أحمد أمين

أحد أهم رموز الأدب الإسلامي التنويري

حسين علي محمد حسنين

كاتب وباحث/ عضو إتحاد كتاب مصر

[email protected]

·  كان يرسل تقاريرا سرية إلى سعد باشا زغلول خلال ثورة 1919، ولعب دور الوسيط فى نقل الشفرة السرية من سعد زغلول إلى رفاقه الوطنيين ، ويخرج بعمامته ومعه قسيسا يحملان معا الهلال والصليب فى المظاهرات التى كانت ترمى إلى التقريب بين المسيحيين والمسلمين .

·  شارك مع كل من طه حسين وعبد الحميد العبادى فى وضع أول مشروع  دراسة عن الحياة الإسلامية للعصور المتعاقبة على ظهور الإسلام لكن طه والعبادى لم يلتزما بالمشروع، ونفذه أحمد أمين بمفرده فكتب فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، وهو أعظم ما كتب فى هذا الشأن.

·  وضع مشروع الجامعة الشعبية ونفذه وظل محتفظا برئاسة مجلس إدارتها لسنوات طويلة.

القاهرة: حسين حسنين

إسمه الحقيقي أحمد أمين إبراهيم (ويعرف بالأديب أحمد أمين للتفرقة بينه وأحمد أمين القاضى السكندرى) . تنحدر عائلته من قرية "سمخراط" التابعة لمديرية  البحيرة، لكن والده ترك القرية مع شقيقه الأكبر إلى القاهرة بحثا عن العمل ، ونزلا بحي المنشية ( التابع لقسم الخليفة) وهو أكثر أحياء القاهرة عدداً وأقلها مالاً وأسوؤها حالاً، ويسكنها العمال والصناع والباعة والجوالون ونسبة لا بأس بها من الطبقة الوسطى وقليل من العليا وذلك فى منتصف القرن التاسع عشر.

خلال دراسة والده بالأزهر تزوج وأنجب عددا من الأطفال منهم أحمد الذى نحن بصدد دراسة سيرته والذى ولد في الساعة الخامسة صباحاً من أول أكتوبر سنه 1886 فى عهد الخديوى توفيق.  

بدأ أحمد أمين أولى مراحله التعليمية فى الكتاب ، ولبث بها نحو خمس سنوات حفظ فيها القرآن وتعلم القراءة والكتابة .  بعد مرحلة الكتاب إنتقل أحمد أمين إلى مدرسة أم عباس الإبتدائية ، سميت بعد ذلك مدرسة " بنْبا قادن ".  وحول دخوله المدرسة الإبتدائية يقول أحمد أمين: " بمجرد دخولي المدرسة لبست بدلة بدل الجلباب، ولبستُ طربوشاً بدل الطاقية ، وأحسست علواً في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة التى كنت أعيش فيها " .  

لكن والده قرر إخرجه  من المدرسة الإبتدائية ليدخله الأزهر بعد أن قضى بالمدرسة المدنية الحديثة عدة سنوات . ويلبس أحمد أمين لباس الأزهر المكون من القباء والجبة و العمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والحذاء . وهنا يقول أحمد أمين:" كان منظري غريباً على كل من رآني في الحارة أو الشارع ... كانوا كثيراً ما يتضاحكون علي إذا رأوني بالعمة، وكثيراً ما أرى الأولاد في الشارع يتغامزون علي فأحس ضيقاً أو خجلاً ، لذلك كنت أتلمس الحارات الخالية من الناس لأمر بها .. والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في مدرسة أم عباس ، فقد كان يظن أني مسخت مسخاً وتبدلت بعد الحضارة، لذلك نفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، فانقبض صدري كثيرا لأني فقدت أصدقائي القدامى و لم أستعض عنهم أصدقاء جدداً، فكنت كالفرع الذى قطع من شجرته أو الشاة التى عزلت عن قطيعها، أو الغريب في بلد غير بلده ... وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، ومما ألمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ ثم عاد ووتصابى فكلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عسر، ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض "

ويذكر أحمد أمين أول مرة يذهب فيها إلى الأزهر للدراسة فيقول: "رأيت أبي يخلع نعليه عند باب الأزهر ويطويهما ويمسكهما بيده فعملت مثل عمله، وسرت بجانبه قليلاً في ممشى قصير دخلنا منه على إيوان كبير لا ترى العين آخرة، فرش كله بالحصير وامتدت أعمدته صفوفاً، كل عمود وضع بجانبه كرسي عال مجنح قد شد إلى العمود بسلسلة من حديد ، وجلس على كل كرسي شيخ معمم كأبي، بيده ملازم صفراء من كتاب، وأمامه حلقة مفرغة وأحياناً غير مفرغة ، يلبس أكثرهم قباء أبيض أو جلباباً أبيض عليه عباءة سوداء، وأمامه أو بجانبه مركوبه، ويمسك بيده ملزمة من كتاب كما يمسك الشيخ.. والشيخ يقرأ أو يفسر والطلبة ينصتون أو يجادلون ، وبين العمود والعمود بعض الطلبة يجتمعون فيأكلون أو يذاكرون ... ثم خرجنا من هذا الإيوان إلى فناء الأزهر أو صحنه فرأيته  سماوياً غير مسقوف، ومبلطاً غير مفروش، وهنا وهناك فرشت ملاءة بيضاء أو عباءة سوداء صفف عليها خبز ريفي وعرض في الشمس ليجف، هذا هو الأزهر كما رأيته أول مرة. ويضيف أحمد أمين: " وقارنت بين حصير الأزهر ومقاعد مدرسة أم عباس ، ومدرس الأزهر ومدرس المدرسة، وفناء الأزهر حيث يشمس الخبز وفناء المدرسة حيث نلعب ونمرح، فكانت مقارنة حزينة".  ويقول أحمد أمين: " وأخذنى أبى إلى رواق من أروقة الأزهر، وخرجنا من باب آخر علمت فيما بعد أنه يسمى باب المزينين كما أن الباب الذي دخلت منه كان يسمى باب الصعايدة، وقد سمي الأول باب المزينين لأن على رأسه حوانيت حلاقين لمجاوري الأزهر وشيوخهم ".

كان الفتى أحمد يصحو من نومه عند آذان الفجر مهما كان الشتاء قارساً، ويصلي مع والده ثم يلبس ملابسه، ويخرج من بيته في الظلام، والدنيا نائمة والأصوات هادئة، إلا صوت الديك يؤذن، أو صوت الكلب ينبح، ويسير طويلاً من بيته إلى الأزهر، فلم يكن ترام ولا سيارات عامة فى ذلك الوقت. وتعرف أحمد أمين على صديق يكبره فى الدراسة بعام دعاه هذا الصديق لحضور دروس الشيخ محمد عبده ، وهنا يقول أحمد أمين: "حضرت درسين اثنين، فسمعت صوتاً جميلاً ورأيت منه منظراً جليلاً، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، لكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه إذ توفى الشيخ محمد عبده بعد ذلك" .    ويذكر أحمد أمين أن والده ساعده فى الدراسة الأزهرية كثيرا ، وهنا يقول: " كان أبى يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة، فكان يرى في الحواشي والتقارير مضيعة للوقت، وعليه رتب لي دروساً في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها ، ف كماا

مع ذلك لم يكن أحمد أمين راضيا عن دراسته بالأزهر وظهر ذلك واضحا عندما رأى بعض زملائه  يقدمون طلباً للدراسة  بمدرسة دار العلوم، فقدم مثلهم، ورأي الأمر سهلاً علييه، فهم يمتحنون في حفظ القرآن وهو يحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وهو يحفظها وي فقد كان يحلم  بالتعليم فى مدرسة نظامية واضحة الحدود والمعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة ، ثم يخرج مدرساً في المدارس الأميرية. لكن قبل إمتحانه بمدرسة دار العلوم كان لابد من توقيع الكشف الطبي وهو. لذلك رسب الفتى فى الامتحان الطبي ، وحز ذلك في نفسه كثيرا بعد أن رى زملائه ينجحون وهو لا ينجح، ويدخلون دار العلوم ، بينما هو يعود إلى الأزهر .

