الداعية عبد الرحمن فاخوري

علماء وأدباء في ذاكرتي

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

كان توفيقاً من الله أن يكون عبد الرحمن فاخوري أحد أساتذتي في مدرسة شكري القوتلي بمدينة جسر الشغور، وقد قضيت فيها المرحلة المتوسطة بدءاً من الصف السادس، كما أكرمني الله عز وجل أن يكون من بين مدرسيها الأديب إبراهيم عاصي، والشاعر محمد الحسناوي والشيخ سليم الخطيب –رحمهم الله تعالى-.

فقد كان صاحب المدرسة ومديرها الأستاذ أحمد عاصي رجلاً فاضلاً ومربياً حكيماً، فهو إلى جانب تساهله مع الطلاب الفقراء وذوي الدخل المحدود، يتشدد في اختيار المدرسين من ذوي الخبرة والسلوك السليم المؤثر؟! فلم تكن مدرسته مجرد مدرسة خاصة يبتغي منها الربح والإكثار. في هذه الأجواء عرفت عبد الرحمن الفاخوري المعروف بمنطقتنا باسم (عبد الرحمن كِدَرْش) أستاذاً لنا في الصف الثالث الإعدادي، يقوم بتدريس مادة التربية الإسلامية، يميزه عن غيره الجرأة والصراحة والفصاحة والانفتاح على الطلاب، الذين يسألون مختلف الأسئلة: شرعية وسياسية واجتماعية؟ فكان يفتح صدره لكل سائل ولا يتهرب من سؤال مما جعل لدروسه طعماً خاصاً، حتى إن زميلنا (مفيد) الطالب المسيحي وابن أحد القساوسة كان يحرص على حضور حصته، وكان الأستاذ –رحمه الله- لا يرى في ذلك بأساً، يجيبه إذا سأل، ولا يتحرج في بيان الحق الذي يعتقد؟!

*  *  *

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي – كما هو الحال اليوم - كان على الناس أن يأخذوا بالرأي الواحد، وأن تنكون اهتماماتهم ما تقدمه وسائل الإعلام، وأن يروا فقط ما يُرى لهم، ولم يكن ذلك لينسحب على أمثال أستاذنا – طيب الله ثراه - فهو يقول الحق معتقداً دون مواربة، مستعداً لتحمل نتائج الصدع به ولذا كان يغيب عن المدرسة أياماً، وكان الطلاب يتهامسون: أخذوه.. طلبوه.. وما إلى ذلك من عبارات تُشعر أنه دُعي للتحقيق؟.. وقد جرَّ عليه ذلك تضييقاً في العيش، ومحاربة في الرزق، فتأخر تعيينه في التدريس مدرساً، حتى إن بعض تلاميذه عُينوا قبله وشاء الله أن نلتقي به مع عدد من تلاميذه في تصحيح امتحانات الثانوية العامة بحلب، فكان كما نعرف، زهداً في الحياة وطلباً للحق، وفضحاً للباطل.

ومن طريف هذه اللقاءات أن جمعنا العمل في مؤسسة خيرية أهلية، وما زلت أذكر نقاشاته وحواره يوم افتتاح المبرة الخيرية في اللاذقية، فقد كان والأستاذ إبراهيم عاصي يؤكد على التأصيل الشرعي للعمل الخيري طلباً للثواب والصواب في العمل، والبركة في الإنتاج..

كان رحمه الله حاضر البديهة، قوي الحجة، ومع شدته في الحق، كان مهذب الألفاظ، محترماً للآخرين.

*  *  *

وفي حلب برز اسمه كداعية وعالم في الحديث، وصاحب حجة ومنطق في الحوار.. وقد حضرت له محاضرة عن تهذيب النفس وتزكيتها في مقر الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون بحلب، وعرفه طلاب دار المعلمين وأساتذتها ومن زامله فيها، لا يسكت عن باطل، ولا يأبه بما يجر عليه تصديه له من عواقب، حتى إن عدداً من زملائه ومحبيه كانوا يخشون عليه، وينصحونه، وكان لسان حاله ومقاله: هؤلاء لا يخجلون من أنفسهم وهم يرددون الباطل من الأفكار والمعتقدات والشبه التي لا تساوي في ميزان الحق عوداً يابساً، فكيف نسكت ونحن طلاب حقيقة وأصحاب حق؟!

ونقل لنا أخ من زملائه وممن أفاد من علمه، أنه اعتقل وهو في منزله وفي جيوبه عدد من الفتاوى المعاصرة التي تهتم بالشأن العام، وأوضاع الناس، يرد بها على المستفتين في وقت كادت البلاد تخلو من علمائها، وكان الوضع متأزماً والبحث عن النخبة وملاحقتها والتضييق عليها قائماً على قدم وساق، فأخذ وانقطعت أخباره، وتذكر الكاتبة رفاه مهندس في مجلة النور –العدد 233- شعبان 1425هـ في مقالة لها عن زوجته الداعية الفاضلة ناجية أبو صالح أنها امتحنت مع زوجها في أول شهور اعتقاله، على الرغم من مرضها بالقلب، وعذبت أمام زوجها، وعذب أمامها مرات عدة، على الرغم من عدم احتمال قلبها لذلك، ثم أفرج عنها بعد عدة أشهر، فهاجرت مع والدها وتوفيت في ديار الغربة.. وكان – رحمه الله - قد تزوج من الأخت الفاضلة عام 1962 وهي ابنة الشيخ ناجي أبو صالح ، من بيت علم ودين، وشقيقة الشيخ بدر الدين أبو صالح – رحمه الله - وقد حضرنا عليه في جامع الصديق بحلب، محلة الجميلية، في أواخر المرحلة الثانوية، فأفدت وغيري من دروسه وتوجيهاته!.

