بين العلامة المربي عبدالرحمن الباني وزعيم حزب البعث ميشيل عفلق

بين العلامة المربي عبدالرحمن الباني

وزعيم حزب البعث ميشيل عفلق(1)

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

ينطوي هذا الموقف على دلالات مهمَّة تكشف عن بعض معالم شخصيَّة شيخنا الجليل العلامة المربِّي عبدالرحمن الباني رحمه الله، في وقت مبكِّر من عمره المبارك، منها غَيرته على حُرمات الله، وجُرأته في الحقِّ، ودأبه وحزمه في الانتصار له، دون وَجَل أو تهيُّب، ممتثلاً وصيَّة النبيِّ المعلِّم : ((ألا لا يَمْنَعَنَّ أحدَكُم هَيبةُ الناس أن يقولَ بحقٍّ إذا رآهُ، أو شَهِدَهُ، أو سَمِعَهُ))([2]).

وسأروي القصَّة كما سمعتها منه غير ما مرَّة بألفاظه تقريبًا، يقول:

درَّسنا ميشيل عفلق النصرانيُّ في الصفِّ الأول الثانوي بمدرسة التجهيز مادَّة الحضارة الإسلاميَّة! سنة 1936م، ولم يكن اشتَهر حينئذٍ، وكان يقرأ لنا من كتاب باللغة الفرنسيَّة لهنري ماسِّيه([3])، ويُملي علينا أماليَ في كلِّ درس، ولاحظتُ أن ما يُمليه فيه كثيرٌ من الدسِّ والسُّموم، فدعوت بعضَ إخواني ذوي الغَيرة إلى اجتماع في جامع الشمسيَّة بحيِّ المهاجرين قرب منزلي، وطلبت إليهم أن يُحضروا معهم دفاتر مادَّة الحضارة الإسلاميَّة، وقمنا بمعارضتها ومقابلتها حتى صنعنا نسخةً صحيحة تامَّة لكلِّ حرف أملاه علينا دون زيادة ولا نقصان.

ميشيل عفلق

ومضَينا بها في اليوم التالي إلى مدير ثانويَّتنا الأستاذ شكري الشربجي([4])، وشكونا له حالنا، مبيِّنين له مغالطات ميشيل عفلق التي يُمليها علينا، فاهتمَّ لأمرنا واتصل بوِزارة المعارف أمامنا، وقال لهم: عندي طلاَّب جادُّون جدًّا يدَّعون أن الأستاذ ميشيل عفلق مدرِّس الحضارة الإسلاميَّة يُلقي عليهم كثيرًا من الأباطيل والأغاليط ولا بدَّ من التحقيق في الأمر. وانتظرنا مدَّة ولكن لم تتخذ الوِزارة أيَّ إجراء!

فطفت مع بعض زملائي على كبار علماء الشام ودعاتها وخُطبائها، وعلى الجمعيَّات الإسلاميَّة نخبرهم خبرَ عفلق وإساءاته للتاريخ الإسلاميِّ والحضارة الإسلاميَّة ونُطلعهم على نسخة أماليه التي صنعناها، ونحثُّهم على اتخاذ موقف جادٍّ بشأنه، وفي جامع تنكز رأيت شيخي وأستاذي في الابتدائيَّة الشيخ علي الطنطاوي([5]) فأخبرته بالموضوع.