ومرة ثانية يقرأ بإحدى الجرائد عن إعلان  لوزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية، يقومون بالتدريس في مدارسها بأربعة جنيهات شهرياً، ويدخل أحمد الإمتحان وينجح هذه المرة ة ويعين بمدرسة تابعة لأوقاف أهلية وخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، هي مدرسة راتب باشا بالإسكندرية وذهب الشاب إلى الأسكندرية للعمل مدرسا للغة العربية بالصف الرابع الإبتدائى . وبالإسكندرية تعرف أحمد أمين على صديق كان يعمل أستاذاً للغة العربية بمدرسة رأس التين الثانوية تخرج من دار العلوم هو الشيخ عبد الحكيم بن محمد ، وكان يلتقى به دائما بمحل عم أحمد الشربتلى الذى كان مجمعا للأدباء والظرفاء فى ذلك الوقت وقد تعرف على بعضهم .

وحول علاقته بالسياسة :لم يكن أحمد أمين من هواة السياسة حتى أنه لم يقرأ الجرائد فى صباه خاصة أنها لم تدخل بيتهم ، ولم يجلس بمقهى ليقرأها أيضا حتى جاءت حادثة زواج الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بالست صفية بنت الشيخ السادات، ومنذ ذلك الحين بدأ يقرأ الجرائد ، ويقول أحمد أمين فى تلك الحادثة: " هي حادثة تحدث كل يوم ولا تحرك ساكناً، لكن هذه المرة أقامت مصر وأقعدتها، من الخديوى عباس حلمى الثانى إلى البائع الجوال، فرجل كهل تزوج بنتاً بلغت سن الرشد وكان الزواج برضاها دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على هذا الزواج؟ وهنا لعبت الخصومات السياسية دورها في هذا الموضوع، فقد رفع والد الفتاة قضية بطلب فسخ عقد الزواج لعدم كفاءة الزوج للزوجة، كاشفا أن الفتاة  شريفة من نسل النبي، والزوج ليس بشريف، واشترك في هذه المعمعة القضاء والسياسة والأدب، فكانت جلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تنشر بالجرائد ، وكان الشعراء يصنعون المقطوعات الطريفة في هذا الموضوع تنشرها الجرائد ، أما الجرائد الهزلية فكانت تنشر "النكت" اللاذعة. وهكذا اهتاجت عواطف الناس، وأخذوا يترقبون>ن الجرائد ويتلقفوها مطلع كل يوم جديد ، ومنذ ذلك الحين اتصلت بالجرائد بعد سنتين من عمل الشاب  بالإسكندرية، سعى والده لتعيينه ه ان يحن إليها دائماً ، وبالفعل قام بالتدريس للسنة الأولى والثانية . وأثناء الدراسة مرض أحمد أمين بحمى التيفود مرضاً شديداً، حتى أشرف على الهلاك، وكان والده يدخل عليه حجرته قبل خروجه إلى عمله ، ويقول أحمد أمين فى هذا الخصوص: "كان والدي يجلس س بجوار رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: "حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"... ثم ينفث في وجهي، وعندما يعود من عمله في المساء يكرر هذا الدعاء... ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كاد الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة".   

   في سنه 1907م تقرر فتح مدرسة القضاء الشرعي، وكان الغرض منها تخريج قضاة شرعيين مكان الذين عمت منهم الشكوى. ويرجع ذلك إلى جهد شاق قام به الشيخ محمد عبده، على أثره فكرت نظارة الحقانية(وزارة العدل) في إنشاء مدرسة القضاء الشرعى، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظراً (وزيرا) للمعارف فى ذلك الوقت ، وأميناً على أفكار الشيخ محمد عبده. وكان الخديوى عباس حلمى الثانى معارضاً لهذا المشروع معتقدا أنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، ويأتي ذلك بعد أن سلب من قبل إعداد مدرسي اللغة العربية عندما تم إنشاء مدرسة دار العلوم خاصة وأن الأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي ، والأهم من كل ذلك أن فكرة مدرسة القضاء نبعت في فكر الشيخ محمد عبده، واحتضنها صديقه سعد زغلول . وعلى أثر ذلك الخلاف طلب الطرفان دعوة  مجلس الوزراء للاجتماع فى 25 فبراير 1907م ورأسه الخديوي، الذى أوضح إعتراضاته على المشروع، واقترح إرجاء النظر فيه ، لكن سعد باشا أصر على تأييد المشروع ، ودافع عن الفكرة، ثم أخذت الأصوات فى النهاية ، فانضم جميع الوزراء إلى سعد باشا، ما عدا وزير الأشغال، فلم يسع الخديوي عباس حلمى الثانى إلا أن وافق على رأيهم ومضي القانون . ويذكر فى هذا الخصوص أن تلك الحادثة دلت على إحترام الخديوي عباس حلمى الثانى للديمقراطية التى لم تعرف سابقة مثلها من قبل حيث يخالف فيها أكثر النظار(الوزراء) الخديوي، فينزل عن رأيه إستجابة لرأى الأغلبية وهو ما يؤكد مدى النضج الديمقراطي الذى كانت تمر به البلاد فى ذلك الوقت  . وهكذا أعلن عن طلبات الإلتحاق بمدرسة القضاء وشرط القبول ومواعيد الامتحان، وتقدم أحمد أمين ، وكانت خشيته من الكشف الطبي على النظر أكبر من خشيته من الامتحان، فرسب في الامتحان الطبى ، لكن حدث ما ليس في الحسبان فقد رأى عاطف بك بركات ناظر المدرسة كثرة الساقطين في النظر، فأرجأ البت فيمن يقبل ومن لا يقبل إلى ما بعد الامتحان، وتقدم لهذا الامتحان أكثر من مئتين. وتركز الإمتحان في اللغة العربية نحواً وصرفاً والفقه، والبلاغة، والحساب والهندسة، والجغرافيا والتاريخ، وكان امتحاناً عسيراً رسب فيه كل المتقدمين إلا خمسة، وكان ترتيب أحمد أمين الثالث فشفع له ذلك عند ناظر المدرسة في قصر نظره طبيا، ثم ضم إليهم تسعة من أحسن الراسبين، وبعض من هؤلاء التسعة تم إختيارهم لأنهم من أبناء كبار العلماء في الأزهرهر وذلك استرضاء للأزهر وأهله.

