العلامة الشيخ عبدالرحمن الباني

عالم وتربوي ومؤرِّخ (1)

عبد الكريم السمك

هو واحدٌ من القلَّة الذين يزدهرُ ويفخَرُ بهم زماننا الذي نعيشُه، وعَدلٌ من عُدوله، يلتحق بركب سلف أمَّته الصالح الذين هم خيارٌ من خيار.

معرفتي بالشيخ رحمه الله:

تعود معرفتي بأستاذي الشيخ عبدالرحمن الباني إلى الأيام الأولى من سنوات عملي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، في عام (1395هـ/ 1975م)، فقد عرفته مدرِّسًا بكلية العلوم الاجتماعيَّة في الجامعة، قسم التربية وعلم النفس، وكنت أجد الاحترامَ والتقديرَ له من أعضاء هيئة التدريس ومسؤولي الجامعة، وكذلك الطَّلبَة الذين تتلمذوا على يديه.

وازدادت مع الأيام صلتي به ومحبَّتي له، بعد أن وجدتُّ فيه الصورةَ الجميلة لعلماء الأمَّة، فدفعني ذلك لملازمته وحضور مجالسه والتتلمذ على يديه، ولا سيَّما بعد أن حِيلَ بيني وبين العلماء الفُضَلاء الذين كنت أحضُر حَلَقاتهم ودورسَهم العلميَّة في مدينتي حماة، من أمثال شيخنا الكبير محمد الحامد رحمه الله، فقد وجدتُّ في الشيخ الباني وإخوانه العلماء خيرَ عِوَض.

ولمست في الشيخ الأهليَّةَ العلميَّة التامَّة، واستفدتُّ منه كثيرًا في معرفة تاريخ بلدنا الحبيب سوريا، وعرفت من ملازمتي له أنه يمتلك مكتبةً عامرة بشتَّى العلوم والفنون، ومنها الكتب المتخصِّصة بعلم التاريخ، ومكتبته ثريَّة بنوادر الكتب التي قد لا يجدها الباحث في التاريخ، في المكتبات العامَّة.

وكان - رحمه الله - يزوِّدني بما أحتاج إليه من الكتب المتوافرة لديه، وخاصَّة بعد أن وجد فيما أكتب من دراسات تاريخيَّة ما يُرضيه؛ منهجًا وأسلوبًا، بعيدًا عن الكتابات الإملائية التاريخية السائرة وفق الرُّؤى التي خطَّها الاستعمار البريطانيُّ والفرنسي، بما يخدم سياستهم الاستعماريَّة التي رسموها لبلاد الشام، وقد فرضوا على كتَبَة التاريخ هذا الأسلوبَ في الكتابة، الذي بقي سائدًا حتى بعد تحرُّر سوريا من الاستعمار!

وقد نهض بكتابة هذا التاريخ حَمَلَةُ الأفكار الإلحادية؛ من قوميَّة وبعثيَّة وشيوعيَّة، فصاغوه صَوغًا ألبسوه به ثوبَ التحرُّر واللادينيَّة! فجعلوا من الاستعمار تحرُّرًا، ومن الحداثة خروجًا عن الرجعيَّة الدِّينية... وفي هذا الواقع من الكتابة التاريخيَّة المجانب للحقيقة توالت النَّكَبات على الأمَّة، وحلَّت فيها النوازلُ والهزائم من اليهود الصَّهاينة، الذين خدمهم في انتصاراتهم واقعُ ما يعيشه العربُ المسلمون من استدبار لدين الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم.

بيئة الشيخ ونشأته:

في مدينة دمشق كان مولد شيخنا المترجَم له، وذلك في شعبان سنة 1335هـ (حَزيران 1917م)، في بيت عريق من بيوتات دمشقَ الكريمة التي غلبَ على أبنائها الأهليَّة العلميَّة، والمكانة الاجتماعيَّة في الوسَط الدمشقي، وكان مولدُه بعد سنة من نكبة العرب بثورتهم المشؤومة المؤرَّخة في (10/ 6/ 1916م) التي حملت في رَحِمِها اتفاقيَّة (سايكس بيكو) و(وعد بلفور) في (2/ 11/ 1917م) التي أسبغت الشرعيَّة على استعمار المشرق العربيِّ من قِبَل كلٍّ من فرنسا وإنكلترا، فكانت سوريا من نصيب الفرنسيين، وفلسطين من نصيب الإنكليز؛ للعمل على إقامة دولة يهودية على أرضها، تحقيقًا لوعد بلفور.