وكان اليوم التالي هو الجمعة وآخر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، فمضيت فيه إلى سوق الحَمِيديَّة (لأكويَ طربوشي) من أجل العيد غدًا، ولكنَّ الوقت ضاق فطلب الطرابيشيُّ أن أتركَه عنده وآخذَه بعد صلاة الجمعة، فاضطررت إلى الذهاب حاسرًا إلى جامع بني أميَّة، وهناك خلعت مِعطفي وتوضَّأت من (البحرة) التي بجانب السُّدَّة، ثم دخلت (حرم) الجامع فوجدتُّه مكتظًّا بالمصلِّين، وأبصرت من بعيد وزيرَ المعارف عبدالرحمن الكيَّالي([6]) جالسًا مع الناس ينتظر الخُطبة، وكان خطيب الأمويِّ يومئذٍ الشيخ عبدالرحمن الخطيب([7]) شقيق الشيخ هاشم الخطيب وهو من المشايخ الذين أخبرتهم بموضوع ميشيل عفلق، فتوقَّعت أن يجعلَ الخُطبة في التحذير من خطره على النشء، وبقيت أترقَّب طَوالَ الخُطبة الأولى وكأنَّ على رأسي طائرًا حتى انتهت، فقلت: لعلَّه سيتناول الموضوع في الخُطبة الثانية، ولكنَّه لم يفعل! واستفزَّني ذلك، فشققت الصفوفَ بعد الصلاة باتجاه الوزير الذي كان جالسًا مطأطئَ الرأس، ووقفت بينه وبين الشرطيِّ المرافق له وصرخت بأعلى صوتي: يا معالي الوزير.. فانتفض فزعًا متفاجئًا ونظر إليَّ باستغراب! وتكلَّمت على الملأ بصوت عالٍ قائلاً: يا معالي الوزير، هل يُرضيكم أن يُلقيَ أحد المعلِّمين للتاريخ ما لا يصحُّ من معلومات؟! نحن طلاَّب مدرسة التجهيز، يدرِّسنا معلِّم نصراني مادَّة الحضارة الإسلاميَّة، ولكنَّه يُسيء للحضارة الإسلاميَّة وللإسلام والتاريخ، ويُملي علينا مغالطات لا صحَّة لها...

ولم ألبث أن شعرت بشخصٍ يربِّت كتفي، فالتفتُّ فإذا به شيخي علي الطنطاوي يقف خلفي، وقال لي: دعني يا بنيَّ أُكمل عنك، ففرحت فرحًا عظيمًا، وكان الطنطاويُّ حينذاك علمًا من أعلام الشام، وخطيبًا بارعًا مشهورًا لا يكاد يُدانيه خطيب، وتدفَّق الشيخ بخُطبة مُحكَمة وصريحة، ورنَّانة وبليغة، كأمواج البحر الهادر؛ ناصحًا ومحذِّرًا من مغبَّة التهاون في الأمر.. وحين فرَغ قام الوزير متكلِّمًا فأثنى على الإسلام خيرًا، ثم قال: سنحقِّق بأمر هذا المدرِّس وفيما قاله الطالب، فإن كان حقًّا سننحِّي المعلِّمَ عن التعليم!

وقد سعدتُّ كثيرًا بما قاله الوزير، فخرجت من الجامع مسرعًا لأُدرك درسَ شيخي محمد أمين كفتارو([8]) بعد صلاة الجمعة، ومررت بالطرابيشيِّ وأخذت طربوشي.

وبعد إجازة عيد الفطر، ولمَّا حانت حصَّة الحضارة الإسلاميَّة أقبل ميشيل عفلق وشقَّ باب الفصل وبقي واقفًا خارجَ الفصل، وقال: لماذا السيِّد الباني يذهب إلى الجامع ويخطُب ضدِّي؟! لماذا لا يُناقش ما يريد هنا في الفصل بحرِّية؟! لن أدخلَ عليكم حتى يخرجَ من الفصل.

ولكنِّي أبَيتُ الخروج، وأصررت على البقاء، وألحَّ عليَّ بعض الطلاَّب بالخروج، فقلت لهم بكلِّ هدوء وبرود: لا والله لا أخرج، فإن شاء الأستاذ أن يدخلَ فليدخل، وإن أبى فشأنه! فخرج مُغضبًا، وكان ذلك آخرَ عهدنا به ذلك العام؛ إذ عُزل عن تدريس المادَّة([9])، وعُيِّن بدلاً منه الأستاذ عارف العارف([10]).

ويكمل شيخُنا حديثه قائلاً: ولكنَّه في العام التالي 1937م، درَّسَنا - في الصفِّ الحادي عشر - مادَّة الحضارة الأوربيَّة، ووقفت له من جديد معترضًا على تدريس حضارة أوربة الاستعماريَّة، مُنكرًا الاهتمامَ بحضارتهم على حساب حضارتنا العربيَّة الإسلاميَّة، فعُدَّ اعتراضي شغبًا، وعوقبت بما كان يُسمَّى (التكدير العلَني)؛ وهو إثبات ما يُشبه شهادة توبيخ على الجدار في المدرسة!

وللأمانة أقول: برغم كلِّ ما كان بيني وبين ميشيل عفلق، أنصفَني وأعطاني حقِّي كاملاً في الاختبار الشفهي ولم يظلمني علامةً واحدة.

