حسن البنا القائد الإنساني

محمد جمعة أبو الرشيد

الإمام الشهيد حسن البنا

محمد جمعة أبو الرشيد

كاتب وباحث ارتري

بريطانيا

سمعنا بحسن البنا ونحن نرعى الأغنام في جبال ارتريا وهذا حال الملايين من شباب أمة الإسلام الممتدة بين غانا وفرغانة ، فقد تجاوز تاثيره حدود الأقطار العربية حيث عانقت دعوته أدغال افريقيا وثلوج سيبيريا، وأصبح بلا منازع أشهر شخصية إسلامية عرفها التاريخ المعاصر ، وذلك لأسباب عديدة وأبرزها: الخير الذي أجراه الله على يديه في مجال الدعوة الإسلامية ، وتجديد قيم الدين العظيمة في نفوس الناس ،وما كتبه الله له من القبول بين الناس . وتكاد جميع التيارات الإسلامية أن تجمع عليه الصوفي منها والسلفي ، الدعوي منها والسياسي  ، الثوري منها والسلمي . فهو أشبه بلوحة فنية بديعة يجد فيها كل ناظر متعتة في جانب من جوانبها  . وسوف اسلط  الضوء في هذه المقالة البسيطة عن الجانب العاطفي والإنساني في حياته  .

حسن البنا وحرارة العاطفة :

يعتبر الجانب العاطفي لأي قائد بمثابة الروح للجسد ، لأنه في منزلة الوالد ،والأخ ، والصديق ، وإذا فقد العاطفة تحول الى جلمود أصم ساكن لا يحس بمعانآة ولا آلام من حوله ، لا يفْرُقُ عنده إن جاع الإنسان او شبع ، ولا تهزه دموع اليتامى، ولا انَاة الأرامل، ولا توجع المريض، واستغاثاة الشيخ الكسيح. لو كان حكامنا اليوم يملكون حرارة العاطفة الجياشة والمشاعر الإنسانية المتدفقة التى حبى الله بها حسن البنا لما كان حال امتنا اليوم مع حكامها كما نرى. 

حسن البنا وصاحب الجاموسة:

يزور البنا قرية من قرى مصر فيجد فلاحا مهموما لأن جاموسته مريضة ، فما كان من الإمام الا أن ينشغل ويتفاعل وينصح الأخ أن يذهب بها الى طبيب بيطري ، وقد فعل الرجل ، وبعد سنوات يقابل الرجل فيسأله عن احواله وأحوال ابنائه ، وعن جاموسته التى كانت مريضة !!! أين أنتم أيها القادة من هذه الأخلاق الربانية ؟ . عندما كنت اكتب هذه الكلمات شاهدت تقريرا بثه مراسل احدى القنوات الفضائية من ان الباحثين في مدينة ( خرونقن ) التي تقع في شمال هولندا وجدوا في قرية محيطة عدد سكانها حوالي ( الف شخص فقط ) قد نقًص عليهم البعوض راحتهم بسبب شق قناة في وسط القرية ، فما كان من الحكومة، والخبراء، والباحثين الا السعي والسهر لحل هذه المعضلة التي حلَت على الوطن . فقلت في نفسي : لو شعوبنا تركت للبعوض فقط لهان عليها الأمر ، ولكن المشكلة حتى الحاكم يمص دمها، وجيبها بل يكسر عظامها، ويطحن اضلاعها ، ولو كانت الروح بيده لسحبها ونزعها منها .

حسن البنا القائد يعرف مشاكل تلامذته ويتحسس مشاعرهم :

