سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" 8

سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا"

(8)

الإمام الشهيد حسن البنا

بدر محمد بدر

[email protected]

كانت المدينة بالنسبة لـ "حسن البنا" مليئة بالكثير والكثير من المعاني والدلالات والإيحاءات, التي ساهمت ـ بشكل كبير ـ في تشكيل وتكييف وبلورة ماهية الدعوة الجديدة, بل والداعية نفسه, حيث أدرك بحاسته وفراسته, أنه رغم الطابع الأوروبي, والتقاليد الغربية الواضحة فيها ـ ومنها مثلاً أن الإجازة الأسبوعية كانت يوم الأحد, بينما الجمعة يوم عمل ـ إلا أن هناك شعوراً إسلامياً قوياً في أعماق قلوب أهلها, الذين يلتفون حول العلماء, ويقدرون ما يقولون..

أكبر مشكلات المسلمين:

فكر "حسن البنا" طويلاً في الاختلافات التي مزقت البلدة, ولم يكن يريد أن يضعه أحد في صف أتباع هذا المذهب أو ذاك.. إنها أكبر مشكلات المسلمين طوال تاريخهم... الفرقة والاختلاف والانقسام والتشرذم الذي يؤدي إلى العداوة والبغضاء والشحناء.. كانت هذه أول مشكلة يواجهها "حسن البنا".. إنه يريد أن يتصل بالجميع, وأن يخاطب الكافة, ويلم شتات الأهل, وقرر أن يبتعد ـ ما استطاع ـ عن الحديث إلى الناس في المساجد, فجمهور المسجد هم الذين مازالوا يذكرون موضوعات الخلاف الفقهي, ويثيرونها في كل مناسبة, وبالتالي لا جدوى من التحدث إليهم وهم على هذا الحال.

لم يكن أمامه إذن من طريق, سوى ما سلكه من قبل .. طريق الدعوة إلى الله في المقاهي والمنتديات العامة, وبالفعل اختار ثلاث مقاه كبيرة, تجمع ألوفاً من الناس, ورتب في كل مقهى درسين في الأسبوع, أي ستة دروس في الأسبوع, وواصل التدريس والوعظ بانتظام, وكما حدث في "القاهرة" حدث في "الإسماعيلية" فقد بدا الدرس غريباً على الناس في أول الأمر, ولكن سرعان ما ألفوه وأقبلوا عليه بعد ذلك..

كانت التجربة السابقة في القاهرة, قد أفادته بشكل كبير ـ كما يقول في مذكراته ـ "يتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه جيداً, بحيث لا يتعدى أن يكون وعظاً عاماً, تذكيراً بالله واليوم الآخر, وترغيباً وترهيباً, فلا يعرض لتجريح أو تعريض, ولا يتناول المنكرات والآثام, التي يعكف عليها هؤلاء الجالسون, بلوم أو تعنيف, ولكنه يقنع بأن يدع شيئاً من التأثير في هذه النفوس وكفي.. وهو كذلك يتحرى الأسلوب, فيجعله سهلاً جذاباً مشوقاً, خليطاً بين الفصحى والعامية أحياناً, ويمزجه بالمحسات (الأشياء الملموسة) والأمثال والحكايات, ويحاول أن يجعله خطابياً مؤثراً في كثير من الأحيان. وهو ـ بعد هذا ـ لا يطيل, حتى لا يمل الناس, فلا يزيد الدرس على عشر دقائق, فإذا أطال فربع الساعة, مع حرصه التام على أن يوفي, في هذا الوقت القصير معنى خاصاً, يهدف إليه, ويتركه وافياً واضحاً في نفوس السامعين.. يقرأ القرآن قراءة خاشعة مؤثرة, ويكتفي بتوضيح المعنى الإجمالي دون تفصيل..".