وفي يوم (24/ 6/ 1920م) دخلت القوَّات الفرنسيَّة سوريا بعد معركة مَيسَلون، بقيادة الجنرال الفرنسي غورو، وفي سنة (1925م) شهدت الساحةُ السورية وعاصمتُها دمشق الثورةَ السورية الكبرى، وفيها دمَّر الفرنسيُّون أكثرَ من خمسة أحياءَ بدمشق، وقُتل من أهلها الآلاف، إضافة لأبناء ريفها من أهل الغوطة، وكان عمرُ الشيخ الباني حينئذٍ ثمانيةَ أعوام، فتلك هي البيئة السِّياسيَّة التي عاشها الشيخ في طفولته ونشأته الأولى، ويبدو أنه تأثَّر بعمِّه الشيخ محمد سعيد الباني الذي كان من علماء عصره، وكان ناشطًا سياسيًّا ومن أبناء المدرسة التي ينتسب إليها الشيخ كامل القصَّاب، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محبُّ الدِّين الخطيب، وقد ورث الأستاذ عبدالرحمن عن عمِّه مكتبةً عامرة بنفائس الكتُب.

وكان الشيخ كثيرًا ما يردِّد: وحدَّثني عمِّي، وأخبرني عمِّي.. عندما أتحدَّث معه عن مرحلة الثورة العربيَّة الكبرى، وعن واقع القضاء على الخلافة العثمانيَّة بقيَّةِ الخير في النظام السياسيِّ الإسلاميِّ الذي امتدَّ به العمر أربعةَ عشرَ قرنًا إلا القليل، وكان سقوطه سنة (1924م) على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي تجري في عُروقه دماءٌ يهودية كما قال أرنولد توينبي، وبسقوط نظام الخلافة هذا عصَفَت بساحات العالم العربيِّ والإسلاميِّ عواصفُ الاختراق العلمانيِّ واللادينيِّ والتغريبيِّ، والأستاذُ الباني عاصر هذا الاختراقَ الذي رسَمَت له وخطَّطَت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا، فعلى سبيل المثال ابتُعث ميشيل عفلق، وصلاح الدين البَيطار للدِّراسة في فرنسا، وبعد عودتهما من باريس عُيِّنا مدرِّسَين في مدارس دمشق، وكانا يحملان فكرًا علمانيًّا اشتراكيًّا، وكان ما يحملانه من فكر إلحاديٍّ لا دينيٍّ نَواةَ فكر حزب البعث العربيِّ الاشتراكي، وقد كان الشيخ طالبًا في المدرسة التي يدرِّس فيها عفلق، فحصلت بينهما مواجهةٌ مباشرة في مناهضة التلميذ الباني ومحاربته لفكر أستاذه الإلحاديِّ وما يدعو إليه.

وكان الشيخ علي الطنطاوي في إحدى حَلَقاته التِّلفازية في السعودية أشار إلى جُرأة تلميذه الشيخ عبدالرحمن الباني في مواجهته لميشيل عفلق، وعندما سألتُ الشيخ الباني عن هذه الواقعة، قال: إنني كنت في الجامع الأمويِّ أحضر خُطبةَ الجمعة، وكان وزير المعارف السوريُّ حاضرًا، فوقفت بعد الخُطبة محذِّرًا مما يحمله ميشيل عفلق من فكر علمانيٍّ وإلحاديٍّ، وكان شيخنا الطنطاوي في الجامع أيضًا فقام وتولَّى مهاجمةَ عفلق وتأييدَ كلامي؛ لافتًا نظر الوزير إلى خطر فكر عفلق على البلاد وطلاب المدارس.. وهذه الحادثة تُحسَب للشيخ الباني - رحمه الله - وتدلُّ على شجاعته وغَيرته على دين الله في وقت مبكِّر من عمره([2]).

