حدث في الثلاثين من ذي القعدة

محمد زاهد أبوغدة

في الثلاثين من ذي القعدة من سنة 326 جرى بين المسلمين والروم البيزنطيين تبادل للأسرى يعبر عنه المؤرخون المسلمون بالفداء، واستمر بضعة أيام على نهر اللامس قرب طرسوس.

ويسمي المؤرخون هذا التبادل بفداء ابن ورقاء، وجرى وخليفةُ المسلمين الخليفةُ العباسي الراضي بالله، وحُكمُ بيزنطة يقوم به ملكان هما قسطنطين السابع وأبو زوجته رومانوس الأول ويسميه المؤرخون أرمانوس، وكان المسؤول عنه من الطرف المسلم الوزير الكاتب الأديب أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، المولود سنة 280والمتوفى سنة 327، فعهد بتولي الأمر إلى الأمير أبي ثعلب أحمد بن ورقاء الشيباني، وكان أديباً شاعراً من بيت إمارة وولاة الثغور والعواصم، وإليه نُسِب هذا الفداء.

وكان هذا الفداء بمبادرة من ملك الروم إلى الخليفة الراضي، فقد أرسل رسلاً إلى بغداد بكتاب يطلب منه المفاداة والهدنة، وكانت الكتابة بالرومية بالذهب، والترجمة بالعربية بالفضة، وفيه: ولما بلغنا ما رزقته أيها الأخ الشريف الجليل من وفور العقل وتمام الأدب واجتماع الفضائل أكثر ممن تقدمك من الخلفاء، حمدنا الله تعالى إذ جعل في كل أمة من يمتثل أمره، وقد وجهنا شيئاً من الألطاف وهي أقداح، وجرار من فضة وذهب، وجوهر وقضبان فضة، وسقور وثياب سقلاطون، ونسيج ومناديل وأشياء كثيرة فاخرة. فكتب الراضي إليهم الجواب بقبول الهدية، والإذن في الفداء، وهدنة سنة.

وكان عدد من فودي به من المسلمين في ستة عشر يوماً فوق 6300 من ذكر وأنثى، وبقي في أيدي الروم من المسلمين 800 رجل، ردوا وفودي بهم على نهر البدندون في مرار شتى، وزيد في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدة ستة أشهر، لأجل من بقي في أيدي الروم من المسلمين، حتى جُمِعَ أسارى من الروم يماثلونهم.

ونهر اللامس يقع غربي مدينة طرسوس، وكان يدعى زمن الروم بنهر لموس LEMOS، وسماه العرب نهر اللامس، واسمه اليوم Limonolu.

ومعلوم أن من نتائج الحروب وقوع أسرى من الأطراف المتحاربة، وأن كل طرف يسعى لتحرير أسراه، ولكن لم يصلنا خبر عن فداء منظم مشهور في غعد بني أمية، وإنما كان يفادي أنفار قلائل في سواحل الشام ومصر والإسكندرية، إلى أن جاءت الدولة العباسية فأصبحت عملية تبادل الأسرى عملية متكررة بين المسلمين والروم، وجرت في أيام الدولة العباسية مرات عديدة جمعها المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف تحت عنوان: ذكر الأفدية بين المسلمين والروم، وأورد اثنى عشر فداءً، وقد بنيت الموضوع حولها فيما يلي مع ما أمكن مع تصرف وتوسع  مفيد، وقد أضفت إليها أفدية لم يذكرها وأشرت إليها بنجمة*.

* فداء سنة 139: في هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم البيزنطيين، وكان الخليفة المنصور العباسي على المسلمين، وملك الروم قسطنطين الخامس، واستفدى المنصور من الروم أسرى قاليقلا - كيليكيا Cilicia - وغيرهم، وبنى ملطية وعمرها وردَّ إليها، وندب إليها جنداً من أهل الجزيرة وغيرهم، فأقاموا بها وحموها.

* فداء سنة 184: في هذه السنة أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد صالح بن بيهس الكلابي رسولاً إلى قصة ويقال: غصة ملكة الروم في الفداء. وكانت الملكة أيريني Irene هي الإمبراطورة.

