الأئمة الأربعة

محمد سيد بركة

[email protected]

في التاريخ الإسلامي هناك فقهاء عاشوا في القرن الثاني الهجري ، الثامن الميلادي عرفوا في حياتهم وبعد مماتهم بالأئمة من قبل علماء عصرهم وتلاميذهم ، ومن ثم الأجيال التالية ، لأنهم كانوا مجتهدين وأصحاب مناهج في الفقه الإسلامي ، يستنبطون الأحكام الشرعية من أدلتها ، معتمدين على فهمهم لنصوص القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة و السنة المأثورة . ولقد صدر مؤخراً كتاب تحت عنوان الأئمة الأربعة  لسليمان فياض،ضمن سلسلة كتاب مجلة الدوحة الشهرية، وذلك في إطاراحتفاء المجلة بشهر رمضان  الكريم.

 في مقدمة الكتاب عرف فياض الأئمة الأربعة قائلاً: على رأس أئمة أهل السنة، كان فقهاء أربعة عظام، عاشوا كفقهاء أئمة، هم: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وكانوا من جيل تابعى التابعين، والتابعون هم من تبعوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعايشوهم حياة وعلمًا، وتابعو التابعين هم من لم يروا الصحابة، وعرفوا الصحابة التابعين، حين تتلمذوا على أيدهم. وليس بينهم فقيه لم يتعرض فى حياته لمحنة، كادت تودى بحياته، أو أودت بها، بسبب السياسة غالبًا، وقد باعدوا بينهم وبينها، بسبب هذا الصراع المرير بين كل من الأمويين والعباسيين من جهة، والعلويين من جهة أخرى، وذلك الصراع الدامى فى العقائد، بين نظرة الفقهاء ونظرة علماء الكلام. ويوضح فياض أن لفظ الفقه يعنى فى اللغة: الفهم، ثم أطلق اصطلاحًا، أولاً على علم الشريعة الإسلامية أصولاً وفروعًا، فى عصر الصحابة والتابعين، ثم خصص ثانيًا بعلم الفروع فى عصر تابعى التابعين، ويراد به عندهم العلم بالأحكام الشريعة، المأخوذة من أدلتها التفصيلية، وفى إطار هذا التخصيص كانت جهود أئمة الإسلام الأربعة وكانت اجتهادات هؤلاء الأئمة الفقهاء عن أفعال المكلف وحكمها ودليلها فى العبادات والمعاملات.

إمام أهل الرأي

في الفصل الأول إمام أهل الرأي أبو حنيفة النعمان قال فياض علي لسان الشيخ محمد أبو زهرة أن تاريخ الفقة الإسلامي لم يعرف إماما في الفقه كثر مادحوه، وكثر ناقدوه ، مثل الإمام أبو حنيفة لأنه كان فقيها مستقلا،سلك في تفكيره الإجتهادي مسلكا مستقلا. ووصفت الأجيال المتعاقبة الإمام أبو حنيفة بالإمام الأعظم.

وأورد رأي بعض من عاصروا أبو حنيفة ، فقد قال عنه الفضيل بن عياض الشهير بالورع : كان رجلاً فقيهاً ، معروفاً بالفقه ، واسع المال ، معروفاً بالأفضال على كل من يطوف به ، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار ، حسن الصمت ، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام ، فكان يحسن آنئذ أن يدل على الحق غير هياب من مال أو سلطان } وقال عنه الإمام مالك { أن أبا حنيفة وضع ثلاثاً وثمانين ألف مسألة في الفقه الإسلامي ، منها ثماني وثلاثون ألف مسألة هي أصل في العبادات ، وخمس وأربعون ألف مسألة هي أصل في المعاملات.

