الشيخ أبو العينين شعيشع

صوت من السماء

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في طريق عودتي من القاهرة إلى القرية التي ولدت فيها وعشت حتى اليوم حملت معي حفيدتي التي لم تتجاوز الثمانين يوما ، قلت لابني الذي يقود السيارة افتح لنا الإذاعة لنستمع إلي بعض الآيات الكريمة ، فجاءنا صوت الشيخ أبي العنين شعيشع ليصل إلى الأعماق سخيا نديا ، هادئا مليئا بالشجن ، متماهيا مع المعاني والدلالات ، وكأن الدنيا تسمو وترقى لتصل إلى السموات العلا ، فرحا بالعطاء القرآني الذي يتجدد على مدى الأيام ، ولا يخلق أبدا .

تفاءلت بوجود الحفيدة مع سماع صوت الشيخ  أبي العينين ، وأحسست براحة غامرة وهو يتلو الآيات الكريمة ، ويتفاعل معها ، وظللت أتابعه حتى انتهي ، ومضينا في الطريق الطويل نتابع شئونا أخرى .  الفرحة بالتفاؤل في الصباح لم تكتمل ، فقد كان المساء يحمل خبر رحيل الشيخ إلى بارئه الأعلى ، وشعر الناس أن جزءا غاليا من حياتهم وتاريخهم قد ذهب ، وإن بقي أثره ، وعطاؤه ممتدا بامتداد الزمان ، من خلال التسجيلات التي تحفظ ما قدمه الرجل من قراءات على مدى عمره الطويل الذي ناهز التسعين عاما سواء في الإذاعة أو الحفلات العامة ..

أحببت الشيخ أبا العينين منذ طفولتي . كان صوته يشدني في شجن لا أعرف كنهه ، ولا مصدره ، ولكني أحس عند القراءة أنه يأخذني معه حتى يتوقف ، ولو لم أدرك معاني الآيات والألفاظ ، وكانت ليلة أبي العينين الإذاعية الأسبوعية ، ولعلها كانت ليلة الأربعاء ، من الليالي الجميلة في حياتي حيث كنت استمع إليه عبر إذاعة البرنامج العام في الخمسينيات والستينيات ، وكانت ليالي الصيف تجمع كثيرا من  أهل القرية ليجلسوا في الخلاء بالقرب من المسجد حيث يذيع جهاز الراديو الوحيد في أحد الدكاكين صوت الشيخ ، وكان هناك من ينتظر صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، ومن ينتظر صوت الشيخ مصطفي إسماعيل ، ومن ينتظر صوت الشيخ الحصري ، أو الشيخ محمود البنا أو الشيخ صديق المنشاوي وأولاده من بعده ..

كان شعيشع بالنسبة لي نفحة من الغيب حملت أجمل الكلام في أجمل صور الأداء ، وظللت حتى اليوم كلما سمعته أشعر بنوع من الراحة والسكينة قلما أستشعرهما مع غيره ، وكنت كلما سمعت صوته آتيا من موجة إذاعية أو قناة تلفزيونية ، أتفرغ له واستمع إليه حتى ينتهي ، وقد فكرت أن أقابله وأتحدث معه ، ولكن حرصي على أن تبقي صورة القارئ بعيدة عن صورة الإنسان نقية في مخيلتي منعني من ذلك ، ولعله منهج طاردني حتى يومنا هذا مع كثير ممن أحببت من الأعلام ، وحرمني من رؤيتهم والتعامل معهم .

وقد حاول الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني أن يغير صورة الشيخ في ذهني بما وجهه إليه من نقد بسبب كلامه عن عسكر يوليو ، ووصفه لما قال بالكلام الفارغ المضروب حين صرح بأن عسكر يوليو منعوه من القراءة في الإذاعة لأنه كان قارئ  الملك قبل الانقلاب ( محمود السعدني ، ألحان من السماء، كتاب اليوم ، يناير 1996م ، ص 67وما بعدها ) . والسعدني يطول لسانه أحيانا في غير موضع ، ولكنه تدارك الأمر حين وصف الشيخ شعيشع بأنه كان أحد الأصوات العظيمة في دولة التلاوة ، وقد أحدث في بداية حياته ضجة كبيرة في مصر والعالم العربي ، لأنه كان أقرب الأصوات إلى صوت الشيخ محمد رفعت ، ولذا وقع عليه الاختيار لتكملة شرائط الشيخ محمد رفعت مع زميله الأستاذ الدكتور أحمد هيبة الذي كان يعمل أستاذا في كلية الزراعة ، ولا يستطيع أحد أن يبين الفرق بين صوت الشيخ شعيشع والشيخ محمد رفعت في تلك الاسطوانات والأشرطة إلا عبقري مثل محمد عبد الوهاب ، أو سميع قديم وخبير مثل كمال النجمي .