كتب أحد الاخوان يصف رقة قلب الإمام وحساسيته الشديدة وعواطفه الجياشة، يقول: دخلت عليه فقابلني بالبشر والترحاب، وقال: ستسافر بمشيئة الله يوم الثلاثاء إلي السودان .. فقلت علي الفور: أمر مطاع يا فضيلة المرشد .. وأردت أن أنصرف، ثم التفت إليه فجأة وقلت: ولكن يا فضيلة الأستاذ؟!، قال رحمه الله: ولكن ماذا؟ قلت: إن لي مشاكل كثيرة وشكاوي وفيرة، أود أن أتحدث إليكم فيها بعضها عام وبعضها خاص، فقال: هون عليك، وكّل أمرك إلي الله .. قلت: ولكني أود أن تعرف .. فقال: إنني أعرف .. قلت: إذن أنا أسعد ما أكون، ما دمت تعرف .. ولكنه استبقني وأخذ يتحدث عن مشاكلي وشكاواي يتحدث هو بنفسه لنفسه .. عجبت كل العجب، لأنه أحاط بدقائق نفسي ودخائل حسي، بل إن هناك مسائل كانت في باطن الشعور، هو الذي ذكرني بها .. وما إن انتهي من حديثه، حتي قلت: والله يا فضيلة الأستاذ، إني سعيد كل السعادة ولا أشكو من شيء أبدا  .. قلت ذلك وصوتي متهدج ودموعي منهمرة وأحاسيسي متدفقة، ثم هجمت عليه، وكان واقفا لا شيء علي رأسه .. هجمت عليه واحتضنته بين ذراعي في شدة وعنف وأخذت أقبل رأسه .. واستمر هذا الموقف فترة من الزمن، وهو صامت مستسلم، ولم أتركه إلا حيث دخل علينا الأخ الأستاذ/ سعد الوليلي، وإذا بالأستاذ يبكي لبكائي وعيناه مليئتان بالدموع.

وكثيرا  ما كان هذا البطل القوي يبكي بدموع غزار. ذكر أنه استلم وهو بدار "الشهاب" برقية من والد أحد الشهداء في فلسطين ردا علي برقية من فضيلة الأستاذ له، وكانت برقية والد الشهيد برقية مؤثرة فيها تضحية وفدائية واستبسال .. بكى الأستاذ كثيرا، وبكى الحاضرون، وكانت لحظات من الحساسية المرهفة والشعور العميق!.

ومع قصة دموع هذا القائد العظيم يروي أحد الإخوان هذا المشهد، فيقول: عرضت علي فضيلة المرشد ذات يوم خطابا من أحد الإخوان، وكان بين عدة خطابات وأوراق قدمتها إليه، وغفلت لحظة أنظر إلى من بالغرفة، وإذا بي أرى دمعات كبيرة تتساقط علي الخطاب .. ودهشت، ولقد كنت قرأت الخطاب قبل ذلك، ولكنه لم يثر في نفسي ما أثاره في نفس هذا الرجل ، وكان الرجل قد تبرع بنصف راتبه الذي يساوي اربع جنيهات ، وكانت الأموال تنهال من الأخوان كالسيول وتتقاطر كالمطر ، ولكن راى الإمام في تضحية الرجل الفقير بنصف راتبه شيئا كثيرا، وقال (: بمثل هؤلاء وبهذه النقود القليلة تنتصر الدعوة) .

يقول الأستاذ عمر التلمساني: “لقد أحيا الإمام روح الجهاد في نفوس أبناء هذا الجيل، وتأثَّر الإمام، وتأثر الشباب، وتأثر آباؤهم وكانت مواقف رائعة، استشهد أحد أبناء الإخوان في فلسطين، فذهب الإمام إلى والد الشهيد ليعزيه، فسمع الناس ورأوا درسًا باهرًا؛ قال الوالد للإمام: “إن كنت جئت معزيًّا فارجع أنت ومن معك، وأما إن كنت جئت لتهنئني فمرحبًا بك وبمن معك، لقد علمتنا الجهاد وبيَّنت لنا ما فيه من عزة ورفعة في الدنيا والآخرة، فجزاك الله خيرًا، وإني لحريص على مضاعفة الأجر، فها هو ولدي الثاني، أقسمت عليك لتصحبنَّه إلى ميادين الجهاد”، فانهمرت دموع، وعلا تشنج، وتصاعدت زفرات وارتج على الإمام من روعة الموقف.

لا تميزبين القيادة والقاعدة :

يحضر الشيخ / البنا مؤتمرا في باكوس ، ويوصي مرافقه أن يوقظه ( قبيل الفجر ) ، ولكنه لم ينم الا قليلا ، وحضر عدد لابأس به من الإخوان لتسحروا معه ، ووضع بين يديه طعاما فاخرا ، فقال : هل جميع الأخوة سوف يأكلون مثل طعامي ؟ فقيل له : كل واحد منهم أحضر طعامه من بيته ، فرفض تناول الطعام وأكل معهم ، ولما جاء موعد عودته الى القاهرة في الصباح يسأل عن بواب العمارة فقيل له : إنه نائم ، فأعطاه لهم مبلغا من المال ، وأوصى بإبلاغه السلام والتحية .