   كانت الهدف من مدرسة القضاء أن يثقف فيها الطالب ثقافة دينية، من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وتوحيد ، وثقافة لغوية أدبية من نحو وصرف وأدب، وثقافة قانونية عصرية من مثل أصول القوانين الحديثة ونظام القضاء والإدارة ونحو ذلك ، وثقافة كما يسمونها عصرية من مثل الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب والجبر والهندسة. وبصفة عامة كان برنامج المدرسة مزيجاً من كل ذلك. ومن أظرف ما حدث في برنامج تدريس مدرسة القضاء أن خاف واضعو قانونها من أن يسموا الطبيعة بإسمها خشية أن يغضب الأزهريون فاحتالوا على ذلك ووضعوا الطبيعة والكيمياء في البرنامج تحت اسم "الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام".     وكانت المدرسة في حضانة سعد باشا زغلول ويوليها عنايته وهو ناظر(وزير) المعارف. فإختار لها ناظراً من أكفأ الناس وأقربهم إليه هو عاطف بك بركات، وأختار سعد باشا والناظر معا خيرة المدرسين من كل نوع من أنواع التعليم كما استعان بخيرة علماء الأزهر، ليقوموا بتدريس العلوم الدينية، وهنا يقول أحمد أمين حول المدرسة: " كنت ترى مزيجاً عجيباً من الأساتذة بمدرسة القضاء الشرعي ، فهذا شيخ أزهري تربى تربية أزهرية بحتة ودنياه كلها هي الأزهر وما حوله، بجانبه أستاذ للتاريخ على أخر طراز تخرج في جامعات انجلترا وأستاذ للطبيعة تخرج من  أشهر جامعات فرنسا، وعلى رأسهم ناظر تعلم في الأزهر وفي دار العلوم وفي انجلترا، وكل من هؤلاء يلونون الطلبة بلونهم، ويصبغونهم بصبغتهم، ويعلمونهم على منهجهم، فكنت إذا أصغيت إلى درس من الدروس فكأنما تصغى إلى درس يلقيه مدرس من القرون الوسطى فيما يقال وكيف يقال، ثم يليه درس تسمعه فكأنك تسمع درساً بدولة أجنبية ، ثم تنتقل من ذلك إلى درس له شبه من هذا وشبه من ذاك، فموضوعه من موضوعات القرون الوسطى ومنهجه منهج حديث، وكذلك المدرسون، كانت هناك عقلية قديمة لم تسمع عن شيء أسمه الجغرافيا ولا تعرف أن الدنيا قارات خمس . وكانت نظافة المدرسة بالغة أقصاها ، بها حديقة جميلة رسمت رسماً بديعاً، وملئت بالأزهار الجميلة، وحركة مستمرة من الخدمة في تنظيف مستمر ، وفي هذا الجو كله وضع الطلبة، واشتهرت المدرسة في مصر وكان يزورها كبراؤها وفي العالم الشرقي يؤمها عظماء الوافدين المعنيين بشؤون التعليم والراغبين في الإصلاح " . ويضيف أحمد أمين : " بدأت الدراسة بالقسم العالي من هذه المدرسة، ومدتها أربع سنوات، وكان فصلنا يتكون من أربعة عشر طالباً، كثير منهم يناهز الثلاثين وله لحية طويلة، ومنهم من هو متزوج وله أولاد... وكان الطلبة كالأساتذة، منهم الأزهري القح الذي لا يعرف عن الدنيا شيئاً، ومنهم ابن البلد المتمدن الذي عرك الدنيا وعركته، ومنهم من هو بين ذلك. ومن الأساتذة الأجلاء كان يوجد خير ما أخرجته دار العلوم كالشيخ الخضري والشيخ المهدي، وهم فئة اتصلوا بالشيخ محمد عبده، وكانوا من خاصة تلاميذه، والشيخ محمد الخضري المتخصص فى أصول الفقه ، والشيخ محمد مهدي لتدريس أدب اللغة العربية، وكان هذا الأدب حديث العهد في مصر، فالناس لم يكونوا يعرفون الأدب إلا على النحو الذي جاء في مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد والأمالي ونحو ذلك. وقام بتدريس تاريخ الأدب حسن توفيق الذى تعلم بألمانيا وهذا العلم لم يكن معروفا فى مصر من قبل فأدخل هذا العلم على هذا النمط في مدرسة دار العلوم إذ كان أستاذاً فيها، مسترشداً بما كتبه الألمان في تدريس أدبهم، والشيخ محمد زيد، وجمهرة ثالثة من المدنيين منهم طائفة من كبار القضاء الأهلي لتدريس مقدمة القوانين، أو المدخل إلى القانون، ونظام المحاكم واختصاصاتها وذلك للتقريب إلى القضاء الأهلي، ومقاربة الفقه الإسلامي إلى القانون الوضعي، وأصول الفقه إلى أصول القوانين . بالإضافة إلى أحمد فهمي العمروسي بك الذي تعلم في مصر وفي سانكلو بفرنسا الذى قام بتدريس مادة الطبيعة الحديثة العهد فى ذلك الوقت. وعلى بك فوزي الذي درس س بمدرسة المعلمين وتخرج من معاهد إنجلترا قام بتدريس مادة التاريخ وتحديدا تاريخ اليونان والرومان وتاريخ أوروبا الحديث أحياناً، والتاريخ الإسلامي .  

ليلة الجمعة، وحول ذلك يقول: " كان منزل مصطفى عبد الرازق  يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسر الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، ويطيب فيها السمر، ويطول فيها السهر، فكان أصدقاء الشيخ مصطفى عبد الرازق من الشبان ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الأزهر بشبان الحقوق وبعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل على اختلاف ألوانها دينية وفلسفية وسياسية وإجتماعية حيثما اتفق، وكنا نتبادل فيها الآراء  والأفكار ، وترى إذ ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب، والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك متعة عقلية وروحية لطيفة " .    يذكر أنه فى نفس الفترة كانت الجامعة المصرية الأهلية قد ولدت في السنة التي ولدت فيها مدرسة القضاء عقب جدال عنيف في المجالس والصحف . وكان اللورد كرومر يؤيد التعليم الأولي ويعارض في إنشاء الجامعة الأهلية ، لذلك أسرع مديرو المديريات ومأمورو المراكز والعمد وأعيان البلاد إلى إنشاء الكتاتيب طوعاً لإثارة كبار الإنجليز، وأخيراً تقدم داع يدعو إلى إنشاء الجامعة الأهلية وتبرع بخمسمائة جنيه بشرط أن يتبرع عدد كبير بمال كثير. وتحمس بعض الكبراء وعقدوا اجتماعاً حضره سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ عبد العزيز شاويش ومحمد بك فريد وغيرهم، واكتتبوا بمبلغ من المال قدر بنحو خمسة آلاف جنيه، وأنشئوا الجامعة واختاروا رئيسها سعد زغلول.  لكن عندما عين سعد ناظراً للمعارف اختير لها الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد) ليكون رئيسا وكان شديد الإهتمام والعناية بالجامعة(وقد سميت الجامعة بإسمه). ثم نمت الجامعة واستدعى لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم بميدان التحرير بوسط القاهرة . وكان أحمد أمين يحضر أحيانا محاضرات الجامعة المصرية الأهلية خاصة فى تاريخ الفلك عند العرب والفلسفة الإسلامية والجغرافيا العربية ، وفى هذا الصدد يقول أحمد أمين: " رأيت فى الجامعة الأهلية لوناً من ألوان التعليم لم أعرفه ه من قبل مثل  استقصاء في البحث، وعمق في الدرس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك " .  