وعندما قصد مصرَ مبتعَثًا من وِزارة المعارف السورية للدِّراسة الجامعيَّة، تعرَّف الشيخَ حسن البنَّا رحمه الله، وانتظم في حركة الإخوان المسلمين، ولازم الأستاذ البنَّا طَوالَ إقامته هناك، وعاد إلى سوريا حاملاً معه فكر الدَّعوة، بعد أن وجد فيه القُدرةَ على مواجهة الأفكار العلمانية؛ من اشتراكيَّة وبعثيَّة وشيوعيَّة وإلحاديَّة، فكان في دمشقَ شُعلةً من النشاط في محاربة هذه الأفكار الوافدة، من خلال رسالته التربويَّة والتعليميَّة والتوجيهيَّة، في عمله الوظيفيِّ لدى وِزارة المعارف بدمشق، ومع اضطراب الأوضاع السِّياسيَّة في سوريا، التي أفضت إلى تسلُّم البعثيِّين الحكمَ، ناهضَ الشيخ سياستهم الإفساديَّة؛ ليترتَّبَ على ذلك سجنه مدَّة (79) يومًا، وبعد قُرابة سنة من خروجه من السجن، قصد المملكةَ العربيَّة السعوديَّة سنة (1964م) للعمل فيها مستشارًا تربويًّا، بما يمتلكه من تحصيل علميٍّ راقٍ وموهبة فذَّة تستمدُّ أسسها وأصولها من الثوابت الإسلاميَّة التي قامت ونشأت عليها شخصيَّته العلميَّة والفكريَّة.

الكتاب والمكتبة في حياة الشيخ:

يعدُّ الأستاذ الباني مكتبةً متنقِّلة يما يختنزه صدرُه وذاكرته من علم ومعرفة بالكتب وما تحتويه، فقلَّ أن تسألَهُ عن كتاب إلا وتجدُ الإجابةَ لديه عنه، على اختلاف عُلومها وفنونها، والشيخ في حاله هذا إنما هو مكتبةٌ حاضنة لأكبر (بيبليوغرافيا)([3]) مكتبيَّة، وأذكر أنني كنت في مجلسه المعتاد، فذكر في استطرادٍ من استطراداته أكثرَ من عشَرة كتب، فهمس في أذني أحدُ الإخوة متألِّمًا قائلاً: إن هذه المعلومات ستذهبُ بذهاب الشيخ، وكم كان حسنًا لو أن هذا الوِعاء المعلوماتيَّ قد أفرغه الشيخ في كتاب! وقلَّ أن يتحدَّثَ عن كتاب إلا ويُبدي رأيَه في مضمونه سلبًا أو إيجابًا.

وفي جانب آخرَ من شأنه مع الكتاب؛ كان الشيخ حريصًا على تملُّك الكتب ولو تصويرًا، وخاصَّة إذا وجد في مضمونها ما يهمُّه ويُعنى به، ولم أكن أحدِّثه عن كتاب ليس لديه نسخةٌ منه في مكتبته، إلا ويطلب منِّي أن أصوِّرَ له نسخةً منه؛ مشترطًا أن آخذَ قيمة التصوير أو أحضرَ الكتابَ إليه ليتولَّى تصويرَه بنفسه.

ومن الكتب التي صوَّرتها له: كتابٌ وثائقيٌّ علميٌّ عنوانه "أتباع سان سيمون؛ فلسفتهم الاجتماعيَّة وتطبيقاتها في مصر"، مطبوع سنة (1963م)، تأليف الدكتور محمد طلعت عيسى([4]) وهو من خير الكتب في بيان تغريب مصرَ وفرنستها. وكتابٌ آخرُ للدكتور علي شلش، عنوانه "اليهود والماسون في مصر؛ دراسة تاريخيَّة"، وهو من أفضل الكتب التي تتناول اختراقَ الحركة الصِّهيَونيَّة للمجتمع المصريِّ، عن طريق الصحفيِّين من أبناء نصارى الشام. وغيرهما من الكتب المختلفة، وكان - رحمه الله - يُبادلني ما يمتلكُه من نوادر الكتب، فأعمل على تصويرها.