الفداء الأول سنة 189: ويسمى فداء أبي سليم، وهو أول فداء جرى في أيام الدولة العباسية في خلافة الرشيد باللامس، والملك على الروم نقفور بن استبراق Nicephorus I، وكان هدفه استخلاص كل أسير كان بأرض الروم من ذكر وأنثى، وكان الإمبراطور قد نقض اتفاق الهدنة مع العباسيين فقام هارون الرشيد بحشد جيش هائل وهاجم الأراضي البيزنطية وهزم الإمبراطور البيزنطي هزيمة منكرة في سنة 187.

ومثَّل الخليفة هارون الرشيد في هذا الفداء ابنه القاسم ابن الرشيد، وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين من أعمال حلب، وباشر الفداء  أبو سليم فرج خادم الرشيد المتولي له بناء طرسوس في سنة 171، وسالم البرلسي البربري مولى بني العباس في ثلاثين ألفاً من المرتزقة، وحضره من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار وغيرهم نحو من خمسمائة ألف، وقيل أكثر من ذلك بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة، قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء.

وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي ومعهم أسارى المسلمين، وكان عدة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوماً 3700 أسير، وقيل أكثر من ذلك وأقل.

والمقام باللامس نحو من أربعين يوماً قبل الأيام التي وقع الفداء فيها وبعدها، وفي هذا الفداء يقول مروان بن أبي حفصة في كلمة له طويلة يمدح بها الرشيد:

وفُكَت بك الأسرى التي شُيِّدت لها ... محابسُ ما فيها حميمٌ يزورها

على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا سجون المشركين قبورها

وفي سنة 190 نقض نقفور اتفاقه مع الرشيد فعاد وهاجمه واحتل هرقلة حتى أذعن له الإمبراطور البيزنطي.

الفداء الثاني سنة 192: ويسمى فداء ثابت، في خلافة الرشيد أيضاً باللامس، والملك على الروم نقفور،  وكان القيم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي أمير الثغور الشامية، حضره مئات ألوف من الناس، وكان عدة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام  أكثر من 2500 من ذكر وأنثى.

الفداء الثالث سنة231: ويسمى فداء خاقان في خلافة الواثق باللامس، والملك على الروم ميخائيل بن توفيل Michael son of Theophilus وقام عليه من الطرف المسلم خاقان الخادم التركي وقد نشأ بالمنطقة، مع أحمد بن سلم بن قتيبة الباهلي الذي عينه الواثق من قريب أميراً على الثغور والعواصم، وعدة من فودي به من المسلمين في أريعة أيام 4064 من الرجال و 800 من النساء والصبيان، ودون 500 من أهل الذمة.

وقد تمَّ الفداء يمبادرة من الإمبراطور البيزنطي الذي أرسل إلى الواثق رسلاً يعرضون عليه الفداء، فأجابه الواثق إلى ذلك وأمر وزيره ابن الزيات بالتفاوض معهم، واختلف المتفاوضون لأن رسل الروم قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس، فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شراء من يباع من الرقيق من مماليك فاشترى من قدر عليه منهم فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن حتى تمت العدة، وأرسل الواثق رسولاً إلى الخادم إلى ميخائيل ملك الروم لينظر كم عدد الأسرى ويعلم صحة ما عزم عليه.

وكانت المفاداة عند نهر اللامس تشمل المسلمين وأهل الذمة: بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم، وتمت بأن نصب كل طرف جسراً على النهر فإذا أرسل الروم مسلما أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون، ثم يرسل المسلمون أسيرا من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضا. وكان المسلمون يدفعون لكل أسير مسلم جاءهم إليه دينارين وثوبين.

ثم بقي مع خاقان جماعة من الروم الاسارى فأطلقهم للروم حتى يكون له زياد ة عندهم مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين فآمنهم خاقان من ذلك وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلون إلى بلادهم ومأمنهم.

وتزامن هذا الفداء مع المحنة التي أرادت فيها الدولة أن تفرض على الناس عقيدة القول بخلق القرآن، وكان من المآسي التي صاحبت هذا الفداء أن أرسل الواثق يحيى بن آدم الكرخي ويكنى أبا رملة، وكانت مهمته أن يمتحن الأسارى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه، ومن أبى تُرِكَ بأرض الروم، فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وأبى أن يسلم الانقياد إلى ذلك، فنالته محن ومهانة إلى أن تخلص.

