سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (15)

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (15)

من إكرام الله لها أن حفظ لها عافيتها حتى توفيت فلم تصبها الأمراض المعتادة

عايشت الداعية الكبيرة ما يزيد عن العشرين عاما وأشهد أن حياتها كانت لله

بدر محمد بدر

[email protected]

كانت الآيات القرآنية حاضرة في ذهنها دائماً, فإذا بدأت القراءة مما تحفظ واصلت دون أخطاء, وكان سؤالها الدائم لمن حولها من الأهل وهي في سن الشيخوخة: هل صليت الظهر؟ هل صليت العصر؟, وهكذا كان مرافقوها ومن يرعاها, يذكرونها دائماً بالوضوء والصلاة ومواعيد تناول الدواء, وكانت تقضي وقتها بين قراءة القرآن الكريم والصلاة والذكر.

وعندما اشتدت عليها حالة فقدان الذاكرة, قررت السيدة عائشة ـ ابنة شقيقتها " حياة " التي ترعاها وتقوم على شئونها ـ أن تمنع الناس من زيارتها, فيما عدا الخاصة الذين يعرفونها جيداً, حتى لا تهتز صورتها في الأذهان, كان ذلك قبل أقل من عامين على وفاتها, إلى أن انتقلت إلى جوار ربها عن عمر يناهز الثامنة والثمانين, وتحديداً ثمانية وثمانين عاماً وسبعة أشهر ويوم واحد بالتاريخ الميلادي, وواحد وتسعين عاماً وثلاثة أشهر وعشرين يوماً بالتاريخ الهجري.

ومن إكرام الله للداعية المجاهدة زينب الغزالي أن حفظ لها عافيتها حتى وفاتها, فلم تصب بالأمراض المعتادة في سن الشيخوخة, مثل ارتفاع ضغط الدم والسكر والروماتيزم وأمراض القلب والصدر وغيرها, بل ظلت حتى آخر أيامها تتحرك وتذهب وتجيء وتقضي احتياجاتها بنفسها دون متاعب, وعندما بدأت تشعر ببعض الآلام والمتاعب الصحية, لم يمر عليها سوى بضع ساعات, وفاضت روحها الطاهرة إلى بارئها يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادي الآخرة 1426 هـ , الثالث من أغسطس 2005م.

وامتلأ مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر عن آخره بتلامذتها وأبنائها وأحبابها وعامة الناس, في صلاة الظهر ليوم الخميس, وأم المصلين في صلاة الجنازة الدكتور محمد السيد حبيب, نائبا عن المرشد العام للإخوان المسلمين, وانتقل الموكب الجنائزي المهيب إلى مقابر القطامية, لتدفن قبيل عصر يوم الخميس, في المقبرة التي اشترتها قبل سنوات من وفاتها, ودفن فيها كل أشقائها وشقيقاتها قبلها.

وعقب مغرب يوم الجمعة أقامت الأسرة سرادقا لتقبل العزاء في مسجد الخلفاء الراشدين بحي مصر الجديدة, وألقيت كلمات الرثاء من أبنائها وتلامذتها وإخوانها, الذين ألقوا الضوء على مراحل جهادها وصبرها وصمودها, كما حضرت وفود من عدة دول لتقديم واجب العزاء في وفاة فقيدة الأمة, ومن بينها السودان والأردن..

وهكذا رحلت الداعية, وانتهت قصة هذه الملحمة الإيمانية, وهذا الإخلاص الرباني, وهذا الشموخ الدعوي, وهذا الصمود الأسطوري في وجه الطغاة.. لتبقي ذكراها نبراساً للجيل الحالي وللأجيال المقبلة, ولتبقي شعلة تضئ الطريق للحائرين والتائهين والباحثين عن الحقيقة.

رحلت الداعية الصابرة لتلقي عند ربها الجزاء الأوفى والأجر الوفير, نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحداً.. رحلت الداعية وبقيت الدعوة, وبقيت الداعيات المجاهدات العاملات في حقل التربية والتوجيه..تركت زينب الغزالي الآلاف, بل مئات الآلاف ممن تأثروا بها, أو تربوا على يديها, أو نهلوا من علمها وخلقها, أو استفادوا من توجيهاتها وآرائها, أو وجدوا عندها الملاذ والملجأ والنصيحة المخلصة.