حسن البنا والأخ أحمد شوهان:

حضر إخوان مدينة (أبو كبير شرقية) مؤتمر الإخوان المسلمون في مدينة (الزقازيق) الذي يتحدث فيه فضيلة المرشد العام حسن البنا .. وهناك إلتقى الأستاذ البنا بالإخوان وتعرف عليهم كل بإسمه وعمله.

وبعد أكثر من عامين زار الأستاذ البنا مدينة أبو كبير، وعند لقائه بالإخوان فوجئ الأخ أحمد محمد شوهان بأن فضيلته يسلم عليه باسمه .. وتعجب الأخ أحمد وهو يعمل نجارا بسيطا، كيف تكون له هذه المنزلة في نفس الأستاذ البنا، وظل يباهي بها إخوانه!

وهكذا كان الإمام البنا يعطي كل أخ حقه من التقدير دون النظر إلي طبقته الاجتماعية، فالجميع إخوان مسلمون ولا تدري في أي منهم يكون الخير والأمل المنشود.

خزان من المشاعر يفيض في كل جانب :

الحاج عبد الرزاق هويدي يستأذن فضيلة الشيخ في السفر إلي بلدته، فلما سأله فضيلة المرشد عن سفره المفاجئ أخبره بأن جده مريض ويريد أن يعوده. فدعا له فضيلة المرشد وطلب من الحاج عبد الرازق أن يبلغ جده خالص تمنياته له بالشفاء.

وفي اليوم التالي فوجئت عائلة هويدي بالأستاذ المرشد يحضر لزيارة جدهم الكبير، وكانت مفاجأة أثارت اهتمام العائلة جميعا  فأسرعت ترحب بمقدمه، وشباب عائلة هويدي لهم ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدي ومنهم السعدي، وحول سرير الجد الكبير دارت بعض الأحاديث الخفيفة، وتكلم الجد بكلمات ترحيب وشكر للأستاذ المرشد، ونوه بفضل الإخوان في أنهم جعلوا الحاج عبد الرزاق شخصية إسلامية  مؤمنة .. ورد الأستاذ المرشد، فقال له إنه لا فضل للإخوان في ذلك، فالإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة بمن يمثلهم في هذه العائلة.

ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الواعية علي قلوب الجميع بردا وسلاما، وتذوقوا فيها قيمة الدعوة والداعية.

سنقاتل أعداءنا بالحب:

قام الإخوان بإنشاء فرقة كشافة وجوالة لشباب الإخوان ، وكان الزي الذي ترتديه ( بنطول قصير) فجاء أحد الأخوة الفضلاء وقال لحسن البنا ( أنا اكرهك ) فإبتسم الشيخ وقال له " إني والله أحبك " فقال الرجل : ولكني اكرهك في الله ، فقال له والبسمة لا تفارقه: " هذا يزيدني فيك حبا " وكان رحمه الله يردد في دروسه كلمة ( سنقاتل الناس بالحب ) وكان يقول : ("نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا  فيما اختلفنا فيه")

هتافات الأطفال تنبعث من قلبه فيحسها في اذنيه :

في عام 1948 يفقد الإمام البنا خيرة إخوانه الذين زج بهم في السجون ، وترك وحيدا كسيرا اسيفا مهموما ، كان يقوم يصلي من الليل فيضع اصبعه في أذنيه ، ويريد أن يأكل فتعاف نفسه الطعام ، وكأنه يسمع بكاء الأطفال الذين فقدوا آبائهم ، مآساة بيوت كاملة زوجة ترملت وهي في عصمة زوجها ، وطفلة تيتمت وابوها على قيد الحياة ، واب فقد إبنه من غير جريرة ، وقلب ام ملوع من غير ذنب ، والإمام البنا يشاطرهم الهموم والوجد، فلما قيل له أن يخرج من مصر هاربا ؛ قال : هذا هو الجبن ، كيف أترك هؤلاء في المعتقلات ولا أسعي لإخراجهم!ولم يقبل طلب إخوانه المساجين منه وبإصرارأن يخرج ويوكل امرهم لله ، فرفض رحمه الله رحمة واسعة.

