انطباعات عن شيخنا المربِّي عبدالرحمن الباني

محمد أسامة عرقسوسي

العلامة عبد الرحمن الباني

محمد أسامة بن محمد خير عرقسوسي

دعاني الزميل الأستاذ أيمن بن أحمد ذوالغنى لكتابة شيء من انطباعاتي وذكرياتي عن والدي الفاضل الشيخ الجليل المربِّي عبدالرحمن الباني رحمه الله([1])، ولا أظنُّ أني في هذه العُجالة أستطيع أن أوفيَ انطباعاتي الكثيرة عنه حقَّها، ثم إنني لست أهلاً للكتابة أصلاً، فما أنا إلا طُوَيلب علم أحتاج إلى الكثير قبل أن أبلغَ مستويات الإنشاء العربيِّ السليم والتحرير المناسب، خصوصًا حين يكون الحديث عن عملاق عظيم مثل شيخنا العلامة الباني الذي لا أظنُّ مهما كتب الكتَّاب عنه أن يتمكَّنوا جميعًا أو فُرادى من إيفائه قليلاً من حقِّه! كيف لا وهو العالم المسلم الملتزم، المربِّي القدوة، صاحب الهمَّة العالية والاطِّلاع الواسع، والمجتهد الدَّؤوب، ومن أوائل من تفوَّق في تحصيل الشهادات العلميَّة.

درسٌ في الحكمة وفنِّ الإدارة:

أذكر له موقفًا تربويًّا حصيفًا لا يصدر إلا عن عالم رفيع الحكمة والثقافة والعلم، فقد كنَّا يومًا في مجلسه رحمه الله، وحضر معنا لفيفٌ من الأطبَّاء والمهندسين وأساتذة الجامعات والتجَّار والمثقَّفين، ومنهم أستاذ الجغرافيا الكبير الشيخ محمود شاكر([2]) (الحرستاني السوري) الذي كان في بدايات معاناته فقدانَ الذاكرة، ولم يظهر عليه المرضُ بعدُ، فتحدَّث في المجلس والجميع يسمعون، وكان في حديثه بعض التعدِّي على الإمام السُّيوطي! فما كان من شيخنا الباني إلا أن استوقفَه للحظات بلطف واحترام، واستأذنه ألا يُتمَّ كلامه حتى يرجعَ إلى المجلس.

وخرج من الغرفة مسرعًا، وما هي إلا دقائق قليلة حتى فُتحَ بابُ المجلس وظهرت منه كومةٌ من الكتب (نحو عشرين كتابًا بعضها فوق بعض)، يحملها الشيخ الباني وقد جاوز يومئذٍ الثانية والتسعين من عمره المبارك، ودخل علينا ووضعها بثقلها على الطاولة أمامنا، وابتسم ابتسامةَ محبَّة للأستاذ محمود شاكر، ووجَّه كلامه للحاضرين قائلاً: أستاذنا محمود شاكر الذي أكرمنا بحضوره هو صاحبُ كلِّ هذه المؤلَّفات التي أمامكم، وقد بلغ عدد مؤلَّفاته ثمانين ومئة مؤلَّف، في حدود علمي، وربما أكثر من ذلك، وكلُّها بلا استثناء من أعظم المؤلَّفات، وحريٌّ بنا جميعًا أن نقرأها كلَّها، ونتعمَّقَ في قراءتها واحدًا واحدًا، لأهميَّتها وأهميَّة ما فيها من علم. والأستاذ محمود من أحسن من كتب في جغرافيا العالم الإسلاميِّ، وأفضل من كتب في التاريخ الإسلاميِّ والأقليَّات الإسلاميَّة، فجزاه الله عنَّا وعن المسلمين كلَّ خير، وهو لا يلومُنا أبدًا إن قلنا له: إنه أخطأ اليوم في حقِّ الإمام السُّيوطي، وهو ما هو عليه من الفضل والعلم والإنجاز الباهر العظيم.

أخذ الأستاذ محمود شاكر يستغفرُ الله؛ بما عُرفَ عنه من تواضع وخشية لله تعالى، ولم يتابع ما كان بدأ به من كلام، وأنهى الحديثَ من تلقاء نفسه.