   أنهى أحمد أمين دراسته بمدرسة القضاء، وعلى الرغم من أن ترتيبه كان السادس إلا أن ناظر مدرسة القضاء لم يعبأ بالترتيب فعينه مع الثلاثة الأول مدرساً بالمدرسة بعد شهرين من تخرجه، وابتدع الناظر في المدرسة نظاماً جديدا لم يكن معروفاً في مصر من قبل وهو نظام "المعيدين"، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه موضوع المحاضرة ويدخل معه في الدروس . ووزع المعيدين على الأستاذة بحسب كفايتهم وميولهم، وتم إختيار أحمد أمين مع أستاذ الأدب ليعمل معيداً معه في دروس الأخلاق، ويقول أحمد أمين فى هذا الصدد: " كنت على اتصال مباشر بأستاذى والإستفادة منه ، فكنت أذهب إلى بيته في كثير من الأيام عند تحضير الدروس، وعادة ما كان يقوم بالتحضير من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويمليني بالعربية، وأحياناً ينفرد هو بالترجمة ويسمعني ما تُرجم " .     واستمر أحمد أمين يعمل مدرساً بمدرسة القضاء لسنتين، لكن كانت هناك مشكلة وهي أنه لم ينجح في الكشف الطبي لقصر نظره ، لذلك تم تعيينه (ظهورات) حسب اصطلاح المستخدمين، أى ليس له حق في المعاش عند بلوغه سن التقاعد ، وليست له ضمانات في بقائه في الوظيفة، إذ يكفي إشارة من الرئيس بالإستغناء عنه فيستغني ، بينما الموظف الثابت أو (المُثبت) فله الحق في المعاش، ولا يخرج من الخدمة إلا بمجلس تأديب يقرر فصله، وهي مميزات لا يستهان بها. وللتحايل على ذلك النظام الظالم فكر عاطف بك حرصاً على مصلحة أحمد أمين أن يعينه قاضياً لمدة قصيرة خاصة وأن القاضي يُعين بمرسوم، ومن ثم فلا يحتاج إلى كشف طبي،  وإذا عين قاضياً أصبح مثبتاً، فإذا انتقل إلى مدرسة القضاء نقل (مثبتاً) أيضا وهو ما كان يسعى إليه وهو ما حدث. 

   وبعد تعيينه شعر أحمد أمين بحاجته الشديدة إلى دراسة لغة أجنبية خاصة وأن دروسه في الأخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الإنجليزية ونظرا لإنه أخفق في تعلم الفرنسية فقرر تعلم الإنجليزية. وذات يوم  قابل صديقه الذى يشبهه فى الإسم أحمد بك أمين المولود بالأسكندرية (أنظر أحمد أمين القاضى السكندري بموسوعة رجال تاريخ لنفس المؤلف) وجلسا في مقهى، وذهب الحديث فنوناً إلى أن وجده يقول إنه عثر على كتاب إنجليزي قيم لمستشرق أمريكي اسمه مكدونالد  قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام : قسم يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، وقسم في تاريخ الفقه الإسلامي، وقسم في المذاهب والعقائد الإسلامية ، فإستفز الموضوع أحمد أمين وقال له: " هل تستطيع الآن أن تذهب معي إلى مدرسة (برليتز) لأرتب دروساً لي في الإنكليزية ؟" . ووافق صديقه  وذهب  الإثنان إلى المدرسة ورتب دروساً ثلاثة في الأسبوع بمئة وخمسين قرشاً كل شهر .        

   فيما يتعلق بأصدقاء أحمد أمين ، فقد كان له مجموعة من الأصدقاء يطلقون على أنفسهم جمعية ذوي الثقافة الإنجليزية ، وجماعة أخرى تطلق على نفسها جمعية أصدقاء الثقافة الفرنسية وكان عميدها الشيخ مصطفى عبد الرازق (أصبح شيخاً للأزهر فيما بعد)، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي وعزيز مرهم  ومحمد كامل البنداري، والدكتور محمود عزمي وغيرهم وكان مكانها في منزل مصطفى عبد الرازق، وأكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية ، ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها. وإذا كان يكثر في جمعية الثقافة الإنجليزية ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو وهـ.ج ولز ويغلب عليها المحافظة والاعتدال، فقد كان يكثر في الجمعية الفرنسية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايهم ، ويغلب عليها التحرر والثورة على القديم، ويكون الحديث مزيجاً بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، ويتحدث الجميع في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر . وكان أحد أعضاء هذه النخبة يصدر جريدة أسمها " السفور" يدافع فيها عن رأي قاسم أمين ويدعو إليه، وطلب منهم المساهمة معه في إخراجها وتولى تحريرها فقبلت مجموعة منهم وتألفت لجنة من الجمعيتين، كان من بين هذه الجمعية المشرفة على تحرير السفور الأساتذة مصطفى عبد الرازق ومحمد تيمور وكامل سليم والدكتور أحمد زكي ، وكان ذلك فى سنه 1918 .

شاب لا بأس بشكله ولا بأس بأسرته، فهو من عائلة متوسطة ويحمل شهادة عالية، ومرتبه نحو ثلاثة عشر جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك الوقت ، ومع ذلك وقفت العمامة حجر عثرة في طريق زواجه ، فقد كان ذو العمامة بنظر الناس فى ذلك الوقت رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك، وهنا يقول أحمد أمين: " فكم قيل لي عندما أتوجه لخطبة فتاة أن ليس عندهم مكان لعمامة ... وهكذا لقيت العناء في الزواج ، وأخيرا دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على فتاة ، فأرسلت أمي وأختي وزوجة صديقى المدرس لرؤية الفتاة فرأينها ووافقن عليها، وثم عقد الزواج يوم 3 أبريل سنه 1916م، وقد أخذت يوم العقد مئة جنيه إنجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة، وإنتظرت نحو أربعة أشهر حتى يتم أهل الزوجة الجهاز ... وبالفعل تم الزواج و ورزقت بعشرة أولاد مات منهم اثنان في طفولتهما، وبقي لي ثمانية اسأل الله أن يمد في عمرهم ويسعدني بهم، ستة أبناء وبنتان ".

   جاءت الحرب العالمية الأولى 1914م، وكانت أحداثها وقوداً لإلهاب الشعور الوطني خاصة بعد أن تآمر الإنجليز لخلع الخديوي عباس حلمى الثانى نصير الثقافة والتنوير فى مصر ، ثم قيام بريطانيا بإعلان الحماية على مصر، وهو ما حز  في نفوس المصريين ، وتولي الأمير حسين كامل سلطانا على مصر من قبل الإنجليز بواسطة خطاب وجهه إليه مسئول أعمال الوكالة البريطانية، فأثر ذلك فى المصريين ضد الإنجليز (ويذكر أن والي مصر كان يعين من قبل سلطان الأستانة بفرمان يحمله مندوب سام منه) .  فى نفس الوقت كانت  مصر تعانى ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي ، وتشغيل العمال المصريين رغم أنوفهم، وأخذ السلطة الإنجليزية الدواب والمحاصيل جبراً، وتحليق الطيران الألماني فوق سماء القاهرة وإصابتها بعض الأهالي، وتسفير العمال المصريين إلى فرنسا والعراق، ونزع السلاح من المصريين . وهنا اتجهت أفكار بعض الزعماء المصريين إلى مطالبة الإنجليز بوفاء ما وعدوا، وتألف الوفد المصري وعلى رأسه سعد باشا زغلول لبحث الأوضاع المصرية مع الإنجليز ، لكن الإنجليز قبضوا علي سعد زغلول وأصحابه، وقامت المظاهرات وكثر التخريب واشتعلت البلاد ناراً.  وعاقب الإنجليز الأهالي عقاباً شديداً بإطلاق الرصاص على المتظاهرين والتنكيل ببعض القرى تنكيلاً يذيب القلوب . وهنا قرر أحمد أمين المساهمة فى الثورة فإتصل بعبد الرحمن فهمي سكرتير الوفد الذى كان يضم إليه جماعة من الشبان يوزع عليهم الأعمال، وفى هذا الشأن النضالى يقول أحمد أمين: " إختارني عبد الرحمن فهمى للإشراف على عملين: الأول إلقاء الخُطب السياسية في المساجد عقب صلاة الجمعة، فكنت أجتمع مع بعض الزملاء وأنظم معهم إلقاء هذه الخُطب وأوزعهم على المساجد وأعين معهم موضوع ما يقولون. والأمر الثاني كتابة المنشورات التى نذكر فيها أهم الأحداث ... وكنت شديد الصلة بسكرتير سعد باشا زغلول (كامل بك سليم)، فلما أطلق سراح سعد وذهب (كامل بك) مع الوفد إلى باريس كان علي أن أصف الحالة في مصر من حين لآخر، وأرسل بذلك تقارير إلى سكرتير سعد ليطلعه عليها، وكانت هذه سبباً في معرفة سعد باشا بي ، فكثر إتصالي به، بل كان يرسل إلي الشفرة الجديدة إذا غيرت لأوصلها إلى بعض الأعضاء في مصر، إذ كنت شيخاً مدرساً في مدرسة القضاء ولا يظن أحد أن أمراً خطيراً كهذا يأتي إلي ... ولما أنقسم الوفد واتهم عدلي باشا وصحبه ببعض الاتهامات كنت في صف سعد باشا ومن مؤيديه والداعين له . ويضيف أحمد أمين: "وانغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي وأصطحب فيها قسيساً بملابسه الكهنوتية ونحمل علماً فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال ".   وفي مدرسة القضاء إشتدت الحركة الوطنية وأفلت زمامها من مدير  المدرسة عاطف بك بعد أن كان لا يسمح بمظاهرة ما ولا إضراب، إلى أن جاء يوم أنعقد فيه مجلس الإدارة في المدرسة، وكانت وزارة نسيم باشا الأولى ليست على وفاق مع سعد باشا زغلول ، وكان وزير المعارف محمد توفيق رفعت باشا عضواً فيها، فاجتمع بعض الطلبة في جزء من فناء المدرسة تحت شباك الحجرة التي ينعقد فيها المجلس وهتفوا بحياة سعد وسقوط وزارة نسيم، وهنا قام رفعت باشا وإتهم عاطف بك بأنه دبر هذه المؤامرة ، ولم يأت المساء حتى أعلن قرار مجلس الوزراء بإحالة عاطف بك على المعاش .

