الشيخ أمجد الزهاوي

عبد الله الطنطاوي

العالم الرباني المجاهد

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

تمهيد:

هناك رجال حياتهم خير، ومماتهم خير، فهم يبقون في ذاكرة الشعوب والأفراد، يذكرون أولئك الأخيار الأبرار، ويتأسون بهم، فيستمر خيرهم زمناً طويلاً.

وهناك رجال، حياتهم شر، ومماتهم شر، وقد عرفنا بعض هؤلاء.

وكان الشيخ أمجد من الفريق الأول، فقد عاصر أخطر الحوادث في العالم الإسلامي والوطن العربي، وكان يؤدي دوره الكبير في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ الإسلام والمسلمين، وتسجَّل أعماله ومواقفه بأحرف من نور، فقد عاش الإسلام وللإسلام، فكان حياً في قلوب الناس، وتجرد لله، فأحبّه الناس، ولا ينبغي إلا أن يكون حاله هكذا، فمن عمل لله، ولمصلحة المسلمين، وضحّى بعمره كله في سبيل هذين الهدفين العظيمين، أحبّه الله، وبارك عمله، وجعله محبوب الجماهير المؤمنة.

ولادته ونشأته:

وُلد الشيخ أمجد في مدينة بغداد سنة 1300هـ - 1882م لأبوين كريمين، ومن أسرة علم وفضل ودين وإفتاء، فأبوه الشيخ محمد سعيد مفتي بغداد، وجدّه الشيخ محمد فيضي كان مفتي بغداد أيضاً، وهذا هو ابن الشيخ أحمد بن حسن بيك بن رستم، بن خسرو بن الأمير سليمان باشا، رئيس الأسرة البابانية التي تعود أصولها إلى أرومة عربية عريقة تنحدر من بني مخزوم، وهم من سلالة البطل العظيم خالد بن الوليد سيف الله المسلول، رضي الله عنه وأرضاه، وتحتفظ هذه الأسرة الكريمة بشجرة النسب، وتذكره في المناسبات.

وكانت الأسرة البابانية قد استوطنت منطقة السليمانية في كردستان العراق، وكان أبناؤها من أمراء تلك المناطق، فقد كونت الأسرة إمارة في السليمانية، حكمت المنطقة زمناً طويلاً، واستكردت بحكم البيئة.

هاجر بعض أفراد هذه الأسرة إلى مدينة (زهاوى) في منطقة كرمنشاه في إيران، على أثر نزاع، وعندما عادوا إلى العراق نُسبوا إلى (زهاوى) فقيل لهم (زهاوي).

وقد أنجبت هذه الأسرة علماء فضلاء في الفكر والفلسفة والدين والشعر وكانوا نجوم علم ومعرفة في سماء العراق.

نشأ الشيخ أمجد في رعاية جدّه المفتي الشيخ محمد فيضي الذي كان يحبّه ويربيه ويرعاه منذ طفولته، فقد كان يتوسم فيه النبوغ والذكاء، وكان جدّه يقول: (إن حفيدي أمجد أحبّ إليّ من ابني).

تعليمه:

تلقّى تعليمه الأوّلي على يدي والده وجدّه، وكلاهما عالم فاضل، ومربّ حكيم، ثم انطلق إلى مجالس العلماء في بغداد، يستمع إليهم، ويحاورهم فيما يشكل عليه، ويستمعون إلى الفتى الذي غدا عالماً في الشريعة، فقيهاً، يقتنص الشوارد في الفتاوى والأحكام، ولغوياً أديباً، ثم رحل إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، ودرس في كلية القضاء، وتخرج فيها بتفوّق عام 1906.

واستمرّ الشيخ في تحصيله العلمي حتى غدا فقيهاً حنفياً متمكناً، له مشاركاته في كل علم، وكان له ذهن عجيب نفّاذ يخترق كل معضلة علمية، لا بالرأي المقول، بل برأيه هو، ويقول علي الطنطاوي عنه:

"ولقد بقيت معه أكثر من سبعة أشهر، وكنت أجالسه كل يوم أربع ساعات أو خمساً على الأقل، كان يتكلم فيها، على الغالب، وحده، فما سمعت منه من الأحاديث المعادة أو الآراء المكررة إلا القليل".