ولا تكاد تجد كتابًا في مكتبته ليس عليه تعليقاتٌ وملاحظات بخطِّه، فإمَّا أن تكونَ تصحيحًا لغويًّا أو إملائيًّا، أو إضافات واستدراكات منه على الكتاب، أو بيانًا لرأيه فيه([5]).

وكثيرًا ما كان يقول إذا ما ذُكر له اسمُ كتاب ما: هذا الكتابُ في مكتبتي بدمشق، فتفهم منه أنه يمتلك مكتبةً كبيرة هناك، غير مكتبته الضَّخمة في الرياض، وهو جمَّاعٌ للكتب ومقتن لها، وخاصَّة كتب التربية والفلسفة، وكتب الذِّكريات والتراجم، وكتب الفكر والدعوة، وكتب التاريخ الحديث والمعاصر.

ومن عجيب أمر الشيخ الباني، أنه أحيانًا يكون يتحدَّث في استطراد ما في مجالسه، ويرى ضرورةَ توثيق كلامه، فيستأذن الحاضرين في جلب مرجعٍ من مكتبته العامرة، ولا يلبَثُ أن يرجعَ وبيده الكتاب، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على استيعابه الكامل لمكتبته وما تحتويه، ومواضع الكتب منها، وهذا الأمر ليس بالسَّهل على من يمتلك مكتبةً ضخمة مثل مكتبته.

الأستاذ الباني في عطائه العلمي:

كثيرٌ هم العلماء المقلُّون في الكتابة، من الفُضَلاء من سلف هذه الأمَّة الأخيار، الذين ينتسب الشيخُ الباني إلى مدرستهم، وقد حفلت كتبُ التراجم المختلفة بذكر أسماء العلماء المقلِّين في التصنيف، والشيخ الذي امتدَّ عمره حتى بلغ (97) سنة، يملك أن يكتبَ في عشرين سنةً رواية، وأكثر من ثمانين سنةً مشاهدة، حيث إن هذه العقود العشرة من أهمِّ مراحل تاريخنا المعاصر، التي صُنعت فيها خريطةُ الواقع السِّياسيِّ والجغرافيِّ للمشرق العربيِّ، وخاصَّة منه جغرافية بلاد الشام، بعد أن كانت موحَّدة في جغرافيَّتها، فساحل البحر المتوسِّط الشرقيُّ بعد أن كان موحَّدًا أصبح يخصُّ أربعَ دول، ومن جهة مصر في حدودها البرِّية مدينة غزَّة، ومن جهة تركيا شَمالاً دياربكر وأنطاكية، وقد قطَّعها الاستعمار إلى أربع دول فضلاً عمَّا قضمته تركيَّا من أراضٍ سوريَّة، فكم كان جميلاً لو أن الشيخ - رحمه الله - أكرم من وراءه من أجيال بمذكِّراته عن تاريخ هذه الأمَّة لتلك المرحلة؟

فقد عاش الشيخ الكثيرَ من أحداث عصره، وستكون ذكرياتُه في منزلة ذكريات الشيخ علي الطنطاوي، وكلا الفاضلين من عُدول هذه الأمَّة وشهود عصرهم، فذكرياتُ الطنطاوي كادت تلقى مصيرَ ذكريات الباني، لولا أن هيَّأ الله للشيخ من يحثُّه ويشجِّعه على تدوينها ونشرها، وهو الأستاذ الإعلاميُّ الكريم زهير الأيُّوبي؛ وذلك لأهميَّتها في تاريخ الأمَّة في حاضرها ومستقبلها، وقد شرح الله صدرَه للاستجابة لطلبه، فجاد على الأمَّة والأجيال بمعلومات وفوائدَ نفيسة نُشرت في ثمانية أجزاء، واحتلَّت مكانتها اللائقةَ بها في مكتبة تاريخ بلاد الشام المعاصر خاصَّة، وتاريخ العالم العربيِّ والإسلاميِّ عامَّة.

