شخصية الشهيد (سعيد العاص) في الشعر العربي الحديث

شخصية الشهيد (سعيد العاص)

في الشعر العربي الحديث

(1889 – 1936 م)

عمر محمد العبسو

المجاهد الشهيد .

ولد في مدينة حماة في وسط سورية عام 1889 م لأسرة من آل شهاب المقيمة في حي الحاضر في حماة .

تلقى تعليمه الابتدائي في مدينة حماة ، وكانت العلوم تشمل الفقه ، وعلوم اللغة ، والحساب ، ومبادئ الجغرافيا ، وكانت مدة هذه المرحلة ست سنوات .

وقد انتقل سعيد العاص أواخر القرن التاسع عشر إلى دمشق لإتمام دراسته الرشدية ، العسكرية والإعدادية ، وبعد دراسة دامت ست سنوات ، دخل الكلية الحربية في الآستانة ، حيث تخرج منها برتبة ملازم عام 1907 م .

عين بعدها ضابطاً عثمانياً في دمشق .

وكان متفوقاً بين رفاقه لذا فقد تمّ انتدابه في عام 1908 م للدراسة في مدرسة أركان حرب في الآستانة لمدة ثلاث سنوات لتطوير علومه العسكرية وخبراته ، ولكن نشاطاته العربية أدت إلى فصله من مدرسة الأركان في أوائل سنة 1910 م ، فالتحق بكتيبة الرماة ثم أرسل مع فرقته إلى المقاطعات الأوربية من الدولة العثمانية ، حيث كانت الثورات تتوالى في البلقان على العثمانيين .

لقد اشترك في الحروب ضد العصابات الألبانية المتمردة على الدولة العثمانية ، وانتقل عام 1911 م ليحارب ضد حكومة الجبل الأسود ، ووقع في أسر اليونان في منتصف عام 1911م .

ولكنه استطاع الإفلات من الأسر والعودة إلى الآستانة .

ثم عاد بعدها ليشارك في معارك البلقان وأبرزها معركة ( سركوبري ) قبل أن يعود ليستقر لفترة في الآستانة .

عين قائداً لمنطقة الحدود في طونجة عندما كان الجيش العثماني يزحف على أدرنة ثم جرى تعيينه مأموراً في المهمات الحربية بدمشق عام 1913 م ، وكان ينقل الديناميت إلى الآستانة .

أرسلته الدولة إلى ميدان القتال في ( جناق قلعة ) في الحرب العالمية الأولى عام 1914 م .

من خلال خدمته وتجواله أطلع على أحوال مناطق متعددة من الدولة العثمانية .

وعرف نقاط العجز في الجيش التركي ، واطلع على الخراب والفساد في أجهزة الدولة ، واكتسب خبرة عسكرية بكل ما فيها من معارف وعلوم .

انتظم عضواً مؤسساً في حزب ( العهد ) وهو تنظيم سري عربي تأسس عام 1913 م على يد المقدم عزيز المصري ، واقتصرت العضوية على الضباط العرب في الجيش العثماني .

وكان من هؤلاء الضباط : رشيد بقدونس ، وأحمد أبو محيي الدين شعبان الذي شارك في الثورة السورية عام 1925 م .

ولم تكتشف الدولة العثمانية أسرار حزب العهد بالرغم من اعتقال مؤسسها والتحقيق معه ، وكذلك اعتقال سعيد العاص والتحقيق معه في الديوان العرفي في عاليه، ثم الحكم عليه بالإعدام ومن ثم خفف عنه ليحبس عام ونصف أمضاها في سجن حلب وعالية ثم تبعه النفي إلى جوروم وظل هناك حتى خروج الجيش العثماني من بلاد الشام .

وعند قيام الثورة ودخول فيصل مدينة حلب عام 1918 م عاد إلى سورية .

التحق بالحكومة العربية الفيصلية بدمشق، وتولى مهام الشعبة الثالثة بدائرة الشؤون الحربية، ثم منطقة الزبداني غرب دمشق، وبعدها مفتشية التجنيد العامة، وذلك قبل أن ينتقل إلى مناطق جسر الشغور ، وجبل صهيون ، ثم جبل الأكراد .