وليس هذا بمستغرب على فقيه مجتهد بارز بين علماء المسلمين في عصره، فهو كبير علماء العراق، ومن كبار علماء المسلمين، ورجل الفتوى بينهم، ذاع صيته في الآفاق، وتعلّقت به القلوب، وكان مرجعاً كبيراً ترد إليه الأسئلة والاستفتاءات من سائر أرجاء العالم الإسلامي، ويجيب عليها، وقد أطلقوا عليه بحق، لقب (أبو حنيفة الصغير) لإحاطته بالمذهب، واستيعابه وإدراكه الذكي لدقائق المسائل الفقهية في هذا المذهب، حتى قال قائلهم: لو فُقد المذهب الحنفي، واندثرت كتبه، لأملاه الزهاوي عن ظهر قلب، من أول أبوابه حتى خواتيمها.

صفاته:

كان غنياً، ولكن منظره يوحي بالفقر، فقد كان يملك 16 ألف دونم من الأرض، ولكنه زاهد حقاً، وقلبه مسكون بمراقبة الله وذكر الآخرة، لا يفرح بما آتاه الله من مال فرحاً يطغيه وينسيه دينه، ولا يحزن إذا فقد ما أعطاه الله، ولا يقنط من رحمته. كان في شبابه يؤثر الانعزال عن الناس، منفرداً بكتبه وتلاميذه وأولاده، فلما ترك العمل، وبلغ السن التي يستريح فيها أمثاله، انتفض انتفاضة، فإذا هو يرجع شاباً في جسده وفي همته، يختلط بالناس، في حيوية ونشاط، حتى بلغ به الأمر أن يرأس أكثر الجمعيات التي تأسست، وإذا هو يصلح مدارس الأوقاف، ثم يفتتح مدرسة ابتدائية، وثانوية خاصتين. وكان مضرب المثل في العفّة والورع والنزاهة والأمانة والصلابة في الحق، وكان فوق الشبهات، ولا يخشى في الله لومة لائم، ومواقفه والحوادث التي تدل على ذلك كثيرة وكثيرة جداً.

وكان كثير العبادة، قلبه معلق بالمساجد، وبالصلاة في كل مكان من الأرض التي جعلها الله مسجداً وطهوراً، وكان يحرص على الصلاة في وقتها، فعندما كان طالباً في مدرسة القضاء في إستانبول، كان يضع سجادة الصلاة على كتفه أينما ذهب، حتى لا يؤخر صلاة عن وقتها ولو لدقائق، وكان صديقه نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي المعروف، يدرس في الوقت نفسه في الكلية العسكرية في إستانبول، ولذلك، عندما كان يلتقيه كان يسأله ممازحاً: "أمجد أفندي، أين سجادتك؟".

إذا سمع المؤذن، قام من فوره إلى الصلاة، أينما كان وكيفما كان.. فهو يترك المائدة الملوكية، والحفلات الرسمية، ويبادر إلى الوضوء والصلاة.

وإذا وقف للصلاة نقّى قلبه، ونفى عنه كل ما يتصل بالدنيا، ثم صرخ (الله أكبر) فكأنها قنبلة أُلقيتْ في وجه الشيطان، على حدّ وصف الذين رأوه يكبّر للصلاة، ومنهم الشيخ علي الطنطاوي.

وبلغ من حرصه على تعاليم إسلامه، أنه بعد انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 تشاءم الشيخ منه، واستنكر المجزرة التي ارتكبها الانقلابيون بحق الأسرة المالكة، وصلّى صلاة الغائب عليهم، لأنهم مسلمون، ولم يصلّ عليهم أحد، ويخشى أن يصيبه الإثم إذا لم يصلّ عليهم، وتوقّع أن تصيب العراق كوارث تحصد الملايين، وقرر الهجرة إلى باكستان لتكون مستقراً له، وبعيداً عن الفتن التي كان يقودها الشيوعيون إبان حكم قاسم.