ثم تحدث عن حياته حيث ولد الإمام أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80 هجرية لأب فارسي النسب أسمه تابت بن زوطي  وكان جده زوطي من أهل كابل في أفغانستان ، نشأ و تربى بالكوفة في بيت أبيه تاجر الحرير الموسر ، والمسلم الحسن الإسلام ، حفظ القرآن في سن الصبا ، وكان يعيش في مجتمع يعيش فيه العرب والسريان ، والفرس ، الخراسانيين ، وبلاد ما وراء النهر ، وتلقي فلسفة اليونان بحكمة الفرس ، في مجتمع تتحاور فيه العقائد ، ومذاهب النصرانية وآراء الشيعة ، والسنة ، والخوارج ، والمعتزلة ، مجتمع تتضارب فيه آراء الفرق في السياسة ، مثل تضاربها في العقائد . ولقد راح أبو حنيفة يجادل دفاعاً عن الإسلام مع المجادلين وينازل أهل الأهواء بفطرته المستقيمة .

حتى سن الثانية و العشرين من عمره ، كان أبو حنيفة يشتغل بتجارة الحرير مثل أبيه وكان يجلس في حلقات العلم في المساجد في بعض الأحيان النادرة ، إلى أن استوقفه يوماً الفقيه ( إبراهيم الشعبي ) وقد رأى فيه ذكاءً ، ولمح وراء ذكائه عقلاً علمياً . وقد روى أبو حنيفة ما قاله له إبراهيم الشعبي ، فقال مررت يوماً على الشعبي ، وهو جالس ، فدعاني فقال لي – إلى أين تختلف ؟ فقلت : أختلف إلى السوق . فقال الشعبي : لم أعن الاختلاف إلى السوق ، عنيت الاختلاف إلى العلماء . فقلت له : أنا قليل الاختلاف إليهم . فقال لي : لا تغفل وعليك بالنظر في العلم ، ومجالسة العلماء . فإني أرى فيك يقظة وحركة  . ووقعت نصيحة الشعبي موقعاً طيباُ من قلب أبي حنيفة ، فقلل كثيراً من الاختلاف إلى الأسواق ، تاركاً أمر متجره إلى شريكه . ويفرغ جل وقته في الليل والنهار للتردد على حلقات العلم ، وكانت هناك في مسجد الكوفة حلقات للمذاكرة في العقائد ، يخوض فيها أهل الفرق الإسلامية المختلفة ، وحلقات لمذاكرة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وروايتها ، وحلقات لاستنباط الفقه من الكتاب والسنة ، والفتوى فيما يقع ويستجد من الحوادث في حياة الناس..

وتحدث فياض عن علاقة الإمام بخلفاء عصره لافتاً إلى أن الفقيه كان يرى أنه لا يجب أن يقبل الفقهاء هدايا الخلفاء، كما تحدث عن المحن التي مر بها خلال حياته وكيف واجهها وتغلب عليها،ومن المحن التي تعرض لها أبو حنيفة أنه بعد قضاء الأمويين علي ثورات العلويين التي كان يؤازرها العلماء والفقهاء، قرر الأمويين محاسبة هؤلاء العلماء، عن طريق اختبار ولاءهم لبني امية.

ودعا ابن هبيرة إليه بأبي حنيفة في ديوان الإمارة وعرض عليه العمل معه لكن أبو حنيفة رفض، عندئذ أقسم ابن هبيرة أن يسجن أبا حنيفة ويضربه، وتم ذلك بالفعل وضرب لأيام متتالية، ثم هرب ابن حنيفة من العراق إلي مكة. وكانت المحنة الثانية لأبي حنيفة عندما قام بالتجريح في قضاء أبي ليلي بشكوي الذي إشتكاه بدوره للخليفة المنصور وكان صفو علاقته بأبي حنيفة متعكرا في تلك الفترة، وسار صدام بينهم الذي أدي إلي حبس الفقية وجلده كل يوم عشرة أسواط. وأوضح من خلال هذا الفصل كيف كان يتعامل الفقيه مع الناس، كما تحدث عن فترة ما بعد رحيل الإمام أبو حنيفة، مؤكداً أن مذهبه اكتسب نفوذاً كبيراً في عهد الدولة العباسية حين بات اختيار القضاة في تلك الفترة من تلاميذه والمجتهدين في علمه.و توفي رضي الله عنه في 11 جمادى الأولى سنة 150 ه عن 70 عام ودفن ببغداد.

