رحيل الشاعر السوري الكبير محمود السيّد

محمد فاروق الإمام

صاحب (مونادة دمشق)

محمد فاروق الإمام

[email protected]

عن عمر يناهز الخامسة والسبعين رحل الشاعر السوري الكبير محمود السيد، بلا ضجيج ولا مقالات عن هذا الرحيل بل حتى بلا أي خبر!

فوجئت كغيري بخبر رحيل الشاعر السوري الكبير محمود السيّد وأنا أقرأ مصادفة ما كتب عنه ماهر شرف الدين في مجلة الغاوون، وما كتبته الشاعرة اللبنانية سهى شامية في جريدة القدس، وقد أثار هذين المقالين الإجحاف، والإهمال، والظلم، التي أصابت هذا الشاعر، ليس في رحيله فقط وإنما أيضاً في حياته، وأستميح الكاتبين في اقتباس ما جاء في مقالتيهما عن هذا الشاعر الصوفي الرائع مع بعض التصرف..

محمود السيد شاعر كبير صاحب رائعته (مونادة دمشق)، هكذا يغيب ولا من يُشير إلى غيابه، لا في بلده سورية، ولا في العالم العربي.

هناك الظلم الأول (وظلم ذوي القربي أشد مضاضة)؛ فلم نقرأ في إعلام بلدي خبر، ولا مقالة، ولا تعليق، ولا رثاء، عنه، لا شيء! وهذا في النهاية قدر الكبار الذين يعملون في ظلالهم وبعيداً من الأضواء المزيفة، والمنابر الإعلامية الخشبية، والرواد الذين لم تعد تسعهم الدنيا، ليسرقوا بعلاقاتهم ومواهبهم الأضواء عن شعراء مثل محمود السيّد الذي في بعض تجلياته يفوقهم ابتكاراً، وشغفاً، وقوة، وجدة. إنها العزلة العالية التي أقام الشاعر الرائع، محمود السيّد، ومن عزلته أضاء طويلاً، بنصوص، تمكن فيها، برهافة، وبحساسية، وبذائقة، أن يصوغ لغة، كأنها من تحافير طبقات فوق طبقات، وسفليات، ودواخل، وشغف بالفنية الطالعة من عمق التجارب، وبجمالية لا تسقط في الشكلانية. كأن محمود السيّد من أواخر الذين ما زالوا يؤمنون بأن الشعر قضية اللغة أولاً وأخيراً، حتى عندما تنفى هذه اللغة كمفهوم بلاغي أو إنشائي.

محمود السيّد كتب النص المركّب، مبتعداً عن الاستسهال والإسهال، والتبسيط التي وقع فيها بعض ما يسمى نصوص (الركاكة) أو النصوص المهلهلة التي تدعي خروجاً من البلاغة وقد صارت بليغة من شدة تكرارها وتعليبها وامتجاجها، واجترارها كنموذج مهتز. والبلاغة هي النص الذي إذا ما اكتشفناه وقعنا في تقليده. وكل تقليد شاعر لنفسه هو البلاغة المقنعة بامتياز.

في مجموعاته الشعرية التي تمتدّ من (مركبة الرغوة) الصادرة عام 1967م إلى مجموعته الأخيرة (سهر الورد ـ تجليات السهروردي في الورد والدم) الصادرة عام 1998م، مروراً بـ (مزامير ديك الجن) ورائعته (مونادا دمشق) ثم (تتويج العشب)، صنع محمود السيد أساطيره الخاصة عبر مزج فريد من أساطير وصوفيات وأمكنة وطفولة أيضاً، فثمة فضاء طفولي شاسع تسرح فيه قصائده ذات الأبعاد والأوجه الثقافية والمعرفية الكثيرة، هكذا كنّا: عصافير صباح/ قبّراتٌ وعنادلُ وحساسين تغازل/ نرسم الأرض خميلة / فرحاً يركض، شمساً وفضاءات طفولة / ثم، جاءتنا البنادق../ يبس العشب، هرَّ الورد، حشرجْ/ سحق البغل البنفسجْ / سحقتنا طغمة الليل، وزعران القبيلة / ومشى الرمل فتوكاً، فوق أشلاء الحدائق).
لا يخفى الحس الشعري الانثوي الكبير في قصيدة السيد، وربما يكون مرد ذلك إلى ما هو أبعد من الجملة الشهيرة والرائعة لابن عربي: (ما لا يُؤنَّث لا يُعوّل عليه)... فالشاعر تلقى تربيته على يد عمّته ( البدراء) التي كان لها أثر كبير في حياته، وقد كانت تُلقي على مسامعه قصائد الخنساء وزهير بن أبي سلمى وولادة بنت المستكفي. وما رائعته (مونادا دمشق) إلا ذروة لهذا الافتتان الصوفي بتأنيث العالم.

و(مونادا دمشق) هي قصيدة نثرية مطوّلة نشرها محمود السيد في دمشق سنة 1969م، وتُعتبر مفصلا مهماً في الكتابة الشعرية السورية الحديثة، وقد كتبها الشاعر مستهدياً بفلسفة لايبنتز ـ كما يذهب نبيل صالح ـ وهي قصيدة وعرة مغامرة عن (المونادا) التي صيّرها الشاعرُ.  (المرأةَ المملّحةَ بالتضحية... منتعلة بخور النبوة، تهشّ الرعاة حتى نجمة الصبح).

ولد محمود السيد في مصياف سنة 1935م، وبعد نيله الشهادة الثانوية قدم إلى جامعة دمشق ومنها حصل على الإجازة في الحقوق، وفي عام 1960م كانت بدايات عمله في الصحافة في جريدة (الوحدة)، وقد سُرِّح منها بعد وقوع الانفصال، فالتحق بمجموعة من الصحافيين لإصدار مجلة (ليلى) الأسبوعية التي تولّى إدارتها بنفسه. وفي سنة 1963م عمل في جريدة  (الثورة) كمشرف فني ومخرج في تصميم الصفحات، ثم تولى الإشراف على ملحق (الثورة) الثقافي، الشهير آنذاك الذي استقطب الكثير من الأسماء المهمة أمثال ادونيس وفاتح المدرّس، ثم تولى رئاسة تحريرها إلى أن قرّر سنة 1989م ( في بادرة نادرة عربياً) الاستقالة من منصبه للتفرّغ لمشروعه الشعري والفني.

وفي هذا السياق هناك حادثة طريفة وقعت في سورية يوم تولّى محمود السيد ( وهو غير شاعرنا الراحل) وزارة الثقافة، حيث استبشر المثقفون خيراً وراحوا يمتدحون الوزير ـ الشاعر فور الإعلان عن تشكيل الوزارة الجديدة... إلى أن عرفوا الحقيقة فأصيبوا بالخيبة كالعادة.

(سهروردي دمشق)؛ الاسم الذي أطلقه عليه الشاعر السوري أكرم قطريب الذي أخذ الشاعر الراحل بيده في بداياته كما أخذ بأيدي الكثيرين من الشعراء الشباب من خلال نشر أعمالهم في مجلة (ألف باء) التي كان يترأس تحريرها أوائل تسعينيات القرن الماضي، والتي قدمت العديد من الأسماء والتجارب الجادة.

فمحمود السيّد، المجافي الشلل، والعلاقات، والحزبيات، ربح شعره، ولم يخسر العالم.

رحل الشاعر الرائع محمود وحيداً لكن قوياً بوحدته، كما كان قوياً في حياته بعزلته. ألف رحمة عليك يا شاعر الشام.. يا أحد كبار شعراء سورية والعالم العربي.