وفي هذا الفداء أُخرِجَ أهل زبطرة، وفيه خرج مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وكان ذا محل في الثغور ومعرفة بأهل الروم، وأرضها، وله مصنفات في أخبار الروم وملوكهم وذوي المراتب منهم، وبلادهم وطرقها ومسالكها، وأوقات الغزو إليها والغارات عليها، ومن جاورهم من الممالك من برجان والأبر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم، وخرج كذلك محمد بن عبد الله الطرسوسى وكان أسيرا في أيدى الروم ثلاثين سنة.

الفداء الرابع سنة 241: ويدعى فداء شنيف، وذلك في خلافة المتوكل، والملك على الروم ميخائيل بن توفيل، وكان القائم به شنيف الخادم مولى المتوكل، وحضر القاضي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القرشي، وعلي بن يحيى الأرمني أمير الثغور الشامية، فكان عدة من فودي به من المسلمين على اللامس في سبعة أيام 2200 رجل وامرأة، وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف فعوِّضوا مكانهم عدة علوج.

قال المؤرخون: أرسلت تدورة ملكة الروم - Theodora وهي وصية على ابنها ميخائيل Michael III - رسولاً يقال له جورجس يطلب مفاداة أسرى المسلمين ممن في أيدي الروم وادعت أنهم قاربوا 20000 أسير، فأرسل الخليفة المتوكل رجلا يقال له نصر بن الأزهر بن فرج ليعرف صحة من في أيدى الروم من أسارى المسلمين ليأمر بمفاداتهم وذلك في شعبان من سنة 241، فأقام عندهم حيناً اطلع على أحوال وأعداد الأسرى ثم عاد إلى بغداد، فقامت تدورة بعرض النصرانية على الأسرى المسلمين، فمن تنصر جعلته مثل غيره من المتنصرة، ومن أبى قتلته، حتى قتلت من أسرى المسلمين 12000 أسير.

وأنفذ المتوكل كتاباً إلى عمال الثغور الشامية والجزرية يخبرهم بترتيب المفاداة في شوال من ذلك العام، وسأل جورجس رسول الروم إجراء هدنة إلى موعد الفداء ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى انصرافهم إلى مأمنهم.

وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور ومعه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانا، وخرج شنيف الخادم معه مائة فارس ثلاثون من الأتراك وثلاثون من المغاربة وأربعون من فرسان الشاكرية، وخرج من المسلمين كذلك عددٌ من أهل بغداد على رأسهم جعفر بن عبد الواحد وهو قاضى القضاة، وأمر له المتوكل بمئة وخمسين ألفا معونة وأرزاق ستين ألفا، فكان أسرى المسلمين من الرجال 735 رجلاً، ومن النساء 125 امرأة.

الفداء الخامس سنة 246: ويدعى فداء نصر بن الأزهر وعلي بن يحيى، وذلك في خلافة المتوكل أيضاً، والملك على الروم ميخائيل بن توفيل أيضاً، وكان القائم به علي بن يحيى الأرمني أمير الثغور الشامية ونصر بن الأزهر الطائي، وكان هو رسول المتوكل إلى الملك ميخائيل في أمر هذا الفداء، وعدة من فودي به من المسلمين على اللامس في سبعة أيام 2367 من ذكر وأنثى.

وجرى هذا الفداء كذلك بمبادرة من الإمبراطور ميخائيل الذي كان يواجه تمرداً داخلياً فأراد أن يستميل المسلمين، فأرسل إلى المتوكل في سنة 245 رسولاً شيخا يدعى أطروبيليس معه 77 رجلاً من أسرى المسلمين أطلقهم إكراماً للخليفة، وبعث يسأل المفاداة بمن عنده، فأنزله المتوكل ضيفاً على شنيف الخادم ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر مع الرسول إلى القسطنطينية ليتأكد من صحة الأعداد، فأقام أربعة أشهر ثم عاد بالاتفاق. قال نصر بن الأزهر: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي فجرت بينى وبين خال الملك بطرناس المناظرة وهو القيم بشأن الملك وأبوا أن يدخلونى بسيفي وسوادى، فقلت أنصرف، فانصرفت، فرُدِدُّت من الطريق ومعى الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثياب حرير وزعفران كثير وطرائف، وكان الملك قد أذِنَ قبلي لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحملتُ الهدايا التي معي، فدخلت عليه فإذا هو على سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على مجلس قد هيئ لى في طرف السرير الكبير، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهرى، وترجمان له قديم يقال له سرحون، فقالوا لى: ما نبلِّغه؟ قلت: لا تزيدون على ما أقول لكم شيئا. فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا، ولم يأمر لأحد منها بشئ، وقربني وأكرمني وهيأ لى منزلا بقربه، فخرجت فنزلت في منزلي.