كان صريحاً جداً، لا يعرف المداهنة ولا المجاملة.

ويكره المتفرنجين، ويألف المشايخ، ويجلس حيث يجلسون على الأرض، ويأكل معهم.

ويكره تقليد الإفرنج، لكنه يقرأ ما يصل إليه من كتبهم، ويروي النافع من أقوالهم، ويضيق صدره بالحديث عنهم.

وكان لا يبالي طعاماً، إن جئت به أكل من طيباته، وإن لم يجد صبر، وما كان يقول: هذا طيب، وهذا رديء، بل يأكل ما يقدَّم إليه ويحمد الله عليه.

ولشدة ورعه، أنه لما شك في طعام فنادق الهند التي كان يزورها، بقي شهرين لا يأكل إلا الخبز والشاي، وهو المريض بالإمساك.

وكان لا يبالي مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، ولا يستهويه مديح الملوك له، ولا تقديمهم إياه.

كان بركة العصر بحق، وفياً لإخوانه العلماء حيث كانوا، فكان يراسلهم، ويسأل عن أخبارهم، ويدافع عنهم، ويدعو لهم، وينصحهم، ويتدارس معهم شؤون المسلمين، كالشيخ الصواف، والسباعي، والطنطاوي، والكتاني، والصلاحي، وغيرهم.

وكان ذكياً، حافظاً بارعاً للعلوم واللغة والآداب، وكان متواضعاً، فسيح الأمل، لا يتطرق اليأس إلى قلبه المسكون بالإيمان بالله تعالى، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحمل بين جنبيه نفساً عالية، وروحاً يجيش فيها حبُّ الجهاد في سبيل الله، وكان ورعاً من رجال الآخرة، ولم يكن من رجال الدنيا، فما كان يريدها، ولا يسعى إليها، ولا يحرص على ما يأتيه منها، والدنيا عنده مزرعة للآخرة، لقد زهد فيها وبما فيها من مال وزخرف، فلم تحتلَّ من نفسه حيزاً يُذكر، وكان عفيفاً، رقيقاً في نصحه ووعظه وإرشاده، شديداً في الحق، يواجه المسؤولين بواجباتهم، وبأعمالهم، وينصحهم، ويذكرهم بالله، وبحقوق الشعب، وينذرهم عاقبة أعمالهم في الدنيا والآخرة. وكان يحب العمل الجماعي المنظم، ويكره الانزواء والانطواء والانعزال والعمل الفردي، والارتجال. 

وظائفه:

بعد عودته من الآستانة عام 1906 عُيِّن مفتياً في الأحساء، ثم عضواً في محكمة استئناف بغداد، ثم رئيس محكمة حقوق الموصل، ثم اعتزل الوظيفة، وعمل محامياً، بعد دخول القوات الإنجليزية إلى بغداد، ثم عاد إلى الوظيفة وعمل مستشاراً للحقوق في وزارة الأوقاف، وأستاذاً في كلية الحقوق العراقية، ثم رئيس مجلس التمييز الشرعي، وكان في الوقت نفسه يدرِّس في المدرسة السليمانية في بغداد، فقد كان التدريس، وتربية النشء على الفضيلة ومكارم الأخلاق أحبَّ إلى نفسه من سائر الوظائف والمناصب مهما علت، فعندما صدر أمر وزاري بعدم جواز الجمع بين مجلس التمييز الشرعي والتدريس، استقال من المجلس، وآثر عليه البقاء في التدريس.

ثم انتخب الشيخ رئيساً لرابطة علماء العراق، ورئيس جمعية إنقاذ فلسطين، ورئيس جمعية الآداب الإسلامية، ورئيس جمعية الأخوة الإسلامية (الإخوان المسلمون) ومنها تفرعت جمعية الأخت المسلمة التي رأستها بنته العالمة الفاضلة الأديبة: نهال أمجد الزهاوي.