هذه هي سرعة البديهة الإسلاميَّة، والإلهام الإداريُّ الحصيف، والحكمة التربويَّة الرائعة، عملاً بقوله تعالى: {وقولوا للنَّاسِ حُسنًا} [البقرة/ 83].

 المشروع الإسلاميُّ والتخصُّص:

كنَّا في مجلسه - يرحمه الله - أمام خُلاصة من كنوز العلم تتدفَّق أمامنا في صورة قدوة عمليَّة وبراعة توضيحيَّة، يوجِّهنا بلطفه، ويُمتعنا بحديثه، وينفعنا بخبراته وتجارِبه وذكرياته العظيمة.

سألته مرَّة: لماذا لا يكون في متناول كلِّ مسلم أن يخدمَ الإسلامَ من خلال مشروع إسلاميٍّ عامٍّ وواضح للجميع؟ فقال: إن المشروع الإسلاميَّ موجود في سِيَر أعلام الأمَّة وعظماء الإسلام، وفي كلِّ الكتب التي تحدَّثت عن الخلافة الإسلاميَّة، وعن المسؤوليَّة، والكتب التي تناولت مواقفَ الحكَّام المسلمين الصالحين، وأحوال الخلفاء الراشدين والشخصيَّات الإسلاميَّة الملتزمة. ويجب القراءة عنهم والتأسِّي بهم والاقتداء بأعمالهم.

ولا بدَّ لكلِّ مسلم أن يتسلَّحَ بالعلم والمعرفة والثقافة، وذلك بأن يعرفَ كلَّ شيء عن أحد الأشياء، ويعرفَ بعضَ الشيء عن كلِّ الأشياء، وكنَّا رأينا في مصرَ مع الأستاذ حسن البنَّا - يرحمه الله - أن نُنشئَ معهدًا للدُّعاة ننتقي له من كلِّ منطقة من مناطق البلاد عشَرةً من الشباب نعلِّمهم المبادئ الإسلاميَّة ونربِّيهم عليها، حتى إذا تمكَّنوا منها كُلِّفَ كلُّ واحد منهم أن يربِّيَ عشَرةً آخرين، وكلُّ واحد من العشَرة الجُدد يربِّي عشَرةً... وهكذا تستمرُّ العشَرات، وتتوالى بعدها العشَرات، حتى نخلصَ إلى إقامة مجتمع صالح مصلح ملتزم بشرع الله ومتمثِّل مبادئه في أقواله وأفعاله.

هذا مع ضرورة العناية بالتخصُّص الدقيق لكلِّ فرد، فعلى المسلم أن يعرفَ أدقَّ التفاصيل في علم أو تخصُّص واحد، مع تثقيف نفسه بالاطِّلاع على جوانب المعرفة والثقافة الأخرى، يقول تعالى: {فاسألوا أهلَ الذِّكر إن كنتُم لا تعلمون} [النحل/ 43].

ثم قصَّ علينا الشيخ قصَّةَ صديق له حِمصيٍّ اسمه عبد النافع السِّباعي([3]) تذاكر معه في مسألة المشروع الإسلاميِّ، فذكر له شيخُنا أن من وجوه هذا المشروع الإسلاميِّ الذي نخدُم به الإسلامَ إيجاد متخصِّصين على أعلى مستوًى من التخصُّص الذي يمكن أن يصلَ إليه البشَر: ففي تخصُّص التربية مثلاً ينبغي أن يكونَ المتخصِّص الإسلاميُّ قادرًا على الوقوف قبالةَ أكبر مربٍّ في العالم، وإقناعه بالحجَّة والبرهان: أن التربية الإسلاميَّة لا تفضُلها تربيةٌ أخرى على وجه الأرض. وفي القانون يبيِّن المتخصِّص لأكبر حقوقيِّي العالم بالحجَّة والبرهان: أن نظام الحقوق الإسلاميَّ هو أعظم نظُم الحقوق في العالم. وكذلك في الاقتصاد، وغيره من التخصُّصات. وهذا لا يتأتَّى للمسلم إلا إذا جمع بين التمكُّن في تخصُّصه ودراسته للشريعة الإسلاميَّة في نفس الوقت.

