وحذر حتي يتيسر للدارس أن يري ما هو زيف جلياً واضحاً وما هو صحيح مستبيناً واضحاً بلا غفلة وبلا هوي وبلا تسرع أما شطر التطبيق فيقتضي إعادة تركيب المادة بعد نفي وتمحيص جيدها باستيعاب أيضاً لكل إحتمال للخطأ أو الهوي أو التسرع ثم على الدارس أن يتحري لكل حقيقة من الحقائق موضعها، لأن وضع احدي الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويها بالغ القبح والبشاعة، أن شطر التطبيق هو الميدان الفسيح والذي تسمع فيه صليل الألسنة (جهره) أو (خفيه) وفي حومته تتصادم الأفكار بالرفق مرة وبالعنف مرة أخرى، وتفترق فيه الدروب والطرق أو تتشابك أو تلتقي. هذه طبيعة هذا الميدان وطبيعة النازليه من العلماء والأدباء والمفكرين وعندئد يمكن أن ينشأ ما يسمي المناهج أو المذاهب.

وقد أشترط محمود شاكر كيلا ينحدر الباحث فلا يصل إلى غايته، اشترط على النازل استيعاب مداخل ثلاث استيعاباً تاماً.. وهي اللغة، الثقافة، البعد عن الأهواء وقد شرح محمود شاكر تداخلها وتراحبها وسمو مضامينها من صفحة 24 إلى صفحة 122 من كتابة (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا).

ومن مضامينها الأولى مثلاً أن بين تمام الإحاطة باللغة وقصور الإحاطة بها، مزالق تزل عليها الأقدام، مخاطر يخشي معها أن تنقلب وجوه المعاني مشوهة الخلقة مستنكرة المرأة بقدر بعدها عن الأسرار الخفية المستكنة في هذه الألفاظ والتراكيب. أما الثقافة فهي معارف كثيرة لا تحصي. متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أولاً عن طريق القلب ثم للعمل بها حتي تذوب في بيان الإنسان وتجري منه مجري الدم لا يحس به صـ238 وما بعدها ( بتصرف ).

أما الأصل الأخلاقي أو البعد عن الأهواء وهو العامل الحاسم! الذي يمكن لثقافة الأمة بمعناها الشامل أن تبقي متماسكة تزداد على الأيام ترابطاً بقدر ما يكون في هذا الأصل الأخلاقي من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعاً سواء النازلون في ميدان (ما قبل المنهج) أو في (ميدان المنهج نفسه) وهم العلماء والمفكرين والأدباء والمتلقون عنهم تلامذة كانوا أو اشباه تلامذة من قارئ أو سامع أو كل متطلب للمعرفة. ولأن محمود شاكر رجل أخلاقي فإنه يري أن هذا الضابط الأخلاقي الرقيب يأتي من قبل الثقافة ورأسها كان هو الدين أو ما كان في معني الدين من عقائد أو ملل أو نحل أياً كان نوعها. أو هو الذي بمعناه العام والذي هو فطره الإنسان. ولأن الأستاذ/ شاكر يعرف أن المثقفين العرب يخرون عندما يسمعون رأي أي غربي في موضوع كان فإنه في ربطة للثقافة بالدين – أو أنه ليست هناك ثقافة بدون عقيدة فقد أستشهد برأي ت.س. أليوت في هذا الشأن المهم لاسيما قوله: (أليس ما نسميه ثقافة شعب ما ودين هذا الشعب مظهرين مختلفين لشيء واحد . إذن الثقافة فى جوهرها تجسيداً لدين الشعب .

يقول الدكتور/ عبد اللطيف عبد الحليم وهو من تلامذة عباس محمود العقاد:

كلام محمود شاكر يعلم الزهو والمجد أولاً ويعلم الأدب والفكر ثانياً

وأخيراً:

يقول الدكتور/ محمود محمد الطناحي في كتابه (مستقبل الثقافة العربية) من منشورات دار الهلال، كتاب الهلال 1999. 

أي رجل كان محمود محمد شاكر، وأي مجلس كان مجلسة؟ وأي أنس كان يشيع في هذا المجلس، وأي علم كان يتفجر في رحابة؟ وللناس أن يتكلموا عن علم محمود شاكر ما شاء الله لهم أن يتكلموا، ولكن الحديث عن مجلسه مما ينبغي الوقوف عنده وتأمله. لقد قلت في بعض ما كتبت أنه لم يحظ أحد من أدباء هذا الجيل بمعشار ما حظي به محمود شاكر من حب والالتفاف حوله والأخذ عنه والتأثر به.

ولقد صدق الدكتور/ محمود محمد الطناحي وأيضاً استطاعت الأستاذة/عايدة الشريف أن تقدم لنا محمود شاكر العلامة اللغوي الفقيه الشاعر الأديب وهي نعوت لمحمود شاكر أطلقها الذين أحبوه واخذوا عنه وتأثروا.

وأيضاً يقول عنه محمود الطناحي: "أن أبا فهد (محمود محمد شاكر) دخل ميدان تحقيق التراث خدمة وعوناً على قضية الكبرى: قضية تاريخ أمته العربية، ثم إزالة الغبار الذي طمس معالمها، وعلى  هذا فلا ينصفه من ينكره في عداد المحققين والناشرين.