إمام أهل السنة

وفي الفصل الثاني يبدأ فياض بحديثه عن إمام أهل السنة مالك بن أنس بنظرة معاصريه له وشهادات أصحابه له، ثم ينتقل بالحديث عن نشأته وحياته، حيث ولد الامام مالك بن انس بن مالك ابوعامر الاصبحي اليمني, سنة 93ه - 712م, وأمه هي العالية بنت شريك الازدية, فهو عربي الأب والأم. وفي المدينة نشأ الامام مالك بن انس في بيت اشتغل بعلم الاثر, وكان اهل بيته مشتغلين بعلم الحديث. واستطلاع اثار السلف واخبار الصحابة وفتاويهم. وكان لمالك اخ اسمه النضر يكبره عمرا, ويلازم العلماء, فكان الناس يعرفون مالكا باخي النضر, فلما ذاع صيت مالك العلمي بين شيوخه وأهل المدينة صار الناس يعرفون النضر بأنه أخومالك.

ويضيف فياض وفي المدينة أيضا, حفظ مالك القرآن الكريم, وتوجه من بعده إلى حفظ الحديث, وكانت المدينة انذاك, موطن السُّنن وموطن الفتوى المأثورة. وكان لايزال حدثا صغيرا, وحرص منذ صباه على حفظ ما يكتبه, ولقد تأثر الامام مالك بشخصية ابن هرمز تاثرا شديدا, ووجهته هذه الشخصية الوجهة التي صارت عليها شخصية الامام مالك, وقد تلقى مالك عن ابن هرمز الحديث, وتلقى عنه ما اختلف فيه الناس, وتلقى عنه الرد على اهل الاهواء, حين تدعوه ضرورة الى ذلك. ويذكر فياض ان الامام مالك - كان يسمع في المجلس الواحد نيفا واربعين حديثا مرة واحدة. فيحفظها وهو يكتبها عن شيخه. ولقد بلغت اصول احاديثه المكتوبة اثني عشر الف حديث, من حديث اهل المدينة.كان الامام مالك يطلب بالعلم وجه الله, ويبتعد عن الجدل والمجادلة, وكان يرى ان المجادلة هي نوع من المنازلة بين الناس, والدين اعلى من ان يكون موضعا لنزال بين علماء المسلمين. ومع ذلك كانت لمالك مناظرات مع العلماء من طرازه, ومع بعض الخلفاء ممن لهم نزعة علمية, مثل ابي جعفر المنصور حول سنية الترجيع في الأذان, وسنيةالوقف, ومقدار الصاع في الصدقة والزكاة. وكان الامام مالك اذا أراد ان يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وجلس على فراشه وسرح لحيته, وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة ثم حدث, فقيل له في ذلك فقال:احب ان اعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا احدث به الا على طهارة. وما بين الطفولة والصبا, سمع مالك اخبار الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز, ولقد ظل مالك يرى في عمر بن عبد العزيز صورة عظيمة من التقوى والزهد والحزم والقوة, ولقد عاش مالك ليرى من بعد عمر خلفاء قهر, واهواء, وشهوات. لقد عاصر مالك حكم الخلفاء الامويين والعباسيين, وكان حين يلتقي بالخلفاء بالمدينة, او بمكة, لم يكن جلوسه الا بجوارهم كشيخ امام لاهل الحجاز, ولم يقتصر مالك في نصائحه للخلفاء على هذه اللقاءات, فقد كان يكتب اليهم يذكرهم بواجبات الحكام في الإسلام للمحكومين, ضاربا الامثال ومقيما البراهين, من سنة الرسول, وحديث الرسول, والرفق بالرعية. ويوضح فياض انه وفي زمن مالك لم يكن علم الحديث قد تميز تميزا كاملا عن الفقه, فقد كانا مختلطين, فالفقيه يروي الاحاديث, فيكون محدثا وفقيها في آن واحد, وقد جمع الامام مالك الاثنين في كتابه الموطأ فهو كتاب حديث, وكتاب فقه, ومرتب ترتيبا فقهيا, جرى على مثله, من بعده, جامعو الأحاديث والسنن, ولقد نقل أصحابه آراءه الفقهية في المسائل المختلفة, وكانوا من بلاد الحجاز ومصر, والأندلس, وشمال أفريقيا. وكتاب الموطأ ثابتة نسبته الى مالك, وقد تناقلته الاجيال..فقد قال الشافعي في الموطأ, ما ظهر كتاب على الارض بعد كتاب الله اصح من كتاب الامام مالك, وفي عصره قيل فيه:أيفتى ومالك في المدينة.