وبعد دخول فرنسة إلى سورية عام 1920 م خاض حرباً مسلحة ضد الفرنسيين ، فاشترك في معارك صهيون في جبال اللاذقية التي كان يقودها عمر البيطار ، وشارك فيها عز الدين القسام ، ثم توجه بعد نفاذ ذخيرته للمشاركة في ثورة صالح العلي وحضر آخر المعارك على أبواب العمرانية ، قبل أن يعود إلى مدينة حماة متخفياً ، حيث قبض عليه الفرنسيون، وأودعوه السجن لشهرين، بينما كان يحاول الالتحاق بثورة الزعيم إبراهيم هنانو في جبل الزاوية .

غادر سورية إلى الأردن عام 1921 م حيث وعد الأمير عبد الله بتنظيم قوات لطرد الفرنسيين في سورية ، وهناك عينه الأمير عبد الله قائداً للسرية الاحتياطية، ثم أميناً للسر العام للأمن العام، وبعدها قائداً لمفرزة ( كاف ) فوكيلاً لمدير التعليم العام، ومديراً عاماً لشرطة عمان .

واستطاع أن يغرر به الهاشميون في حرب هامشية في الحجاز ضد الوهابية عام 1923 م متولياً تحت إمرة الملك علي بن الحسين قيادة لواء النصر، ثم قائداً لخط دفاع جدة ، الذي صمد في مواجهة القوات السعودية 9 أشهر .

فعين العاص برتبة عقيد ، وتولى قيادة العقبة ومعان ولأنه تمنع عن الذهاب ، فقد تمّ نقله إلى ينبع ومنها إلى عمان .

ابتعد عن الحياة الحزبية واعتبرها سبب فشل الثورة السورية الكبرى عام 1925 – 1927 م في تحقيق أهدافها .

ومن أقواله :

نحن ثوار نحارب عند الضرورة حرب عصابات ، أي كرّ وفرّ .

فهو لا يقل عن كبار رجالات الثورة في العالم .

وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 – 1927 م كان سعيد العاص من أبرز قادتها في الميدان .

ويحدد سعيد العاص أهم أسباب الثورة :

إرهاق الشعوب بالضرائب الفادحة .

والاستعانة بالأجانب والدخلاء وإهمال أبناء الوطن .

واضطهاد الأحرار .

واستثمار موارد البلاد ومرافقها الحيوية .

وتشجيع المدارس الأجنبية والوقوف في وجه المدارس الوطنية .

خنق الروح القومية وقتل روح الحرية .

استحواذ الشركات الأجنبية على الامتيازات العامة وتنفيذ المشاريع المربحة ، ونهب ثروات البلاد ومعادنها .

وتجزئة البلاد وإتباع سياسة فرق تسد .

وطمس هوية الأمم ومجدها الغابر .

وتدنيس المقدسات .

والعبث بالتقاليد والعادات .

وسن قوانين لا تتماشى مع حالة البلاد الاجتماعية والدينية والتراثية .

وصهر الشعوب في بوتقة المستعمر ....

غادر سعيد العاص عمان، وانخرط في الثورة في أوائل تشرين الأول 1925م ، وأبدى بسالة كانت موضع الإعجاب – كما يذكر منير الريس – ونقل المدفع الوحيد ، واستخدمه ضد الدبابات الفرنسية .

وبقيت الثورة مدة سنة ونصف وشملت غوطة دمشق، والجورة، والقلمون، والضمير ، وجيرود، ومناطق النبك، وقارة، ودير عطية ...

وقاد الثورة على أبواب حمص، وفي مناطق الهرمل، وقرب طرابلس في لبنان .

وراجع مع د . عبد الرحمن شهبندر في الأردن أسباب إخفاق الثورة ، ثم عمل معه على قيام حملة جديدة من الأزرق بالأردن، تسير نحو دمشق مروراً بجبل العرب .

تزوج في الأردن، ثم توفيت زوجته مخلفة وراءها ابنته الوحيدة سعاد .

وأبرز صفاته الشخصية :

الشجاعة والاستبسال في معارك المواجهة .