واقتنع عبد النافع بهذه الفكرة، وعزم أن يكونَ متخصِّصًا في العلوم القانونية بكليَّة الحقوق، وسجَّل في نفس الوقت في كليَّة الشريعة بالأزهر؛ تنفيذًا لمضمون هذا المشروع الإسلاميِّ الذي فيه قدوةٌ للجميع، في كلِّ الاختصاصات، وعلى جميع المستويات.

تلك إحدى الأفكار النهضوية التي كان يُتحفنا بها الشيخ الباني - يرحمه الله - في مجالسه المباركة.

غَيرة محمودة:

وهو من أشدِّ الناس غَيرةً على اللغة العربيَّة، فكان يحرِصُ على سلامتها من اللحن والزلل، ويقول: إن تمكُّنَ المسلم من اللغة العربيَّة الصحيحة عبادة، ويؤكِّد ضرورةَ استخدام المسلم للفصحى في كلِّ شأن، وضرورةَ تجنُّب استخدام أيِّ مصطلح أجنبيٍّ أو لفظ عاميٍّ في أيِّ نشاط أو سلوك أو عمل من حياتنا.

وكان الشيخ محبًّا للفُكاهة، ساق إلينا بميوله التربوية العفوية قصَّةً قرأها علينا من كتاب الشيخ علي الطنطاويِّ "في سبيل الإصلاح" بعنوان:

(لو أقرَّ المجمع)([4])، وتتلخَّص القصَّة في أن الشيخ الطنطاويَّ أوفدته الحكومةُ السورية إلى مصرَ لجمع معلومات عن قانون الأحوال الشخصيَّة، وبينما هو هناك سمع أن الأستاذ محمد فريد أبو حديد أحد أعضاء مجمع اللغة العربيَّة بمصر اقترحَ على المجمع اعتمادَ اللغة العاميَّة لغةً للتدريس في المدارس؛ لِما لها من مزايا حسب زعمه، فساقَ الشيخ الطنطاويُّ هذه القصَّةَ الطريفة معارضًا هذا الاقتراحَ بمفارقات لطيفة؛ فذكر أن كلمة (صمّونة) في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجيُّ الذي على شكل (السندوتش)، وهو ما يُعرَف في دمشق بـ(الإفرنجوني)([5])، ولكنها في تونس اسمُ شيء يُستحيا من ذكره، وهو العضو الذكَريُّ للصبيِّ الرضيع.

وسمع الشيخ الطنطاويُّ وهو في أحد المطاعم بالقاهرة عراقيًّا يقول للنادل المصريِّ: (ماعون باجيلا على تِمَّنْ، وصَمّونَة). فبُهت النادل وقال: (إيه؟! إيه؟!). فأجابه شاميٌّ كان على نفس الطاولة: (بدُّو ماعون، مابتعرف الماعون؟ يعني طبق غسيل، وصابونة)([6]). النادل: (ليه بَأَه؟). الشامي ضاحكًا: (ليش؟! بَرْكي بدّو يتغسّل!). النادل: (يتغسّل! بعيد الشرّ، عاوز تؤول يشَّطَّف؟). ويغرق الشاميُّ في الضحك ويقول: (يشَّطَّف، يا عيب الشّوم، شو ما بتستحي انْتِهْ؟). فيلتفت العراقيُّ ويقول: (والله مادا افْتَهِم، حشّي غريب هْوايَه، يابَهْ، ما تِحْشي عربي؟). فيقول النادل: (ما تحكي عربي، يا خويا؟!). ويردُّ عليه الشاميُّ: (لكان عَم يحكي أرناؤوطي؟ هادا عربي). النادل: (أمّال بؤول إيه؟). الشاميُّ: (بؤول بدّو كوسا محشي، ومهوايه يعني: مروحة).

