الشيخ إمام عيسى

مطرب وملحن الشعب المصري والعربي الثائر

حسين علي محمد حسنين

كاتب وباحث/ عضو إتحاد كتاب مصر

[email protected]

ظهر المواطن المصرى الفقير الغلبان الضرير الشيخ إمام محمد عيسى فجأة قبل نهاية الستينات من القرن الماضي في لحظة من اللحظات التى كانت تبدو فيها الأمة المصرية عاجزة أو تكاد عن أن تفعل أي شيء سوى الاستسلام بعد هزيمة حرب يونيو عام 1967 .

لكن الشيخ إمام ذلك الرجل الأعمى والنحيل الجسد للغاية استطاع إعادة الأمل والتوازن النفسي فى نفوس المصريين ، ومنه خرجت شرارة رفض فكرة الاستسلام والهزيمة ، ومن ثم أشاع الشيخ إمام جو من التفاؤل بإمكانية تجاوز أي عجز يواجه المصريين ، واستطاع ذلك الضرير أن يدفع بالمصريين دفعا إلى المقاومة أملا فى الوصول الى النصر . والمثير فى هذا الرجل أن كل من شاهده كان يندهش للغاية لنحافة جسده الرهيب والذي  يبدو أنه خارج أهليته الصحية، لكن سرعان ما يكتشف المرء حجم الصلابة التى كان يكتنزها هذا الرجل في داخله خاصة فى تلك الأوقات العصيبة وهى مرحلة ما بعد هزيمة حرب 1967 وما مثلته السلطة من بطش لكل من يختلف مع  النظام وذلك فى وقت لجأت فيه بعض رموز النخبة الى الدخول فى مساومة مع النظام الحاكم  ، لكن الشيخ إمام البالغ من العمر فى ذلك الوقت الخمسين عاما وكان  كهل أعزب وضرير وفقير ولا يجد قوت يومه قد قبل الصراع المفتوح وانخرط فى حركة المقاومة ضد النظام القوى الذى لديه العديد من أساليب التعذيب القوية . المثير أن الشيخ إمام الضرير حصل على حب جماهيري مصري وعربي جارف لا مثيل له فى ذلك الوقت .

مولده : ولد إمام محمد عيسى فى 2 يوليو عام 1918 لأسرة فقيرة بقرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة الملاصقة للقاهرة ، وكان والده متصوفا وأمه بسيطة . أصيب الطفل إمام فى السنة الأولى من عمره بالرمد الحبيبي ونتيجة للعلاج الخاطئ اثر استخدام والدته لوصفة بلدية  فقد الطفل بصره  . وهذا العمى فرض عليه تعليماً سمعيا في القرية التى كان يعيش فيها وهو وضع طبيعي فى القرى العربية حيث لا توجد مكتبات بريل للتعليم السمعي ، ومن ثم قضى طفولته فى حفظ القرآن الكريم وأحكام التجويد وتعاليم التصوف حيث كان والده محمد أحمد عيسى يحلم بأن يكون ابنه شيخا كبيرا . يذكر هنا أن حفظ القرآن هو غاية ما تطمح إليه عائلة أى طفل ضرير كى يحصل على خبز يومه بتلاوة القرآن في المقابر أو ربما سمحت له العاصمة أن يرتقي إحدى مآذنها داعيا للصلاة. وإذا كان والده قاسيا بعض الشيء فى تربيته فان والدته كانت الحنان كله الذى آنس إمام فى ظلمة بصره خاصة وان معايرة الأطفال لابنها بالعمى كانت تدفعها للبكاء .

عرف الطفل إمام طريقه الى القاهرة عندما كان يأخذه عمه الذى كان يزور أولياء الله من حين لآخر للتبرك بهم ، وكان إمام يسير بصحبة عمه فى شوارع القاهرة القديمة . وفى إحدى المرات (كان ذلك فى عام 1925 والشيخ إمام فى عمره السابع ) أخذه عمه لصلاة الجمعة فى مسجد فاضل باشا بمنطقة درب الجماميز بحي السيدة زينب بالقاهرة ، وفى داخل المسجد اخذ الطفل يستمع بشغف بالغ لسورة الكهف مأخوذا بأداء صوت المقرئ ، وكان اندهاش الطفل اعظم عندما علم بأن المقرئ ضريرا  مثله ، وكاد لا يصدق نفسه عندما علم أن هذا المقرئ الضرير هو مقرئ بالإذاعة المصرية .( تلك هي البداية الأولى لبعث الأمل داخل الطفل الضرير والتمرد على عجز العمى ) . فى ذلك الوقت كان إمام ملتحقا بفرع الجمعية الشرعية السنية بأبو النمرس حيث يعيش مع عائلته وكان يوجد بهذه الجمعية واعظ  ومنشد يقومان بإحياء المناسبات . ويذكر أنه فى أحد الأفراح اختير الطفل إمام ضمن بطانة المنشد الذي أبلغ والد الطفل إمام بأن صوت ابنه  جميل ويحتاج الى المزيد من الاهتمام ، وأوصى المنشد والد الطفل بأن يلحقه بالمركز الرئيسي للجمعية بالقاهرة . وهكذا رحل إمام من قريته لكي يتعلم بمدرسة الجمعية الشرعية السنية بالقاهرة لحفظ القرآن وتجويده وكان يديرها الشيخ محمود خطاب السبكي. ويذكر أن الجمعية الشرعية السنية تم تأسيسها فى أوائل عام 1900 على يد الشيخ محمود خطاب السبكي وهو أحد علماء الدين ، وكانت هذه الجمعية ترسل مفوضين عنها إلى القرى والنجوع لاستكشاف المواهب الصوتية والمجيء بالموهوبين إلى مقر الجمعية بالعاصمة حيث تتولى إيواء الفقراء والمحتاجين ، وكان يعيش فى رحابها عدد من المقرئين ورجال الدين الفقراء، وكان الشيخ السبكي رجلا طيب القلب كثيرا وواسع العلم رغم انه ظل أميا حتى سن الأربعين عندما قرر الذهاب الى الأزهر لدراسة المنطق والحصول على شهادة العالمية.