وأتاه في هذه الأثناء من أهل قلعة لؤلؤة قرب طرسوس رُسُلٌ يخبرونه برغبتهم في النصرانية وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها من المسلمين رهينة، فتغافل عنى نحواً من أربعة أشهر، حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها، فراجعوا مخاطبتي وجرى الاتفاق بينى وبينهم في الفداء على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي وكانوا أكثر من ألف قليلا، وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين، منهم عشرون امرأة معهن عشرة من الصبيان.

وطلبت منهم أن يحلفوا على الاتفاق، فأجابوني إلى المحالفة فاستخلفت خاله فحلف عن ميخائيل فقلت: أيها الملك، قد حلف لى خالك، فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه نعم، ولم أسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه نعم أو لا وليس يتكلم، وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر، وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلا.

وكان قوم تنصروا فقال لهم ملك الروم لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء، وإلا فليُضَمَّن ويمض مع أصحابه. وأكثر من تنصر أهلُ المغرب، وأكثر من تنصر كان بالقسطنطينية وكان هنالك صائغان قد تنصرا فكانا يحسنان إلى الاسرى فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر خمسة منهم من صقلية أعطيتُ فداءهم على أن يوجه بهم إلى صقلية، ورجلين كانا من رهائن لؤلؤة فتركتُهما قلت اقتلوهما فإنهما رغبا في النصرانية.

فداء سنة 253: لم يدخله المسعودي في التعداد وكنه ذكره فقال: وقد ذكر بعض من لحقنا أيامه من مصنفي الكتب في الكوائن والأحداث والسير والتواريخ أن فداءً كان في أيام المعتز، والملك على الروم بسيل Basil I على يد شفيع الخادم في سنة 253.

الفداء السادس سنة 283: ويدعى فداء ابن طغان،  وجرى في خلافة المعتضد، والملك على الروم أليون بن بسيل Leo VI، وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وأنطاكية من قبل أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر وأجناد الشأم وديار مضر وغيرها، وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت في أيام أبي الجيش في سنة 282، فقُتِلَ أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة، وتم الفداء في أيام ولده جيش ابن خماروية فكان عدة من فودي به من المسلمين على اللامس في عشرة أيام 2495 من ذكر وأنثى.

وجرى هذا الفداء بمشهد من عامة المسلمين، فقد نادى أحمد بن طغان في الناس لحضور الفداء، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة وركب من مسجد الجامع وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زى، وأطلق المسلمون سميون رسول ملك الروم وأطلق الروم يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء وانصرف الأمير ومن معه

وكان الصقالبة - الشعوب السلافية - قد حصروا القسطنطينية، وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وخربوا البلاد، فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين، وأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا وكشفوا الصقالبة وأزاحوهم عن القسطنطينية، ولما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه، فردهم، وأخذ السلاح منهم، وفرقهم في البلاد حذراً منهم.

الفداء السابع سنة 292: ويدعى فداء رستم ويعرف بفداء الغدر، وتم في خلافة المكتفي، والملك على الروم أليون بن بسيل أيضاً، والقائم  عليه رستم الفَرَغاني أمير الثغور الشامية، وكان عدة من فودي به من المسلمين على اللامس في أربعة أيام 1155 من ذكر وأنثى، ثم غدر الروم وانصرفوا ببقية الأسارى، ورجع المسلمون بمن بقى معهم من أسارى الروم.

وكان رستم الفرغاني- نسبة إلى فرغانة في تركستان -  قائداً جليلاً، من كبار القواد في أيام المكتفي، ولي طرسوس والثغور الشامية سنة 292، فكانت له نكاية وغناء في حرب الروم.

الفداء الثامن سنة 295: ويدعى فداء رستم أيضاً ويعرف بفداء التمام، وتمَّ في خلافة المكتفي أيضاً، والملك على الروم أليون أيضاً، والقائم به رستم بن بردو، وكان عدة من فودي به من المسلمين على اللامس 2842 من ذكر وأنثى.