المعرفة والإطلاع : حيث استخدم المدفع ، والهندسة العسكرية ، والمتفجرات في تخريب الجسور لمنع تقدم القوات الفرنسية .

الدعوة والتحريض على الثورة عن طريق الخطابة وكتابة الرسائل وإيفاد الرسل .

وضوح الرؤية : حيث عمل على وحدة الصف ونبذ الطائفية .

العفة والتقشف : كان جيبه خالياً من المال ، إلا دريهمات لشراء السلاح والغذاء والعلف للدواب .

وصفة الديمقراطية تتجلى بوضوح في شخصية سعيد العاص لأنه لا يفرق بين رئيس ومرؤوس ، بنام ويأكل مثل بقية المجاهدين .

وبدت حكمته في منع الحرب الأهلية في أثناء الثورة عندما اٌقدم الشركس على التطوع مع الجيش الفرنسي .

وعندما سلحت فرنسة 650 من المسيحيين للقتال إلى جانبها في دمشق .

وعندما نهب الدروز بعض القرى المسيحية في قرية قلعة جندل في جبل الشيخ في أيلول عام 1925 م .

فعمل مع قادة الثورة على نبذ الفرقة الدينية والطائفية التي يعمل المستعمر على نشرها .

استطاع سعيد العاص أن يهزم فرقة فرنسية بالتحالف مع آل جعفر في وادي فيسان أعالي الهرمل وذلك في أيار 1926 م .

ترأس وفد الأردن الذي ضم محمد علي دروزة تلبية لنداء زعماء فلسطين في 26 كانون الثاني عام 1936 م لحضور اجتماع تضامني في نابلس لدعم إضراب دمشق الستيني ضد الانتداب الفرنسي .

وفي ثورة الجهاد المقدس قاد المجاهدين وكان الشهيد عبد القادر الحسيني نائباً له ، وخاض معركة كبيرة مع الانجليز في صفد مع 250 مجاهداً وذلك في أيلول 1936 م .فقد خلالها الإنجليز 200 جندي وضابط ، وتم إحراق مصفحتين وست سيارات وإسقاط طائرة بريطانية ، واستولى الثوار على كميات من الأسلحة والذخائر .

وخاض معركة حلمون على طريق القدس – الخليل في أواخر أيلول 1936 م ، وكان معه 250 مجاهداً ، وقتل فيها أكثر من أربعين جندياً ، وغنم المجاهدون كمية من سلاح العدو وعتاده ، واستشهد من المجاهدين ثلاثة .

فجهز الانجليز قوة غاشمة في 6 تشرين الأول عام 1936 م فحاصرت قوات الجهاد المقدس في قرية الخفر ، واشتد الحصار على المجاهدين ، فأمر البطل رفاقه بالانسحاب ، وبقي يقاتل مع 25 مجاهداً ، واشتبك مع الانجليز لعدة ساعات سقط على إثرها شهيداً ، فيما جرح معاونه عبد القادر الحسيني واقتيد أسيراً

أصداء جهاد سعيد العاص واستشهاده في الشعر العربي الحديث:

تصاعدت الحركة الوطنية الفلسطينية – منذ مطلع الثلاثينات – لمواجهة التآمر الاستعماري والصهيوني ، وتصاعد معها الاهتمام العربي .

وعلى الرغم من انشغال الأقطار العربية بمعارك نضالها مع الاستعمار، فإن مصائبها لم تشغلها عن القضية الفلسطينية؛ لقد كانت موضع قلقهم واهتمامهم ..وكثيراً ما هب رجال شجعان من الأقطار العربية إلى رحاب فلسطين يقاتلون الاستعمار والصهيونية، ويريقون دماءهم على أرضها المقدسة، فيؤكدون بذلك وحدة التراب العربي ووحدة شعبه ومصيره ونضاله .