ولعلَّ للشيخ عُذرًا وأنت تلوم، فكلُّ من يعرف الشيخ عن قُرب يعلم أنه كان كثيرَ المشاغل؛ فهو مستشارٌ لدى عدَّة جهات علميَّة، ولعلَّ هذه الواجبات ضيَّقت على الشيخ أوقاته، فكان ذلك سببًا في حِرمان محبِّيه وعارفيه من أن ينعُموا بمذكِّرات عاشها وشهدها طيلةَ سبعة وتسعين عامًا، كان الناس أحوجَ ما يحتاجون إليها، ولعلَّ القول الذي عُرف عن بعض السَّلف ينطبق على شيخنا: (الواجبات أكثرُ من الأوقات)، فرحم الله أستاذنا وشيخنا الباني، وعوَّضنا الله خيرًا به وبآثاره التي افتقدناها لفقده.

ولو قُدِّر للشيخ أن يكتبَ ذكرياته لكانت على درجةٍ عالية من الأهميَّة في تاريخنا العربيِّ والإسلاميِّ المعاصر، فالشيخ عاش حياته كلَّها من مولده حتى وفاته في أربع مراحلَ، وكلُّ مرحلة منها مهمَّة في تاريخ سوريا ومصر والسعودية، وهذه المراحلُ كانت على النحو الآتي:

1- المرحلة السورية الأولى: المولد والنشأة، وهي في أزيدَ من ثلاثة عقود، منها ما يكون روايةً عن العقدين الأول والثاني، والبقيَّة دراية ومشاهدة.

2- المرحلة المصرية: وهي مرحلة مؤثِّرة وبارزة في حياة الشيخ العلميَّة والفكريَّة، وما يلحق بها من واقع المؤثِّرات التي أسهمت في تكوين شخصيَّته وفكره، وامتدَّت سبع سنين.

3- المرحلة السورية الثانية: وهي التي تمتدُّ في سنواتها قرابةَ الثلاثة عشر عامًا، وتجلَّت فيها أنشطة الشيخ العلميَّة؛ من تربوية وفكرية واجتماعيَّة وثقافيَّة، فضلاً عن نشاطه الدعويِّ والسِّياسيِّ في مناهضة العلمانية والأنظمة اليسارية.

4- المرحلة السعودية: وهي ليست بالقليلة، وعلى درجة عالية من الأهميَّة، وهي في عمرها قاربت الخمسين سنة، وهي التي لقيَ فيها وجهَ ربِّه رحمه الله.

وأزمنة هذه المراحل تبيِّن لنا أهميَّتها، التي كان وعاءها المعلوماتيَّ فقيدُنا الغالي، وذهبت بذهابه.

طرائف من صلتي بالشيخ:

تعمَّقت علاقتي بالشيخ من خلال التواصُل الدائم معه؛ بقصد الاستفادة من علمه وفكره ومكتبته العامرة، فله منِّي خالصُ الدُّعاء بما وجدتُّه فيه من الحبِّ والعطاء، والوفاء لكلِّ أخ من إخوانه، فكان في كلِّ مجلس من مجالسه يُحرجني في الحديث عنِّي أمام الإخوة الجالسين، ثم يتوجَّه إليَّ بالسؤال: متى إن شاء الله سيكون حصولك على الدكتوراه في التاريخ العربيِّ الحديث والمعاصر؟ بعد أن علم أنني التحقتُ بجامعة روسيَّة من كُبرَيات جامعات موسكو، وهي جامعة العلاقات الدَّولية التابعة لرئاسة جمهوريَّة روسيا الاتحادية، وقد سافرتُ إلى هناك لدراسة مشروع الأُطروحة مع الأستاذ المشرف، ووظَّفتُ زيارتي لموسكو في تعرُّف أحوال المسلمين في روسيا الاتحادية وما ينتظرُهم من مستقبل مشرق، وأعددتُّ دراسةً في ذلك الموضوع بعنوان: "المسلمون في روسيا النشأة والتاريخ"، وأهديتُ هذه الدِّراسة للشيخ الباني رحمه الله، ففرح بها جدًّا؛ لما حملته في طيَّاتها من أخبار كريمة عن تقدُّم حال المسلمين في روسيا في هذه الأيام.

