المجاهد الشهيد محمود قناعة

عمر محمد العبسو

بسم الله الرحمن الرحيم :

قال تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفوراً رحيماً ) .

نزف إليكم وإلى المجاهدين في سورية الحبيبة نبأ استشهاد الأخ الغالي والصديق الشهيد أبي أنور محمود عبد الله قناعة الذي لقي الله شهيداً في أرض الرباط والجهاد ( سورية) بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، مفعمة بحب الله ورسوله، وبغض الظالمين والمتكبرين والطواغيت .

فقد صعدت روحه الطاهرة عندما كان يتنقل بين صفوف المجاهدين، ويحرضهم على القتال مساء يوم الجمعة 28 تشرين الثاني عام 2014م.

المولد والنشأة :

ولد شهيدنا الحبيب في مدينة السفيرة عام 1952م، ونشأ في ظل أسرة مسلمة ملتزمة، صافي العقيدة محباً للخير، وترعرع في كنف والده الرجل الصالح السلفي (عبد الله النجار) الذي كان مثالاً يحتذى بين أبناء جيله، فهو صحيح العقيدة حسن التوكل يحب السنة، ويكره البدعة والخرافات، ويواظب على شراء مجلة التمدن الإسلامي ( دمشق) المعروفة بالتوجه الإسلامي السلفي المعتدل .

وكان شقيقه (أبو حمزة ) مثالاً طيباً للإنسان المسلم ..

دراسته :

 درس الأستاذ الشهيد محمود قناعة المرحلة الابتدائية في مدينة السفيرة حتى عام 1964م..وكان يدرسه صالح العجيلي، وأحمد الحاج صالح في تلك المرحلة .

ثم دخل الثانوية الشرعية (الخسروية) في حلب، وتخرج فيها عام 1970م، وكان من جملة أساتذته فيها : الشيخ طاهر خير الله، ومحمد أديب حسون، وعبد الرحمن زين العابدين .

وكان من دفعته : أحمد حسون، والشيخ أحمد تيسير كعيد، وكان من زملائه في الدراسة من أبناء السفيرة الشيخ عبد الرحمن الهاشم – رحمه الله – والشيخ حسين دحدوح ...

ثم دخل كلية الآداب ( قسم اللغة العربية) في جامعة حلب، وتخرج فيها عام 1975م .

وكان – رحمه الله – يعلّم في المرحلة الابتدائية بينما هو يكمل دراسته الجامعية .

ثم حصل على دبلوم التأهيل التربوي من جامعة حلب عام   1990م .

ومن أبرز أساتذته :

 الدكتور الأديب الداعية المجاهد فخر الدين قباوة، والأستاذ المربي محمود فاخوري، والأديب الشيخ بكري شيخ أمين،... وغيرهم .

وكان من زملائه الأستاذ المرحوم محمد عبد الله الصالح ( أبو عبدو)، والأستاذ المربي ( أبو طريف) ، وكان يشكل معهما ثالوثاً مقدساً يفيض بالمرح في المجالس- رحم الله من مات – وحفظ الله من بقي منهم...وغيرهما .

أعماله :

عمل في سلك التدريس مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانويات مدينة السفيرة مدة طويلة.

كما درس مادة اللغة العربية في الثانوية الشرعية ..وكان روحانياً يعطي بحب وإخلاص .

وكان يعمل جاهداً في شرح الحديث النبوي والتعليم في المساجد كلما سنحت له الفرصة وسط ظلام القبضة الحديدية الغاشمة لسلطة البعث .

لم يستطع إكمال شرح التاج الجامع للأصول من أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – بسبب الضغط الأمني والتحقيقات المستمرة والعرقلة، وإخفاء المكتبة بين فترة وأخرى .

شارك في ثورة الثمانين ضد هذا النظام الفاجر، ونجا من الاعتقال بأعجوبة، ولكنه كان دائم الاستدعاء إلى فروع الأمن حيث أحصوا حركاته وسكناته .

أخلاقه وسماته :

كان – رحمه الله – مربوع القامة، سليم الحواس ، ممتلئ الجسم، أبيض اللون خفيف الشعر، أشيباً، دائم الابتسامة، وديعاً، يدخل قلوب الناس دون استئذان .

وكان – رحمه الله – أثناء التدريس ودوداً محبباً من قبل تلاميذه وفياً مخلصاً لمبادئه .

وكانت علاقته على أحسن صورة مع الإدارة والزملاء في التدريس، يحترم الجميع، ويحترمونه .

