الأديب والشاعر شفيق مؤيد العظم

محمد فاروق الإمام

رجالات سورية الحلقة الخامسة

محمد فاروق الإمام

[email protected]

ذات نهار عربي من عام 1916 كان كوكبة من عشاق الحرية العرب يتأهبون لملاقاة الموت أمام المشانق التي نصبها جمال باشا السّفاح في دمشق وبيروت بعد محاكمة صورية في سجن عالية بلبنان، وبين هذه الكوكبة كان شفيق بك العظم أحد رجال الدولة في سوريا ابن المرحوم أحمد مؤيد باشا العظم شهيد السفاح جمال باشا، ولد بدمشق سنة 1861 وتلقى دراسته في مدرسة عنطورا بلبنان أتقن من اللغات الفرنسية والتركية وألم بالإنكليزية، وكان أديبا وشاعرا باللغة العربية، له قلم سيال يستهوي القلوب والعقول معاً، ولسان فصيح يخلب السامعين، ومن حدة ذكائه أنه تعلم التركية وبرع فيها كأحد أبنائها في مدة قصيرة بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره. كان شفيق العظم شاعراً وأديبا ًوكاتباً مجيداً وموهوباً وكان مثقفاً ثقافة عميقة، ويعد مرجعاً كبيراً في علم الاقتصاد والمال، ولطالما اعتمدت عليه الدولة في قضايا اقتصادية مهمة.

عين في شبابه بوظائف مختلفة منها مديرية الدفتر الخانقاني بدمشق ومصلحة الجمارك في بيروت وكان في الخامسة والعشرين من عمره آنذاك. ولما سافر والده المرحوم أحمد مؤيد باشا إلى اسطنبول والتقى السلطان عبد الحميد الثاني أصدر جلالته ارادته بتعيينه مترجما في المابين فعين براتب أربعين ليرة عثمانية ذهبا، وفي سنة 1896 عهد إليه بمفوضية الديون العامة في اسطنبول براتب قدره 120 ليرة عثمانية ذهبية. فبقي فيها إلى سنة 1901 وقد حدث ان عمدت الدولة إلى تمديد الخط الحديدي من رياق إلى حلب واقتضى لها أن تقدم اعتمادا لإدارة الديون العامة كي تكفل (الضمانة الكيلو مترية) للخط وعزمت على إحالة جباية أعشار ولايتي سوريا وحلب إلى الإدارة المشار إليها لهذا السبب ثم عقد مجلس من رجال الدولة لإنجاز هذا العمل فدعا المجلس شفيق بك مفوض الديون العامة واستشاره في الموضوع، فرفض الشهيد الموافقة على هذا المشروع غير أن السلطان أقره فيما بعد فاضطر شفيق بك إلى الاستقالة من مفوضية الديون العامة، فما كان من هذه الإدارة التي كان الشهيد معارضا لها إلا أن قدرت له هذه الشهامة فعينته مفوضا عنها في إدارة حصر الدخان براتب 200 ليرة عثمانية ذهبية لأن أمور الحصر كانت في جملة الرسوم الستة التي تؤلف موارد الديون العامة المودوعة إليها من قبل الدولة لتسديد مطالبها وقد ابت على المرحوم وطنيته أن يوافق على احالة أعشار الولايتين إلى إدارة الديون العامة باعتبار أن هذا العمل كان مخلا باعتبار الدولة وقد تخلى عن الوظيفة لهذا السبب. بقي الشهيد المرحوم مفوضا لإدارة الديون العامة لدى شركة حصر الدخان حتى إعلان الدستور في سنة 1908.

لما أعلن الدستور لم يرشح نفسه للنيابة فما كان من أبناء المؤيد في دمشق إلا أن رشحوه ونال من الأصوات ما أهله لأن يكون نائبا عن دمشق في المجلس النيابي العثماني، وكان راتب النائب 20 ليرة عثمانية فقبل النيابة، واستقال من مفوضية حصر الدخان باختياره لأن القانون لا يجيز اجتماع النيابة مع أي وظيفة ثانية ولأن استقالته من مفوضية الحصر كان موقوفا على موافقة مجلس الديون العامة المؤلف من ممثلي الدول الأجنبية الدائنة ولا سلطة لأحد علي هذا المجلس أجاب المرحوم حينئذ (بماذا أعتذر للذين رشحوني ومنحوني ثقتهم واعتمادهم ؟).

كان شفيق بك من أعاظم من أنجبته البلاد السورية وقد تناولت اسمه دون علم منه مراسلات ومذكرات سفراء فرنسا وانكلترا وقناصلها في مصر وسوريا مع وزارات الخارجية المنسوبة لهاتين الدولتين بسبب مكانته السامية التي أدت إلى ترشيحه من قبل الأحزاب السياسية والجمعية اللامركزية القائمة أثناء الحرب العالمية الأولى لتولي رئاسة الحكومة في سوريا إذا أعلن استقلالها كما دعي لتولي رئاسة المؤتمر الذي عقده زعماء ووجوه البلاد السورية في باريس فاشترط لقبول رئاسة المؤتمر أن يعقد المؤتمر في اسطنبول بدلا من باريس وقد أجاب المعترضين على ذلك بقوله (فليفعل بنا الأتراك ما شاؤوا وأرادوا من سجن ونفي وتغريب فنحن وأياهم أبناء دولة واحدة ولابد لهم من أن يتراجعوا وأن يتفاهموا معنا في آخر الأمر وخير لنا أن نغسل ثيابنا فيما بيننا وأن لا ننشرها أمام الغرباء والأجانب). ولكنهم لم يقبلوا ذلك منه وعقد المؤتمر الذي باء بالفشل في باريس برئاسة الأستاذ المرحوم عبد الحميد الزهراوي.