لقد عايشت الحاجة زينب ما يزيد على العشرين عاماً, وأشهد أنها كانت كلها لله, أحبته من أعماق قلبها, وأحبت رسوله صلى الله عليه وسلم, ما كان يشغلها عن ذلك شئ مما يشغل الناس, وما عملت لدنيا قط, وما ارتاحت وهي تعلم أن دينها يحتاج جهدها وعطاءها, وما استثقلت الأعباء الجسام, ولا أعطت الدنية في دنيها, كانت شامخة شموخ الأبطال في كل مواقفها, عندما تنفق تعطي عطاء من لا يخشى الفقر, المال عندها زائل, يقضي الله به الحاجات, فإذا أدى مهمته فلا وزن له بعد ذلك, ولا يأخذ حيزاً من تفكيرها أو اهتمامها.

كانت تجد متعتها في الإنفاق والبذل والعطاء, وكأني بها تتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله, وأحدهم: ".. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".

لم تكن تأخذ أي مقابل مالي لجهدها في العمل الدعوي, فإذا كتبت مقالاً في صحيفة أو مجلة, وحددت لها مكافأة على نشر المقال, كانت ترفض أن تتسلمها, حتى أقنعتها بأن هذا من حقها, وأنها يمكنها أن تنفقه فيما ترى من أبواب الخير, فقبلت ذلك على مضض, ولم يكن يبيت عندها هذا المال أبداً, بل تنفقه في سبيل الله.. وكانت تتساءل مستنكرة: كيف آخذ مقابل ما وفقني الله فيه لخدمة دينه ودعوته؟!

وبالرغم من أن الداعية المجاهدة اشتهرت بقوة الشخصية والصمود في وجه الطغاة وشدة العزيمة والاعتزاز بالحق, إلا أنها مع كل ذلك كانت شديدة الرفق, غزيرة الحنان, تسيل دموعها أنهاراً مع أي موقف إنساني مؤثر, تبكي بجوار صاحبة المشكلة وتربت على كتفيها, وتحنو على اليتيم والمسكين وذي الحاجة.

وقد حضرت العديد من المواقف التي بدت فيها زينب الغزالي شديدة العطف والرفق, ومنها هذا الموقف.. كان هناك شاب من مدينة الإسكندرية يمر بظروف نفسية شديدة أثرت على حياته وأفقدته تركيزه, كان هذا الشاب يأتي إليها في شهر يناير من كل عام, ليحتفل معها بعيد ميلادها, حاملاً في يده " تورتة " للاحتفال, مؤكداً لها أنها أمه وأن الإمام الشهيد حسن البنا هو أبوه!!, وقبل أن تعرف ظروفه النفسية قالت له إنها لم تتزوج من الإمام الشهيد حسن البنا أبداً, كما أنها لم تنجب أطفالاً, وسرعان ما أدركت أن هذا الشاب الوسيم الطالب في كلية الطب, ينتمي لإحدى العائلات الكبيرة بالإسكندرية, ويمر بظروف نفسية صعبة, جعلته يعيش في عالم الخيال والأوهام, فبدأت تحسن إليه وتكرم ضيافته, وتستقبله في كل عام, داعية الله أن يتم شفاءه, وكانت تطمئن عليه حتى يعود إلى مدينته بسلام وأمان.

وهناك الكثير والكثير من المواقف والقضايا التي عاشتها الداعية الكبيرة, نحن في حاجة إلى أن نتأملها ونستفيد منها في حياتنا الاجتماعية والدعوية..ومنها هذه القصة:

فبعد أن تأسست جمعية " السيدات المسلمات " في ربيع الأول 1356 هـ ـ 1937 م , كجمعية إسلامية ثقافية اجتماعية, تهتم بصلاح المجتمع المسلم عموماً, والمرأة المسلمة خصوصاً, ذاع صيتها في أنحاء مصر, وبدأت الداعية الشابة زينب الغزالي رئيسة الجمعية, ومعها عدد قليل من الواعظات, في إلقاء الدروس الدينية في المساجد, وممارسة الأنشطة الاجتماعية مثل كفالة الأيتام ورعاية الأرامل والصلح بين الأزواج, وأقبل عليهن خلق كثير, من مختلف طبقات المجتمع المصري, وأصبح تأثير الجمعية ملحوظاً.