ولعل أبرز ما يميز الشهيد هو :

الصبر :

جُبل – رحمه الله – على خلق الصبر والحكمة والترويّ والقدرة على التحمل، ابتلي بفقد ولده الشهيد أنور وهو في ريعان الشباب، فصبر، وبقي ثابتاً صامداً، ولم ينحنِ لهول العاصفة بكيت لحاله أثناء العزاء، فكان يعزيني هو – رحمه الله – بدلاً من أن أعزيه .

ثم ابتلي بسجن ولده الشيخ معاذ، فصبر .

حققوا، ودققوا، فلم يتغيّر، وثبت على مبادئه وقيمه وأخلاقه.

الوفاء :

كان خلق الوفاء طبعاً مزروعاً في أستاذنا الراحل، فهو وفيٌّ للمبادئ التي اعتنقها، وكان كتابه المفضل ( في ظلال القرآن)، وكان وفياً للصداقة والأخوة ..فما سمعت أنه صادق إنساناً، ثم قاطعه، وفارقه أبداً .

اللطف والرفق واللين :

وكان – رحمه الله تعالى - لطيف المعشر، دائم البشر، وهذه الصفة جعلت أصدقاءه ومحبيه لا يحصون كثرة .

ومن المواقف المشهودة له – رحمه الله – أن طلابه سألوه عن رأيه في ضرب أمريكا للعراق، فصمت ولم يجبهم بل أجابتهم الدموع، فعرفوا الجواب ..وهذا الحادث ينبئ عما تخفيه نفسه الطاهرة من حب الخير للمسلمين، وعطف على المظلومين .

الحكمة :

كان حكيماً في أسلوب الدعوة يكره العنف والتشدد، والتطرف متوازناً في تفكيره، مرناً، ميسراً، يحب الإسلام الوسطي، ويجلّ الإمام يوسف القرضاوي، ويعتبره مجدداً، وكان متواضعاً، يألف، ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يؤلف .

خفة الروح :

لا يغادره المرح، وتسيطر روح الدعابة عليه، وكان مثالاً لخفة الروح، رافقته في التدريس، وصحبته في الطريق والرحلة والنزهات، دخلت بيته، ودخل بيتي، وبادلني حباً بحب، وأشهد الله أني لم أرَ مثله أبداً في حسن الخلق، وسعة الصدر، والرحمة والشفقة بالمسلمين، وحب الخير لجميع البشر .

التوازن :

كان يجمع بين الواقعية والمثالية .معتدلاً في كلّ شيء حتى في طعامه وشرابه .

عمل في مكتبة متواضعة في مدينة السفيرة، فحولها إلى ندوة إسلامية، يجتمع فيها الإخوة والأحباب، ويجري النقاش، سقى الله تلك الأيام :

ليسق عهدكم عهد السرور              فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا

حقاً كان ريحانة المجالس، عفيف اللسان، لم أسمع منه كلمة نابية حتى مع الخصوم الحاضرين والغائبين .

وكان واسع الأفق يستوعب الجميع، يجلس معه السلفي فيظنه سلفياً، ويجلس معه الصوفي فيعجب لزهده وتواضعه، ألم يقل الصوفية : التصوف هو الأخلاق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف، وهكذا كان .

انتسب إلى الحركة الإسلامية المعاصرة في سورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين يسعون إلى تطبيق الشريعة بالحكمة والموعظة الحسنة، قرآن يسود، وشريعة تحكم .

وكان يرى ( الإسلام هو الحلّ ..) ، ويعتبر من أبرز تلاميذ الأخ القائد أبي حمزة حسين قاسم محمد النعيمي، وصديقاً مقرباً من الأستاذ أبي عصام مصطفى الحاج علي، ورفيقاً محبباً عند الشيخ عبد المجيد الجمعة، والداعية عبد العزيز الشاطر– فكّ الله غربتهم ، وأطال في أعمارهم – وأعادهم إلى أهليهم ووطنهم سالمين غانمين منتصرين .

زواجه وأسرته :

تزوج من الأخت الصابرة المحتسبة (نهلة شعبان الهاشم) (أم أنور ) التي تنتسب إلى أصل كريم، وأسرة مسلمة مباركة، من آل هاشم الأبرار، والتي تعود في أصولها إلى مدينة تادف، ثم استوطنت مدينة السفيرة منذ مدة بعيدة، وفقدت الأخت أم أنور ولدها البكر فصبرت، وسجن ولدها معاذ فاحتسبت أمرها عند الله ، وقبل وفاة زوجها بشهرين فقدت أمها، وكانت-  وما زالت - مثالأ للعفاف والتقوى وحسن الخلق والسمعة الطيبة، تواظب على دروس القرآن، وتصطحب بناتها إلى مجالس الذكر .