وقد خصَّص الشيخُ معظم الجلسة للحديث عن المسلمين في تلك البلاد، حتى امتدَّ به الحديث إلى ذكر تولستوي الأديب الروسيِّ المعروف؛ إذ كان الشيخ في زيارة لإحدى المكتبات، فوجد فيها كتاب "من حِكَم النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم" وفيه يُثني تولستوي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

ثم انتقل للحديث عن رسائلَ متبادلة بين كلٍّ من الشيخَين محمد رشيد رضا ومحمد عبده وبين تولستوي، وفي زيارتي لمتحف تولستوي في روسيا رأيتُ هناك رسائلَ الشيخَين له، وأخبرت الشيخ بذلك فسُرَّ عظيمَ السرور، ثم أردف كلامه بالقول: إنني سأُهدي إليك كتابَ تولستوي فلا تشتره، وقد التزمت بوصيَّته رحمه الله، وفي الأسبوع التالي قصدتُّ مجلسه وإذا به يقدِّم لي الكتابَ هدية؛ كاتبًا إهداءه لي بخطِّ يده، فجزاه الله عنِّي خيرًا على عظيم جمائله وكرمه وبرِّه بطلابه وإخوانه.

وفي أحد مجالسه تناول بالحديث تاريخَ الملك فيصل بن الحسين وما نكبَ به الأمَّة، وأفادني بوجود مذكِّرات للشيخ صلاح الدِّين الزعيم لديه، وفيها خبرُ مواجهة الشيخ الزعيم للفيصل عندما خطبَ في الجامع الأمويِّ مُستهلاًّ كلمته بعبارة: (الدِّين لله، والوطن للشَّعب)، وأراد الشيخ عبدالرحمن من ذلك الإشادةَ بموقف العلماء من الحكَّام الطُّغاة، وخاصَّة في مثل هذا الموقف، الذي قصدَ به الفيصل (علمنةَ) بلاد الشام. واستشهاد الشيخ الباني بهذا الكتاب يدلُّ على ذاكرته القويَّة، وهذا الأمر ليس بالقليل؛ إذ إن الكتاب طُبع في سنة (1924م)، والحادثة بين الملك فيصل والشيخ الزعيم تعود إلى تاريخ سنة دخول فيصل دمشق سنة (1918م)، وقد لمس الشيخ عبدالرحمن ما لمسه الشيخ الزعيم من أن الفيصل بدعوته تلك، قد ضرب مِسمارًا في نعش وَحدة جغرافية بلاد الشام وإسلاميَّتها، مع العمل على توجيه البلاد إلى العلمانيَّة اللادينيَّة!

وقد شكرتُ الشيخ على إهدائه هذا الذي أتحفَني به، في معرفة مشاعر علماء الشام تجاهَ سياسة الفيصل التغريبيَّة، الذي ألبس المؤرِّخون شخصيَّته ثوبَ التحرير والنهضة العربيَّة، مع أنه كان السببَ المباشر في الحال الذي آلَ إليه واقعُ بلاد الشام؛ فقد اعترف لوايزمان في اتفاقيَّته معه بالحقِّ اليهوديِّ في فلسطين، وفي (مؤتمر فرساي) بباريس سنة (1919م) وافق على فصل فلسطينَ عن سوريا، موقِّعًا لهم على الحدود التي رسموها لها، ويومئذٍ قامت مظاهراتٌ فلسطينيَّة وسوريَّة ضدَّ عمليَّة الفصل هذه.

ويوم أن كان الشيخ عبدالرحمن في مصر، كان يزور الأستاذَ محبَّ الدين الخطيب (خال الشيخ علي الطنطاوي) الذي كان مُعاصرًا لأحداث الثورة، وأخبره أن الفيصل وأخاه الملك عبد الله بن الحسين قد التفُّوا على السوريين؛ باتصالهم المباشر بالإنكليز سنة (1915م)، وقد ورثَ الشيخ الباني عن الشيخ محب الدين بغضَه للفيصل، وقد ثبت للسوريين صدقُ ظنِّهم فيه، وذلك عندما ترك سوريا للفرنسيِّين، وقصد العراقَ ليصبحَ ملكًا عليه!