وذات يوم زارها أحد رجال القضاء المصري في مقر الجمعية, وقدم لها الشكر على جهودها الكريمة, في حل مشكلة شخصية كان يعانى منها, وقبل أن تعتريها الدهشة, أبلغها بأن مشكلته كانت في علاقته مع زوجته, وأن الأمر بينهما تعقد حتى كان الحل الوحيد أمامهما هو الطلاق, وقبل أن يتم ذلك بفترة قصيرة, بدأت الأمور أمامه تتحسن بدرجة كبيرة, وغيرت الزوجة من بعض سلوكياتها التي أغضبته منها, بل وجد منها حرصا على راحته وإسعاده, وأدرك أن وراء هذا التحسن سراً يجب أن يعرفه.

وفي أحد الأيام راقب زوجته فرآها تذهب إلى مقر الجمعية, وعلم أنها بدأت تواظب على حضور دروس الداعية زينب الغزالي, وبالتالي أدت هذه الدروس إلى تغير زوجته إلى الأفضل, وأنه ارتاح كثيرا لعودة أم أولاده إلى سابق عهدها معه, ويشعر بالامتنان للسيدة التي أدخلت السرور على حياته, ولذلك جاء ليشكرها بنفسه, على ما حققته لبيته وأسرته وحياته من سعادة واستقرار, وقبل أن يغادر مقر الجمعية عرض على الداعية الكبيرة عرضاً غريباً, وقبل أن تبدى فيه رأيها, طالبها بالتمهل والتفكير فيه أولاً !.

قال لها القاضي النبيل إن شقيقه يعمل طبيباً, ويدير مستشفى للأمراض الجلدية في القاهرة تسمى " الحوض المرصود " ( لا تزال قائمة للآن في حي السيدة زينب بالقاهرة وتعالج الأمراض الجلدية ), وهذه المستشفى ـ وقتها ـ كانت مخصصة لعلاج الأمراض الناتجة عن العلاقات الجنسية المحرمة في بيوت البغاء ( كان مصرحاً بها في مصر في ذلك الوقت, حتى ألغاها البرلمان بعد الحرب العالمية الثانية ), وكانت مستشفى الحوض المرصود تؤوى النزيلات من هذه النوعية لعلاجهن, ورأى القاضي المسلم الواعي أن هؤلاء المتمرغات في أوحال الرذيلة, المرتكبات لفاحشة الزنا, لهن حق عند زينب الغزالي!. إنه حق النصح والوعظ والتذكير بالله واليوم الآخر, فلعل هناك من ينفتح قلبها للتوبة من المعاصي, فيشرح الله صدرها للطاعة, أو يمس الإيمان شغاف قلبها فتتطهر من رجس الرذيلة, أو تستمع إلى هاتف الإيمان في ضميرها, فتتخلص من ذنوبها, وتتوب إلى الله.

وذكرها القاضي الفاضل بأنه كان قد فقد الأمل في حل مشكلته الخاصة, حتى أرسلها الله لتساعده على الاستقرار والسعادة من جديد, وأن هؤلاء النزيلات في حاجة إليها أشد من حاجته, وغادر القاضي مقر الجمعية على أمل أن تفكر الداعية الشابة في الموضوع, عسى الله أن يشرح صدرها, ويعينها على أداء هذه المهمة.

تأثرت الداعية زينب الغزالي بحسن العرض وأهمية الموضوع وصدق القاضي, وقررت أن تعرض الأمر على مجلس إدارة جمعية السيدات المسلمات, لكن غالبية المجلس رفضت الموضوع بدعوى الحرج من هذا الميدان الحساس, ورأى البعض أن أمثال هؤلاء لا أمل في هدايتهن, وأن هناك من هن أولى ببذل الجهد في التوعية والتذكير والوعظ, وقال البعض الآخر إن هذا الموضوع ـ في النهاية ـ سيسئ إلى صورة الجمعية في المجتمع !.