وسبق هذا الفداء في سنة 294 أن عزل الإمبراطور أميره على المناطق الحدودية، وتسميه المصادر الإسلامية البطريق أندرونقس، فقرر التمرد على الإمبراطور، وأرسل البطريق المعزول إلى المكتفي بالله يطلب منه تأييده وإمداده، فأعطاه المكتفي ما طلب، فخرج ومعه مئتا أسير من المسلمين كانوا في حصنه أعطاهم السلاح وخرجوا معه، وكان ملك الروم قد أرسل قوة للقبض عليه، فكمنوا لها ليلا وقتلوا منها خلقاً كثيرا وغنموا ما في عسكرهم، وأرسل الإمبراطور قوات لتحاصر أندرونقس في حصنه وتقضي على تمرده، فسارت قوة من المسلمين فهاجمت الروم حتى بلغت قونية، فبلغ الخبر إلى الروم، فانصرفوا عن أندرونقس، وسار جماعة من ذلك العسكر إلى أندرونقس، وهو بحصنه، فخرج ومعه أهله إليهم، وسار معهم إلى بغداد.

وعلى إثر ذلك أراد الإمبراطور استمالة المكتفي فأرسل وفداً إلى بغداد فيه خال أليون وباسيل الخادم ومعهم جماعة بكتاب إلى المكتفى يسأله الفداء بمن في بلاده من المسلمين من في بلاد الإسلام من الروم، وأن يوجه المكتفى رسولا إلى بلاد الروم ليجمع الأسرى من المسلمين الذين في بلاده، وليجتمع هو معه على أمر يتفقان عليه، ويتخلف بسيل الخادم بطرسوس ليجتمع إليه الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان إلى موضع الفداء، فأقام الرسل خارج بغداد بباب الشماسية أياما، ثم أُدخلوا بغداد ومعهم هدية من صاحب الروم عشرة من أسارى المسلمين فقبلت منهم وأجيب صاحب الروم إلى ما سأل.

الفداء التاسع سنة 305: ويدعى فداء مؤنس، وتمَّ في خلافة المقتدر، والملكان على الروم قسطنطين بن أليون ملكهم في وقتنا هذا وأرمانوس، وقسطنطين يومئذ صغير في حجره، Constantine VII Porphyrogenitus و Romanus I Lecapenus.

وكان القائم به مؤنس الخادم وبشرى الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وأنطاكية، والمتوسط له والمعاون عليه أبو عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي التميمي الأَذَني، وعدة من فودي به من المسلمين على اللامس في ثمانية أيام 3336 من ذكر وأنثى، وأنفق المقتدر على الفداء 12000 دينار.

وكان الفداء بمبادرة من الإمبراطور البيزنطي الذي أرسل في بداية السنة رسولاً إلى بغداد، يبدو أنه كان من العائلة المالكة فقد كان شاباً حدث السن، ومعه شيخ  مجرب، وجرى للرسول استقبال مهيب في بغداد أراد منه الخليفة إظهار عظمة الدولة وثروتها، قال المؤرخون:

أمر الخليفة الجيش والناس بالاحتفال بذلك ليشاهد الرسول ما فيه إرهاب الاعداء، فركب الجيش بكماله وكان 160000 ما بين فارس وراجل، غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها، فركبوا في الأسلحة والعدد التامة، وغلمان الخليفة سبعة آلاف، أربعة آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، وهم في غاية الملابس والعدد والحلي، والحَجبة يومئذ سبعمائة حاجب، وأما الطيارات- الزوارق السريعة- التي بدجلة والزبازب والسُمريات فشئ كثير مزينة، فحين دخل الرسول دار الخلافة انبهر وشاهد أمرا أدهشه، ورأى من الحشمة والزينة والحرمة ما يبهر الأبصار، وحين اجتاز بالحاجب ظن أنه الخليفة فقيل له: هذا الحاجب، فمر بالوزير في أبهته فظنه الخليفة فقيل له: هذا الوزير.

وقد زينت دار الخلافة بزينة لم يسمع بمثلها، كان فيها من الستور يومئذ 38000، منها 10500ستر مذهبة، وقد بسط فيها 22000 بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تأكل من أيديهم ومئة سبع من السباع، ثم أدخل إلى دار الشجرة، وهي عبارة عن بركة فيها ماء صاف وفي وسط ذلك الماء شجرة من ذهب وفضة لها ثمانية عشر غصنا أكثرها من ذهب، وفي الاغصان الشماريخ والاوراق الملونة من الذهب والفضة والآلي واليواقيت، وهي تصوت بأنواع الاصوات من الماء المسلط عليها، والشجرة بكمالها تتمايل كما تتمايل الاشجار بحركات عجيبة تدهش من يراها، ثم أدخل إلى مكان يسمونه الفردوس، فيه من أنواع المفارش والآلات ما لا يحد ولا يوصف كثرة وحسنا، وفي دهاليزه 18000 جوشن مذهبة.