مجلس الشيخ والحديث فيه:

يُقام هذا المجلس في منزل الشيخ بعد صلاة الجمعة من كلِّ أسبوع طيلةَ العام، وغالبًا ما يكون الحديثُ فيه للشيخ، وهو الذي يختار الموضوعَ من كتاب كان قرأه ووجد فيه ما يُفيد مستمعيه من الحاضرين، وكان آخرُ كتاب يقرأ فيه: "رسائل الإمام حسن البنَّا" رحمه الله.

ويتسم درسُ الشيخ بالطَّرافة والكِياسَة؛ بسبب استطراداته الكثيرة في حديثه، فما إن ينتهي من استطراد حتى يقعَ في غيره، وعندما يريد العودةَ للموضوع الرئيس الذي كان يتحدَّث فيه يكون قد غاب عنه الموضعُ الذي توقَّف عنده، فكان يُنجده في العودة إلى الموضوع إما أخونا الدكتور عبد الله حجازي وإما أخونا الأستاذ أيمن ذوالغنى، ولكنَّه لا يلبث أن يستطردَ من جديد، ويخرجَ من استطراده إلى استطراد آخرَ أجمل من سابقه، وكثيرًا ما يستهلُّ الاستطرادَ بالاستئذان من الحاضرين - بأدب جمٍّ ولطف رقيق - في إسماعهم الاستطرادَ الذي يودُّ الحديثَ فيه. وغالبًا ما يتخلَّل حديثَه ابتساماتُه العذبة وطُرَفه الجميلة المحبَّبة، وذات يوم، وكان يتكلَّم على شيخه حسن البنَّا، استطرد إلى ذكر طُرفة عن تواضعه رحمه الله، ومن الحسَن أن أوردَها هنا، يخبرنا شيخُنا الباني: أن الشيخ البنَّا في كلِّ يوم خميس وفورَ انتهائه من عمله الوظيفيِّ في التدريس كان يقصدُ القطارَ للسفر إلى المدن والقرى خارجَ القاهرة، للدَّعوة إلى الله، ونظرًا لضيق ذات يده كان يركب دائمًا في الدَّرجة الثالثة ذات المقاعد غير المريحة، حيثُ يركب الفقراء من أهل مصر، فقال له إخوانه مشفقين عليه: لماذا تركب دائمًا في الدَّرجة الثالثة؟ فردَّ الشيخ على البديهة بقوله: لأنه لا يوجد درجة رابعة! أي أنه لو وجد درجة أقلَّ من الثالثة لركب فيها، وهو يصبر على التعب والمشقَّة؛ إذ غايته الدَّعوة إلى الله، والمهمُّ عنده الوصول إلى المكان المقصود دون مبالاة بالترفيه أو المظاهر! ولأجل رسالته هذه قدَّم حياته شهيدًا رحمه الله، وغفر لنا وله.

المكارم والفضائل المجتمعة في الشيخ:

ما أكثرَ الفضائلَ التي جُبلَ عليها الشيخ عبدالرحمن، فقد كان ظاهرةً فريدةً في زمانه الذي عاشه؛ بتحصيله العلميِّ وتنوُّع اطِّلاعه على الفنون والعلوم المختلفة؛ ومنها: علم التربية والاجتماع والسُّلوك وعلم الرجال، وهي علوم تستند في أصولها على الأُسُس الإسلاميَّة، فهو بذلك متبحِّر (موسوعي) بما تختزنه ذاكرتُه من ذخائرَ علميَّة، وهو بمكانته السامية هذه يعدُّ شخصيَّةً جذَّابةً آسرة؛ يجلبك إلى مجلسه، ويأسرك بحديثه.