فعين قاضياً بمحكمة قويسنا الشرعية، وكان هذا آخر عهده بالتدريس في المدرسة .   وهنا يقول أحمد أمين: " مما آلمني أنني تركت التدريس وهو ما أحبه عن القضاء الذى لا أحبه، ولم أحب السياسة أيضا لأسباب أهمها أني لم أتشجع شجاعة السياسيين ، فكنت أخاف السجن وأخاف العقوبة،  ولعل من أهم أسباب خوفي يرجع إلى إشفاقي على والدي وقد أصبحت إبنهما الوحيد ، بالإضافة إلى ما ا علمني أبي من إفراط في التفكير في العواقب ، وبالطبع من فكر في العواقب يكون حذرا دائما ... أما الأهم فهو أن مزاجي كان علميا لا سياسيا، لهذا كنت أختلف عن زملائي السياسيين " .

   ظل أحمد أمين بالقضاء أربع سنين، سنة في قويسنا، وأخرى في طوخ، وسنتين في محكمة الأزبكية، ومع ذلك فلم يكن سعيدا بعمله فى القضاء .

   فى عام 1926 دق جرس التليفون بمنزله في مصر الجديدة وإذا المتكلم صديقه الدكتور طه حسين يطلب إلي مقابلته . وذهب أحمد أمين لمقابلته فإذا هو يعرض عليه العمل مدرساً بكلية الآداب، فتردد أحمد أمين  قليلاً ثم قبل لنفوره من القضاء وحبه للتدريس. وذهب إلى الكلية حيث قصر الزعفران الآن مقر جامعة عين شمس، فوجد شيئاً جديداً عليه، لا هو كالأزهر ولا هو كمدرسة القضاء . وهنا يقول أحمد أمين:  " وجدت الأساتذة كأنهم عصبة أمم، فهذا إنجليزي وذاك فرنسي وآخر بلجيكي وهذا ألماني وقليل من الأساتذة المصريين ليس فيهم معمم إلا أنا ، وعميد الكلية بلجيكي، والطلبة أحرار، يحضرون الكلية أو لا يحضرون، ويحضرون الدرس أو لا يحضرون... وأقسام الكلية متشعبة بين قسم للفلسفة يتزعمه الفرنسيون، وقسم للإنجليزية يسيطر عليه الإنجليز ، وقسم للغات القديمة، وقسم للجغرافيا، وآخر للتاريخ ... والطلبة موزعون على الأقسام، ومن الطلبة عدد كبير يقضي سنة في كلية الآداب إعداداً لكلية الحقوق... وقد قضيت زمناً حتى أفهم كل ذلك، وأحسست أن الجو مبعثر، ليس هناك ارتباط وثيق بين الطلبة بعضهم وبعض ولا الأساتذة بعضهم وبعض، لا كالذي كنت أرى في مدرسة القضاء، وأن الدراسة كالحرب المائعة.. فتبعثر الأقسام في الدراسة وتبعثر الأساتذة في الجنسية جعل نسيج الكلية مهلهلاً، وكان الطلبة كلهم ذكوراً ليس فيهم فتاة...وشاهدت مرة ثلاث بنات في قسم الفرنسية علمت أنهن نصف مصريات، أبوهن طبيب مصري كبير وأمهن ألمانية".  وقبل بدء الدراسة في السنة التالية دارت مناقشة طويلة بين أحمد أمين وصديق له أستاذ بكلية الحقوق هو الدكتور السنهورى ، وفى هذا الصدد يقول أحمد أمين : " قال لى الدكتور السنهورى لماذا تصر على لبس العمامة ؟ فالعمامة رمز لرجل الدين وأنت الآن لست رجل دين... فأنت تعلم اللغة العربية والأدب العربي ، كما يعلم الفرنسي اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي، وهذه أمور مدنية لا دينية، ثم إن لبسك العمامة في وسط كله برانيط وطرابيش يجعلك غريباً في بيئتك ".  وبالفعل فكر أحمد أمين طويلاً فيما قاله السنهورى له ، ثم أكتشف أنه على حق حتى مال إلى رأى السنهورى. 

وحول وجوده بالجامعة الجديدة يقول أحمد أمين: " تعلمت من هذا الوسط أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب ، والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديداً، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم ، والجامعة تحاول أن تكتشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم  وتعدله وتحل جديداً محل قديم، وتهدم رأياً وتبني مكانه رأيا آخر ، وهكذاهذه وظيفتها الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة ولا جامعة .  وأخذنى ذلك التفكير إلى التمهيد لمشروع واسع في البحث وضعته مع كل من : الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، وخلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية.... فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد " فجر الإسلام "، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، وكنت إذا وصلت إلى موضوع أجمع مظانه في الكتب، وأقرأ فيها ما كتب على الموضوع وأمعن النظر، ثم  أكتبه مستدلاً بالنصوص التي عثرت عليها حتى أفرغ منه، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا... وكانت أكثر الأوقات فائدة فى إنجاز العمل هى الإجازة الطويلة التي تبلغ أكثر من خمسة أشهر، وقد تم هذا الجزء الأول من فجر الإسلام في آخر سنة 1928م، ولقد لقيت من حسن استقبال الناس لهذا الجزء وتقديرهم له واهتمامهم به نقداً وتقريظاً ما شجعني على المضي في هذه السلسلة ". وحول دور طه حسين وعبد الحميد العبادى قال أحمد أمين : " لقد عاقت زميلي عوائق عن إخراج نصيبهما، فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام، فقد رتبت موضوعاته التي تستغرق ثلاثة أجزاء وأحضرت ملفات كتبتُ على كل ملف اسم الموضوع، ، فهناك ملف عليه اسم المعتزلة وآخر الخوارج، وثالث أثر الجواري في الأدب، ورابع الثقافة الهندية .. الخ. ، وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين... وهكذا في الإسلاميات " .