بعد انضمام الشيخ إمام للجمعية استطاع التعرف بأصدقائه من المكفوفين ومضى يتعلم فنون التجويد ، وقضى بالجمعية نحو أربع سنوات وأتم بها حفظ القرآن الكريم واستحق لقب (شيخ) رغم صغر سنه ، وكان يقيم بالجمعية إقامة دائمة وينشد فى بطانتها أثناء المناسبات . وأثناء تلك المرحلة عرف الشيخ إمام رغم صغر سنه مظاهرات الأزهريين ضد الملك وضد الإنجليز، فى نفس الوقت كان يتابع بشغف بالغ الاستماع لصوت الشيخ محمد رفعت فى سهرات الثلاثاء والجمعة من راديو بإحدى المقاهي التى كانت بجوار الجمعية الشرعية . ويذكر أن الاستماع للراديو كان من ممنوعات الجمعية الشرعية التى كانت تعتبر ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار حتى لو كان الاستماع الى القرآن . وأثناء وجوده بالجمعية الشرعية أشيع نبأ وفاة الشيخ السبكي ، وهنا يقول الشيخ إمام : عندما علمت بوفاة الشيخ السبكي شعرت باليتم الأبدي . وبعد وفاة الشيخ السبكي تولى إدارة الجمعية ابن الشيخ السبكي ومعه مجموعة من العلماء المتزمتين الذين كانوا يرون قراءة القرآن فى الإذاعة امتهان لكلمة الله، وأن سامع القرآن لا ينبغي أن يتسلى .

وذات يوم كان الشيخ إمام غارقا فى الاستماع لتلاوة سورة مريم من الشيخ محمد رفعت من خلال المذياع عندما ضبطه عضو بالجمعية ووشى به الى مجلس إدارتها ، فقررت الإدارة فصل الشيخ إمام من الجمعية ، وحاول الشيخ إمام  طلب الصفح والغفران من إدارة الجمعية الجديدة لكنها أمعنت فى رفض طلبه حتى يكون عبرة للآخرين . وكان ذلك بمثابة الهلاك للشيخ الصغير . وعليه وجد إمام محمد عيسى نفسه دون مأوى ودون عائل في العاصمة الكبيرة الموحشة التي لا يراها نظرا لكونه ضريرا ، وعلى أثر ذلك لازمه خوف طبيعي لم يغادره وظل يتذكره طيلة حياته. وهكذا انقطعت أخباره عن أهله . لكن والده عرف بالصدفة ما حدث له ، فذهب للبحث عنه ، ووجده فى مسجد الحسين فأهانه وضربه وتوعده بالشرور إن عاد الى قريته بأبو النمرس ثانية نظرا للجريمة التى اقترفها والتى أدت الى فصله من الجمعية الشرعية السنية ، وكان ذلك آخر عهده بأبيه ، وحزنت والدته كثيرا على ما حدث لابنها وبعد عشرة أيام من لقاء والده وصله خبر وفاة والدته التى كانت أعز ما لديه فى هذا العالم لكنه لم يجرؤ على الذهاب ليشهد جنازتها خوفا من والده ( كان ذلك فى عام 1934 وهو لم يكمل بعد السادسة عشر من عمره)   . وهنا يقول الشيخ إمام : كنت أمضى النهار متجولا فى شوارع القاهرة القديمة مثل شارع الغورية والأزهر ، وكثيرا ما كنت أقضي الليل فى جامع الأزهر. وذات يوم من أيام عام 1934 وبينما يسير الشيخ إمام فى حي الغورية وجد نفسه فى حارة  قيل له أن اسمها خوش قدم. و هناك تعرف على مجموعة من أهل قريته (أبو النمرس) ، الذين فرحوا به وأجاروه . وفى هذا الحى كان يقرأ الشيخ  إمام القرآن في الدكاكين و البيوت، كما كان ينشد  في الأفراح و الطهور والسبوع والموالد . وذات يوم لعبت الصدفة دورها عندما استمع الشيخ درويش الحريري( أحد أساطين وعلماء الموسيقى في ذاك الوقت ) مصادفة الى  تلاوة الشيخ إمام للقرآن في محل حلاقة بحارة خوش قدم ،  واعجب الشيخ درويش بصوت الشيخ إمام الشاب وطلب منه أن يأتى إليه ليزيده علما فى فنون الموسيقى . وبالفعل ذهب إليه إمام ليتعلم علي يديه أصول الموسيقي والطرب والموشحات . و كانت سرعة إمام في التعلم مدهشة بسبب شغفه للتعلم  وموهبته الموسيقية النادرة، وخبرته بالتلاوة وإجادته اللغة العربية .  وهكذا تعلم الشيخ إمام أصول الموسيقى العربية الشرقية ، وخبر مقاماتها ودروبها على يد الشيخ الحريري الذى كان يصطحب تلميذه النجيب الشيخ إمام إلى جلسات وليالي القراءة والطرب. وهكذا لمع وتجلى الشيخ إمام ، وتعرف على كبار المطربين والمقرئين، أمثال زكريا أحمد والشيخ محمود صبح. كما تعرف أيضا على الشيخ  وهبه السيد حسن العلواني ( وكان صوفيا موسرا محبا للفن والفنانين ) وقد منحه الشيخ العلوانى غرفة في بيته، وهو البيت رقم 2 في حارة خوش قدم ( و تعني بالفارسية قدم الخير). وعليه تحسنت حياة الشيخ إمام كثيرا، وذاع اسمه كمقرئ ومطرب.  