بل نستطيع أن نزعم أنه كان يرأس كل جمعية خيرية وعلمية وتربوية في العراق.

رحلاته:

كانت رحلات الشيخ لله، ومن أجل نصرة قضايا العرب والمسلمين، ولم تكن يوماً للراحة والاستجمام والسياحة، وقد سافر وحضر المؤتمرات من أجل فلسطين خاصة، وقضايا المسلمين عامة، كقضية الجزائر وثورتها المظفَّرة، سافر إلى بلاد الشام، والحجاز، ومصر وباكستان والهند، وشمال أفريقيا، وأندونيسيا، وماليزيا مرات ومرات، كان فيها يلتقي العلماء العاملين، والزعماء الصالحين، ويشرع لهم المهمات التي ارتحل من أجلها، ويحثهم على العمل الجاد لإصلاح أحوال المسلمين، وعندما التقى الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، بهره، وحرص على ملازمته، وأوصى صهره الداعية الكبير سعيد رمضان- رحمه الله – بمرافقته والإفادة منه، وقال له: "إذا أردت أن تنظر إلى صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى الشيخ أمجد الزهاوي، فاستمع إلى حديثه، فإنه يحرك سواكن النفوس، ويبعث الهمة فيها، ويدفعها نحو الخير حيثما وُجد وحيثما كان.

تربية الأجيال:

كان الشيخ مشغولاً بأمور المسلمين، شغلته أوضاعهم، ومشكلاتهم، ومصائبهم عن نفسه وصحّته وأهله وماله، وقد أهمَّه ما هم عليه من ضعف، واستكانة، وخنوع، فانطلق يدعوهم إلى القوة، وتربية النشء عليها، وهذه لا تتأتّى إلا إذا رُبِّيت الناشئة على الإسلام، وقد أبدى إعجابه بالجيل المؤمن القويّ الذي ربّاه حسن البنا، فدعا إلى أن تحذوا الجمعيات والأحزاب والجماعات حذوه.. لقد "كان يحرص أشد الحرص على تربية الناشئة الإسلامية تربية إسلامية واعية، تغرس فيهم روح الجهاد، وتدعوهم إلى القوة والتعارف والاتحاد والحب فيما بينهم".

ويرى أن هذه مهمة العلماء.. ومن أجل ذلك أسس جمعية التربية الإسلامية التي فتحت لها مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية لتعليمهم وتربيتهم التربية الإسلامية السليمة، وكذلك كان يريد من جمعية الأخوة الإسلامية التي أسسها مع تلميذه الصواف، وكان رئيساً لها. لقد كانت تربية النشء من همومه الكبيرة التي لا تفارقه، يدعو إخوانه ويلحّ عليهم في هذه الوظيفة المهمة.

كان يهتم بها ويدعو إلى الاهتمام بها أكثر من العلم "فالعلماء في مصر كثيرون، ولم يظهر لأحد منهم ما يقارب عمل البنا رحمه الله، فله في نواحي الإسلام دعاة للخير، وسينجحون إن شاء الله، والعاقبة للمتقين".

"إن التربية الصحيحة الجدية هي التي تغرس في قلوب الناشئة عظمة الإسلام، ومظاهر القوة.. وأمرٌ يكون أمثال هؤلاء حماته، لن يتسرب إليه ضعف بحول الله، فالله ناصرهم لا محالة، بإخلاصهم النية، وامتثالهم أوامر الله سبحانه وتعالى في نشر الدعوة، والدفاع عنها".

فلسطين:

كانت فلسطين همّه الكبير، وشغله الشاغل، أسس من أجلها الجمعيات وحضر المؤتمرات، وجمع المعونات، وجنّد المجاهدين، وأرسلهم إلى فلسطين، من أجل استنقاذها من براثن اليهود المحتلين، وحاضر من أجلها في العديد من الدول والمدن والجمعيات، وبيّن للمسلمين خطورة هذه القضية على العرب والمسلمين، ما لم يبادروا إلى العمل الجاد المكافئ لأعمال اليهود ومن يقف وراءهم من دول الاستكبار العالمي المعادية للإسلام والمسلمين.