*  *  *

عرف عن الأستاذ عبد الرحمن اشتغاله بالحديث وعلومه، وفي تحقيقه لكتاب (الكبائر) للإمام الذهبي، برزت جهوده في هذا الميدان، إذ لم يسبقه أحد في خدمة هذا الكتاب الذائع الصيت – على كثرة طبعاته وناشريه - يقول في المقدمة، تحت عنوان: قصة الذهبي مع الكبائر: "في كتاب الكبائر ظاهرة تسترعي الانتباه، هي كثرة الأحاديث الضعيفة والتالفة الموضوعة فيه، وهي ظاهرة مألوفة في كتاب وعظي كالكبائر، إلا أن الذي يلفت النظر أن هذه الأحاديث سيقت مرات مصدرة بصيغ التمريض والتضعيف، ومرات أخرى بصيغ التصحيح مجزوماً بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أحصيت أربعين حديثاً منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجزم، وكلها بين حديث موضوع، أو لا أصل له، أو تالف السند شديد الضعف، أو منكر ظاهر النكارة! وهذا عجب من العجب أن يصدر عن حافظ ناقد محقق كالإمام الذهبي؟!.

ويرد – رحمه الله - هذا الأمر إلى أحد احتمالين:

أولهما: أن الكتاب منحول لا تصح نسبته إلى هذا الإمام الجليل، والآخر: أن الإمام الذهبي ألّف هذا الكتاب وهو في مقتبل العمر، وقبل أن يشتد ساعده في صناعة الحديث بخاصة.. ويضيف: إلا أنني أميل إلى الاحتمال الثاني وأرجح أن الذهبي – رحمه الله - لما تضلع في علوم الحديث، ونظر في الكتاب (المطبوع الآن) فأنكر كثيراً منه، فاختصره في كتاب (الكبائر) وهو مخطوط ولعله اختصره في أخريات سني حياته. ويصل إلى نتيجة مفادها: أن من المقطوع به أن كتاب (الكبائر) كما هو مطبوع الآن لا يمكن الاطمئنان إلى أنه من تأليف الذهبي في فترة النضج العلمي من حياته، فالذي يقرأ كلامه في مؤلفاته الأخرى المتفق على صحة نسبتها إليه مثل (تلخيص المستدرك) و(الميزان) و(المغني) لا يصدق أن تلك الأحاديث تخفى على حافظ ناقد مدقق كالإمام الذهبي، كما نعرفه من خلال مؤلفاته الأخرى المشار إليها آنفاً، ولعل هذا هو الذي حمله على وضع مختصر لكتابه استبعد منه تلك الموضوعات والأباطيل، لقد استطاع أستاذنا الشهيد أن يقدم خدمة جُلّى للكتاب ولاسيما أن جمهور المنتفعين به هم من غير المختصين، فتعمد تبسيط العبارة، مبتعداً عن مصطلحات المحدثين واللغويين والفقهاء، كلما كان ذلك ممكناً؟

ومن أعماله التي وصلت إلينا – فيما أعلم - تحقيقه لكتاب الإمام السيوطي، مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة.

ولا ندري إذا كان هناك أعمال أخرى قد طويت نتيجة اعتقاله واستشهاده، وهجرة زوجته رحمها الله مع أبيها من ديار الشام، فقد كان في نيته أن يضيف إلى الكتاب كبائر أخرى حديثة معاصرة ولكنه أرجأ الكلام فيها إلى وقت آخر، ويشير في حاشية التحقيق أنه بعد اطلاعه على كتاب الخطايا في الإسلام للشيخ عفيف عبد الفتاح طبارة وجد أن هذا الكتاب أغناه عن العودة إلى الكتابة في هذا الموضوع، وأن الكتاب على الرغم من فقره بالنصوص الحديثية والمواعظ والرقائق والشعر، وضعف التحقيق الحديثي فيه فإنه يعتبر ضرورياً وهاماً لمن يريد أن يتصدى للتدريس والوعظ في هذا العصر ويصلح أن يكون مكملاً لكتاب (الكبائر).

رحم الله الأستاذ عبد الرحمن الفاخوري، وأجزل له الثواب، وجمع بينه وبين زوجه المجاهدة المحتسبة في جنان الخلد، كما جمع بينهما على العمل للإسلام والتضحية في سبيله إنه سميع مجيب.

               

*عضو رابطة أدباء الشام