فما زال كلما مر على مكان أدهشه وأخذ ببصره، حتى انتهى إلى المكان الذي فيه الخليفة المقتدر بالله، وهو جالس على سرير من آبنوس، قد فرش بالديبقى المطرز بالذهب، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول الذين معه بين يدي الخليفة على نحو من مئة ذراع، والوزير علي بن محمد بن الفرات واقف بين يدي الخليفة، والترجمان دون الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما، فلما فرغ منهما خلع عليهما وأطلق لهما خمسين سقرقا في كل سقرق خمسة آلاف درهم، وأخرجا من بين يديه وطيف بهما في بقية دار الخلافة، وعلى حافات دجلة الفيلة والزرافات والسباع والفهود وغير ذلك، ودجلة داخلة في دار الخلافة.

الفداء العاشر سنة 313: ويدعى فداء مفلح، وتم في خلافة المقتدر أيضاً، والملكان على الروم قسطنطين وأرمانوس، وكان القائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري وبشرى خليفة ثمل الخادم الدّلفى على الثغور الشامية، وعدة من فودي به من المسلمين على اللامس في تسعة عشر يوماً 3983 من ذكر وأنثى.

الفداء الحادي عشر سنة 326: فداء ابن ورقاء في خلافة الراضي باللامس في 30 من ذي القعدة وأيام من ذي الحجة سنة 326، وقد تحدثنا عنه في البداية.

الفداء الثاني عشر سنة 335: ويدعى فداء ابن حمدان، وجرى في خلافة المطيع لله، والملك على الروم قسطنطينConstantine VII Porphyrogenitus، وكان القائم به نصر الثملي أمير الثغور الشامية من قبل سيف الدولة الحمداني أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان صاحب جند حمص وجند قنسرين وديار مضر وديار بكر والثغور الشامية والجَزرية وكان عدة من فودي به من المسلمين 2482 من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضاً 230 أسيراً لكثرة من كان في أيديهم، فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم.

قال المسعودي: وكان الذي شرع في هذا الفداء وابتدأ به الإخشيد محمد بن طغج أمير مصر والشام والثغور الشامية، وكان أبو عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي الأَذَني شيخُ الثغر والمنظور إليه منهم قدم إليه إلى دمشق في ذي الحجة سنة 334 ونحن يومئذ بها ومعه يوانس الأنسيبطوس البطريقوس المسدقوس المترهب، رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء، وكان ذا رأي وفهم بأخبار ملوك اليونانيين والروم، ومن كان في أعصارهم من الفلاسفة، وقد أشرف على شيء من آرائهم، والإخشيد حينئذ شديد العلة فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة من هذه السنة، وسار أبو المسك كافور الإخشيدي بالجيش راجعاً إلى مصر، وحمل معه أبا عمير والمسدقوس إلى بلاد فلسطين، فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال هذا الفداء، وصارا إلى مدينة صور فركبا في البحر إلى طرسوس فإلى ما وصلا إليها كاتَبَ بشرى الثملي أميرُ الثغور الشامية سيف الدولة الحمداني وأعلن ولاءه له ودعا له على منابر الثغور الشامية، فجد في إتمام هذا الفداء فعُرِف به ونسب إليه.

وقد أورد القلقشندي رحمه الله في صبح الأعشى نص رسالة الأخشيد إلى الإمبراطور البيزنطي بصدد هذا الفداء، فقال:

كما كتب الإخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية وما معها من البلاد الشامية، والأعمال الحجازية، إلى أرمانوس ملك الروم، وقد أرسل أرمانوس إليه كتاباً يذكر من جملته بأنه كاتَبَه وإن لم تكن عادته أن يكاتب إلا الخليفة، فأمر الإخشيد بكتابة جواب فكتب له الكُتَّاب عدة أجوبة ورفعوا نسخها إليه، فلم يرتض منها إلا ما كتبه إبراهيم بن عبد الله النجيرمي وكان عالماً بوجوه الكتابة. ونسخته على ما ذكره ابن سعيد في كتابه المُغرِب في أخبار المغرب:

من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين، إلى أرمانوس عظيم الروم ومن يليه.