مضيت كريماً :

قال الشاعر محمد الفراتي يرثي سعيداً العاص الذي اندفع من مدينة حماة مع غيره من الثوار؛ ليدافع عن عروبة فلسطين، ويموت على ثراها الطاهر عام 1936م:

عـزيز علينا أن يحـــلّ بك الردى            وترتع في البيت العتيـــــق سَوامُ

وأن بني الأحرار في عقــــر دارها      على الرغم منا – يا سعيد – تضام ُ

مضيت كريماً في الجهاد وكم مضت     مـــن العرب في ساح الجهاد كرام ُ

فتى العاصي :

وقال الشاعر محمد الفراتي قصيدة ثانية في رثاء الشهيد سعيد العاص ، قيلت في حماة :

فتى العاصي وأي فتى عظيم      قد احتشدت بمأتمه السراة

ففي بردى وفي العاصي نواح        له تلتاع دجلة والفرات ُ

في ظلال الخلد :

ومن أروع قصائد الرثاء التي قيلت في الشهيد سعيد العاص القصيدة التي ألقاها الشاعر بدر الدين الحامد في حفلة تأبينه سنة 1936 م ، جاء في مطلعها :

شرفٌ لعمرك أن تموت شهيدا            متفيئاً ظلّ الخلود حميدا

أولستَ منذ صِباك في ساح الوغى   تعلي لقومك في الحفاظ بنودا

إن جزتَ معركة جريتَ لمثلها     أترى خلقت من الرجال حديدا

ولطالما خضتَ المعارك والعدى     جمـــــــــــــــع غفير إذ تكون وحيدا

تغشى ميادين المنية قائـــــــــــــــــــــماً      فيهـــــــــــــــا إذا كان الرجال قعودا

أما الرصاص فقد ألفت أزيزه       حتى غدا في مسمعيك نشيدا

فِرقُ العدو ، وإن تفاقم خطبها      هانت عليك معاقلاً وجنودا

ترمي بنفسك في مقدمة الوغى      وتقود خلفك للفخار أسودا

أين النشامى في ميادين اللقا            يتمايلون معاطفاً وقدودا

فالشاعر يرى أن البطل حمل لواء الجهاد والكفاح، ولم يهب الأعداء مهما تكاثروا في ساح المعارك، فعديدهم وعتادهم يهون أمام عزيمة الأبطال، حيث كان الشهيد سعيد العاص يرمي بنفسه في مقدمة الصفوف، ويتبعه جحفل من الفرسان الشجعان :

يا مرحباً بكم لقد فرّجتمُ          كرباً عن الوطن المعذّب سودا

أنتم بنو العاصي قطعتم للعلى         والمكرمات مواثقاً وعهودا

تتسابقون إذا دعا الداعي كما     تقفون في وجه العدو سدودا

لولا ميامين الحمى وعراكهم      كدنا نكون مدى الحياة عبيدا

لهفي على تلك الأسود تخرّ في    مرمى البنادق ركّعاً وسجودا

يتهافتون على المدافع مثلما         يتقدمون إلى الحراب وفودا

كل المظاهر قد تزول وما أتوا   يبقى ويثبتُ في القلوب خلودا

ويتلهف على أولئك المجاهدين الميامين الذين تهافتوا على الموت، فتركوا آثاراً خالدة ويخاطب جيرة الوادي، ويعدد قوافل الشهداء الذين تتابعوا على الطريق، فيقول :

يا جيرة الوادي يكادُ من الأسى   يدمى الفؤاد إذا نظمت قصيدا

في كلّ يوم مأتم لمجاهد                 حتى ألفت النّوح والتعديدا

شيّعتُ أمس بدمع عيني ( خالداً )   واليوم أندب للرجال سعيدا

فهو بكى بالأمس على فقد المجاهد المناضل (خالد الخطيب ) واليوم يبكي على رحيل الشهيد سعيد العاص ذلك البطل الصنديد الذي لم يرهب الموت بل رهب الهوان والعبودية ، فكان ليثاً يدافع عن الحرية ، وتشهد جبال أكروم في لبنان على تضحياته وبطولاته :

