الشيخ صالح مصطفى عشماوي

في ذكرى وفاة رائد الصحافة الإسلامية

بدر محمد بدر

[email protected]

تمر في هذه الأيام ذكرى وفاة رائد من رواد الصحافة الإسلامية, وعلم من أعلامها الأفذاذ, إنه الشيخ صالح مصطفى عشماوي صاحب ورئيس تحرير مجلة الدعوة الإسلامية, وأحد الرموز التاريخية في دعوة الإخوان المسلمين, وإليه يرجع الفضل في نشأة وتطوير وانتشار الصحافة الإسلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى وفاته في الثاني عشر من ديسمبر عام 1983, رحمه الله رحمة واسعة, وتقبل منه جهاده وصبره وعوض الأمة فيه خيرا.

ولد صالح عشماوي في مدينة القاهرة في عام 1911م, وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة, والتحق بكلية التجارة جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن), وتخرج فيها عام 1932م وكان ترتيبه الأول على مستوى مصر, وقبل أن يتخرج تعرف على دعوة الإخوان المسلمين في عام 1931, ونهل من الثقافة الإسلامية وتربى في مدرسة الإخوان, وترك العمل في بنك مصر بعد أن اقتنع أنه يتعامل بالربا, وكتب في مجلات الإخوان وصحفهم, واختير وكيلاً للجماعة في عام 36, ثم رئيساً لتحرير مجلة النذير في عام 1937, ثم مجلة "الإخوان المسلمون" الإسبوعية في عام 43, وجريدة "الإخوان المسلمون" اليومية في عام 46, ثم المباحث القضائية في عام 1950, وحصل على ترخيص مجلة الدعوة في عام 1951 ورأس تحريرها أيضاً.

فترة الأزمة

تولى الشيخ صالح مسئولية القيادة في أعقاب استشهاد حسن البنا المرشد العام في فبراير 1949, بصفته وكيلاً للإخوان المسلمين, وكانت الأزمة مع السلطة في أوج ذروتها بسبب حل الجماعة في ديسمبر 48 واستشهاد المؤسس واعتقال عدد كبير من رموزها ومسئوليها, والإعلان عن قضية السيارة الجيب, التي اتهم فيها الإخوان باستخدام العنف. وكذلك وجود متطوعي الإخوان في ميدان القتال في فلسطين, ورغم ذلك استطاع الشيخ صالح بحكمته وصبره وبصيرته أن يمسك بالزمام وأن يقود المسيرة, حتى تم اختيار المستشار حسن الهضيبي مرشداً عاماً للجماعة في عام 1951.

اختلف الشيخ صالح مع بعض قيادات الجماعة في أعقاب حركة يوليو 52, حيث كان يرى ضرورة التعاون مع هؤلاء الضباط, دون أن يتبين أهدافهم الحقيقية, لكنه ـ رحمه الله ـ حافظ على مبادئه وأخلاقه وحبه لدينه ولدعوته, واستمر يصدر مجلة الدعوة بشكل رمزي حتى لايسقط ترخيصها, طوال الخمسينيات والستينيات وحتى منتصف السبعينيات, وعندما تحسنت الأجواء السياسية قليلاً في عهد الرئيس السادات, ذهب الشيخ صالح إلى الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان وقدم إليه مجلة الدعوة, التي صدرت بشكل جماهيري مرة أخرى في يوليو عام 1976, واستمرت في الصدور حتى ضاق بها الرئيس السادات ذرعاً, فأصدر قانون الصحافة في عام 1979, ووضع فيه بنداً خاصاً بالشيخ صالح عشماوي والشيخ أحمد عيسى عاشور صاحب مجلة الاعتصام, وينص على أن ترخيص الصحيفة أو المجلة ينتهي بوفاة صاحب الترخيص ولا ينقل إلى غيره مطلقاً, واستمرت "الدعوة" في الصدور حتى جاءت أحداث سبتمبر 1981م, وجرى اعتقال أكثر من 1500 شخص من قيادات العمل الإسلامي والمعارضة بكافة أطيافها, مع إغلاق مجلات الدعوة والاعتصام ووطني وغيرها.

إغلاق الدعوة

وأذكر عندما كنت عضواً في مجلس تحرير "الدعوة" عقب تخرجي في الجامعة مباشرة, أن استشعر رئيس التحرير الشيخ صالح عشماوي الأجواء المتوترة المقبلة قبيل اعتقالات سبتمبر, فقال لنا إنه ربما تغلق مجلة الدعوة بهدف منع الإخوان من أن يقولوا قولة حق, فإذا أغلقت مجلة الدعوة فكل منا هو مجلة دعوة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

كان رحمه الله بسيطاً في حياته, زاهداً في الدنيا, شديد التواضع, رقيق الجانب, خفيض الصوت, لين المعشر, دائم الابتسام, وفي نفس الوقت قوي الحجة, ثابت الجنان, صابر القلب, شامخ الصمود, يكتب المقالات النارية, ويخوض المعارك الفكرية, ويصول ويجول بأدب المسلم, وصدق الداعية, وإخلاص المحب, وشموخ صاحب الحق, وظل يكتب منافحاً عن الشريعة, حتى وفاته.

كان الزميل والصديق محمد عبد القدوس, يجد متعته في مشاغبته ومحاورته حول الكثير من قضايا الفكر, وخصوصاً في موضوع أيهما أفضل: الشورى أم الديمقراطية ؟!.. كان الأستاذ محمد عبد القدوس مقتنعاً بشدة بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لمواجهة الاستبداد, بينما كان الشيخ صالح يؤكد أن الشورى تحمل مزايا الديمقراطية, وفي نفس الوقت تتخلص من عيوبها, لأنها أمر إلهي (وشاورهم في الأمر).

كان الشيخ صالح يقول لي, هل تعلم أن الإخوان المسلمين بذلوا جهداً كبيراً على مدى عشرات السنين في ترسيخ مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية, وصلاحيتها لكل زمان ومكان, وكانوا يلاقون الكثير من المصاعب والمتاعب, حتى من الله على الأمة, وأصبح موضوع الشريعة الإسلامية وتطبيقها, ليس فقط مقبولاً, بل أصبح مطلباً للكافة, حتى أظهر استفتاء أجرى في أواخر عهد الرئيس السادات (عام 1980), أن أكثر من 96% من الشعب المصري يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية, وهذه النسبة تكشف عن المجهود الذي بذله الإخوان لترسيخ هذه القضية.

قلت له: لماذا لا تكتب مذكراتك يافضيلة الشيخ, وأنت صاحب الكثير من المواقف وتعرف الكثير من الأسرار, طوال حياتك ؟. فكان يبتسم ابتسامة المتواضع, ويربت على كتفي في حنان الأستاذ والمربي والأب ويقول: نسأل الله السلامة والقبول.

وفاتـــه

وعندما داهمه المرض في أوائل ديسمبر 1983, نقلته أسرته إلى مستشفى المبرة بمصر القديمة, وهى مستشفى شعبية متواضعة ضعيفة الإمكانيات, وزاره الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام وكنت برفقته, فتأثر الرجل تأثراً شديداً بزيارة المرشد, ورآها فضلاً وكرماً وتقديراً كبيراً, وطلب المرشد العام أن يتم نقله إلى أفضل مكان في المستشفي لحين تدبير مكان أفضل في مستشفى أخرى, لكن رحمة الله أدركت الشيخ صالح عشماوي يوم الإثنين الموافق 12 من ديسمبر 1983, ليلقى ربه مطمئن النفس, مستريح الضمير, رحمه الله رحمة واسعة, وأجزل له العطاء, وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.