وفيما يخص الشيخ درويش الحريري ، فلقد تخرج على يديه  كل من محمد عبد الوهاب والشيخ علي محمود ، كما تعلمت علي يديه السيدة فتحية أحمد مطربة القطرين ، وأيضا سيد درويش عندما حضر الى القاهرة لبعض الوقت . ويؤكد احمد فؤاد نجم فى هذا الصدد أن الشيخ درويش الحريري كان  شخصية مصرية قلما توجد مثيلها فى تاريخ مصر الفني. ويضيف نجم: كان لدى الشيخ درويش (ربع) في باب الوزير أى دارا  كبيرة بها غرف كثيرة ، وهذه الغرف الكثيرة كانت بها المواهب الفنية التى يختارها الشيخ درويش ويرى فيها اللمسات الإبداعية سواء من المكفوفين أو غير المكفوفين ، وكان يقوم بتعليمهم وتثقيفهم وينفق عليهم فى نفس الوقت من مأكل وملبس واقامة بالإضافة الى إعطائهم مصروفا للجيب.     ( ملحوظة: هناك تقصير كبير من قبل الباحثين حول ما قام به الشيخ درويش الحريري من ترقية الفن المصرى والعربي).

إمام والشيخ زكريا احمد: وفى عام 1935 اشترك إمام في اجتماع لشلة من المكفوفين من بينهم  سيد مكاوي ، وكانت هذه الشلة هي بطانة زكريا أحمد . ولعل السبب فى انضمام الشيخ إمام الى هذه البطانة أنه كان عاشقا لألحان الشيخ زكريا أحمد والذي كان يعد فى ذلك الوقت  أحد الملحنين الذين حافظوا على تراث الموسيقى العربية من الاندثار (يذكر أنه تعرف علي زكريا أحمد عن طريق الشيخ درويش الحريري ، فتقرب منه الشيخ إمام ثم انضم إلى بطانته). وهكذا  واستعان به الشيخ زكريا في حفظ الألحان الجديدة واكتشاف نقط الضعف بها، حيث كان زكريا أحمد سريع الملل ولا يحب الحفظ . بينما الشيخ إمام كان سريع الحفظ . وهكذا استمر معه إمام طويلا، وكان يحفظ ألحانه لأم كلثوم قبل أن تغنيها، وكان إمام يفاخر بهذا في جلسات المزاج والحظ التى كان يوجد بها وأحيانا كان يغني تلك الألحان لأصحابه. ولما بدأت الألحان تتسرب إلى الناس قبل أن تغنيها أم كلثوم مثل أغاني : "أهل الهوى" و "أنا ف انتظارك" و "آه من لقاك ف أول يوم" و "الأولة ف الغرام" . ولما عرف الشيخ زكريا بما يفعله الشيخ إمام فى جلسات المزاج  ، شعر بالغضب منه وقرر الاستغناء عنه.

بداية التحول للتلحين : شعر الشيخ إمام بموهبة التلحين فى عام 1938 عندما كان يغنى فى الأفراح وتعرف على رجل كفيف كان يعزف العود ، ونظرا لأن الشيخ إمام كان يتمنى عزف أي آلة موسيقية خاصة العود فقد طلب من الرجل الكفيف ان يعلمه العزف ، وبالفعل وافق الأخير . ويقول الشيخ إمام فى هذا الصدد : لقد اشتريت عودا ولازمت ذلك العواد طوال الوقت دون ملل حتى تدربت جيدا وأجدت العزف على العود . وهكذا أصبح الشيخ إمام يعزف العود بمفرده وهو يرتدى العمامة والكاكولا ( الزي الرسمي الذى يرتديه الفقهاء).