لا يا سعيد دموع عيني لا تفي      حقّ الرثاء ولو طلبت مزيدا

أسفي على زين الميادين الذي   في الحرب كان الأروع الصنديدا

لم يرهب الموت الزؤام وإنما            رهب الهوان المرّ والتعبيدا

الثورة الحمراء تعرف ليثها            في ساحها وبلاءه المحمودا

وجبال ( أكروم ٍ ) بما أبليته        رفعت لواءك فوقها تمجيدا

أرأيت يوم بلغت ( سِير َ ) موفقاً  وسلكت في الجبل الأشم صعودا

كيف استعاروا البحر ميداناً لهم       يرمون منه صواعقاً ورعودا

الدارعات رأتك كفء قتالها     قم فالعلى ضمنت لك التخليدا

قلب كما شاء الصفاء يفيض من    طيب الأرومة والسجية جودا

وأشاد الشاعر بدر الدين بشجاعة البطل وكرمه وفيض عطائه ، فقال :

فقت َ الرجال شجاعة ، ولبست من    حلل الوفاء مجاسداً وبرودا

المال عندك للنوال وكم به            قلّدتَ جيد المكرماتِ عقودا

إن ثار غيرك للحطام فأنت َ عن   أمثال هذا الشيء كنت َ بعيدا

لم تبغ غير الله والحقّ الذي         يحـــــدو ركابك منذ كنتَ وليدا

وإن كان غيره من المقاتلين بذل روحه من أجل حطام الدنيا فإن الشهيد كان منزهاً عن الأطماع ولم يبغ غير وجه الله :

صارعت َ فيه الترك في زمن الصبا  وبذلت في تأييــــــــــــــــده المجهودا

تمّ الجلاء ونحن نحسبُ أننا        نلنا الســـــــــــــــــــــماء معزّةً وسعودا

فإذا الذي نلناه ذلٌّ مطبق ٌ       أتظنُّ عيش الانتــــــــــــــداب رغيدا

حلفاؤنا نقضوا العهود ونحن قــ    د كنّا على عنت الزمان رقودا

من كان يدري قبل أن عهودهم   تمسي وتصبح خدعة ووعودا

فإذا الكلام ُ الحلو قبلَ دخولهم      يغدو ، بعيد دخولهم تهديدا

فهناك هبّت للدفاع عصابة ٌ         منا فكنت برأسها موجودا

وكان هذا السيد الكريم مشاركاً في جميع المعارك، وله في كل معركة جهود تذكر فتشكر :

وتتالت الثورات بعد فكنت َ في    كلّ الوقائع مِدرهاً مقصودا

في الثورة الكبرى برزت َ وإنها    حرب ٌ تذيب ُ بهولها الجلمودا

تلقى الجنود فلا وربك لا تني          حتى تبدّد شملهم تبديدا

نضو انتقال لا يهمّك في الوغى     أسلكت َسهلاً أم صعدتَ نجودا

كم مرّة ٍ والليل مسوّدُ الدجى       كلّفت َ نفسك أن تشقّ البيدا

لقد خاض الشهيد القائد لجج البحار وقطع الصحاري لشراء السلاح ومقارعة الأعداء وكأنه قد أقسم للمجد أنه لن يهدأ ولن يلين حتى يوسد في التراب شهيداً :

أحلفتَ للعلياء أن لا تنثني          حتى تُوارى في الثرى ملحودا

برّت يمينك يا سعيد فنم على        فرش الرغادة هانئاً مسعودا

في ذمة البلد الذي منه بدت         في المهد أنوار المسيح وليدا

للمسلمين وللنصارى موطن     فيه الفخار على الجماجم شيدا

ويفضح جرائم اليهود الذين عاثوا فساداً في ربوع الأقصى الطهور :

أتعيث فيه لليهود شراذم ٌ          طبعتْ بذلّ منذ عهد يهودا

شذّاذ أفّاق ٍ بلا وطن وقد          ألفوا الهوان فشرّدوا تشريدا

أيكون ثاني القبلتين مقرّهم      لا والذي خلق الكرام الصيدا

إن جاء بلفور بحكم ٍ جائر ٍ    فالسيف يجعل حكمه مردودا

إنا سنمحو والزمان مراقب ٌ        بالرغم عنه وعده المنكودا

ويشيد بجهاد القائد فوزي القاوقجي الذين كان له دور مشهود في قتال اليهود على ثرى فلسطين الطاهر ، فيقول :

