الحاجة زينب الكاشف

شخصيات في حياتي

أول مسئولة لقسم الأخوات بالإسكندرية

وأصغر معتقلة في سجون عبد الناصر

جمال سعد حسن ماضي

[email protected]

فى مستشفى الأمل بالقاهرة رأيتها , رأيت وجهًا يحمل ذكريات وأحداثاً ومواقف ، رأيت روحاً تبعث فى الوجود الحياة ، فرغم أنها قد تجاوزت السبعين من عمرها ، لكنها تشعرك بأنها ما زالت فتاة الإسلام ، فمنذ أن فارقها رفيق دربها الأستاذ الشاعر سعد سرور إثر حادث سيارة ، هجمت عليها الأحزان ، وعاشت وحيدة ، حيث أنها حرمت من نعمة الأولاد ، إلا أنها كانت دومًا تقول :

( لقد أصبحت أمًا لكل مسلم ومسلمة , يعملان لدين الله ) .

فمَنْ هى الحاجة زينب الكاشف ؟

1ـ فتاة الإخوان

ـ هى زينب حسين أحمد داود الشهيرة بزينب الكاشف ، ولدت فى حى محرم بك بالاسكندرية وحرمت من حنان الأب وهى طفلة ، فقامت الأم بتربيتها أفضل تربية خاصة وأنها كانت الابنه الوحيدة لها .

ـ وكان لها ستة أخوة رجال , ثلاثة منهم كانوا ينتمون لدعوة الإخوان المسلمين ، وقد تعرضوا لابتلاءات زادتهم صبرًا وثباتًا .

ـ تخرجت من معهد الخدمة الإجتماعية بالأسكندرية وحصلت على المركز الخامس , فى وقت لم يعرف المجتمع المصرى فيه أن تعمل المرأة , ولذا اتجهت فتاتنا إلى امتهان فن الحياكة .

ـ عرفت الحجاب فى وقت مبكر , ثم التحقت بركب دعوة الإخوان المسلمين تقول : ( تعرفت على دعوة الإخوان من خلال بيتنا حيث كان لدى أخ سعدى وآخر من الإخوان وكان ذلك بعد محنة الإخوان الأولى واغتيال الإمام البنا , فكان ينشب بينهما خلاف وكنت أجلس أسمع لكل منهما ، وكان أخى الأكبر يتسلط , فكنت أقول : ( أما يكفى الظلم الواقع على الإخوان من الحكومة السعدية فيكون الظلم أيضًا عليهم داخل البيت ) .

ـ وعن معرفتها بالأخوات تقول : ( سارعت إلى شعبة الإخوان المسلمين بعد افتتاحها وعودة الإخوان , حيث كانت مسئولة قسم الإخوات الأخت محاسن عزازى وكانت ناظرة مدرسة عمر بن الخطاب بالأسكندرية ) .

ـ ومنذ التحاقها بالإخوان أخذت على عاتقها تربية النشئ ورعاية الأسر ، التى أصبحت من مهامها الأساسية خاصة بعد اعتقال الإخوان , حيث كونت مع الإخوات لجانًا لجمع التبرعات وإنفاقها على أسر المعتقلين من الإخوان ، ولذلك تعرضت للكثير آنذاك من الاستدعاءات من الأمن , بسبب المعارض والأنشطة التى كان ربحها يصل إلى أسر المعتقلين .

2ـ السجينة الصابرة

كانت الحاجة زينب الكاشف إحدى خمس أخوات فى الاسكندرية , ذقن مرارة سجون عبد الناصر ، فى محنة 1965 ، حيث تقول :

( البداية أنهم جاءوا واعتقلوا أحد الإخوان يوم زفافه فسارعت أخته صفية المنياوى وراءه إلى القسم لتعرف أين يذهبون به ، فذهبت إليها فرآنى رجال المباحث ، وفى اليوم التالى ذهبوا لاعتقال الأخت إنعام شاكر وكانت حاملاً ، وقد ولدت ابنها أحمد فى السجن ، وكانت تقطن بجوارى فذهبت مسرعة مع أهلها للبحث عنها حتى وجدتها بالقسم , فرآنى مرة أخرى رجال المباحث ، وما إن وصلت للبيت حتى وجدتهم يعبثون فى ممتلكاتى وأخذوا شنطة يدى وفتشوها ، وقلت لهم أأحضر ملابسى ! فوافقوا ، فأدركت أنه اعـتقال .