العمل بالإذاعة المصرية : فى عام 1945 التحق الشيخ إمام بالإذاعة المصرية وتم قبوله مطربا بركن الأغاني الشعبية ، وارتدى الشيخ إمام البدلة بدلا من الجبة والقفطان ، وأخذ يغنى فى المناسبات الدينية . وفى تلك المرحلة ظلت موسيقى الشيخ إمام تتطور في داخله دون أن تجد منصة تنطلق منها، وكان الخزين اللحني يتسع ويضيف إلى الموجود القرآني والديني أصوات الحواري وأغاني الأطفال وترنيمات الأمهات. وعندما ألح التلحين على الشيخ إمام قام بتأليف بعض الكلمات و لحنها ومنها : فرح فؤادي و حبيبي جاني / غني يا قلبي لحن الأماني. لكنها  كانت فيما يبدو محاولة يتيمة.

وفي عام  1962 حدث اللقاء التاريخي بين إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم فى حارة خوش قدم، وقد تم هذا اللقاء عن طريق ابن عم أحمد فؤاد نجم . والتقى الطرفان بوجود صديق آخر يدعى سعد الموجي ، وانتهى اللقاء ببداية الصداقة بينهما  . ويذكر أن احمد فؤاد نجم سأل الشيخ إمام : لماذا لم تلحن ؟ ، فأجابه الشيخ إمام بخجل : بأنه لم يجد كلاما جيدا يشجعه . وهنا عرض أحمد فؤاد نجم على الشيخ إمام إحدى أغنياته العاطفية ، إلا أن الشيخ إمام  لم يعجب بكلمات الأغنية(يذكر فى هذا الخصوص أن هذه الأغنية سبق لنجم أن أعطاها لمرسي سعد الدين ليسلمها لأخيه بليغ حمدي ليلحنها إلا أن الأخير لم يفعل).  لكن فى اللقاء التالي بينهما أعجب الشيخ إمام بكلمات أغنية نجم وقام بتلحينها ، وهكذا وضع حجر أساس الشراكة بينهما . وفى هذا الخصوص يقول الشيخ إمام : وهنا فقط اكتشفت الى أى حد يمكن لمقرئ القرآن الذى يتقن تجويده أن يكون ملحنا جيدا خاصة لو كان يستمتع بتجويد القرآن .  ومع توطيد العلاقة بين الرجلين ترك أحمد فؤاد نجم بولاق الدكرور التى كان يسكن بها واستقر بجوار الشيخ إمام فى خوش قدم . واستطاع أحمد فؤاد نجم أن يساهم في زيادة عدد سميعة (رواد) الشيخ إمام وذلك  بدعوة أصدقاء نجم من الصحفيين والمثقفين للتعرف على الشيخ إمام . وبالفعل ازداد عدد المريدون حول إمام .

لعل الأسباب الرئيسية التى وطدت العلاقة بين الرجلين ترجع الى أن الشيخ إمام كان يعتبر  نفسه صعلوكا ، وكان يتباهى بصعلكته ويفاخر بانتسابه إلى القرية  . فى نفس الوقت نجد أن  احمد فؤاد نجم الذى جاء من القرية أيضا الى القاهرة كان يفضل العيش فى الأزقة الضيقة بحي بولاق الدكرور الشعبي ، وعندما قرر ترك ذلك الحى وقع اختياره  على جبل المقطم (بدلا من أحياء القاهرة المتوسطة الحال) لأن جبل المقطم ظل تاريخياً مأوى الصعاليك وقطاع الطرق وملاذ الهاربين من السلطة ... شئ آخر جمع بينهما وهو كما يقول الكاتب الصحفي  صلاح عيسى أن الشيخ إمام وكذلك أحمد فؤاد نجم ينتميان إلى جيل ما بين الثورتين أى ثورة 1919 وثورة يوليو 1952، فمصر ما بين الثورتين كان يسودها قلق شعبي  ويقودها شوق إلى أحلام لم تنجزها الثورة الأولى (أى ثورة 1919) ، فقد كانت القاهرة ساكنة في انتظار الخلاص، وكانت تفور وتنطفئ في سلسلة أحداث سياسية متسارعة لا يفضي أي منها إلى شئ جلل . ولذلك عندما جاءت الثورة الثانية (يوليو 1952) جاءت لتحقق أحلام  الغلابة والفقراء مثل الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم ، ولكن ..!! . كان أمثال الشيخ إمام ونجم يبحثون عن الحرية والحركة النشطة من اجل الديمقراطية والحلم بوطن حر ومتحرر من الجوع والفقر والذل ، وطن ترفرف عليه أعلام العدالة والقيم الفاضلة خاصة وان الرجلين جاءا من القرية وكلاهما لديه مخزون هائل من التراث والألحان  والأهازيج الشعبية والتقاليد الشعبية المصرية،إضافة الى المخزون الوطني منذ طفولتهما وما به من مراحل الصراع ضد الاستعمار وضد الدكتاتورية إلى آخره .