( فوزي ) على رأس الأسود مرابط  ملأ الأعادي رهبة َ ووعيدا

ليث إذا حُقّ اللقاء رأيته         يشفي قلوباً في الوغى وكبودا

إنْ غبتَ عنّا يا سعيد فإننا           نرجو له عمراً أغرّ مديدا

كنّا نؤمل والأماني حفّلٌ           أن لا تكون مغيّباً مفقودا

ويبشره بنجاح الوفد السوري المفاوض في نزع الاعتراف في مجلس الأمن، وكان ذلك الوفد برئاسة هاشم الأتاسي – رحمه الله - :

قم فالبلاد استقبلت بجهادها      عهداً من الدهر الحميد جديداً

فالوفد عاد بما نحبُّ موفقاً              والمجد أينع َ طارفاً وتليدا

نبني ونرفع والزمان ُ مساعد ٌ   صرحاً على أسس الفخار مشيدا

لو كنت َ حاضرَ يومنا هذا إذن    لرأيت كيف المجد صار وطيدا

لكن روحك رفرفت من فوقنا          إني لألمح بشرها المعهودا

ألقيتَ عنك سلاح حربك بعدما    أبقيتَ ذكراً في الحياة مجيدا

ذكراك يحفظها الزمان مردّداً     شرف لعمرك أن تموت شهيدا

لم يذهب جهاد العاص سدى، ولم يضيع هدراً فدمه أينع عزاً ومجداً، وأكمل المجاهدون من بعده الجهاد حتى تحقق النصر والحرية والاستقلال .

الثأر للشهيد :

وقال الشاعر بدر الدين الحامد في ثنايا قصيدة أخرى مشيراً إلى وجوب الثأر للشهيد سعيد العاص :

يا سعيد العاصي تحركْ فهذا     وجه واديك للكرامة ضاحي

في فلسطين لم يزل لك ثأرٌ     فاغر فاهُ ممعن في الصياح ِ

سوف نمشي إليه عما قريب بشباب بيض الوجوه صِباح ِ

وغداً ( خالد ) يجوز الثنايا       وضرار براية الجـــــــــــــــــــــــراح ِ

رثاء الشهيد :

وكتب الشاعر الحموي عمر يحيى ( 1901 – 1979 ) قصيدة رائعة في رثاء الشهيد سعيد العاص جاء فيها :

كنّا نقول : يعيد الشمل َ ملتئماً     صبح ٌ يطلُّ ، فيضحي الدهر مبتسما

نراه فيه ، وقد رفّ الحمى فرحاً              والعاص يخطر في أرجائه علما

فلا خيال النوى يُدمي جوانحنا          ولا عوادي الأسى تمشي بنا قُدما

طيف الرجاء إذا لاحت مخايله     أحيا نفوسنا براها اليأس واختذما – اقتطع .

لولا معاشر أبقوا في الفؤاد أسى      لما شكونا – وقد عزّ الحمى – ألما

همُ الأحبة ذكراهم تؤرقنا            يوم الكريهة يُصلون العدى حُمما

لقد كان الشهيد سيد الأبطال وقائد الفرسان، لم يرض الهوان وخاض المعارك مبتسماً ، وطابق الاسم ( سعيد) المسمى، ومن يرغب أن يكون مثله فليبذل المال والروح،  ويتحلى بالصبر والأمل :

بقية منهم، بل كنتَ مِدرههم     ليس الأذى بالذي يرضى به الكرما

كنت المبرز في ساح الوغى بسماً          والموت يمطر من أهواله ديما

هذا سعيد ومن يطلب مطالبه           فليبذل المال والأرواح والسأما

لم يرضَ بالضيم والآفاقُ واجفة ٌ       والنار تلتهم الأوطانَ والنّسَمــــــا

إن البطل لم يرض بالضيم ، وصنع المجد لأمته، ودافع الخصوم، وقاد مجموعة من الفدائيين الأشاوس :

