أحمد شلبي.... المؤرخ الموسوعي

أبو الحسن الجمّال

أبو الحسن الجمّال

 يعد الأستاذ الدكتور أحمد شلبي من أعظم مؤرخي مصر في القرن العشرين، لما له من أياد بيضاء فى هذا المجال، أثرى المكتبة العربية بالمؤلفات القيمة، التي استفاد منها الخاصة والعامة على السواء ، منها ما هو موسوعي، ومنها كتب مبسطة للشباب والتي وائمت كل الأذواق الثقافية، من أشهر مؤلفاته على الإطلاق موسوعته الشهيرة في التاريخ الإسلامي في عشرة مجلدات كبيره، تناولت كل العصور الإسلامية منذ بزوغ شمس الإسلام وحتى وقتنا الحاضر، تميزت بكثرة مصادرها القوية الشرقية، والغربية، القيمة والحديثة واستكمل المسيرة بموسوعة أخرى عن الحضارة الإسلامية في عشرة مجلدات أخرى، ثم استكمل مشروعه الموسوعي فكتب موسوعة الأديان في أربعة مجلدات، والمكتبة الإسلامية لكل الأعمار في مائة جزء، بالإضافة إلى المؤلفات الأخرى التي طوّفت بكل مجال من مجالات الفكر الإسلامي.

 ولد الدكتور أحمد جاب الله شلبي بقرية (عليم) مركز أبى حماد بالشرقية عام 1915م، التحق بكتاب القرية، وحفظ القران الكريم، وأتقن تجويده، ثم التحق بالأزهر الشريف في معهد الزقازيق الدينى، يزامل فيه كوكبة صاروا نجوما فيما بعد منهم محمد متولي الشعراوى، واحمد هيكل، ومحمد عبد المنعم خفاجي، ومحمد فهمي عبد اللطيف، وتعلم العلوم الدينية وقسطا من العلوم المدنية كـ:الجبر، والكيمياء، والطبيعة، والجغرافيا.

التحق بكلية دار العلوم التي تمنى التعلم بها بعدما قرأ قول الإمام محمد عبده فيها: (تموت اللغة العربية في كل مكان، وتحيا في دار العلوم)، تعلم فيها علوم العربية، والأدب، والنقد، والتاريخ الإسلامي، واللغات الشرقية، أتقن هذه العلوم، وتخرج من الكلية عام 1943م بامتياز وكان الأول على أقرانه..

 ذهب في بعثة لإنجلترا في (جامعة كامبردج) ليتخصص في التاريخ الإسلامي، والدراسات الإسلامية وعرف اتجاهات المستشرقين حول التاريخ الإسلامي وفلسفة التاريخ، وحصل على الدكتوراه بإشراف المستشرق الإنجليزي الكبير "آرثر أربرى"، وتعلم منهم ما هم مفيد ولم ينجر إلى أفكارهم الخبيثة المنسة فى ثنايا كتبهم وهم الذين تعود منهم قطاع عريض على دس السم فى العسل فى دراساتهم حول التاريخ والعلوم الإسلامية الأخرى .. باختصار استفاد منهم المنهج والصبر فى التعامل مع الحدث التاريخى والتنوع فى استخدام المصادر والوثائق وكيفية التعامل معها ليصل إلى رأى علمى سديد ..

عاد من البعثة وعين مدرسا للتاريخ الإسلامي بدار العلوم 1951م، وعندما قامت الثورة فى يوليو عام1952م أخذ موقفا معادياً منها، وطالب القادة الجدد بتفعيل الديمقراطية، وعودة العسكريين إلى ثكناتهم العسكرية بعد تنفيذ مهمتهم، وهى القضاء على الفساد وقد ندد بمساوئ الثورة، ويظهر هذا جلياً عندما أرخ لها فيما بعد فى المجلد التاسع من موسوعته الشهيرة، وطُرد من الجامعة مع مْن طُرد من كبار الأساتذة مثل:عبد العظيم أنيس، ولويس عوض، وغيرهم.

 بعدها عين في منظمة المؤتمر الإسلامي التي كان يرأسها القائمقام وقتها "أنور السادات"، واحتك به وعرفه عن قرب وعندما أرخ لعصره فيما بعد لم يتحامل عليه مثلما تحامل على العصر الناصري، ثم سافر إلى اندونيسيا ليساعد في إنشاء الجامعة الإسلامية هناك، وعندما عاد إلى مصر عين أستاذاً ورئيساً لقسم التاريخ والحضارة بدار العلوم، وكان عضواً بالعديد من الهيئات والمؤسسات: كالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والمجلس الأعلى للثقافة، ومنظمة اليونسكو..