 وقال الامام احمد بن حنبل: مالك سيد من سادات اهل العلم, وهو امام في الحديث والفقه. ومن مثل مالك, متبع لاثار من مضى, مع عقل وادب.

 لم يدون الإمام مالك أصول مذهبه, ولكنها دونت من بعده, استقاء من موطئه, ومن مدونات تلاميذه, فقهاء المذهب المالكي. ويمكن حصر أصول مالك في: القرآن الكريم, والسنة الشريفة, والإجماع, وفتوى الصحابة, وعمل اهل المدينة, ثم: القياس, والاستحسان, والاستصحاب, والمصالح المرسلة, والذرائع, والعادات والعرف, أحد عشر اصلا, وصل بها بعض المالكية الى ستة عشر اصلا. والأصول الأحد عشرة مستقاة كلها من موطأ مالك. وحين مرض الامام مالك مرضه الأخير دخل عليه بكر بن سليمان الصواف مع جماعة في ليلة وفاته, فقالوا: يا ابا عبد الله, كيف تجدك? فقال: ما أدرى كيف أقول لكم, إلا انكم ستعاينون غدا من عفوا لله ما ليس في حساب, وبعد قليل تشهد, وقال: لله الأمر من قبل ومن بعد, وأسلم روحه الى بارئها وكانت وفاته بالمدينة سنة 179ه ،  ودفن مالك بمقبرة البقيع .

إمام النقل والعقل

ثم تحدث فياض عن إمام النقل والعقل الشافعي، في فصله الثالث من الكتاب، حيث بدأ كلامه عنه بالشهادات التي قالها عنه تلاميذه، ثم تحدث عن حياته ومعاناته من عيشة اليتامى الفقراء حتى اتجه مع شرف نسبه إلى معالي الأمور، إلا أن حفظ القرآن واتجه لحفظ كل ما يسمعه من الحديث ودونه، وأوضح فياض كيف تفصح في العربية من خلال مرافقته لقبيلة هذيل حيث كانوا آنذاك أفصح العرب، ثم راح يتحدث عن المحن التي مر بها

حيث  لم يسلم هو الأخر من ظلم الحكام والتعرض للمحن، لأنه كعالم راح ينقد والي نجران، لذا راح الوالي يكيد له بالدس والوشاية عند الخليفة العباسي وقد نجح في ذلك، وكاد أن يقتله الخليفة هارون الرشيد، لولا حجته، وشهادة بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة.شهد الإمام أحمد بن حنبل لعلم الشافعي وعقله فقال : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم  أن الله عز وجل يبعث  لهذه الأمة  على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى ، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى  وقد قال عنه أحد مشايخه : للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من شرف نسبه وصحة دينه ومعتقده وسخاوة نفسه ، وحفظه للكتاب والسنة ،وسيرة الخلفاء ،وكان حسن التصنيف .وروى بعض تلاميذه عن علمه فقالوا : كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل ، وأوتي علم الحديث فحفظ موطأ الإمام مالك ، وضبط قواعد السنة ، وفهم مراميها والاستشهاد بها وعرف الناسخ والمنسوخ ، وأتي فقه الرأي والقياس ووضع ضوابط القياس والموازين لمعرفة صحيحه من سقيمه ، كان يدعو إلى طلب العلوم ، فقد كان يقول : من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في الفقه نبل قدره ، ومن نظر في اللغة رقً طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه . ولد محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ، في مدينة غزة بفلسطين التي كانت جزءاً من الشام الكبير سنة 150 هجرية ، في عهد الدولة العباسية ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة ، وفي عبد مناف يلتقي نسب الشافعي مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت أم الشافعي من بني الأزد باليمن .