نحا ذرى المجد في قوم أشاوسة      وطالب المجد ينسى الأهل والنعما

فارتد شانئه غيظاً وقد أخذت        براثن الليث من أعدائه الكظما

سل يوم تشرين عنه يوم هب وقد هبّ القطين يذود الخصم والحكما

في عصبة من أباة يدلفون إلى             مناهم والمنايا تغمر القمما

إن كشر الموت عن أنيابه ضحكوا  هزءا به ، واستماتوا في الوغى قدما

في الغوطتين مساعيهم لها عبقٌ   وفي ذرى النبك سقوا غرسهم فنما

وفي فلسطين باعوا الروح في جذل       والدار رفت إباءً للشهيد سما

ويناجي الشهيد أبا سعاد، فيقول :

أبا سعادٍ، وما في الدار مــــــــــــــــــــــن بطلٍ      إلا وردّد مــــــــــــــــــــــــــــن ذكراك ما عظما

كنت الفتى في ظلام الخطب يا بطلاً      لم تُدع َ إلا لقيت الخطب َ مبتسما

ففي حماةَ َ لقيت الغاصبين ضحى      وفي ربا جــــــــــــــــــــــــــــــــبل النار ارتمى ورمى

نادى الخلود ُ وقد رفت خمائله              أهلاً بمن حفظ الأوطان َ والحرما

ولم يعبأ البطل بالقيود بل بقي صامداً ثابتاً على المبادئ لم يحنِ جبينه إلا لله :

عان ٍ يرى قيده فيحاء َ وارفة ً            وناهض ٌ يشتكي من قيده الظلما

خيم ُ النفوس فمن شمّاء آبية                   ومن ملهّدة ٍ لا تحفظ الذمما

لسنا إلى وَرِق الدنيا نحنّ وإنْ              ظنوا بنا الظن كم من زاعم ٍ أثما

أبناء قوم إذا خالوا قديمهمو               هبوا ليسترجعوا الأخطار والقيما

مجد ُ العروبة مرماهم ومطمحهم    ماض ٍ سما رغم أنف الدهر واعتصما

ويشيد بزهد الشهيد سعيد العاص وإعراضه عن زخارف الدنيا، ويستهجن التفات البعض نحو متاع الحياة الدنيا وزينتها :

ما لي أرى عُصباً خفّت إلى وَرِق         الــــدنيا وأغفلت الآمال َ والهمما

وذي مخالب َ يحيا في العرين على               إبائه ويرى صحراءه حَرَما

يُدِلّ في الغاب إن هاجت بوادره           ألقى على طالبي إرغامه حُمما

يمشي فخوراً ، وأسد الغاب تعجبها      معيشة ُ الحرّ ما قاسى وما ألما

رمت ْ به كفّ قنّاص فأودعه              والحزن يغلبه الأقفاص مرتغما

ما نام عن خدره يوماً ولا انقطعت          آماله من بلوغ الحقّ منتقما

أبعد َ عيشته الشماء يفقد ُ ما      بنى من العز ّ ؟ ليت المجد ما هدما

وراح الوطن يشتكي ذل القيود بعد رحيل الليث الذي دافع عن الحمى :

صار الحمى بعد َ فقد الليث مشتكياً     ذلّ الإسار لبعض الهازئين حمى

أولى له ، وهو َ في ذكرى سوالفه     أن يشتكي داء مضنى ثار واحتدما

لما رأى أنه نسي ٌ ومهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزلة ٌ         أقرّ في نفسه رأياً به ســــــــــــــــــــــــلما

عاف الطعام َ وقد طال الإسار به        فهدّه الجوع غضباناً وما طعما

وأصابه الأسر وعضته أنياب الجوع ، ولكنه بقي صامداً، ويخاطب المجاهدين من بعده، فيقول :

ثار الأسود له فارتدّ شانئه             قهراً وألوى به سيل الشمال طمى

يا شادة ّ المجد ، حياكم إلهكمُ          صبراً فوقع العوادي يوقظ الأمما

قال العذول : خرجنا في محبتكم       عن الوقار فيا صدق الذي زعما

ما قيمة العيش في أمن وتسلية            إذا أضعنا به الإيثار والشمما

عسى نفوس أسيرات تكنفها       عون ُ الحوادث لا ترضى بما قسما

تسيرُ سيرة ذاك الليث حاملة ً           عزّ الحياة تجرّ الفخر والعظما

الشهيد الخالد : 