استطاع "حسن البنا" ـ بهذا الأسلوب ـ أن يؤثر في مستمعيه, حتى أنهم أقبلوا على تلك المقاهي ينتظرون موعد الدرس! وأخذوا يفيقون ويفكرون, ثم بدأوا يسألونه عما يجب عليهم أن يفعلوه, ليقوموا بحق الله عليهم.. لكن الداعية الجديد الواعي الحكيم, لا يتعجل الطريق, ولا يستعجل قطف الثمار, انتظاراً للفرصة السانحة, ومزيداً من التهيئة للنفوس العطشى التي بدأت تستيقظ, فكان يجيبهم إجابات غير قاطعة, جذباً لانتباههم, وتشويقاً لأسماعهم..ونجح الأسلوب, وحدث ما توقع وتمنى.. ازداد إلحاح الأسئلة عما يجب أن يفعلوه, فأشار عليهم باختيار مكان خاص, يجتمعون فيه, بعد دروس المقهى أو قبلها, ليتدارسوا هذه الأحكام.. وتم له ذلك, ووقع الاختيار على زاوية نائية (مصلى صغير) في أطراف المدينة, ولكنها في حاجة إلى شئ من الترميم والإصلاح, كي تصلح للاجتماع وإقامة الشعائر والاستماع إلى الدرس.

وهنا تتجلى بركات النية الخالصة لوجه الله, وتتعانق مع روعة الأسلوب وصدق الحديث, لتظهر النتيجة المشرقة.. لقد أسرع هؤلاء الرجال البسطاء إلى الزاوية المهدمة, فرمموها, واستكملوا أدواتها في ليلتين فقط, فقد كان منهم البناء والنقاش وغيرهم, وانعقد بهذه الزاوية الصغيرة أول لقاء.. وحرص الداعية الحكيم على أن يسلك بهم مسلكاً عملياً خالصاً, فعلمهم الوضوء, ثم ذكر لهم فضائله الروحية والبدنية والدنيوية, من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم انتقل بهم بعد ذلك إلى تعلم الصلاة, شارحاً أعمالها, مطالباً إياهم بأدائها عملياً أمامه, ذاكراً فضلها ومخوفاً من تركها وإهمالها, وهكذا.. وفي أثناء ذلك يستظهر معهم سورة الفاتحة واحداً واحداً, ويصحح لهم ما يحفظون من قصار السور..

سورة سورة, وفوق كل ذلك لا ينسى أن يذكرهم بالعقيدة الصحيحة, ينميها ويقويها ويثبتها في النفوس الظمأى, والقلوب الحيرى, بما ورد في القرآن الكريم من آيات الذكر الحكيم, وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, وسير الصالحين من صحابته الكرام, ومسالك المؤمنين الموحدين, لا يحاول هدم عقيدة فاسدة إلا بعد بناء عقيدة صالحة, فما أسهل الهدم بعد البناء وما أشقه قبل ذلك..

ونقف هنا وقفة أمام هذا الجهد الكبير والصبر الجميل لهذا الداعية النابه, لينزل من المستوى الثقافي والعلمي والدعوي, الذي يناسب شاباً متحمساً تخرج من الجامعة, إلى المستوى البسيط: لغة وفهماً وثقافة ومعيشة, لأناس من قاع المجتمع, لا يعرفون الوضوء أو الصلاة أو قراءة القرآن أو حفظ بعض آياته، وفي نفس الوقت ربما تسيطر على عقولهم بعض الخرافات أو الاعتقادات الفاسدة, هذا الجهد الكبير الذي بذله الداعية الواعي حتى نجح في أن يتفاعل معهم وأن يحركهم ويوجههم, لابد من لفت الانتباه إليه, حتى يدرك الدعاة, من الشباب خصوصاً, ضرورة النزول إلى مستوى المدعوين, ثم الارتفاع بهم رويداً رويداً, بالحب والصدق والرفق إلى آفاق الدعوة الرحبة..

هواة الجدل ومحبو الخلاف:

استمر اللقاء في تلك الزاوية, فترة من الزمن, ثم انتقل إلى زاوية أخرى يملكها الحاج "مصطفى" بحي العراقية.. كان الدرس يستغرق ما بين المغرب والعشاء, ثم ينتقل إلى المقاهي التي بدأت فيها الدعوة, ليستمر توافد الناس إلى الزاوية, يستمعون أكثر, وينفذون ما يسمعون ويتجاوبون عملياً لتوجيهات الداعية الناجح، لكن هواة الجدل, ومحبي الخلاف بدأوا يتسللون إلى تلك الدروس لإفسادها, وإطفاء الروح المشرقة التي تغمرها, لكن الداعية الحكيم, الذي درس وتأمل وعاش الليالي الطوال يفكر في كيفية الابتعاد عن هذه الفتنة, كان موفقاً غاية التوفيق في مواجهة هذه الأزمة, بل والاستفادة منها ببراعة فائقة..