   فيما يتعلق بالسفر خارج مصر: لم تتح فرصة سفر أحمد أمين إلى خارج البلاد إلا فى عام 1928م، عندما كان يعمل مدرسا بكلية الآداب. فذات يوم استدعاه أستاذه أحمد لطفي السيد مدير الجامعة، وقال له: "إن البرنس يوسف كمال يود البحث في مكاتب الآستانة عن كتب جغرافية قديمة وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا، وأنه طلب مني أن أختار له إثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي ". وقبل أحمد أمين المهمة بعد تردد قليل ، ويقول فى هذا الخصوص: " إن ما شجعني على القبول أني منذ الصغر أسمع عن استانبول وعظمتها وأبهتها... ولها صورة عظيمة فخمة في نفسي، فالخديوي عباس حلمى الثانى دائما ما كان يذهب إلى استانبول، وأحمد شوقي في شعره يشيد بذكرها... ناهيك عن الجمال الذى يحيط بالباب العالي والقصر الشاهاني والبسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدرز ونحو ذلك .. كل هذا شوقني على رؤيتها " . وسافر أحمد أمين إلى تركيا ، وقد مكث في رحلته إلى الآستانة أربعين يوماً .  بعد ذلك لم تتوقف رحلاته الخارجية  ففى ديسمبر عام 1930 سافر فى رحلة جماعية إلى الشام ، وحول هذه الرحلة قال أحمد أمين: " في رهط من الطلبة والأساتذة، عهدت إلى الكلية الإشراف على الرحلة ، فها نحن نرحل من القاهرة إلى القنطرة ونعبر قنال السويس ، ونخترق صحراء سيناء بالقطار ونمر على غزة ثم بعض المستعمرات الصهيونية.. ونستمع إلى بعض الأحاديث عن منشآتهم في مستعمراتهم، فنستشعر الخوف من المستقبل، حتى نصل إلى محطة " اللد " فنستقل قطاراً آخر إلى بيت المقدس... وبين اللد والمقدس نستمتع بالمناظر الطبيعية من جبال ووديان نشأت من ثورات أرضية عنيفة فعلت أفاعيلها القاسية فرفعت بعضها إلى أعلى وسميناه جبلاً، وخفضت جزءاً آخر وسميناه وهدة أو وادياً، وهي مناظر تملأ القلب روعة وهيبة، حتى نصل إلى المقدس فيستقبلنا بعض علمائه وأدبائه، وعلى رأسهم المرحوم إسعاف بك النشاشيبي، ويبالغ في إكرامنا، ونلتقي بالأستاذ السيد الحسيني مفتي فلسطين فيوحي إلي منظرة بقوة إرادة وتصميم وعزم ونفس لا تهدأ حتى تتسلط ... ونرحل بعد ذلك إلى البحر الميت، ويقص علينا الدليل ما يحوي هذا البحر من ذخائر كيماوية سيستغلها العلم الحديث، ونسير إلى أريحا، ونهر الشريعة، ونرى الجسر الذي يفصل بين فلسطين وشرق الأردن، ثم نمر على نابلس ونصل بعدها إلى الناصرة بلد المسيح عليه السلام... ثم نصل إلى طبريا ونشعر بالدفء الذي يطرد ما حزناه من برد، ونعجب بما حولها  من جبال عالية تتفجر منها مياه حارة أنشئت حولها حمامات، ثم نسير بعدها إلى دمشق ... ونزور المسجد الأموي بدمشق فنسحر بعظمته وجلاله، وضريح شيخ الصوفية محيي الدين بن العربي، وقبر صلاح الدين الأيوبي وأستاذه نور الدين محمود زنكي، ثم نركب القطار إلى حلب، ونزورها ويستقبلنا رجال المعارف أيضاً فنتجول معهم في المدينة، ثم نقصد إلى زيارة أبي العلاء المعري في معرة النعمان، ونمر بحماه ونخترقها ونسر بنواعيرها، ونصل إلى بيروت فنزور (كلية المقاصد) الإسلامية والجامعة الأمريكية ومدرسة الآباء اليسوعيين، ونعود على الباخرة إلى الإسكندرية . كل هذا في خمسة عشر يوماً حتى لكأننا نرى هذه الأماكن من طيارة، أو نستعرض فيلماً سينمائياً سريعاً " .

   وفي السنة التي تليها رتبت كلية الآداب رحلة إلى العراق في إجازة نصف السنة اشترك فيها بعض أساتذة الحقوق وكلية الآداب وبعض الطلبة وعهد إلي أحمد أمين الإشراف عليها ، وهنا يقول أحمد أمين: "....لمست في العراق الانقسام بين الشيعة والسُنة، وقد زرت النجف وكربلاء وغيرهما، وهي حصون الشيعة، وصادف ذلك أيام العزاء وذكرى مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ورأينا العامة في كربلاء يضربون صدورهم ضرباً شديداً حتى ليدموا أجسامهم حزناً على الإمام، ومنهم من يضربون أنفسهم بالسيوف، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن على نحو ما كان معروفاً من عمل الشيعة في القاهرة إلى عهد قريب ... ولما أخرجت كتاب " فجر الإسلام " كان له أثر سيء في نفوس كثير من رجال الشيعة، وما كنت أقدر ذلك، لأني كنت أظن أن البحث العلمي التاريخي شيء والحياة العملية الحاضرة شيء آخر، ولكن شيعة العراق والشام غضبوا منه وألفوا في الرد عليه كتباً ومقالات شديدة اللهجة لم أغضب منها. ولما لقيت شيخ الشيعة في العراق الأستاذ آل كاشف الغطاء عاتبني على ما كتبت عن الشيعة في فجر الإسلام. وفى هذا الصدد يقول أحمد أمبن : لقد استندت فيما كتبت على الخصوم، وكان الواجب أن أستند إلى كتب القوم أنفسهم، وقد يكون ذلك صحيحاً في بعض المواقف، لكني في " ضحى الإسلام " نقدت بعض آرائهم نقداً عقلياً نزيهاً مستنداً على كتبهم فغضبوا أيضاً، والحق أني لا أحمل تعصباً لسنية ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السُنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السُنيون في الدرك الأسفل إحقاقاً لما اعتقدت أنه الحق " .