ولد أبو العينين شعيشع في مدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ شمال مصر في 22 أغسطس 1922م، وهو الابن الثاني عشر لأبيه. حفظ القران، وذاع صيته صبياً من خلال حفل أقيم بمدينة المنصورة سنة 1936 .

ويحكي الشيخ قصة العدد الكبير لأسرته متوسطة الدخل بعد أن رزق الله عائلها بأحد عشر مولودا وكأن إرادة السماء ودت أن تجعلها دستة كاملة ، ولكن كان الختام مسكا وكأن البيت يحتاج إلى لبنة أو تاج على رءوس هؤلاء .رحل الوالد قبل أن يطمئن على مستقبل أبنائه، وتركهم صغارا في مراحل مختلفة تحتاج إلى ولي أمر يتولى المسئولية كاملة.

 يقول الشيخ أبو العينين شعيشع:

[ كانت ولادتي غير مرغوب فيها لأنني كنت الابن رقم 12، ووالدتي كانت تفعل المستحيل للتخلص مني ولكني تشبثت بها حتى وضعتني.. وذلك لحكمة يعلمها الله حيث كنت فيما بعد مسئولًا وسببًا في إطعام كل هذه الأفواه في ذلك الحين ] .

التحق الشيخ بالكتّاب في (بيلا) وهو في سن السادسة وحفظ القرآن قبل سن العاشرة. ثم ألحقته والدته بالمدرسة الابتدائية لكي يحصل على شهادة كبقية المتعلمين من أبناء القرية ولكن الموهبة تغلبت على رغبة الوالدة . كان الشيخ أبو العينين يخرج من المدرسة ويحمل المصحف إلى الكتّاب، وكان حريصا على متابعة مشاهير القراء وتقليدهم، وساعده على ذلك جمال صوته وقوته ؛ ورقة قلبه ومشاعره، وحبه الجارف لكتاب الله وكلماته فشجعه ذلك على القراءة بالمدرسة أمام المدرسين والتلاميذ كل صباح، وخاصة في المناسبات الدينية والرسمية التي يحضرها ضيوف أو مسئولون من التربية والتعليم فنال إعجاب المستمعين واحترامهم  .وكان ناظر المدرسة أول الفخورين به، وبنبوغه القرآني، ولاحظ الناظر أن هذا الطفل يعتز بنفسه كثيرًا ويتصرف وكأنه رجل كبير، ولا تظهر عليه ميول اللهو واللعب والمزاح كغيره من أبناء جيله، فأشار على والدته بأن تذهب به إلى أحد علماء القراءات والتجويد لعل ذلك يأتي بالخير والنعمة التي يتمناها كل أب لأبنه وكل أم لأبنها.

وفي عام 1936 دخل الشيخ أبو العينين دائرة الضوء والشهرة من أوسع الأبواب عندما أرسل إليه  مدير الدقهلية ( = المحافظ الآن ) يدعوه لافتتاح حفل ذكرى الشهداء بمدينة المنصورة   .

وذهب إلى المنصورة..لابسا بدلة وطربوشا ،يقول الشيخ : " وكانت المفاجأة التي لم أتوقعها في حياتي . وجدت أكثر من4 آلاف نفس في مكان الاحتفال فقلت: معقول أقرأ أمام هذا الجمع؟! كانت سني وقتها 14 سنة وخفت , وزاد من هيبتي للموقف أنني رأيت التلاميذ في مثل سني يتغامزون ويتلامزون لأنني في نظرهم ما زلت طفلًا فكيف أستطيع أن أقرأ في حفل لتكريم الشهداء ؟ وقرأت الافتتاح والختام وفوجئت بعد الختام بالطلبة يلتفون حولي يحملونني على الأعناق يقدمون لي عبارات الثناء. فلم أستطع السيطرة على دموعي التي تدفقت ، قطرة دمع للفرحة تدفعها أخرى؛ لأن والدي مات ولم يرني في مثل هذا الموقف ، وتوالت الدموع ، دمعة الحزن تدفع دمعة الفرح وهكذا حتى جف الدمع ، لكي أبدأ رحلة على طريق الأمل والكفاح الشريف متسلحًا بسيف الحياء والرجاء آملًا في كرم الكريم الذي لا يرد من لجأ إليه " .