نشأ الشافعي في أسرة فقيرة ، تتنقل بين الأحياء اليمنية بغزة وعسقلان ، وتوفي أبوه وله من العمر سنتان ، فانتقلت به أمه إلى مكة ، وظلت تتردد به بين قومها باليمن وقومها بفلسطين وقوم أبيه بمكة ، واستقرت به في مكة حين بلغ من العمر عشر سنين ، فراح يحفظ القرآن ، ويعيش عيشة اليتامى الفقراء الذي يتجهون مع شرف نسبهم إلى معالي الأمور ، وعرف من دخائل الناس ما لا يعرفه أبناء الميسورين عن حياة البسطاء ، و إثر إتمامه لحفظ القرآن الكريم ، راح يستمع إلى المحدثين في الحرم المكي ، فيحفظ الحديث الذي يسمعه ويكتبه أحياناً على الخزف وعلى الجلود ، ويذهب إلى ديوان الإمارة ويأخذ أوراقاً من أوراق البردي المطروحة وقد كتب على أحد وجهيها ليكتب على وجهها الآخر .

وفي مكة بلغ الشافعي من العلم شأناً عظيماً حتى أذن له شيخه  مسلم بن خالد الزنجي بالفتوى بقوله :  أفت يا أبا عبد الله ، فقد آن أن تفتي وأصبح  الشافعي صاحب طريقة في الفقه كما يوضح فياض فاجتمع حوله بكتابه كتاب الرسائل العلماء والفقهاء من أهل الرأي والمحدثين، وأكد فياض أن الشافعي كان قد وضع كتابه تلبية لطلب عبد الرحمن بن مهدي مثلما وضع مالك موطأه تلبية لطلب الخليفة أبي جعفر المنصور، كما تحدث عن شخصية الإمام الشافعي وموقفه من المعتزلة، والشيعة وبغضه لعلم الكلام وأهله، كما تطرق فياض إلى شهادات من عاصروه عن كتاباته وكيف كان تلاميذه يكتبون ما يسمعونه عنه فيأته ما يكتبونه بمعانيه وألفاظهم هم، وتتبع فياض خلال ذلك الفصل رحلة الشافعي وانتقالاته التي أتمها لينشر طريقته موضحاً أنه بعد أن أتم نشر طريقته في العراق خلال سنتين وبضعة أشهر، ثم انتقل إلى مصر فنال الفوز بنشر علمه وفقهه وتوفي فيها. واختتم الفصل الحديث عن أتباع الشافعي من بعده وانتشار مذهبه في أماكن أكثر من غيرها، كانتشاره الواسع في مصر، وانتشاره بالعراق وخرسان وما وراء النهر والشام واليمن وفارس والحجاز، وبعض بلاد الهند.

إمام الاتباع

ومن خلال الفصل الرابع تحدث فياض عن إمام الاتباع أحمد بن حنبل حيث ذاع وانتشر علم الإمام احمد بالحديث والأثر وهو لا يزال شاباً يطلب العلم ، واستشهد  بشهادات معاصريه عنه وروايتهم عن علمه وفقهه، فقد قال عنه شيخه أحمد بن سعيد الرازي : ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل ، وقال له شيخه الإمام الشافعي ، وقد استمع لحفظه وكان لا يزال شاباً : أنت أعلم بالأخبار الأحاديث و الآثار الصحاح منًا ، فإذا كان خبراً صحيحاً فأعلمني حتى أذهب إليه  أي إلى مصدره  كوفياً كان أو مصرياً أو شامياً ، ويروى أن الشافعي قال عن الشاب أحمد : ثلاثة من عجائب الزمان ، عربي لا يعرب كلمة وهو أبو ثور ، وأعجمي  فارسي لا يخطئ في كلمة ، وهو الحسن الزعفراني ، وصغير كلما قال شيئاً صدقه الكبار وهو أحمد بن حنبل . وعندما خرج الشافعي من بغداد إلى مصر خلف وراءه ببغداد الإمام أحمد وكان عمره ستاً وثلاثين سنة فقال : خرجت من بغداد و ما خلفت بها أورع و لا أتقى و لا أفقه من أحمد بن حنبل .