وعندئذٍ خرج الشيخ الطنطاويُّ من المطعم خشيةَ أن يفضحه ضحكُه، وهو يقول: ماذا لو أقرَّ المجمع اقتراح محمد فريد!؟ لكنَّا سنحتاج إلى مترجمين ليفهمَ النادل المصريُّ أن (الماعون) في بغداد هو (الطبَق) في مصر، وهو في الشام (الصَّحن)، وفي مدينة السَّلْط الفلسطينيَّة يسمَّى (السفل)، فتقول المرأة لجارتها: (أعيرينا سفلك)! وأن (التشطيف) في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنَّه في الشام الاستنجاء! و(الباجيلا) في العراق الفول، و(التمّن) الرز، والـ(هْوايه) صفة للشيء الكثير، على حين في غوطة دمشق هي الصَّفعة على الوجه([7]).

وكثيرة هي المفارقات المماثلة! فيروي الشيخ الطنطاويُّ في نفس المقال: أنه عندما وصل بغداد أول مرَّة سأل حوذيًّا أن يأخذَه إلى (ضاحية نزهة) فقال له: (تروح باب شرجي؟) فكاد الشيخ يبطش به! وهو لا يريد إلا (الباب الشرقي)، والعراقيُّون يجعلون القاف جيمًا معطَّشة.

ومن المفارقات: أن أديبًا مصريًّا كان يتحادث مع الشيخ الطنطاويِّ عن موضوع الفساد في مصر، فقال: إن في دمشقَ ما هو أفظع وأشنع؛ إعلانات على أبواب الدَّكاكين فيها طلبٌ صريح للخَنا! فأنكر الطنطاويُّ واستوضحَ! قال الأديب: لقد رأيتها بعيني؛ لوحات فيها: (يلزمنا آنسات للخياطة)، والخياطة في عاميَّة مصر كنايةٌ عن الزِّنى!

ومن النِّكات السارية في دمشق: أن مدرِّسًا مصريًّا في مدرسة بنات، قال لإحدى الطالبات مؤنِّبًا: (إيه الأسباب التي منعتك من إعداد الدرس؟) وهو يميل بالسِّين إلى مخرَج الزاي فجعلها (الأزباب)! ومن المفارقات أيضًا: أنك إذا (بسطت) رجلاً في الشام ومصر فقد سرَرتَه، ولكن في العراق تعني أنك ضربته! و(التقليع) في الشام الطردُ من الدار ونحوها، وفي مصرَ نزعُ الثياب! و(التقفيل) في مصر إغلاق الباب، وله في الشام معنًى هو أخبثُ من أن يُشارَ إليه؛ حيثُ إنه في أحسن الأحوال يعني: محاصرة زَبون الزانية بالاستهزاءات للحيلولة بينه وبين ما يريد! وغير ذلك كثير.

هذا بإيجاز بعضُ ما ساقه لنا الشيخُ الباني من مقال الشيخ الطنطاويِّ الطريف؛ فُكاهةً واستمتاعًا وفائدة، ليدلِّلَ على أهميَّة اللغة العربيَّة الفصحى في توحيد البلاد والعباد. وكثيرة هي استشهادات فضيلة شيخنا الباني بقصص شيخه الطنطاويِّ ومقالاته، وقد كان يقول: إن الشيخ الطنطاويَّ - يرحمه الله - في هذا العالم سيزداد أهميَّة وشهرةً كلما مرَّت الأيام، وسيتكشَّف للناس فضلُه وعظمته يومًا بعد يوم.

 سرُّ القوَّة:

ويذكر شيخنا الباني أنه جمع مرَّة بعضَ حفيداته وسألهنَّ: هل تعرفنَ لماذا الولاياتُ المتَّحدة الأمريكيَّة قوية؟ فسكتنَ أو تردَّدنَ في الإجابة، وربما قالت إحداهنَّ: لأن عندها السلاحَ أو لتقدُّمها العلميِّ أو نحو ذلك. فقال يرحمه الله: الولايات المتَّحدة قوية؛ لأنها ولاياتٌ متَّحدة! ونحن ضعفاء لأننا ولاياتٌ متفرِّقة! وقد كنَّا في يوم من الأيام دولةً واحدة قوية، وكان الخليفة المسلم يحكم عدَّة أقطار قد يصل عددُها إلى 13 دولة من دول أقطارنا المتفرِّقة الحاليَّة، حتى إنه كان يقول للسَّحابة: أمطِري حيثُ شئتِ فسيأتيني خَراجُك!