وعندما يكون في مجلسٍ غير مجلسه غالبًا ما يُؤْثر الاستماع، ولا يتحدَّث إلا حين يرى ضرورةً للحديث، وقد لقيَ وجه ربِّه وهو يتمتَّع بذاكرة قوية واعية لم تتأثَّر بتقدُّمه في العمر؛ إذ كانت في خاتمة حياته كما كانت في مطلعها، فوافق حاله لقبَه فكان بانيًا بحقٍّ وصدق، وإن حياته السورية مثلُ حياته السعودية؛ في عطائه العلميِّ والتربويِّ، وكان مشاركًا فاعلاً في وضع الخُطَط والمناهج التعليميَّة والتربوية والتثقيفيَّة، مستبعدًا عن هذه المناهج أيَّ فكر وافد ينال من ثوابت الإسلام ويسيء إليها.

واتسم الشيخ بالتواضع العظيم و(البساطة) في الملبَس والمجلس والحديث، وبشاشةُ وجهه لا تُفارقه حين يلقى إخوانه، وإخلاصُه في عمله له شأنٌ آخر، فقد كان سببًا في سموِّ مكانته عند الكثيرين ممَّن عرفوه، وغَيرتُه على حرُمات الله جيَّاشة بالقوَّة والحماسة...

لقد كان - رحمه الله - شخصيَّةً ربَّانية انصهر فيها الدِّين والإيمان والصلاح والإيثار والإحسان والورَع والتقوى، فهذه الخصائصُ كلُّها إنما هي مزيجٌ فريد أسهمت في تكوين شخصيَّة شيخنا؛ فكان بذلك مدرِّسًا موهوبًا وداعيًا إلى الله جذَّابًا، سلسًا في حديثه، خفيفًا في ظلِّه، حسنَ التأتِّي في تعليقاته وفوائده، التي تختلط بشيء من المرَح والفُكاهة والنُّصح والتوجيه؛ سعيًا منه إلى غرسها في قلوب مستمعيه على هذا النحو من التقديم.

وفي الختام أقول: إن فضيلة الشيخ عبدالرحمن الباني - رحمه الله - عَدلٌ من عُدول الأمَّة، نحسبه كذلك ولا نزكِّيه، وهو من مَفاخر أمَّتنا الإسلاميَّة، وقد عزَّ عليَّ نعيي له، عادًّا ما كتبتُه فيه إنما هو أقلُّ واجب تجاه هذا العَلَم الفاضل، وجاء ذكري لهذه المآثر الكريمة التي يكتسيها؛ عزاء للنفس وتسليةً لها، وخاصَّة لما له في قلبي من منزلة، ولما له عليَّ من فضل، ولا يغيب هنا عن مؤاخاتي له طَوالَ خمسٍ وثلاثين سنةً مضت، عرفتُ فيها الشيخ داعيًا إلى الله ومجاهدًا في سبيله ومحبًّا لإخوانه، ولا أجد في نفسي إلا التوجُّهَ إلى الله بهذا الدُّعاء:

اللهم أكرم مثواه وطيِّب ثراه، واجعله في منزلة الشُّهداء والأتقياء الصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقًا، وعوَّضَ الله أمَّته خيرًا، وألهم أهله ومحبِّيه الصبر... اللهم آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

العلامة عبدالرحمن الباني وعلى يمينه: د. فهمي قطب النجَّار، وأ. عبدالكريم السمك

وعلى يساره: أحمد بن أيمن ذوالغنى

                

([1]) أنشأ الأستاذ الفاضل عبدالكريم السمك هذه الترجمة المسهَبة مشكورًا؛ استجابةً لطلبي؛ لتنشرَ قريبًا - بإذن الله - في كتابي عن شيخنا العلامة عبدالرحمن الباني عليه رحمات الله تعالى، هذا وأشير إلى أن التعليقات على المادَّة إنما هي بقلمي الضعيف. كتبه: أيمن بن أحمد ذوالغنى.  

([2]) كان شيخنا الباني يومئذ طالبًا في المرحلة الثانوية.  

([3]) كان شيخنا الباني يُطلق عليها: علم الوِراقة.

([4]) وهو من أساتذة شيخنا الباني في مصر.  

([5]) وقلَّما رأيت كتابًا في مكتبة الشيخ لم يدوِّن على صفحة غلافه الداخليِّ ترجمةً موجَزة لمؤلِّفه، سواء كان متقدِّمًا أو معاصرًا، أو إحالة على مصادر ترجمته.