    بالعودة إلى الجامعة : لقد منع أحمد أمين من أن يكون أستاذاً لعدم حصوله على الدكتوراه ومعه عدد من الزملاء ، وإن كان القانون يسمح أن يرقى الأستاذ المساعد في اللغة العربية بكلية الآداب والشريعة الإسلامية وبكلية الحقوق إلى درجة أستاذ من غير حصوله على درجة الدكتوراه .   ولقد واجه أحمد أمين هذه المسألة بروح رياضية، وقدم طلباً لنيل درجة الدكتوراة بالدخول في الامتحان بنفس الطريقة المتبعة مع سائر المتقدمين للحصول عليها، وقدم لذلك كتابه فجر الإسلام وضحى الإسلام كرسالة للمناقشة ، لكن مجلس الجامعة إعترض وبرر ذلك بأن الأساتذة بالكلية قد يحابونه لأنه واحد منهم ، فاقترح أحمد أمين عليهم أن يكون أكثر الممتحنين من الأساتذة الأجانب المستشرقين، لكن وزير المعارف فى ذلك الوقت صمم على رفض طلبه، وهو ما إعتبر تدخلاً في شؤون الجامعة لا مبرر له. وعليه فلم يتم امتحانه ، وشعر بعض أساتذة الجامعة وأعضاء لجنة التأليف بعدم عدالة هذا التصرف، فأقاموا حفلة تكريم لأحمد أمين ، وكان ذلك سنة 1935م، وأقاموها في "سنت جيمس" وقسموها إلى موائد، وعلى كل مائدة رئيس من علية القوم، فمائدة يرأسها مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وأخرى أحمد ماهر باشا ، وثالثة للدكتور على إبراهيم، ورابعة إبراهيم الهلباوي، وخامسة عبد العزيز باشا فهمي، وسادسة الشيخ محمد مصطفى المراغي .. إلخ، وخطب في الحفل الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والمستشرق الكبير نللينو . وبعد ذلك، تم تأليف لجنة لبحث مؤلفات أحمد أمين، وإختارت اللجنة الأستاذين المستشرقين الدكتور شاده والأستاذ برجستراسر، فقرأ فجر الإسلام وضحاه، وقدما تقريراً باستحقاق الأستاذية لأحمد أمين على هذين الكتابين، وقالا فى تقريرهما : " إن عيب أحمد أمين الوحيد في تأليف هذين الكتابين هو أن هناك بحوثاً في بعض موضوعات الكتابين عرض لها بعض الأساتذة الألمان، ولو أطلع عليها المؤلف لبنى عليها ولم يتعب نفسه في بحث أساسها " .    لكن وزارة المعارف أخفت هذا التقرير، وهنا طلب أحمد أمين من عميد الكلية الحصول على التقرير من الوزارة، فماطلت الوزارة أولا ، ثم بعثته وعطلت أثره في مجلس الجامعة، وبالتالى لم م يحصل أحمد أمين على الأستاذية إلا بعد عناء

    بعد أن هدأت النفوس ، وبعد أن قدم أحمد أمين إستقالته لأنه لم يعامل معاملة زملائه . بعد كل ذلك وقع  الاختيار على أحمد أمين ليكون ممثلاً لكلية الآداب بمجلس الجامعة، واستمر فى منصبه نحو عشر سنين.   وفي أول أبريل سنه 1939م  خلا مركز العمادة  بكلية الآداب بعد أن تولاه من المصريين الدكتور طه حسين والدكتور منصور فهمي والأستاذ شفيق بك غربال، وكان نظام الجامعة يقضي بأن مجلس الكلية يختار ثلاثة من بين الأساتذة، ثم يقوم وزير المعارف بتعيين أحدهم عميدا ، وكان أحمد أمين أكثرهم أصواتاً ، فعينه الوزير محمود فهمي النقراشي باشا عميداً  (كان ذلك دليلا قاطعا على إزدهار الديمقراطية داخل الجامعة الأهلية). وفى هذا الخصوص يقول أحمد أمين: " لقد عجبت أنا نفسي من هذا الاختيار، فأنا رجل دخيل على الجامعة بحكم تربيتي الأزهرية الأولى وتربيتي شبه الأزهرية في مدرسة القضاء، وأنا رجل لم أتعلم في جامعة مصرية ولا أجنبية، ولم أتعلم لغة أجنبية إلا ما تعلمته من اللغة الإنجليزية بعناء وبقدر محدود، فكيف يتم إختيارى لهذا المنصب وأترأس الأساتذة الأجانب والأساتذة المصريين ممن تعلموا في الجامعات الأوروبية ونحو ذلك ؟ " . ويضيف أحمد أمين: " الحق أني أكبرت هذا كله وشعرت بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقي، ولكني تذكرت قول المرحوم الشيخ محمد عبده : "إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب" .    ومكث أحمد أمين فى ذلك المنصب عامين والمعروف أن مدة العمادة ثلاث سنوات حسب القانون ، وأصبح ضيق الصدر بكثرة الطلبات والشكايات والعلاوات والدرجات. لكن حدث بعد سنتين أن اختلفت وجهة نظره مع وجهة نظر وزير المعارف آنذاك حيث تصرف الوزير في عدة أمور من غير أخذ رأيه ، وفى النهاية قدم أحمد أمين إستقالته من العمادة وصمم عليها فقبلت ، وعاد لعمله أستاذاً كما كان، وبدأ يتمم سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام على النحو الذي رسمه، فأخرج الجزء الأول من ظهر الإسلام .

   في سنة 1933 شكل الأستاذ أحمد حسن الزيات مجموعة مع بعض أصدقائه من لجنة التأليف عملت فى إخراج مجلة الرسالة، وكان أحمد أمين أحدهم ، ولما توقفت الرسالة عن الصدور قامت لجنة التأليف بإصدار مجلة " الثقافة " وعهد إلي أحمد أمين ليكون مديرها . بعد ذلك  بدأ يكتب أحمد أمين فى الهلال والمصور وغيرها. ولما كثرت مقالاته جمعها فى كتاب بعد أن أضاف إليها ثمانية أجزاء وسماها  " فيض الخاطر" .   

   فى عام 1945 تم إنتدابه وهو أستاذ بكلية الآداب ليكون مديراً للإدارة الثقافية بوزارة المعارف وكان وزير المعارف إذ ذاك الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وإختار معه شابان  يعملون معه في الإدارة الثقافية، وبعد القيام ببحث مفصل قام أحمد أمين ومن معه بوضع  تقرير شامل عن مشروعهما الجديد وأسماه " الجامعة الشعبية "، التي سميت فيما بعد بمؤسسة الثقافة الشعبية ، وفى هذا الصدد يقول أحمد أمين: " كانت الجامعة الشعبية  تشتمل على نوع الطلبة والطالبات الذين تلقى عليهم المحاضرات من غير تقييد بسن ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند الدخول، وكانت تتضمن دراسة مهنية ودراسة نظرية وبرنامج مائع لكل هذا، يمكن تحويله حسب الظروف والمناسبات، فإذا جدت مسألة فلسطين مثلاً ألقيت محاضرات عن فلسطين، وإذا جدت رغبة في تعلم الآلة الكاتبة أنشأنا لها فرعاً... ومن حيث المكان، فقد تم إختيار مدارس وزارة المعارف والورش الصناعية والميكانيكية كأمكنة للجامعة الشعبية، وأيضا مدارس البنات أمكنة لتعليم البنات والسيدات... ومن حيث مدرسوها ومدرساتها، فقد تم إختيار كل المدرسين والمدرسات العاملين  بوزارة المعارف... ومن حيث الزمان فقد كانت الدراسة مسائية تبدأ من الخامسة إلى الثامنة ... وعرض المشروع متكاملا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأعلن بالصحف عن الجامعة الشعبية ، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحاً يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وبعد أن اقتصرت الفكرة أول أمرها على القاهرة عممت في سائر الأقاليم تقريباً، وأصبح موظفو السينما ينتقلون إلى العمال و الفلاحين في القرى وإلى المصانع، يعرضون الأفلام الثقافية " .    وظل أحمد أمين محتفظا برئاسة مجلس إدارة الجامعة الشعبية لفترة طويلة.       