سلام بقدر ما أنتم له مستحقون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحاً بذكر فضيلة الرحمة، وما نمي عنا إليك، وصح من شيمنا فيها لديك؛ وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من الفداء والتوصل إلى تخليص الإسرى، إلى غير ذلك مما اشتمل عليه وتفهمناه.

وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنا نرغب إلى الله جل وعلا الذي تفرد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفقنا لها، ويجعلنا من أهلها، وييسرنا للاجتهاد فيها ... حتى نكون أهلاً لما وصفتنا به، وأحق حقاً بما دعوتنا إليه، وممن يستحق الزلفى من الله تعالى، فإنا فقراء إلى رحمته...

وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم، وأنه الملك القديم الموهوب من الله، الباقي على الدهر، وإنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقاً وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك أن يعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيباً، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرض مهجته، فيما ينفع رعيته؛ والذي تجشمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته فهو أمر سهل يسير، لأمر عظيم خطير؛ وجل نفعه وصلاحه وعائدته تخصكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منا في أيديكم فهو على بينة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله؛ وإن في الأسارى من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه، وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه؛ هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم سياستكم، والتوصل إلى استنقاذ أسراكم...

... ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك، وما يتصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين، وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدمك من سلفك؛ ومن كان محموداً في أمره، رغب في محبته، لأن الخير أهل أن يحب حيث كان، فإن كنت إنما تؤهل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته، وعظمت دولته، وحسنت سيرته؛فهذه ممالك عظيمة، واسعة جمة، وهي أجل الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسر الأرض المخصوصة بالشرف، فإن الله قد جمع لنا الشرف كله، والولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمينن أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى ما لنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا، والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي فيما يرضيه بلطفه، ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه.

ونحن نحمد الله كثيراً أولاً وآخراً على نعمه التي يفوت عندنا عددها عد العادين، ونشر الناشرين. ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددنا من ذلك حالات: أولها التحدث بنعمة الله علينا؛ ثم الجواب عما تضمنه كتابك من ذكر المحل والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه المسالك، وعندنا قوة تامة على المكافأة على جميل فعلك بالأسارى، وشكر واف لما توليهم وتتوخاه من مسرتهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيق للسداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنه ورحمته.

ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا، وإحسانه إلينا بشرف الولاية، ثم بحسن العاقبة بما وفر علينا فخره وعلاه، ومجده وإحسانه إن شاء الله، وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال المسعودي بعد الفداء الثاني عشر: وهذا آخر فداء كان بين المسلمين والروم إلى وقتنا المؤرخ به كتابنا، وقد ذُكِرت أفدية غير هذه لم نجد لها حقيقة؛ لا اشتهر أمرها، ولا استفاض خبرها منها فداء كان في أيام المهدي على يد المعروف بالنقاش الأنطاكي، ومنها فداء كان في أيام الرشيد في شوال سنة 181 على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية، وفداء كان على يد ثابت بن نصر في أيام الأمين في ذي القعدة سنة 194، وفداء كان في أيام المأمون في ذي القعدة سنة 201 على يد ثابت أيضاً، وفداء كان في أيام المتوكل سنة 247 على يد محمد بن علي، وفداء كان في أيام المعتمد في شهر رمضان سنة 258 على يد شفيع ومحمد بن علي، والصحيح منها والمعول عليه هو ما رسمناه دون ما عداه، وقد ذكرنا في كتاب فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف وفي كتاب الاستذكار، لما جرى في سالف الأعصار شرح هذه الأفدية ومن حضرها وكيفية وقوعها ومن ترسل فيها وتوسطها بين المسلمين والروم وشروطها ومقادير النفقات فيها وهدنها وما كان بين المسلمين والروم من المغازي في البر والبحر من الصوائف والشواتي والربيعيات وما جرى بين الروم وبرجان والبرغر والترك وغيرهم من الوقائع المشهورة والحروب المذكورة، وغير ذلك.

توفي المسعودي سنة 346، ولذا لم يذكر فداء تم في سنة 355 بين سيف الدولة الحمداني وبين الروم البيزنطيين، وهو فداء خلّده أبو فراس الحمداني إذ كان أحد من افتداهم سيف الدولة في المبادلة التي تمت قبل وفاته.