فنحن المسلمين منذ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما قبل قُرابة تسعين عامًا ظللنا ولايات إسلاميَّة متَّحدة قوية، إلى أن تمزَّقت هذه الوَحدة عندما سقطت الخلافة الإسلاميَّة العثمانية (بما لها وعليها) التي كانت تحفظ علينا الوَحدة والقوَّة.

ومما يُذكَر أن شيخنا الباني - يرحمه الله - كان يشدِّد في توصيتنا باستعمال التاريخ الهجريِّ في حياتنا، ويقول: إن الهجرة أعظمُ حدَث في تاريخ البشرية، فلقد تكوَّنت بها أولُ دولة إسلاميَّة في العالم، وضع مِنهاجها ربُّنا سبحانه وتعالى، على يد رسوله الحكيم عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.

الهمُّ والاهتمام:

وكان الشيخ مهتمًّا اهتمامًا عظيمًا بالتربية الإسلاميَّة، وكلُّ مجالسه كانت تحوم في فلَك هذا الاهتمام، وهو يرى أن الذين كتبوا في التربية الإسلاميَّة ثلاثةُ أصناف؛ الصِّنف الأول: كتب عمَّا تناولته التربية في التاريخ الإسلاميِّ، وعن الفلاسفة المسلمين، والتاريخ التربويِّ للأصول التي ترجع إليها التربية الإسلاميَّة. والصِّنف الثاني: كتب في مُنتقَيات من الإسلام العظيم باسم الثقافة الإسلاميَّة أو الدِّيانة. والصِّنف الثالث: اعتنى بالتربية الإسلاميَّة في أوسع معانيها وأرفعها وأنبلها وأعظمها، تربية مُنبثقة من الإسلام ومُستهدِفة أهدافه ومُستخدمة أدواته لإيجاد الإنسان المسلم الصالح الذي يكون وليًّا لله وحده.

وفي بدايات حضوري لمجالسه - يرحمه الله - سمعته يقول: إنه عَكَفَ مع بعض المتخصِّصين في التربية على وضع منهج لمشروع مقرَّر للتربية الإسلاميَّة من خلال النظرة الصحيحة لهذه التربية، وبُنيَ هذا المنهج على عشَرة أصول قال إنه سيتكلَّم عليها ويجعلها موضوعَ مجالسه الآتية، وكان طَوالَ حديثه عنها يُبرز أهميَّة مؤلَّفات صديقه الشيخ عبدالرحمن النحلاوي يرحمه الله، وبخاصَّة كتاباه "أصول التربية الإسلاميَّة وأساليبها"، و"التربية الإسلاميَّة والمشكلات المعاصرة"، وهذه الموضوعات العشَرة التي ألحق بها موضوعًا إضافيًّا حادي عشر، كان تعرَّض لها يوم درَّسني - جزاه الله خيرًا - في مرحلة الدِّراسات العليا بكليَّة العلوم الاجتماعيَّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بالرياض، وهذه الموضوعات هي:

1- مفهوم التربية الإسلاميَّة ومداخلها وتعاريفها، ونماذج من آثارها العمليَّة والحضارية؛ مثل: انتشار الأوقاف الإسلاميَّة وغيرها.

2- مصادر التربية الإسلاميَّة ومراجعها، ومن أين تشتقُّ، ومصادر البحث فيها، والمنابع التي تُستقى منها أحكامنا ومفاهيمنا في الإسلام (القرآن والسنَّة).

3- أسس التربية الإسلاميَّة وقواعدها، والركائز والأصول المبنيَّة عليها؛ فكريًّا (اعتقاديًّا)، وتعبُّديًّا، وتشريعيًّا.