 ثم اصطحبونى إلى قسـم محرم بك , حيث وجـدت أربعة من الأخوات ، فانتقلنا وسط حراسة مشددة إلى محطة مصر بالقاهرة ، ثم انتقلنا إلى سجن القناطر وكنا أول من دخله , فلم نجد سوى الأخت آمال العشماوى زوجة المستشار منير الدلة .

فاستقبلتنا ثم صلينا المغرب ، حيث صليت بهن وتلوت قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقامـوا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشـروا بالجنة التى كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخـرة , ولكم فيها ما تشهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون , نزلاّ من غفور رحيم }  

3 - مواقف لا تنسى

في زيارتي لها بمستشفى الأمل , حيث سمح لنا الدكتور عبد القادر حجازي بإجراء حديث معها صوت وصورة , وكنا في شهر رمضان , وقد انتهز الحاج محمود مرجان الفرصة في أن تحدثنا عن ذكرياتها الرمضانية , داخل المعتقل , فإذا بها تنسى المرض والألم والإعياء , وجالت بنا في مواقف لا تنسى , تقول : 

- في إحدى المرات ونحن واقفات بين يدي الله نصلي سمعنا السجانة تنادي بأعلى صوتها : انتباه، فلم نخرج من الصلاة ، وجاء المأمور يرعد ويزبد ، وبعد أن انتهينا قال لنا :  ألم تروا أنني جئت؟! فردت عليه الحاجة نعيمة بقولها : كنا نصلي , فقال: ما دمت قدمت أوقفن الصلاة؟ فردت عليه بقولها : نحن بين يدي الله ، ولا نترك الوقوف بين يدي الله لأجل أحد ، فاستشاط غضباً وتوعدنا ، فدعونا عليه فما كاد يصل مكتبه إلا وقد ابتلاه الله بالشلل.

- ومن المواقف أيضاً : أن السجانات كن يغنين طوال الليل أغانٍ هابطة من باب استفزاز المعتقلات ، فناديتُ عليهن : لا تغنين حتى نستطيع أن ننام ، فقلن: هذه أوامر حتى لا ننام ، فقلت لهن : سنقرأ عليكن سورة يس ، فلم يستجبن، فدعونا عليهن ، فأصابهن الله بالنعاس، فجاء المأمور في الصباح فوجد السجانات نائمات ، فخصم لكل واحدة منهن خمسة أيام ، فقلن لي : لا تدعون علينا مرة أخرى؛ فقد خصم لنا المأمور".

- وقد حضرت الحاجة زينب شهر رمضان والعيد داخل المعتقل ، وكان الإفطار فولاً ممتلئاً بالسوس والدود ، وكان الخبز ممزوجاً بالحصى ، تقول لنا , وكنا في يوم رمضاني جميل :

( كان الشعور بمعية الله يملأ وجداننا ، ومن فضل الله أن ساق لنا بعض البحارة الذين يقومون بالصيد في النيل ، فقذفوا لهن بلحاً وعدساً وأرزاً دون أن يراهم أحد ، فكان رزقاً طيباً من الله ) .

- وقد وصلت بها الشجاعة ذات يوم أنها قتلت عقرباً كانت تقف فوق رأس إحدى الأخوات وهي نائمة ، كما قتلت ثعباناً خرج من شق في الحائط , وذات يوم دُعيت للتحقيق فقال لها المحقق : "ألا يعجبكن عبدالناصر.. رضيتم أم أبيتم عبدالناصر موجود. فردت عليه : وربنا موجود أقوى من عبد الناصر".

4 - الزوجة الصابرة
وعقب خروج الإخوان من السجون عوّضها الله بالزوج الصالح ؛ فقد رزقها الله بالزواج من الأستاذ سعد سرور كامل وهو من مواليد السويس عام 1926م ، التحق بدعوة الإخوان ، وعمل في شركة بترول السويس ، اعتقل عام 1954م ، وظل في المعتقل سبعة عشر عاماً ، توفيت زوجته الأولى بعد اعتقاله بثلاث سنوات ، وتركت له ابنتين : فاطمة ومنى ، ختم حياته بالعمل في مصنع بلاستيك الشريف ، توفي عام 1993م إثر حادث سيارة ، وشيعته جموع الإخوان ، وعلى رأسهم الأستاذ مصطفى مشهور يرحمه الله نائب المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها.