                

([1]) سمعت هذه القصَّة من شيخنا أول مرَّة في دار الكيميائيِّ الصالح د. عبدالله حجازي، في الثاني عشر من ذي الحجَّة 1425ه، بحضور الأخوين الفاضلين الأستاذ أحمد صوَّان، والأستاذ مروان خالد. ثم سمعتها مرَّة أخرى منه في منزل الأخ الفاضل الشيخ د. صالح الضويحي، مساء الأحد الخامس من ربيع الآخر 1431ه، ثم كرَّرها الشيخ مرَّات في مجالسه - مطوَّلة ومختصرة - بإلحاح من بعض الإخوة.

([2]) أخرجه الإمام أحمد في ((المسند)) 3/5 الحديث رَقْم (11017) بإسناد صحيح، من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه.

([3]) قال شيخُنا: كان أستاذنا الكبير عبدالرحمن بدوي يقول: كتبُ ماسِّيه ليس لها كبير قيمة علميَّة!

([4]) يصفه شيخُنا بقوله: كان فاضلاً في دينه، متمكِّنًا من اللغة الفرنسيَّة ومدرِّسًا لها، ويخلط في كلامه بين العربيَّة والفرنسيَّة، لم يدرِّسني، ولكنَّه درَّس أخويَّ الأستاذ بشيرًا والأستاذ عبدالهادي.

([5]) الشيخ الطنطاوي (1327- 1420ه/ 1909- 1999م): أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، درَّس شيخنا في الصفِّ الرابع والخامس الابتدائيِّ، بالمدرسة الجوهرية السفَرجَلانيَّة، وكان مقرَّرًا عليهم في الصفِّ الخامس كتاب "نابليون والثورة الفرنسيَّة" في مادة التاريخ، ولكنَّ الطنطاوي حين درَّسهم المقرَّر بثَّ فيه من روحه الإسلاميَّة، ولم يلتزم بمضمون الكتاب، وبقي أثر الشيخ الطنطاوي ظاهرًا في حماسة الشيخ الباني وغيرته الجيَّاشة. وكان كثيرًا ما يقول: إنني لأقرُّ بعظيم فضل الشيخ الطنطاوي عليَّ، ما بقي فيَّ عقلٌ يعي ونفَسٌ يتردَّد.

([6]) يقول شيخُنا عنه: هو من القوميِّين العرب وأميل إلى العلمانيين، كان يفتخر أنه يذهب إلى السِّنِما ويصطحب أولاده معه! وكان ذلك أمرًا مُستهجَنًا جدًّا.

([7]) هو عبدالرحمن بن محمد رشيد الخطيب (1307- 1367ه/ 1889- 1947م): خطيب الجامع الأموي، ترجمته في "تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري" لمحمد مطيع الحافظ ونزار أباظة، 3/ 199.

([8]) محمد أمين كفتارو (1294- 1357ه/ 1877- 1938م): فقيه شافعي كردي، وشيخ الطريقة النقشبندية، لازم شيخُنا دروسَه مع أخويه الأستاذ محمد بشير والأستاذ عبدالهادي، في جامع أبو النور سنوات حتى وفاته، وكان له خمسةُ مجالسَ أسبوعيًّا لم يكن يفوِّت منها مجلسًا، ويشهد له بالزُّهد والصَّلاح والاستقامة، ومنه تلقَّى الطريقة في بداية أمره.

([9]) ثم دار الزمان دورته وتربَّع ميشيل عفلق سنة 1949م على عرش وِزارة المعارف وزيرًا مسؤولاً عن التعليم في سوريا كلِّها!! ويذكر شيخُنا أن عفلق بعد سنتين من تلك الحادثة ترك التعليمَ وبدأ يعمل على تهيئة نَواة حزب البعث، وتولَّى تدريسَ مادَّته رجل يتفجَّر غَيرة على الإسلام هو الأستاذ عبدالوهَّاب الأزرق، وكان حديثَ عهد بالتخرُّج في كليَّة الحقوق. وله ترجمة في "معجم المؤلفين السوريين" لعبد القادر عيَّاش، ص28.    

([10]) قال عنه شيخُنا: فلسطينيٌّ ضرير، درَّسنا مادَّة الحضارة الإسلاميَّة بدل ميشيل عفلق حين عُزل عن تدريس المادَّة، وكان يدخل الفصل ومعه عصًا يستعين بها.