4- غايات التربية الإسلاميَّة وأهدافها، مثل: إخلاص العبودية لله، وتزكية النفس وتربيتها {قد أفلح من زكَّاها} [الشمس/ 9]... إلخ.

5- وسائل التربية الإسلاميَّة وأساليبها، ومنها: الحوار، القصص، ضرب الأمثال، القدوة، الممارسة والعمل، العبرة والموعظة، الترغيب والترهيب... إلخ. ووسائطها، من مثل: المعلِّم، والمربِّي، والمنهج، والكتاب، والأدوات، والأماكن، والمؤسَّسات، والأسرة، والمسجد، والمدرسة، والمجتمع... إلخ.

6- مراحل التربية الإسلاميَّة وجوانبها المختلفة، مثل: بناء الإنسان وشخصيَّته، بجميع جوانبه العقليَّة والنفسيَّة والخُلقيَّة والسلوكيَّة والاجتماعيَّة والجسميَّة والرياضيَّة... إلخ، وكلُّ جانب له توجيه خاصٌّ.

7- مبادئ التربية الإسلاميَّة التي تُنادي بها، وهي أهمُّ مقاصد القرآن، وأهمُّ الأحكام والقِيَم والمثُل الإسلاميَّة، من مثل: مبدأ الرِّفق، ومبادئ الحِرص على الرجولة والصِّدق والجدِّية، والدُّربة والمِران عليها بالصِّيام والانضباط، والتزام صلاة الصُّبح وصلوات الجماعة، والبعد عن كثرة الضَّحك والسطحيَّة والتفاهة، ومبدأ العدل، ومبادئ المروءة كإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، ونصرة الحقِّ والمظلوم، ومبدأ التزام مكارم الأخلاق، ومبدأ تقرير الكرامة الإنسانيَّة، ومبدأ الأخذ بالحكمة أنَّى كانت... إلخ.

8- مناهج البحث في التربية الإسلاميَّة، ومنها: المنهج الموضوعيُّ، والتاريخيُّ، والمقارن، والتحليليُّ، والاستنباطيُّ، والوصفيُّ، والإجرائيُّ التطبيقيُّ... إلخ. ويذكر الشيخ الباني: أن المؤرِّخين يعدُّون المنهجَ التجريبيَّ هديةَ الحضارة الإسلاميَّة إلى الحضارات العالميَّة، ولذلك عندما وصل جورج سارطون في كتابه المهمِّ "مدخل لتاريخ العلم"([8]) إلى الحقبة الإسلاميَّة، قال: الآن وصلنا إلى عهد المنهج التجريبي.

9- التقويم في التربية الإسلاميَّة، ويشمل: التصحيحَ والتعديل إلى الأصلح، والتثمين.

10- خصائص التربية الإسلاميَّة والصِّفات التي تميِّزها من غيرها من مناهج التربية، من مثل: كونها ربَّانيَّة تحارب الكهنوتية والشِّرك والسِّحر والشعوذة والخرافات والضلالات، وكونها ثابتة الأسس والأصول والقواعد الخُلقيَّة وغيرها، وصالحة لكلِّ زمان ومكان، وموافقة للفِطرة، وواقعيَّة متمشِّية مع الإمكانات البشرية، وشاملة لكلِّ جوانب الحياة ومظاهر النشاط باعتدال ووسطيَّة، وتوازن بين الحاجات والمطالب، وكونها موحِّدة للطاقات البشرية، وعالميَّة، وإيجابيَّة فعَّالة، متفائلة تحارب الطِّيَرة والتشاؤم، وتمتاز باليُسر وعدم الحرَج؛ إذ {لا يكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها} [البقرة/ 286]، مع ربط القول بالعمل، والنظريات بالتطبيقات {كبُرَ مَقتًا عند الله أن تقُولوا ما لا تفعَلون} [الصف/ 3].

11- مشكلات تحلُّها التربية الإسلاميَّة، من مثل: إنقاذ الطفولة، وإلزاميَّة التعليم، وتعليم المرأة، وترك التدخين، واجتناب المخدِّرات والمسكِرات... وغير ذلك.