أن تحقيق التراث بالنسبة له عمل هامشي، ولذلك تراه يكتب أغلفه كثير من تحقيقاته هذه العبارات: قرأه وشرحه أو قرأه وعلق عليه أو قرأه وخرج أحاديثه.

وقال أيضاً في مقدمة كتاب قصة قلم للأستاذة عايدة الشريف التي رحلت قبل أستاذها محمود شاكر بشهور:

"وكان من أعجب العجب ألا تجد لهذا الرجل الضخم (محمود شاكر) ذكرا إلا في مقدمات بعض الكتب أو الرسائل الجامعية شكراً مصنوعاً متكلفاً يريد به صاحبه أن يرفع خسيسته ، لا أن يذكر علماً، لكن محمود شاكر سيظل أثراً ضخماً باقياً في ضمير الأمة حراسة للعربية وذوا عنها، وبصرا بها وإضاءة لها أن أحق ما يقال عن محمود شاكر هنا وفي كل مكان هو ما قاله عن أستاذة/ مصطفي صادق الرافعي بأن الرافعي (قد صار ميراثاً نتوارثه، وأدباً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه) وكذلك ينبغي أن يكون محمود شاكر (ميراثاً نتوارثه، درساً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه).

بفساد المنهج إنحط. وفسد العقل العربي وأنحطت مدارسكه منذ الغزوة الفرنسية بقيادة بونابرت ورغم اندحارها ورحيلها إلا أنها زرعت الألغام وأفسدت الأفهام إلي أهلنا يومنا هذا عن طريق الأبالسه من الذين رضوا بالقيام بدور الفجرة الذين رفضوا العربية الإسلامية وهبوا للدفاع والانتصار ( للمناهج ) الفاسدة وإعلاء ( قيم ) الغرب ورفض خصائص الأمة العربية الإسلامية وإرث الأجداد.

قلنا أن الدين هو الثقافة ومحاولات نزع القداسة عن المقدس وتمييع اللفظ وإفساد محتواه وتفريغه من المضمون الصحيح محاولات إستشراقية لاقت رواجاً هائلاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بإعتبار أن ما يقدمه ( الغربي ) عموماً هو الرأي الصحيح ولا يعقب عليه!!.

أثمر منهج الدكتور طه حسين ثمرة وأتي أكله. لا تزال مدرسة الدكتور/ طه حسين تعمل عملها ولكن الجميل أن مدرسة العلامة محمود شاكر لها شوكتها أيضاً وأن كتاب (رسالة في الطريق إلي ثقافتنا) قضم ظهر مدرسة الإستشراق وتغيب العقل والوجدان وقد علمنا كتاب الرسالة الزهو والمجد قبل أن يعلمنا الأدب والفكر كما قال أخلص تلامذة العلامة محمود شاكر الذي لم ينصفه مجتمعه في وقت مجد فيه أنصاف الكتاب والمهازيل من الذين تعاطوا ( الثقافة الغربية الوثنية الهزيلة ) وحاولوا جر مصر بالقوة إلي دائرتها وإغلاق باب الثقافة الأصيلة – ثقافة الأمة القائمة والمستمدة من دينها. لا ثقافة بدون دين ودين الأمة يعني أمنها دون أدني شك والذين تعاطوا الثقافة على أنها الفصل بين القيم المتكاملة لا إعتبار لهم ولا قيمة في ميزان العقل والتفكير المستقيم.

ثقافتنا هي عقيدتنا.

الأمة العربية الإسلامية لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من الأمم. أمة تؤمن بالغيب والوحي مصدر اليقين وبدون الوحي لا قيمة لنا. الوحي بمصدرية القرآن الكريم والسنه. السنة مصدر للحضارة والمعرفة. هذه خصائص أمننا الحضارية. إرث محمد صلي الله عليه وسلم فلا إرث أخر لنا.

وأصعب ما أضيف إلى فساد المنهج فكرة الحكم على الأعمال الأدبية بالسماع وهي من البلاء الذي عم وطم وكنتيجة لفساد المنهج فتعرض كثير من الكتاب والأدباء لهذا المنطق الأعوج والحكم المتسرع فكم أزيحت أقلام من موضعها وتكاثرت عليها سهام النقد ونذكر منهم الدكتور عبد العزيز حمودة والأستاذ محمد فريد أبو حديد، الأستاذ على أحمد باكثير، الأستاذ يحي حقي، محمد عبد الحليم عبد الله، الأستاذ عبد الحميد جودة السحار ، وغيرهم لقد جني فساد الحياة الأدبية على العلامة محمود شاكر ومن قبله شيخ الغربية أستاذ شاكر مصطفي صادق الرافعي كما جني على تلميذ شاكر الأديب الدكتور النابه محمود محمد الطناحي!.

رحم الله الرافعي؛ رحم الله محمود شاكر؛ رحم الله محمود الطناحي؛
رحم الله عايدة الشريف ، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.

والحمد لله رب العالمين

               

([1])أكشف شقيقها الكتب الصحفي يوسف الشريف بعد رحيلها يوم 3/إبريل 1997 أنها خلفت وراءها كتاباً جاهزاً للنشر عن الأستاذ/ شاكر كانت قد استكملت سطوره قبل رحيلها بثلاثة شهور وكان قد سبقها إلى الرحيل العلامة شاكر فى 7/8/1997م.