وتحكي قصة زواجها فتقول : " كان هناك أخ محام من القاهرة يبحث عن عروس، وقابل الأخ محمود من الإسكندرية ، وسأله فأجابه : عندي عروس ، لكنها كانت معتقلة ، فرحب الأخ جدّاً، فأرسل له الأخ محمود صورتي ، لكن الأخ المحامى حدث له انزلاق غضروفي , ورقد في السرير لفترة طويلة، وأثناء مرضه زاره الحاج سعد سرور، وسأله المحامى لماذا لا تتزوج؟ فقال سرور: لم أجد العروس التى تقبل ظروفي ، فقال له : هناك أخت من الإسكندرية وكانت معتقلة ، وأعتقد أنها ستوافق على ظروفك ، وأعطاه الصورة ، وعرف منه أنها كانت له. فقال له: "وأنت؟ قال له: أنا تعبان وبعدين يا عم ويؤثرون على" أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)(الحشر) ، فأخذ سعد الصورة وذهب إلى الإسكندرية وقابلها وطلبها من أهلها ، وفي البداية كانت هناك اعتراضات كبيرة عليه من أهلها ، لكنها وافقت وألحّت عليهم إلى أن وافقوا، وانتقلت الحاجة زينب إلى القاهرة للمعيشة مع زوجها.

 وكانت نِعم الزوجة الصابرة التي تحملت كثيراً ؛ ففي عام 1993م كانت على موعد مع حادث حزين وفراق أليم ، ألا وهو حادث فراق زوجها الذي حرمت منه في حادث سيارة.. وتقول واصفة هذه اللحظات : ( واتصلت بالإخوان، ثم عدت به للمستشفى مرة أخرى حيث وجدت الدكتورعبدالقادر حجازي هناك ، وبعدها بقليل أخبرني أن سعداً فارق الحياة ، لم أحتمل هذه اللحظات التي مرت عليّ كدهر، ومن المسجد تحركت جموع الإخوان في مظاهرة عظيمة لتشييع جثمان الشهيد ، ودفن في مدينة نصر بالقاهرة.. وعشت صابرة على فراقه ، محتسبة الأمر عند الله على أمل اللقاء معه في جنة الخلد ) .

5 - الداعية المجاهدة
في 6 مارس 1966م خرجت زينب الكاشف ، وعادت لمديرية أمن الإسكندرية حيث تروي : ( بنفس الطريقة التي ذهبت بها عن طريق القطار والحراسة المشددة ) ، حيث خرجت وهي أقوى إيماناً وثباتاً على دعوة الإخوان المسلمين .
وبعد وصولها لقسم محرم بك قال لها المأمور: لا نريد أن يعرف أحد أنك اعتقلت. فقالت له: "يعني لما إخوتي يسألونني: كنت فين؟ أقول لهم : كنت أتفسح في مصر, فصرخ وقال : أنا مش قلت إخوتك ، أنا أقول الناس اللي يزوركِ، فردت عليه : الناس كلها عارفة ".

ثم عاشت مع زوجها، تحمل معه عبء الدعوة ، وتقوم بدورها وسط الأخوات بمصر الجديدة دون كلل أو ملل ، وظلت دعوتها شغلها الشاغل بالرغم من أمراضها , وبالرغم من كونها لم تنجب ، إلا أنها شعرت أن أبناء الإخوان أبناؤها , فلم تتخلف عن مناسبات الزواج , أوتزويج الأخوات ورعاية شئونهن , وتفقد بيوتهن .

بعد فراق زوجها شعرت بالوحشة والغربة والحنين للزوج الكريم ، غير أنها لم تنس دعوتها ولا نصائحها للأخوات ، والتي كانت دائماً تؤكد معنى الاستعانة بالله في كل الأحوال ، وتوثيق عرى الأخوة ، وعدم ترك أسر الإخوان المعتقلين .

7 – همسة أم الأخوات

كان آخر لقاء مع الداعية على فراش الموت : والذي نشر بالصوت والصورة تحت عنوان : ( وصية أم ) , حيث قالت في وصيتها للأخوات :

( أولاً الحب : أن يحب بعضكن بعضاً فالأخوة في الله تُهوّن كل شيئ .

ثانياً الخدمة : أن يخدم بعضكن بعضاً لنيل رضا الله وليس الناس .

ثالثاً الثبات : على الزوجات والأمهات والبنات الثبات مع الله , فالله يحفظ الدعاة ويقف دائماً معهم ) .