وكان سيف الدولة بن حمدان منذ أن استولى على حلب في سنة 333 يغزو الروم ويغزوه، وكانت أول هزيمة له في سنة 237 عندما توغل في بلاد الروم فقاتلوه وهزموه، ونزل الروم على مرعش فأخذوها وأوقعوا بأهل طرسوس، ثم دخل سنة 238 وتوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة وغنم وسبا، ولما عاد أخذت الروم عليه المضايق وأثخنوا في المسلمين قتلا وأسرا واستردوا ما غنموه، ونجا سيف الدولة في عدد قليل، ثم ملك الروم سنة 241 مدينة سروج واستباحوها، ثم دخل سيف الدولة سنة 243 إلى بلاد الروم فأثخن فيها وغنم وقتل قسطنطين بن الدمستق فيمن قتل، فجمع الدمستق عساكر الروم والروس والبلغار وقصد الثغور، فسار إليه سيف الدولة بن حمدان والتقوا عند الحدث فانهزم الروم واستباحهم المسلمون قتلا وأسرا، وأسر صهر الدمستق وبعض أسباطه وكثير من بطارقته، ورجع سيف الدولة بالظفر والغنيمة.

ثم غزا الروم طرسوس والرها وعاثوا في نواحيها سبيا وأسرا ورجعوا، ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة 246 وأثخن فيها وفتح عدة حصون وامتلات أيدى عسكره من الغنائم والسبي، وانتهى إلى خرشنة، ورجع وقد أخذت الروم عليه المضايق، فقال له أهل طرسوس ارجع معنا فان الدروب التى دخلت منها قد ملكها الروم عليك، فلم يرجع إليهم، وكان معجبا برأيه، فظهر الروم عليه في الدرب واستردوا ما أخذوا منهم ونجا في فل قليل يناهزون الثلثمئة.

وفي سنة 351 شن الدمستق حملة استهدفت الاستيلاء على حلب، ولم يتمكن سيف الدولة من حشد القوات الكافية لصد هذا الهجوم، فانهزم سيف الدولة واستولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال والسلاح، وحاصر المدينة وأحسن أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل الجوشن، ثم انطلقت أيدى الدعار بالبلد على النهب وقاتلهم الناس على متاعهم وخربت الأسوار من الحامية فجاء الروم ودخلوها عليهم وبادر الأسرى الذين كانوا في حلب وأثخنوا في الناس وسُبيَ من البلد بضعة عشر ألفا ما بين صبى وصبية، ولجأ المسلمون إلى قلعة البلد فامتنعوا بها، وتقدم ابن أخت الدمستق إلى القلعة يحاصرها فرماه حجر منجنيق فمات، وقتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومئتين وارتحل الدمستق عنهم، على أنه يعود عن قريب، وفى هذه المعارك أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان وكان أمير سيف الدولة على منبج.

وخاب ظن الدمستق، فقد كان سيف الدولة مقاتلاً لا يمل الحروب ولا تفت في عضده النكسات، فجعل من ميافارقين عاصمة له، وقاتل رغم مرضه حتى استرجع حلب وما حولها في سنة 354، وعمر ما خرب منها، وجدّد عمارة المسجد الجامع، وإن بقي الروم يشنون الحملات الناجحة على مدن الثغور مثل المصيصة وطرسوس.

ثم سار سيف الدولة إلى ديار بكر بالبطارقة الذين كانوا في أسره ليفادي بهم، وأرسل أبو القاسم الحسين بن علي المغربي لتقرير ذلك ومعه هديّة بعشرة آلاف دينار منها ثلاثمائة مثقال مسك، فخلّص من الأسر من بين أمير إلى راجل 3270 نفساً، منهم أبو فراس ابن عمه وجماعة من أهله، وغلامه رقطاش ومن كان بقي شيوخ الحمصيين و الحلبيين، ولما لم يبق معه من أسرى الروم اشترى بقية المسلمين من العدو، كل رجل باثنين وسبعين ديناراً، حتى نفذ ما كان معه من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم فرسه الجوهر المعدومة المثل، وكاتبه أبا القاسم الحسين بن علي المغربي، وبقي في أيدي الروم إلى أن مات سيف الدولة،فحمل ابنه أبو المعالي بقية المال وخلَّص ابن المغربي.