   في صيف سنه 1946م وبينما احمد أمين كان ذاهبا ه هو سكرتير مجلس الوزراء محمد كامل سليم ، وعند خروجه إلى فناء الدار وجد سيارة وقفت ودعته إلى الركوب، فإذا فيها أستاذه أحمد لطفي السيد وزير الخارجية  آنذاك، فدعاه إلى مكتبه بوزارة الخارجية وعرض عليه السفر إلى لندن عضواً مع ممثلي وفد مصر في مؤتمر فلسطين ، فوافق أحمد أمين. وأخذ يبحث في المكاتب عن الكتب التي ألفت عن مشكلة العرب والصهيونية في فلسطين، وقرأ التقارير التي كتبت وأودعت بوزارة الخارجية أو الجامعة العربية، ومنها الكتاب الأبيض وغيره . وركب أحمد أمين الطائرة من مطار ألماظة إلى لندن، وكانت أول مرة فى حياته يركب الطائرة. ونزل من الطائرة فى لندن بعد سبع عشرة ساعة، ليجد نفسه في جو سياسي لم يعتده من قبل ل ، بين كبار الساسة من العرب وببلوغه سن الستين تم إحالته إلى المعاش وفكر فى تكوين هيئة لنشر الكتب القديمة، كى يكون مستقلا بالعمل فيها، ويكون له ربحه المادي والأدبي أو خسارته، لكن حال دون ذلك لجنة التأليف والترجمة التى يشرف عليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً . فقد نمت اللجنة نمواً مطرداً من حيث أعضاؤها، إذ تجاوزوا الثمانين من خيرة رجال مصر.  

وحول عمله بالجامعة العربية: يقول أحمد أمين " عرض علي أن أكون مديراً للإدارة الثقافية في الجامعة العربية، فقبلت بكل سرور، لأنه عمل ثقافي من جنس عملي، ومحقق لرغبتي في السعي للتعاون العلمي بين الأقطار العربية " .    وفى الجامعة العربية قام أحمد أمين ومن معه من الزملاء في الإدارة الثقافية بإنشاء معهد للمخطوطات لتصوير كل المخطوطات القديمة في العالم على أفلام صغيرة، وتصوير أهم المخطوطات الموجودة بدار الكتب وفي الجامعة المصرية وفي بلدية الإسكندرية وفي سوهاج . كما عمل مع زملائه على إرسال بعثات لتصوير المخطوطات في الشام ولبنان، والآستانة خاصة ال

وفى تلك المرحلة وبعد خروجه إلى المعاش إنتقل أحمد أمين من مسكنه بمصر الجديدة الذي سكنه أكثر من عشرين عاماً إلى مسكنهه في الجيزة ليكون أبنائه قريبين من الجامعة .  لكن فى تلك المرحلة أصيب بمرض إنفصال الشبكية ، وقال له الطبيب أن علاجه يحتاج إلى شهر ونصف أو شهرين وهو مغمض العينين ومتخذاً وضعاً واحداً ، وبالفعل وافق على إجراء العملية ونجحت فى النهاية.        وفي سنة 1948م قرر مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول منح أحمد أمين الدكتوراه الفخرية ولقب بـ الدكتور أحمد أمين، ومنح أيضا جائزة فؤاد الأول، وهي إحدى الجوائز التي تقدر بألف جنيه مصري وتمنح لمن ينتج أحسن عمل أو إنتاج في الآداب والعلوم والقانون؛ وقد أقيم له حفل في يوم 28 فبراير 1948م في قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة وتسلم فيها الجائزة، وكان نص البراءة الملكية ما يأتي:  " من فاروق ملك مصر بعناية الله تعالى إلى حضرة صاحب العزة الدكتور أحمد أمين إبراهيم بك العضو بمجمع فؤاد الأول للغة العربية: بناء على ما أقرته اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وفاروق الأول من استحقاقكم جائزة فؤاد الأول للآداب عن سنة 1948م لما امتاز به مؤلفكم " ظهر الإسلام " من دقة البحث، قد أمرنا بإصدار براءتنا الملكية هذه من ديواننا بمنحكم تلك الجائزة... وفقكم الله لخدمة العلم والوطن؛ تحريرا بقصر القبة الملكي بالقاهرة في اليوم التاسع عشرة من جمادي الآخرة لسنة ألف وثلاثمانية وسبع وستين من هجرة خاتم المرسلين وفي السنة الثانية عشرة من حكمنا ".    كما تسلم في اليوم نفسه براءة الدكتوراه الفخرية .        في نفس العام (1948) أنشئ بالجامعة نظام "الأستاذ غير المتفرغ" وهو نظام وافق عليه الدكتور عبد الرزاق السنهوري أيام كان وزيراً للمعارف، وقد رأى واضعوه أن كثيراً من الممتازين في القانون والآداب والعلوم يشغلون مناصب كبيرة في الدولة، وليس من السهل إخراجهم من مناصبهم وتخصيصهم بأستاذية الجامعة، فمن الممكن تعيينهم أساتذة غير متفرغين مع بقائهم في مناصبهم الأخرى، فلما وافق السنهورى على هذا المشروع عينين أحمد أمين أستاذاً غير متفرغ مع من عين  بكلية الآداب، ومن هؤلاء الأستاذ محمد شفيق غربال وكيل وزارة المعارف والأستاذ مصطفى عامر مدير جامعة فاروق إذ ذاك .

    وفي 5 يوليو سنه 1950م ذهب أحمد أمين إلى الإسكندرية للإصطياف ونزل في بيته بحى " سيدي بشر" وأخذ يستريح وعندما قام من نومه صباحاً كالعادة، وذهب ليغتسل  وقع، فعاود المشي ثانية فسقط. وهنا يقول أحمد أمين: " وأحسست أن الجانب الشمالي كله من يد ورجل قد فقد حركته تماماً ، واستدعيت الطبيب فقال إنها جلطة خفيفة وأنه يلزم السكون تماماً فسألته عن السبب : فقال إن الجلطة تحدث في المخ فإذا تحرك الجسم تحركت فعاثت الجلطة في المخ وسببت مضاعفات ، لذلك بجب أن تبقى في مكانها حتى تصير كالإسفنج... وكان ذلك على أثر غلطات عملتها فقد أخذت حقنة من الأنسولين " 2 سم " والجسم لا يحتمل إلا " واحد سنتيمتر " وقمت بعد ساعتين من النوم وقد احترق السكر من دمي وطلبت ما عندهم من أكل فأكلت أكلاً جماً ، وكان يكفي لهذه الحالة كوب من ماء بسكر، وغلطت غلطة ثالثة فنمت فوراً بعد هذا الأكل فتحولت حركة الدم إلى المعدة لتهضم فمضت بضع ثوان لم تتغذ فيها بعض خلايا المخ فماتت وقام مقامها خلايا أخرى لتحل محلها وهي تحتاج إلى ستة أسابيع أو ثلاثة أشهر على الأقل ليتم نموها، وهكذا مكثت أربعة أيام أشعر بنصفي الأيسر كأنه وعاء فارغ ثم شعرت بأنه ممتلئ رملاً ثم شعرت بالقوة تدب فيه وكانت رجلي أسبق إلى الحركة من يدي ... ولما تقدمت في الصحة وزال من المرض نحو 95% في نحو ستة أسابيع بطؤ الشفاء في الأيام الأخيرة ، فقال لى الطبيب أنى حتى أحتاج إلى شهر آخر، لأن العمل على بناء الخلايا كان من عمل الشرايين ثم صار الآن من عمل الشعيرات وهي بطبيعة الحال أبطأ عملاً . لكن بعد ذلك تدهورت صحته تدريجيا  ، وفي 27 من رمضان 1373هـ الموافق 30 من مايو 1954م توفى احمد أمين وبكاه كل من عرفه وإلتقى به.   

أما عن أهم مؤلفات فهى:     1- فجر الإسلام ام .           2-ضحى الإسلام (3 أجزاء) 3- ظهر الإسلام  (4 أجزاء) .          4- فيض الخاطر (10 أجزاء) .

5- زعماء الإصلاح.  6- الشرق والغرب.   7- يوم الإسلام.  8- مبادئ الفلسفة.  9- الأخلاق .

10-  النقد الأدبي (جزءان)

11->11- قصة الفلسفة اليونانية .         12-  قصة الفلسفة الحديثة (جزءان).