هزيمة حرب 1967 وأغاني الرفض والسجون ومعتقل القلعة الرهيب :

وفي الخامس من يونيو عام 1967 خسرت مصر الحرب وانهارت الآمال ونسفت الأحلام وشعر الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بمرارة الهزيمة مثل ملايين المصريين ، وأختار الرجلان النضال من خلال الأغنية التى تعكس مرارة الانكسار . وهكذا تحرر ركام الألحان التي أختزنها الرجلان على مدار ثلاثة عقود وشكلا الاثنين أغنية الاحتجاج من مزيج متفجر من الإحباط والجوع والإحساس بالغدر والهزيمة ، ومع تلك التوليفة ارتفع صوت الشيخ إمام من مجاهل حي الغوريه العتيق بالقاهرة القديمة ليرمى النظام الحاكم المهزوم بالحجر الأول بعد أن خذلها القائمون على أمرها. وبكلمات نجم ولحن وأداء الشيخ إمام خرجت أغنية : ( وقعت م الجوع ومن الراحة    البقرة السمرا النطاحة ) ، وانطلقت هذه الأغنية فى الهواء لتهز أرجاء البلاد ، فقد كانت غضبة تأخذ شكل أغان تلهب وتلهم المجروحين .

وإذا كانت الكآبة قد لفت مثقفي مصر وفنانيها وشعرائها بعد هزيمة يونيو  1967، فإننا نجد  أن الصعاليك لم يحزنوا بل غضبوا وكرهوا رائحة المسؤولين عن الهزيمة ، وفي خضم هذا الغضب والعار أطلق الشيخ إمام أغنية تسخر من المؤسسة العسكرية وعلى رأسها عبد الناصر وتقول بعض كلماتها : ( الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا    يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار،  يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش    تعارف يخلي التحالف يعيش ) . ومن الأغاني المثيرة جدا التى رددها الشيخ وورائه الطلبة والمثقفين  :

( الحمد لله ولا حول .. مصر الدولة غرقانة في الكدب ع لولا ..  والشعب احتار

وكفاية أسيادنا البعدة عايشين سعدا .. بفضل ناس تملى المعدة .. وتقول أشعار

أشعار تمجد وتماين حتى الخاين .. وإن شاء الله يخربها مداين عبد الجبار .. ) .

وتلتها بعد ذلك أغنية:  ( مصر يا امة يا بهية    يا أم طرحة و جلابية ) .  وهكذا توالت أغاني الصحوة المليئة بالغضب السخرية المريرة والنقد الصريح . ومنذ ذلك الحين صارت حجرة الشيخ إمام في حوش قدم بحي الغوريه العتيق بالقاهرة القديمة ملتقى المثقفين والطلاب والفقراء وبهذا آلت قيادة الحركة الوطنية المصرية إلى الحرافيش والصعاليك (كما كانوا يطلقون على أنفسهم) بينما أخفقت محاولات اليسار في إقناع عبد الناصر باحتواء الشيخ إمام الأعمى والضرير والغاضب حتى النخاع ، وبهذا عرفت حارة حوش قدم زوار الفجر (أي مباحث أمن الدولة) كي تلقى القبض على الرجل النحيل والضعيف جسديا والضرير بصريا كي تلقى به فى غياهب سجون القلعة الرهيبة وسط عشرات آخرين من المثقفين السياسيين .

وانتشرت أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم كالنار في الهشيم ، داخل مصر وخارجها ، فكثر عليها الكلام فى الجلسات الجانبية وفى المقاهي والنوادي والحواري والأزقة والمواصلات الشعبية والصحف ، وكانت أغانيه تتردد خفية بين طلبة المدارس الثانوي والجامعات وبين العمال بين مؤيد ومعجب، و مهاجم للنظام ومنكر له . نعم لقد أشعل الرجلان الثورة . نعم ثورة الجياع والمثقفين المعدمين . وحاول النظام الإيقاع به فسمح للشيخ الضرير في البداية بتنظيم حفل  بنقابة الصحفيين بالمبنى القديم وإخراج برنامج للإذاعة وظهور تليفزيوني ، ولكن .. .

وفى عام 1969  خرجت مظاهرات طلابية حاشدة ضد أحكام الطيران العسكرية الفاسدة التى حكمت فيها المحاكم العسكرية ببراءة المتهمين والمسئولين عن هزيمة حرب يونيو  1967. وهنا قام الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم بأغانيهم التى اخذ يرددها جموع الشعب ضد النظام .  وفى نفس العام ( 1969 ) ألقت السلطات المصرية القبض على الشيخ إمام واحمد نجم وتم احتجازهما لمدة 3 أيام ليحاكما بتهمة تعاطي الحشيش ، لكن القاضي أطلق سراحهما بكفالة 10 جنيهات لكليهما . وفي تجمعات الغناء و النقاش بـ خوش قدم سجل عملاء المباحث و المخابرات الأحاديث و الأغاني للرجلين ( نجم وإمام ) ، وأمام المحاكم حكم على الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بالسجن المؤبد، ليصبح الشيخ إمام واحمد فؤاد أول سجينين مصريين عرفهما التاريخ بسبب الغناء .