 وعندما توفي الشيخ الخضري شيخ الجامع الأزهر بعد حفل الشهداء بالمنصورة ، أشار أحد علماء بيلا على الشيخ شعيشع أن يذهب معه إلى القاهرة ليقرأ في   عزائه الذي أقيم بحدائق القبة.  وقرأ وكان موفقًا فازدحم السرادق بالمارة في الشوارع المؤدية إلى الميدان ، وتساءل الناس : من صاحب هذا الصوت الجميل؟! وبعد أكثر من ساعة صدّق الشيخ أبو العينين ليجد نفسه وسط جبل بشري تكوّم أمامه لرؤيته ومصافحته إعجابًا بتلاوته. وبعد هدوء عاصفة الحب جاءه شيخ جليل وقبّله ؛ وهو الشيخ عبد الله عفيفي - رحمه الله - وقال له: لابد أن تتقدم للإذاعة لأنك لا تقل عن قرائها بل سيكون لك مستقبل عظيم بإذن الله. وكان الشيخ عبد الله عفيفي وقتها إمامًا بالقصر الملكي وله علاقات طيبة بالمسئولين  .

وذهب الشيخ أبو العينين مع الشيخ عفيفي  إلى مدير الإذاعة "سعيد باشا لطفي "  الذي حدد له موعدًا للاختبار. وكانت اللجنة مكونة من الشيخ مأمون الشناوي  والشيخ المغربي والشيخ إبراهيم مصطفى عميد دار العلوم وقتها، والشيخ أحمد شربت والإذاعي الأستاذ علي خليل والأستاذ مصطفى رضا عميد معهد الموسيقى آنذاك - رحمهم الله جميعا . يقول الشيخ شعيشع : كنا أكثر من قارئ وكانت اللجنة تجعل لكل قارئ خمس دقائق وفوجئت بأنني قرأت لأكثر من نصف ساعة دون إعطائي إشارة لأختم التلاوة ، فكنت أنظر إلى وجوههم لأرى التعبيرات عليها لأطمئن نفسي.  وكان للإذاعة مديران مدير إنجليزي والآخر مصري. ورأيت علامات الإعجاب على وجه المدير الإنجليزي مستر فرجسون الذي جاء ليسمعني بناء على رغبة أحد المعجبين بتلاوتي من المسئولين. وبعد عدة أيام جاءني خطاب اعتمادي قارئًا بالإذاعة وموعد أول قراءة لي على الهواء ، وكنا نقرأ ونؤذن على الهواء . وبدأت شهرتي تعم الأقطار العربية والأجنبية عن طريق الإذاعة التي التحقت بها عام 1939م" .

  تدفقت علي الشيخ دعوات من الدول العربية الإسلامية، لإحياء ليالي شهر رمضان بها ووجهت له دعوة من فلسطين، ليكون قارئًا بإذاعة الشرق الأدنى، وكان مقرها (يافا) لمدة 6 شهور،  وكان يبدأ القراءة كل يوم في افتتاح الإذاعة ويختتم إرسالها بالتلاوة القرآنية ، وكان ينتقل كل يوم جمعة من (يافا) إلى القدس ليتلو السورة (قرآن الجمعة) بالمسجد الأقصى.  ثم عاد الشيخ إلى القاهرة ليقرأ القرآن مع نوابغ القراء كالشيخ رفعت والشيخ محمد سلامه والشيخ علي محمود والشيخ مصطفى إسماعيل وغيرهم.

  وعندما توفيت الملكة (عالية) ملكة العراق ، جاءته دعوة عاجلة من السفير العراقي بالقاهرة لإحياء مأتم الملكة الراحلة بناء على رغبة من القصر الملكي العراقي ، وبعد المأتم عاد إلى مصر وقد حصل على وسام الرافدين وبعض الهدايا التذكارية مع وداع رسمي من جانب كبار المسئولين   بالبلاط الملكي  .

 وبعدها سافر الشيخ إلى سوريا واليمن والسعودية والمغرب وتونس وفلسطين والسودان .. ومعظم دول العالم ؛ وقرأ بأكبر المساجد وأشهرها في العالم وفي مقدمتها : المسجد الحرام بمكة والأموي بسوريا ومسجد المركز الإسلامي بلندن، فضلا عن المسجد الأقصى كما سبقت الإشارة ، وقد أسلم عدد غير قليل تأثرًا بتلاوته .