أخلاق الصَّحابة:

لقد كانت مجالس الشيخ الباني كلُّها، وأحاديثه كلُّها، وذكرياته كلُّها، وخُلاصة قراءته كلُّها.. تدور في فلك النِّقاط المذكورة آنفًا، وكما قلتُ في مطلع كلمتي: لا يمكن أن نحيطَ بهذه الشخصيَّة الإسلاميَّة العظيمة، لا فرادى ولا مجتمعين.

وأذكر شخصيًّا أن الشيخ عبدالرحمن الباني كان من أحبِّ الناس إلى والدي الشيخ الدكتور محمد خير عرقسوسي رحمه الله، الذي كان كثيرًا ما يُثني عليه وعلى رفعة أخلاقه، ويقول لوالدتي - يرحمها الله- عنه: هذا رجلٌ بأخلاق صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برغم بُعد الزَّمان.

وحسبي، أنا طُوَيلب العلم، أن أكونَ بارًّا بهما معًا؛ والدي وشيخي؛ إذ أبرُّ البرِّ برُّ أهل ودِّ الأب، أو كما قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله تعالى أن يرحمَ شيخنا عبدالرحمن الباني ويغفرَ له، ويُسكنَه الفردوسَ الأعلى، ويرزقَنا وكلَّ محبِّيه الصبر والسُّلوان في فراقه.

أغلفة كتب اشترك في تأليفها أصحاب الشيخ الباني في الرياض:

والد كاتب المقالة د. محمد خير عرقسوسي، وأ. عبدالرحمن النحلاوي، ود. عبدالكريم عثمان

                

([1]) لتنشر في كتابي عن سيرة شيخنا الجليل العلامة عبدالرحمن الباني رحمه الله (كتبه وسائر التعليقات: أيمن بن أحمد ذوالغنى).

([2]) صاحب كتاب "التاريخ الإسلامي" في خمسة عشر مجلَّدًا، وهو أذكر كتبه وأشهرها.

([3]) عرفه شيخُنا في مصر حين دراسته هناك، وصار من أقرب الناس منه وأحبِّهم إليه، ويصفه الشيخ بأنه من أصفى من عرف قلبًا، وقد توفِّيَ مع بعض أصدقائه وزملائه غرقًا في النيل، في أثناء رحلة فيه، رحمهم الله تعالى.

([4]) في سبيل الإصلاح، طبعة دار المنارة، ص243- 251. والكاتب جمع بين ما قرأه الشيخ الباني من مقالة الطنطاوي، وبين تعليقات الشيخ التوضيحيَّة.

([5]) وتسمَّى في السعودية: (صامولي).

([6]) كذا فهم الشاميُّ معنى (صمّونه) ظنها صابونة! والماعون: طبق غسيل!   

([7]) وظنها الشاميُّ: مروحة!  

([8]) كان شيخنا الباني على مدار قُرابة خمسين عامًا يحثُّ المتخصِّصين والمهتمِّين على ترجمة كتاب العالم البلجيكي جورج سارطون، وقد استجاب لرغبته مشكورًا رجل الأعمال السُّعودي الفاضل محمد بن سعيد السيِّد، فأخرج منه القسم الخاصَّ بالحضارة الإسلاميَّة بعنوان: "مدخل لتاريخ العلم؛ عصر الحضارة الإسلاميَّة"، وتولَّى ترجمةَ الكتاب د. أحمد عبد الفتَّاح اللَّيثي رئيس الجمعيَّة الدَّولية لمترجمي العربيَّة، وراجعه علميًّا الأستاذ البروفيسور د. عبدالرحمن السليمان من جامعة لوفين ببلجيكا، وراجعه أيضًا شيخنا عبدالرحمن الباني وقدَّم له بمقدِّمة جُعلت تحت عنوان: (بيان فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمن الباني)، وقدَّم للكتاب أيضًا العالم الدكتور محمد مراياتي كبير المستشارين في العلم والتقنيَّة للتنمية المستدامة بالأمم المتحدة، وصدر عن دار السيِّد للنشر، ط1، 1432هـ/ 2011م.