ثم تحدث عن حياته ونِشأته قائلاً عنه : دفع أحمد يتمه، وشرف نسبه، وحرمانه من ترف العيش، وقناعته، ونزوعه للتقوى، إلى أن يكون سامي النفس، ويكرس ما وهبه الله له، من ذكاء العقل في طلب العلم، وأوضح أنه حفظ القرآن ثم أخذ يتردد على الديوان ليتمرن على الكتابة والتحرير، لافتاً إلى أن مسيرته بدأت في طلب العلم من بغداد ثم توالت أسفاره في طلب العلم خارج بغداد، وأشار إلى أن أحمد كان قد عاش حياة فقيرة رافضاً في أضيق أحواله أن يقترض ومفضلاً العمل حتى لو كان حمالاً لأمتاع الناس، وأوضح فياض أن الإمام أحمد كان قد مر بمحن عديدة ومحنته العظمى كانت مع الخليفة المأمون وكان صاحبا للمعتزلة كان يقول مثلما يقولون أن القرآن الكريم مخلوق ومحدث، وأراد من الفقهاء أن يقولوا مقالته في خلق القرآن ومنهم الإمام أحمد بن حنبل لكنه رفض وأصر علي قوله أن القرآن كلام الله، لذا تعرض لمحنة مدوية استمرت في عهد المأمون وفي عهد المعتصم والواثق من بعده، لقي فيها العذاب، فطوال 28 شهرا كان يضرب بالسياط إلي أن يغمي عليه، وينخس بالسيف فلا يحس، وحين يأس معذبوه أطلقوا سراحه، ثم جاء الخليفة الواثق وأعاد محنة بن حنبل عن طريق منعه من إلقاء درسه في المسجد أو غيره ومنعه من أي اجتماع مع الناس، وجاء المتوكل بعد الواثق وأوقف هذا الاضطهاد. وشرح فياض  كيف واجه الإمام أحمد كل هذه المحن وتغلب عليها بجلده وإصراره على مواصلة طريقه نحو العلم، كما تضمن الفصل بعض الروايات عن دروس الإمام ومجالسه التي كانت منبراً للعلم، حيث اتخذ من منزله مجلساً لخاصة الخاصة من تلاميذه وأولاده، ومجلساً في المسجد للعامة ولتلاميذه أيضاً، ويبين فياض في نهاية الفصل أنه كان لأحمد آراء في السياسة كما كان له آراء في العقائد.

ويعتبر مسند الإمام أحمد خلاصة ما تلقاه من الأحاديث . ودونها بإسنادها ، منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره ، فقد بدأ في طلب الحديث وجمع المسند سنة 180 هجرية عن الثقات الذين يلتقي بهم ويروي عنهم . وكان يكتب الأحاديث في أوراق منفردة وحين شعر بدنو أجله ، بادر بإسماع أحاديث مسنده لأولاده وأهل بيته ، لكنه مات قبل تحقيقه وتهذيبه ، فبقي على حاله دون تبويب ، أو ترتيب ، وراوي المسند الذي بين أيدينا اليوم هو عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، وكان شغوفاً منذ صغره بطلب الحديث من أبيه ، ومن غير أبيه ، ولقد قرر العلماء أن هذا الابن أروى للحديث من أبيه ، وقد حاول عبد الله ترتيب مسند أبيه وتبويبه على معجم الصحابة والرواة ، ولصعوبة هذا التبويب فقد أعاد ترتيبه إسماعيل بن عمر . وكانت وفاته يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 241 هجرية ، وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم ، وخرج الناس بنعشه والخلافة حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله.      

الكتاب: الأئمة الأربعة

المؤلف : سليمان فياض

الطبعة : طبعة جديدة –أغسطس -2011م

عدد الصفحات : 174 صفحة من القطع المتوسط.

الناشر : مجلة الدوحة –قطر – كتاب الدوحة-  رقم 3