أما عمر أبو ريشة فيخلد لنا ذكرى شهيد حماة سعيد العاص الذي قضى بفلسطين ، فيطوف بنا في مطلع قصيدته بآفاق مجدنا التليد الغارب الذي غشته الليالي الدهم، بعد أن عطر الوجود طويلاً بأنفاس النبوة . وسجّل في ملاحم التاريخ بطولات ومكارم، لقد انطوى عهده الزاهر، وأضحى مسرحاً لخيال شاعر :

نام في غيهب الزمان الماحي          جبلُ المجد والندى والسماح

أسكرته أجيالُ نعمته البكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر بفيض الأعراس والأفراح ِ

حين أنفاسه تموج على الكو               ن بعبق النبوة الفوّاح

وترفّ الحياة فيه على آثار              عيسى من غدوة ورواح

فتمشت عليه دُهم الليالي           وكسته من نسجها بوشاح

وطوت سفره العجيب الموشى         بأساطير عهده الوضّاح

فإذا الأعصر الخوالي مطافٌ            لخيالات شاعر صدّاح ِ

وهنا يفضي إلى سيرة الشهيد العاص في مواقع الجهاد بفلسطين التي تجلو آفاق عزيمته الإيمانية وإنجاده وبلائه، وكأنه لم يجد في الحياة الفانية ما يشبع تطلعه فوهبها لمجد الشهادة .

تحقظ البيد ذكريات لياليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وتهفــــــــــــــــــــــــــــــــــو لعهده النزاح

وتحنّ الغياض في الشام شوقاً                لتثنيه مثقلاً بالسلاح

يا شهيد الجهاد يا صرخة الهو    ل إذا الخيل حمحمت في الساح

أي مهر لم تُدم ِ خاصرتيه        من حفيف المهماز يوم اكتساح

كلما لاح للكفاح ..صريخ      صحت لبيك يا صريخ الكفاح

تحمل الحملة القوية والإيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمان أقوى في قلبك المفــــــــــــــــراح

فكأن الحياة لم تلق فيها                 ما يروي تعطش الملتاح ِ

هبة في يديك كانت ولما              رامها المجد عفتها بسماح ِ

ويرسم لنا ساعة استشهاده في صورة أسطورية شيقة : لقد كان يمضي على جواده في خضم المعركة فلوّحت له كف أخيه الشهيد الجسور مواعداً للقاء في جنة الخلد، فانطلق سعيد وبين جنبيه ذخر بطولة الفتوح الإسلامية، يعدو كالجواد الجامح مقتحماً اللظى حتى وافى الشهادة، وانضم إلى قوافل الشهداء في عليين  :

كأني أراك في زحمة الهو               ل على سرج ضامر طوّاح

وأخوك الجسور في القمم السو     د مطلّ على الروابي الفساح

لوّحت كفــــــــــــه بمنديله الأحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمر شوقاً إلى اللقاء المتاح ِ

فحسبتَ الأجيال تهتف يا ( خالد ) جاهد في فيلق ( الجرّاح)

فترنحت واندفعتَ وهيها            ت يلين الجواد بعد جماح !

واقتحمت اللظى فكنت مــــــــع الصّيد فراشاً على فم المصباح ِ

وبعد :

لقد خططت هذه الكلمات القلائل وفاء لذكرى الشهيد الذي ضحى بروحه لنيل الحرية والاستقلال، وتحرير الأرض والإنسان ، وعاش مجاهداً حميداً، ومضى إلى الله شهيداً .

المراجع :

1-المعلومات مستمدة من كتاب فايز سارة ( سعيد العاص : حياته وكفاحه ) – وزارة الثقافة السورية – عام 1993 م .

2– محمد الفراتي : شاعر وادي الفرات ، أحمد شوحان : ص 63 .

3-ديوان بدر الدين الحامد – وزارة الثقافة في سورية – عام 1975 م ، ص 126 ، 135 .

4– الديوان : 1 / ص 26 ، 27 .

5-ديوان عمر يحيى : وزارة الثقافة في سورية ، عام 1988 :  2 / 39 ، 43

6- أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية – د. محمد عادل الهاشمي .