التلحين والغناء داخل سجن القلعة :

ومنذ ذلك الحين أصبح الشيخ إمام نزيلا في زنزانة انفرادية بمعتقل القلعة. لكنه بمرور الوقت تأقلم رغم المعاناة، فقد استطاع تكوين صداقات داخل السجن شملت حتى الحراس، ومع مرور الوقت عرف كيف يواصل فنه؛ فقد كان يذهب للحمام في الربع ساعة اليومية المخصصة لذلك فيتلكأ عند زنزانة أحمد فؤاد نجم كى يسمعه الأخير ما لديه  فيحفظه إمام بذاكرته القوية  ، ثم يعود الى زنزانته ليلحنه ويسمعه لنجم في المرة التالية. هكذا ولدت أغان السجن مثل :

" الخط دا خطي "  ، و " حلاوللة يا حلاوللة "  ،   و " قيدوا شمعة "   ،  و " إزاي اتوب " ،  و " الطنبور "   ،   و " عيون الكلام "   ،    و " يا حبايبنا فين وحشتونا "   . وأحيانا كان الأمر يتطور ويغني الشيخ إمام ومعه نجم من فتحة الزنزانة وينفعل معه جميع المساجين .

وفي داخل السجن اختلط الشيخ إمام بمناضلين آخرين من كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية. وكان ينتقل ومعه احمد فؤاد نجم من سجن إلى آخر حتى فقدا الرجلان كل أمل فى الخروج، إلا أن وفاة الرئيس عبد الناصر عام 1970، كانت بمثابة طوق النجاة لهم، بالرغم من حزنهم الكبير عليه.

وحول علاقة الرجلين ( إمام ونجم ) بالرئيس الراحل عبد الناصر تقول الكاتبة فريدة النقاش : ورغم ما لقيه نظام عبد الناصر من هزيمة أليمة فى حرب 1967 ، ورغم ممارسات نظام عبد الناصر غير الديمقراطية ورغم فتحه لأبواب السجون للشباب الثائر ضد نظامه المقيد للحريات أمثال احمد فؤاد نجم والشيخ إمام وغيرهم من المثقفين إلا أن عبد الناصر ظل يجسد أمامهم حلم التغيير . وفى هذا السياق يقول الكاتب لويس عوض : عندما توفى عبد الناصر خرج ورائه الفلاحون والعمال على الرغم من انهم لم يحصلوا منه على شئ ذي قيمة حقيقية سوى الأمل .. الأمل فى غد والأمل فى تغيير هذا العالم القبيح القائم على الاستغلال والتفرقة الطبقية، وبالطبع كان إمام ونجم من هؤلاء الباحثين عن الأمل فى التغيير .

عهد الرئيس السادات :

وفي مايو 1971، و فيما سمي بـ ثورة التصحيح ، أفرج السادات عن المعتقلين السياسيين الذين سجنوا فى عهد عبد الناصر، ومنهم الشيخ إمام ونجم وآخرين ، الذين استقبلهم محبوهم بشوق. لكن كان العام كان متوتراً بسبب تأخر معركة الحسم مع إسرائيل ( معركة الحسم هي شعار أطلقه الرئيس السادات على عام 1971 باعتباره عام الحرب ضد إسرائيل أو معركة الحسم كما كان يرددها السادات دوما لتحرير سينا المحتلة) . وعندما خرجت مظاهرات الطلبة عام  1972 تندد بكذب ادعاء الرئيس السادات حول عام الحسم الذى لم يحسم فيه شيئا ، طلبت جموع طلبة الجامعات من الشيخ إمام ونجم مشاركتهم بإحياء حفل  بجامعة القاهرة،  وفى هذا الحفل غنى الشيخ إمام لجموع الطلبة والشعب  من كلمات نجم :  " رجعوا التلامذة للجد تانى "  ، وأغنية  " صباح الخير على الورد اللي فتح فى جناين مصر " ،  و   " مصر يا امة يا بهية "  .  ثم  أعاد الشيخ إمام الى المغامرة مرة ثانية بإحياء حفلات بجامعات المنوفية و المنصورة و عين شمس . نعم .. لقد وجد الثنائي الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم فى الرئيس السادات مادة فكاهية فى مهاجمته ، فقد تركزت أغاني الشيخ إمام على شكل الرئيس وطريقته في الكلام وكانت أغانيهما حول شخص الرئيس مبتذلة ومهينة وكانت أقرب كثيرا الى أغاني أطفال الشوارع وهم يناكفون معتوها أو مخبولا ، ومن هذه الأغاني على سبيل المثال :

( أوءه المجنون أبو برقوقه ..  وزبيبه كذب ملزوقه ..  كذاب ومنافق وحرامي .. وفي دماغه مناطق موبوئة .. ) .