ولما قال له البعض وهو يمر بهذه الظروف القاسية والمنحنة العصيبة : أليس هذا أوان (  (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..؟). قال: لن أكون داعية فتنة، ولن آمر بمنكر .. ولن أغضب لشخصي، ولن انتقم لنفسي.

يقول بعض من عاش مع الإمام البنا : (لقد كان حسن البنا روحا كبيرة فسيحة تملأ كل الفراغ كما يملأ الهواء كل الأجواء، وكان الحضور معه يعني أن تعيش مغمورا  في بحر من السعادة والنور .. فهو يتعامل معك كأنك وحدك المقصود بكل عواطفه ومشاعره، وليست هذه العاطفة منه مجاملة أو ترضية، ولكنها عاطفة صادقة حقيقية عميقة رقيقة تجيش بالحب)

أسد في الوغى وعفيف عند المغنم :

يقول محمد الأمين الحسيني مفتي فلسطين: ذات يوم زارني حسن البنا وجلس إلي جواري وتجاذبنا أطراف الحديث، وبعد برهة من الوقت جاء ضيف، فتخلي حسن البنا عن مكانه بجواري .. وكلما دخل ضيف آخر ترك حسن البنا مكانه مفسحا للقادم الجديد وهكذا حتي أصبح مكانه إلي جانب باب حجرة الطعام .. ولما حان وقت الطعام وفتحت الغرفة، وكان من الطبيعي أن يكون أول الداخلين هو حسن البنا، ولكني لاحظت أنه أخذ يتراجع حتي صار آخر الداخلين .. فأدهشني هذا الخلق الرفيع!!.

يأسرُ بأخلاقهِ ( الفتوة والبلطجية ) أمثال إبراهيم كروم ،ويدخل السرور على ضيفه الكبير عليم الله صديقي وذلك بإهدائه هديته الخاصة له ، ويعانق بحرارة العامل في سكة حديد الأسكندية، ويأخذه بيده ويجلسه بجواره في الصف الأول ، وكان من قبل يحضر المجالس وينصرف ولا يعبئ به أحد ، هكذا يلقن الناس درسا عمليا على الإهتمام بالناس ، وإنزالهم منازلهم ، وتقديرهم ، وإكرامهم ، فلسنا ندري إن كان الخير والصلاح في عامل قضيب سكك الحديد ام في العالم النحرير .

هل تدري أخي في الله ماذا فعل هذا الرجل ؟ اليك قصته حية طرية !!!

بعد شهور يقود الإمام الشهيد مظاهرة نصف مليونية من الأزهر الشريف الى الكونتيننتال حيث يوجد زعماء العالم العربي ، اراد الإمام البنا أن يسمعهم صوت عشرة آلاف من الإخوان حملوا أرواحهم في أكفهم ، وإستعدوا لمنازلة  عصابات اليهود في ارض الأقصى الشريف ، وفي اثناء المسيرة أطلق البوليس النار على المتظاهرين فأصيب الأستاذ البنا في يده فلما راي الدم يتدفق منها تمثل قول الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة فقال : هل أنت إلا إصبع دميت   ***   وفي سبيل الله ما لقيت.

وفي نفس اليوم يصاب عامل سكة الحديد فيلقى الله مقبلا غير مدبر.

سوف اكتفي من عاطفة الإمام البنا بهذه الومضات البسيطة التي نقلتها لكم من كتابات بعض من عاصره ، او ممن سمعته بنفسي من اولئك الرجال العظماء الذين التقيت بهم أثناء دراستي في جمهورية مصر العربية ، فإن مما تميز به الإمام البنا عن بقية القادة تطبيقه منهج رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في الحب والإهتمام والتواصل ، ليس تدريسا وتعليما ، ولكن عملا وتطبيقا ، وما احوجنا لهذا الخلق الآثر ، والسلوك النادر،والتطبيق الفاعل . رحم الله الإمام المجدد ، وشيخ الصحوة المعاصرة.