حضر المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في ساحة المسجد الأقصى في 27 من رجب 1372هـ للنظر في قضية فلسطين، وشؤون إسلامية أخرى، وكان الداعي إلى المؤتمر الشيخ محمد عبد اللطيف دراز رئيس جبهة الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية، باسم الجمعية، التي مقرها في القاهرة، وهو مؤتمر شعبي مبرأ من وصمات السياسة التي فرّطت في حقوق المسلمين، وأكسبتهم عاراً لا تمحوه سوى الدماء.

حضر الزهاوي هذا المؤتمر بصفته رئيساً لجمعية إنقاذ فلسطين، ومعه سكرتير الجمعية الشيخ محمد محمود الصواف، وتخلّف الداعون إلى المؤتمر، فبادر الشيخان، الزهاوي والصواف إلى تبني فكرة المؤتمر، وصارا أصحابها، وجمعا العلماء والخطباء وشباب الدعوة الإسلامية من الإخوان المسلمين، وعقد الجميع اجتماعات متواصلة، وتشاوروا وتذاكروا في قضية فلسطين، وقضايا المسلمين، وقد أسفر عملهم عن تأسيس مكتب دائم في القدس أسموه: مكتب الإسراء والمعراج، ليكون نقطة التقاء وارتكاز وانطلاق.

ثم عاد الوفد العراقي إلى بغداد، وقد صمموا أن يتجهوا –بعد الله تعالى- إلى الشعوب الإسلامية، وأعلنوا يأسهم من الحكام ومن تصرفاتهم الخائبة التي نكّست رؤوس العرب، وفضحتهم في العالمين، واعتبروا القضية الفلسطينية هي قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، ومن الممكن أن تكون المنطلق الصحيح لخدمة قضية القضايا في مشكلات المسلمين، وهي قضية الإسلام نفسه، والسعي من ورائها لتحقيق الوحدة الإسلامية العقائدية المرتجاة، وذلك للأسباب الآتية:

1 – قضية فلسطين هي قضية المسجد الأقصى، الذي هو قضية المسلمين جميعاً.

2 – وهي ترتبط بالمقدسات الدينية القائمة على أسس روحية ودينية متينة وأقوى من كل المظاهر السياسية العارضة.

3 – والعدو فيها هو الصهيونية العالمية، وهذا يتطلب مكافحتها على نطاق إسلامي عالمي أيضاً.

4 – الدولة التي أحدثتها الصهيونية ذات اسم ديني (إسرائيل) وهذا يعطينا الحق على محاربتها باسم الدين أيضاً.

5 – العمل لقضية فلسطين هو من أجل إبطال وضع شاذ، وظلم قام على القوة، وهذا يقتضينا العمل بروح جهادية إيجابية، لا مجرد إصدار قرارات ميتة أو شبه ميتة.

6 – شواهد التاريخ تقول: إن هذه المنطقة من ديار الإسلام، كانت دائماً منطقة صراع بين عهود الذل والفساد والتمزق، وبين عهود العز والتجمع للعالم الإسلامي كله.

قررت جمعية إنقاذ فلسطين الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي بمناسبة شهر المولد النبوي الشريف من 27 ربيع الأول حتى الثالث من ربيع الثاني 1373هـ (3 – 12/1953) واستطاع الزهاوي جمع الأموال لهذا المؤتمر من الحكومة العراقية، ومن التجار الأغنياء العراقيين، ووجّهوا الدعوة إلى قادة العالم الإسلامي.

ثم سافر الزهاوي والصواف إلى مصر والسعودية، والتقوا رجال الحركة الإسلامية، والعلماء، ثم عادا إلى الأردن، فالقدس، لاستقبال المدعوين قبل الموعد ببضعة أيام.