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد  شارك الشيخ إمام ونجم في اعتصام بميدان التحرير الشهير بوسط العاصمة ، وهناك فقط ... هناك  تلقته أيادي العسكر لتودعه هو وصديقه أحمد فؤاد نجم بالمعتقل ليدخل سجون التعذيب مرة أخرى ومعهم  أكثر من 2000 طالب . (كان الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم  يكرهان شعارات الرئيس السادات  وممارساته معا رغم أن السادات تعهد في بداية عهده بأنه سيسير على خط الراحل عبد الناصر ، وهنا يقول المصريون ومنهم الشيخ إمام ونجم : كان أنور السادات  يسير على خط ناصر ولكن بممحاة أو أستيكة لتمحو كل ما أنجزه عبد الناصر ) . كانت شهرة الشيخ إمام ونجم  تتضاعف بعد كل سجن يدخلانه فى عهد الرئيس السادات سواء على الصعيد المصرى أو العربى. لم يمكثا  الشيخ إمام ونجم طويلاً في المعتقل ، حيث أفرج عن المعتقلين السياسيين بعد نصر أكتوبر 1973.  وبعد الإفراج  هنأ إمام ونجم  جنود مصر و شهداءها بأغان مثل : " دولا مين .. ودولا مين".

نعم .. كانت كراهية الشيخ إمام  للرئيس السادات كراهية طبقية لأن الشيخ إمام كان ينتمي للفقراء والكادحين الذين يشكلون سواد الشعب المصري الذي يكدح طيلة عمره حيث يعمل ويعمل ويظل يعمل ثم يموت فى النهاية دون الحصول على حقه . وبعد حرب أكتوبر 1973 طرح السادات  مشروعا جديدا تماما مغايرا كلية للمشروع الناصري الذي انحاز للفقراء  والبسطاء (أى للعمال والفلاحين تحت مسمى تحالف قوى الشعب العامل من العمال والفلاحين والمثقفين) ، فقد  إنحاز السادات لكبار الملاك ليس فقط في داخل المجتمع المصري وإنما اندفع مشروعه بكل قوة تجاه الولايات المتحدة الأميركية فى وقت لم يؤهل الشعب داخليا لذلك ، وهكذا سلك السادات طريقا جديدا متناقضا تماما للطريق الذي كان يسلكه عبد الناصر مما أربك غالبية المجتمع . ورفضا لفكر السادات استمر الشيخ إمام ونجم ومن معهم من الفرقاء فى مناهضته حتى عام 1976 عندما قبض على الرجلين بعد حفل كبير أحياه الشيخ إمام  بنقابة الصحفيين، ليقضيا شهوراً أخرى فى السجن .

وتكررت نوبات السجن والاعتقال بوتيرة عالية لكن الشيخ كان يزداد صلفا وقوة بل راح يلحن لشعراء آخرين خارج عن حضن رفيق عمره أحمد فؤاد نجم ، ومضى الشيخ متوهجا وبلغ ذروة جديدة في انتفاضة الخبز عام 1977 ضد نظام السادات. وفي تلك الفترة كان الشيخ إمام قد أصبح ظاهرة فنية وإنسانية، تناولها الكثيرون بالدراسة والنقد والتحليل، كما ارتبطت فرقته باليسار فنيا وليس فكريا.  لكن كان الرئيس السادات حاذقا وماهرا فى فن السياسات الانقلابية ، وهنا فقط تصالح السادات مع التيار الديني (جماعة الإخوان المسلمين) وكان يهدف من وراء ذلك إحداث تصادم بين التيارين ( اليساري والذى ينتمى إليه الشيخ إمام فنيا والديني بمكوناته المختلفة) . وهكذا صعد للعلن تيار ديني قوى معارض  بمباركة النظام ، وكان هذا التيار قادرا على سلب لمعان اليسار الذى حققه الشيخ إمام ونجم ، لأن ذلك التيار الديني كان عنيفا وفائرا خاصة بين شباب الجامعات . وهكذا بهت اليسار أمام تيار المعارضة الجديد ، وربما يرجع ذلك الى أن التيار الديني كان واسع الانتشار ورافضا لكل أنواع الفنون التى يعتمد عليها اليسار فى ترويج أجندته . أيضا وعد هذا التيار المتنامي جموع الشعب من المحرومين بدولتهم الجديدة في الثمانينات . وعلى صعيد الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم فقد قاوم التيار الديني كافة تحركات ونشاطات الشيخ إمام لأنه كان يشدد على منع وتحريم الغناء . وبهذا الفكر الجديد بدأ نشاط الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم يخفت . وكبديل لذلك الجفاف الجديد صار إمام يسافر إلى مراكز الوعي اليساري في الجزائر وسوريا واليمن ثم تجمعات الطلاب  بفرنسا وبريطانيا وألمانيا .