وأنجب الشهيد أبو أنور منها عدة أولاد وبنات، برز منهم الشهيد الغالي ( أنور قناعة) الذي غادر الدنيا شاباً شهيداً سعيداً – بإذن الله – أثناء خدمة العلم .

والأخ المجاهد (عبد الرحمن) الذي كان مضرب المثل في حسن المعاملة بين الناس عرف هذا كلّ من خالطه في مكان عمله .

ومنهم الشيخ معاذ قناعة الذي سجن من أجل دينه وأفكاره، وبقي في السجن أربع سنوات منذ عام 2008م وحتى اندلاع الثورة المباركة عام 2011م .

ومنهم الشيخ ربيع قناعة، ومنهم التلميذ النجيب المهندس (عبد المجيد قناعة ) ذلك البطل الذي كان يدير المظاهرات من طرف خفي، ويكتب الشعارات وصاحب الخطّ الفني المميّز .

وقد درّستُ من بناته الأخت ( فاطمة ) وآمنة، فما رأيت ألطف ولا أشرف منهما، فكنت كلما رأيتهما تسألان أقول : (هذه آثارنا تدلُّ علينا)، وعرفت الفتاة الثالثة المدللة (نسيبة) والتي كبرت الآن، وشبّت عن الطوق، وسمعت نبأ زواجها مؤخراً .

هذه الأسرة المباركة والعائلة الكريمة التي رباها (أبو أنور) يعجز أمثالنا عن تربيتها، لقد كان مربياً ناجحاً علّم أولاده الأخلاق والآداب فكانوا ممن يشار إليهم بالبنان في مدينة السفيرة، منهم المهندس، ومنهم العالم، ومنهم الشهيد، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً – نحسبهم كذلك والله حسيبهم،  ولا نزكي على الله أحداً

 حفظهم الله جميعاً، وأجزل لهم المثوبة، وضاعف في أجورهم، ونصرهم على عدونا وعدوّهم، وشفى غليلهم . اللهم لا تسلّط (بشاراً ) وجنوده على أحد بعد شهيدنا الغالي أبي أنور .

 لقد عاش طيلة حياته عيشة الكفاف، زاهداً في زخارف الدنيا، مجاهداً بالقلم واللسان ، وها هو يساهم في هذه الثورة السورية المباركة منذ البداية ، خرج أحبابه وأولاده في المظاهرات، وانتقد الفساد والاستبداد بالقلم واللسان والدروس والمواعظ .

ثم تدحرجت الأمور، وتباعد الأحباب، وتفرق الخلاّن، ولكن القلوب كانت تجتمع في ورد ( الرابطة) كل مساء : ( اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك ، والتقت على طاعتك، فأدم اللهم ودّها، واهدها سبلها ).

ومنذ مدة سألت عنه أحد إخوانه فأجابني بأنه مرابط في أرض المعركة ، فوقع في نفسي أنه على وشك الرحيل، ولكني كتمتها في نفسي؛ وأسررتها في قلبي ؛ لأنه كان – رحمه الله - يعشق الشهادة، ويحب الموت في سبيل الله كيف لا وهو من الذين رفعوا شعار : الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى ..وقد حقق الله له أسمى أمانيه،  وكان لسان حاله يردد : (اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى) ..وعجلت إليك ربي لترضى ..

وكنت أتوقع له هذه الخاتمة المباركة؛ لأنه :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم       وتأتي على قدر الكرام المكارم

وفاته واستشهاده :

أحب الشهيد محمود قناعة لقاء الله فأحب الله لقاءه حيث توفي في أرض الرباط يوم الجمعة 28 تشرين الثاني 2014م ، عن عمر ناهز الثانية والستين ، ودفن في مدينة مارع ..وكان يتمنى أن يدفن في مدينته التي أحبها ..ولكن قدر الله إذا جاء لا يرد ، وكل بلد ترفع فيه راية التوحيد هي بلده، فجنسية المسلم عقيدته .

وقد بكاه كلّ من عرف فضله .

وكان وقع المصيبة عليّ قاسياً، وبقيت يومي كله مكدراً لم تفارق صورة الشهيد عيني ، ولم يغب عن لساني وقلبي .وأرجو الله أن يجمعني به في مستقر رحمته .

 إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع ، وإنا على فراقك (يا أبا أنور) لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، حشرنا الله وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله .

 آمين .