وقد حضر المؤتمر 75 شخصية إسلامية، كالأستاذ سيد قطب، وعصام العطار، وعلال الفاسي، والقليبي، والورتلاني، والأميري وسعيد رمضان، وكامل الشريف، ومحمد عبد الرحمن خليفة، وسواهم من القادة، واعتذر قادة آخرون، ووصلت إلى المؤتمر مئات البرقيات المؤيدة والتي تبدي استعدادها للقيام بما تكلّف به.

أعلن المؤتمر بطلان الوضع الذي أحدثه اليهود في فلسطين من تقسيم واحتلال وتشريد للفلسطينيين، وغصب لحقوقهم. واعتبار الصلح مع إسرائيل، أو التعامل معها خيانة عظمى، والتفكير في تدويل القدس مؤامرة استعمارية يقف العالم الإسلامي في وجهها.

إلى آخر ما هنالك من قرارات وتوصيات لو عمل العرب والمسلمون بها، لكانت الحال غير الحال، وكان للزهاوي جهود مبرورة هائلة في سيرورة المؤتمر الذي اختاره رئيساً دائماً له بالإجماع، ثم انطلق في رحلة استمرت سبعة أشهر طاف فيها عدداً من البلدان الإسلامية، والتقى الكثير من القادة والمفكرين الإسلاميين، وجمع الأموال، واستجاش العواطف، واستثار العقول من أجل هذه القضية الكبرى التي خانها من خانها، وتآمر عليها من تآمر، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.

وكان يكاتب الملوك من أجل هذه القضية، ومن أجل قضايا المسلمين الأخرى، فقد كتب إلى الملك سعود، والملك محمد الخامس، والملك إدريس السنوسي، والرئيس السوداني والرئيس الباكستاني محمد أيوب خان، والملك فيصل وسواهم.

وكان يراسل ويلتقي رجال الإسلام، ويدعوهم إلى التعاقد على نصرة الإسلام والمسلمين حيث كانوا، وخاصة القضية الفلسطينية، ويدعوهم إلى الجد في العمل، والإخلاص فيه، وأن يكون هدفهم الأول استرجاع فلسطين العزيزة، وأن يبذلوا في سبيلها كل غال ونفيس، وكان يخاطب العاملين لنصرة فلسطين بقوله:

"إخواني لا تهتموا بالمال، فإن الناس متى علموا صدق أعمالنا ونياتنا، فسوف يحملون المال على أطباق فوق رؤوسهم، ويأتون به إلينا".

وقد بدأ وإخوانه في تجهيز المتطوعين بجميع مستلزماتهم، وكلهم كانوا يطلبون الإسراع بالتوجه إلى ساحة الشرف، ليكون لهم الشرف في حماية أرض الإسلام من أرجاس اليهود ومن والاهم من أعداء الله والمسلمين.

وفاته:

توفي الشيخ عصر يوم الجمعة، الرابع عشر من شعبان 1387هـ - 17/11/1967 وشُيّع جثمانه من داره في حي الوزيرية ببغداد، إلى مثواه الأخير في مقبرة الإمام الأعظم في حي الأعظمية في بغداد، وحضر الجنازة كل من تناهى إليه خبر نعيه، فقد أجمعت سائر فئات الشعب العراقي على محبته، فبكته وبكت فيه الرجولة والعلم والجهاد حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، رحمه الله رحمة واسعة.

               

المراجع:

- الإمام أمجد بن محمد سعيد الزهاوي، لكاظم المشايخي.

- من سجل ذكرياتي، لمحمد محمود الصواف.

- صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، لمحمد محمود الصواف.

- العلامة المجاهد الشيخ أمجد الزهاوي شيخ علماء العراق المعاصرين، لمحمد محمود الصواف.

- ذكرياتي: للشيخ علي الطنطاوي.

- في أندونيسيا: علي الطنطاوي.

- رجال من التاريخ: علي الطنطاوي.