وفي عام 1979 تصاعدت الاحتجاجات الشعبية ضد معاهدة كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، ومن جديد يقوم الشيخ إمام بمشاركة الطلبة فى غضبهم على النظام الحاكم ، ثم يقوم بإحياء  حفل  بجامعة عين شمس سخر فيه من السلام الجديد، وانتهى الحفل كالعادة بالقبض عليه(يذكر هنا أنه بعد أن ألقى القبض علي الشيخ إمام استطاع الهرب ومعه أحمد فؤاد نجم على الرغم من كونه ضريرا ، لكن تم القبض عليه بعد ذلك) وحوكم الشيخ الضرير أمام محكمة عسكرية بتهمة العيب في الذات الرئاسية، وحكم عليه بالسجن لمدة عام ، لكن تم تبرئته وحكم على نجم الذي ظل هاربا حتى اعتقل في حملة1981 وكان معه الشيخ إمام الذي عاد في قضية جديدة، وأفرج عنهما بعد اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر من نفس العام(أكتوبر 1981) .

أغانيه عبرت القارات :

وفي الثمانينات أيضا سقطت جبهة الصمود والتصدي التى كانت تتزعمها العراق ولبيبا والجزائر واليمن . وفى تلك الفترة صار الشيخ إمام يحضر المهرجانات الحاشدة وينعم بحرارة التلاحم مع الآلاف وتخلى عن انكماشه الذي أملاه عليه العمى ، وأخذ يسافر إلى مواقع الحشود دون رفيقه نجم .

نعم لقد وصل لحن وأداء الشيخ إمام وبكلمات احمد فؤاد نجم الى كل بقعة فى العالم العربى ، فقد وصل صوته الى العراق وسوريا والجزائر واليمن ، كما وصل الى الأراضي المحتلة ، وتلقفت أغانيه جموع الفلسطينيين فى الداخل والخارج وفى المخيمات .  نعم كان رصيده هائلا فقد كبرت أغاني الشيخ إمام واتسعت لتشمل الهم الفلسطيني ثم هموم العالم من فيتنام شرقا حتى أميركا اللاتينية غربا وصدحت الزنزانات في سجن القلعة بتمجيد هوشمن وتشي جيفارا. وصار الشيخ إمام وسيظل مغنى الشعوب الثائرة والمنكوبة . 

تلقى الشيخ إمام دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية عام 1984 لإحياء بعض الحفلات فى فرنسا، فنالت حفلاته هناك إعجابا واحتفاء كبيرين من الجمهور ووسائل الإعلام وخصوصا العربية منها، كما لبى دعوات أخرى لإقامة حفلات في بريطانيا و لبنان وتونس وليبيا والجزائر، لاقت كلها نجاحات عظيمة، و ساهمت في نشر فنه على المستوى العربي.

ولكن تلك المرحلة شهدت خلافات بين الشيخ إمام ورفيق دربه أحمد فؤاد نجم وضابط إيقاعه محمد علي، ولم تنته تلك الخلافات إلا قبل وفاة الشيخ إمام بفترة قصيرة.

توفى الشيخ بهدوء: 

هكذا ظلت أغاني الشيخ إمام ملك لليسار المصرى والعربي . نعم لقد صار الاهتمام به حكرا على النخبة .  و في منتصف التسعينات كان الشيخ إمام قد تجاوز السبعين من عمره وامتلك حجرة بها سرير ودولاب، حصل عليهما بمنحة من جمعية الملحنين . ولم يعد الرجل الضرير يظهر في الكثير من المناسبات كما كان معروفا عنه ، وآثر أن يتقرب إلى الله، ولم يكن له زوجة ولا ولد، ولم يعد يزوره الكثير من المريدين . وفى صباح الأربعاء السابع من يونيو 1995  توفي الشيخ إمام في هدوء ببيته المتواضع بحي الغورية بالقاهرة القديمة ونعته النخبة المثقفة في مصر ومن تذكره من أبناء الوطن العربى .

ومع أن الشيخ إمام قد توفى إلا أن ذكراه تتجدد من خلال أغانيه كلما نشب الظرف سواء فى عودة  الطلاب إلى التظاهر أو حين ينتفض الفلسطينيون . وذلك على الرغم من انه كان وما  زال فنانا ممنوعا فى نظر النظام الحاكم المصرى فقط . وفى هذا الصدد يقول الكاتب اليساري صلاح عيسى: على الرغم من أن أغاني الشيخ إمام هي جزء من الذاكرة الوطنية والقومية للمصريين والعرب ، كما أنها تعد وثيقة تاريخية مهمة جدا لمرحلة هامة من مراحل التاريخ المصرى والعربي إلا انه ليست هناك جهة حكومية أو مدنية طلبت أو حتى تحركت من أجل الحفاظ على هذه الأغاني خاصة وأنها تحمل ألحانا قابلة للبقاء وقابلة للإلهام ، وما زال هناك لها جمهور واسع وكبير جدا ممن عاصرها وحتى الجيل الجديد الذى يأمل فى الاستماع إليها حتى لو كان ذلك بأصوات جديدة مع إعادة توزيع أعمالها بما يليق بها ، على الرغم من أننا نفضل تماما سماع صوت الشيخ إمام نفسه  خاصة وانه يوجد بتلك الأغاني قيم جمالية من ناحية الموسيقى والتلحين ومن ناحية الكلام أيضا .