وكان للشيخ آراء ثاقبة في تفسير ظاهرة ضعف القراء في الفترات الأخيرة ، والعقم الذي أصاب مصر فلم تنجب قراء على مستوى قراء الزمن الماضي .. فقد أجاب مندوب الإذاعة البريطانية على سؤال حول عدم وجود أصوات مميزة في عالم التلاوة ، فقال : إنها ظاهرة غريبة ومريبة ، وذكر أنه مسح البلاد من أسوان إلى الإسكندرية بتكليف من وزارة الأوقاف ؛ بحثا عن أصوات جديدة وواعدة ، ولكنه لم يعثر على صوت واحد يبشر بالخير ، وقد فسر الشيخ هذا العقم من وجهة نظره بأن الأكل البلاستيك الذي يتعاطاه المصريون منذ فترة وراء هذا العقم ، لقد حُرم المصريون من الأكل الطبيعي ، وصاروا يتناولون أطعمة غير طبيعية مما أنتج أحبالا صوتية فاسدة ، وصار التقليد هو العملة السائدة ( السعدني ، ألحان من السماء ، ص68 وما بعدها ) .

وكان صوت الشيخ نموذجا للأصوات المميزة التي تخاطب العاطفة والوجدان مباشرة ، ولا شك أن اقترابه من الشيخ محمد رفعت جعله يتماهى مع الألفاظ والمعاني ، وهو يتلو الآيات الكريمة ، وقد ذكر الشيخ أشرف عبد المقصود أنه سأله عن سر تميزه في القراءة ، وتألقه وإبداعه وخشوعه بما يخلع القلوب ؛ خاصة عندما قرأ من سورة آل عمران : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، في مسجد الحسين عام 1959م ، فأجابه بأنه قبل القراءة يطالع تفسير الآيات التي سيتلوها ، ليكون أقدر على تصوير الدلالات والمعاني ، وهي إجابة غير مسبوقة من قارئ من القراء المشاهير .

ومع أن الدولة لم تلتفت إلى الشيخ يوم رحيله في الثالث والعشرين من يونية 2011م ، ولم تهتم بوفاة علم من أعلام القراءة كما تهتم بوفاة بعض العناصر الهامشية من أهل الفن والرياضة وأشباههم ، فقد كرمته الدول العربية والمؤسسات الإسلامية ، ومنحته أوسمتها وشهادات تقديرها ونياشينها اعترافا بقدره ومكانته في حمل كلمة الله ، وتاريخه الحافل في عالم التلاوة .

فقد حصل على وسام الرافدين من العراق ووسام الأرز من لبنان ووسام الاستحقاق من سوريا وفلسطين وأوسمة من تركيا والصومال وباكستان والإمارات وبعض الدول الإسلامية.. ووسام لا يقدر ثمنه وهو أعظم الأوسمة ، أعني وسام الحب من كل الناس .

لقد عين شعيشع قارئاً لمسجد عمر مكرم سنة 1969، ثم لمسجد السيدة زينب منذ 1992، وناضل الشيخ فى السبعينيات لإنشاء نقابة القراء مع كبار القراء مثل الشيخ محمود على البنا، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ثم انتخب نقيباً لها سنة 1988م.

وكان قد عين عضوًا بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعميدًا للمعهد الدولي لتحفيظ القرآن الكريم، وعضوًا للجنة اختبار القراء بالإذاعة والتليفزيون، وعضوًا باللجنة العليا للقرآن الكريم بوزارة الأوقاف وعضوًا بلجنة عمارة المسجد بالقاهرة. وقد صدر قرار رئاسي أن يظل الشيخ أبو العينين شعيشع نقيبًا لمحفظي وقراء القرآن الكريم مدى حياته مع إطلاق اسمه على أحد الشوارع بالقاهرة وكفر الشيخ مسقط رأسه. وقد ظل في سنواته الأخيرة يشرف على تحفيظ القرآن للطلاب الصغار بأحد مساجد مدينة نصر تواضعا لله وإخلاصا للقرآن الكريم .

ولعل هذه الكلمات تكون تعبيرا بسيطا عن محبة أحد المستمعين لقارئ فذ ، وهبه الله نعمة التلاوة الفائقة  التي تجذب القلوب والأسماع ، فتضيف إلى حلاوة القرآن حلاوة الأداء والتلاوة . رحمه الله .