إن الاتحاديين ما كان ليخفى عليهم صدق واخلاص المرحوم شفيق بك وفقا لما كانت تنطوي عليه طبيعة أجداده من إخلاص وتفاني في سبيل الدولة منذ القديم ولكن لهؤلاء الأشقياء من دواعي الانتقام ما جعله يتخذون من شهرته وتداول اسمه في المخابرات كما ورد آنفا دون علمه وسيل اتهموه فيها بالاشتراك بالجمعيات والأحزاب التي رشحته وبالاتصال بالقناصل والسفراء وأن ينتهزوا الفرصة للإيقاع به، أما الأسباب التي دعت الاتحاديين للنقمة عليه فهي متعددة أهمها :

1-استياؤهم منه لقيامه بتأسيس جمعية الإخاء العربي بعد إعلان الدستور كحزب يعمل على خدمة مصالح البلاد العربية ضمن كيان الدولة كما هي الحال في جميع المجالس النيابية لدى الأمم المتمدنة الراقية ولكنهم فسروها على عكس ذلك.

2-صفعه واهانته لطلعت باشا في مجلس النواب العثماني.

3-زواجه – بعد وفاة زوجته الأولى - من نعمت خانم أرملة المشير المرحوم جواد باشا الصدر الأعظم التي لم يبق من وزراء الاتراك وعظمائهم من لم يخطبها لنفسه فرفضتهم جميعا واقترنت بشفيق بك ولكنها توفيت بعد سنة أثناء ولادتها فادعى أخو المشير جواد باشا أن الطفل ولد ميتا ولكن ثبت بشهادة كبار الأطباء أمثال بسيم عمر باشا وقنبور أوغلي وغيرهم الذين اعتنوا بتوليدها أنه ولد حيا وعاش بضعة أيام بعد ولادته فارتدوا فاشلين.

في هذه الفترة ساهم شفيق العظم في تأسيس عدد من الأحزاب والجمعيات منها: حزب الإخاء العربي العثماني، وهو حزب عربي التكوين والهدف، وكان عضواً بارزاً في تأسيس الحزب الحر المعتدل، ثم حزب الحرية والائتلاف وهما الحزبان النيابيان اللذان دافعا عن الدستور أحسن الدفاع. ولما أحلت الحكومة الاتحادية المجلس الأول بعد الدستور، رشح شفيق نفسه مرة ثانية للنيابة فأخفق كما أخفق زميلاه (شكري العسلي وعبد الحميد الزهراوي) بسبب تزوير الانتخابات، من أجل حرمان الشعب العربي من نواب أقوياء يدافعون عن حقوقه المهضومة.

على الرغم من المؤامرات والدسائس التي كانت تحاك له في السر والعلانية، وحرمانه الكثير من حقوقه، إلا أنه كان كثير الاهتمام بحالة الدولة، كثير التفكر في مستقبلها، ومع ذلك فإن إخلاصه لم ينجه من انتقام السفاحين بسبب خلافاته مع طلعت باشا حول القروض التي اقترضتها الحكومة الاتحادية باسم الدولة، ولم تنتفع منها الدولة بشيء. مما أثار أحقاد الاتحاديين عليه، حتى جاء اليوم الذي صفت فيها جماعة الاتحاد والترقي حسابها مع خصومها ومنهم شفيق فسجن في عالية في لبنان، وكان قرار اتهامه بأنه مؤسساً لجمعية الإخاء العربي، وأنه كان على اتصال وتبادل مذكرات مع السفير الفرنسي في اسطنبول ومأموري فرنسا السياسيين في مصر وسوريا لأجل إمارة سوريا واستقلال العرب، ودعوة القوى العسكرية الفرنسية إلى المملكة، ثم أسس الرابطة اللامركزية، وثبت أنه بعد العفو العام اشتغل بهذه المسائل واتفق مع زعماء سورية على انسلاخ سورية من جسم الدولة.

وفي السجن طال شعره كثيراً بعد أن مكث فيه أربعة أشهر من غير حلاقة، فتدلى شعره حتى بلغ قمة كتفيه وامتدت لحيته البيضاء الناصعة حتى بلغت أسفل صدره، فأراد جمال باشا السفاح ليلة الغدر به أن يخفف من هيبته على المشنقة فبعث إليه حلاقاً من عنده، فلما دخل عليه ورأى تلك الهيبة المجسمة وذاك الوقار الساكن، أخذته الرعشة وكاد يغمى عليه، فالتفت إليه شفيق وقال له: (لا تخف اذهب وأخبر من أرسلك أنني أريد أن ألقى وجه ربي بهذه الشيبة التي يستحيي من عذابها).

وتقدم شفيق العظم إلى المشنقة برباطة جأش نادرة المثال، فألقى خطبة بليغة موجزة، بين فيها الغاية الشريفة التي كان يهدف إليها رجال العرب، ثم طلب من الحاضرين قراءة الفاتحة، وكان ذلك يوم السادس من شهر أيار عام 1916 في ساحة الشهداء (المرجة) في دمشق.