 عرف الدكتور شلبي قدر أهمية وسائل الإعلام المسموعة، والمرئية في تعريف أكبر قطاع من الناس بتاريخ الإسلام وحضارته، من الدائرة الأكاديمية العنيفة إلى أكبر نطاق ممكن لهذا الهدف، وبذلك يوصف أنه تمكن من الانتقال بتاريخ الإسلام من الدائرة الأكاديمية إلى أكبر نطاق ممكن من خلال وسائل الإعلام، التي تتوفر للجميع، ناهيك عن التأليف لكافة الأعمار في بعض السلاسل من الكتب التي أعدها وبذلك تمكن من إبلاغ رسالته إلى قطاعات كبيرة تفوقت على النشاط الجامعي المحدود.

 يرجع الفضل للدكتور شلبي في إماطة اللثام عن بعض العصور التاريخية، ومنها العصر الأموي، والدفاع عنه، وأرّخ لها في المجلد الثاني من "موسوعة التاريخ الإسلامي" سارداً تاريخه السياسي، والإجتماعى، والثقافي، مترجماً لأعلام هذا العصر مثل: الخليفة معاوية، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبدالعزيز، وهشام بن عبدالملك، ويكيفها فخراً ومجداً أنها حافظت على وحدة الدولة، وقوتها من أواسط آسيا وحتى الحدود الجنوبية لفرنسا، تمجّد العربية وحضارتها، وتدافع عن الإسلام ضد الخارجين والشعوبيين والعدو المتربص على الأطراف يتحين الفرص للانقضاض عليها، وإن كان لها من أخطاء لا تصمد أمام إنجازاتها الكبرى، وكذلك أرّخ لكل الدول الإسلامية منذ دخولها في الإسلام وحتى الوقت الحاضر، في: آسيا، وأفريقيا، وأوربا، وذلك في المجلد السادس، والسابع، والثامن من الموسوعة حينما تكلم عن الدول الإسلامية غير العربية في هذه القارات..

ومما يحمد للدكتور شلبي، دفاعه المستميت عن دور الحضارة الإسلامية، والفكر الإسلامي في تنوير البشرية واهتمامه بما قدمه العلماء المسلمون في كل المجالات، في العلوم التجريبية: كالطب، والرياضة، والفلك، والكيمياء، والطبيعة، مستفيدين من تجارب مْن سبقوهم من الحضارات السابقة عليهم، والإضافات الهائلة التي قدموها وعناصر هذه في الاعتماد الوحدانية المطلقة، والأخلاق الإسلامية الرفيعة، والشورى في المجال السياسي، والعدالة، والتربية، والتعليم، وحقوق المرأة، وتنظيم العلاقات الدولية..وعلى هذا فان الحضارة الإسلامية قد طرقت كل المجالات الدنيوية التي يحتاج إليها الإنسان.

 وفى عصر الدكتور شلبي، وجد من يقول بأن الإسلام يعادى الفنون اعتماداً على آراء وافدة أضرت بالثقافة العريقة التي تحياها مصر منذ آلاف السنين، فوقف يفند هذه الآراء المغالطة، وأثبت أن الإسلام لم يحرم الشعر، وإنما هاجم القرآن الغاوون الذين يخوضون في المدح، والهجاء، طلباً للمال وعدواناً على الناس، ولكن هناك أغراضاً أخرى للشعر مدحها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشجيعه لشعراء أتخذهم لدعم الدعوة ومنهم:حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكذلك تناول موضوعاً تثار حوله الآراء من أن لآخر وهو مدى مشروعية الموسيقى والغناء ، الذي قال فيهما قول الحسم، وهما في حد ذاتهما شيئا مباحاً فالموسيقى تندب لإثارة حماسة الجند والزحف للحرب، وفى أوقات السرور كالعيد، والعرس، والولائم، وتحرم إذا علقت بها أشياء تثير الغرائز ، وأستدل بأن الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) خصص بابا في كتابه الأشهر (إحياء علوم الدين) أسماه "آداب السماع".

 هذا قليل من كثير في سيرة العالم الجليل أحمد شلبي الذي رحل في 20 أغسطس عام2000م ويستحق منا الذكروالتبجيل.