يحيى حقي تحت ضوء القنديل

يحيى حقي تحت ضوء القنديل

عمر جلاب

[email protected]

ألقاكم -قرائي الأعزاء- بين عواصف الظلماء بنور خافت، يكاد زيته يضيء علينا، من رجل أحرق نياط فكره لينير بقنديله

ظلمات بعضها فوق بعض.

ذلكم هو يحي، الأديب المصري، الذي أطل علينا ذات 1905م  من أسرة تمتزج فيها الدماء كما الحضارات.

ولد يحي حقي في حي السيدة  زينب بالقاهرة، لأسرة تركية وفدت على مصر للاستقرار بصفة رسمية. كانت هذه الأخيرة

 نموذجا للعائلة المثقفة والمحافظة في الآن ذاته على أصولها، والمعبرة على رقي الاندماج والانصهار في بوتقة

المجتمع المضيف، الذي منحها الاستقرار فمنحته اسما خلدها في دنيا الأدب.

تعلم الأديب بداية في كتاب السيدة  زينب، ليلتحق بعدها بكتاب مدرسة عباس باشا الأول بالقاهرة . هي ذي ذات

 المدرسة التي تعلم بها مصطفى كامل.

 ومع أن الصعوبات كانت جمة، فقد ركب الطفل أهوالها ليقهرها بنيله الشهادة التي أهلته فيما بعد للالتحاق بالمدرسة ،  ثم الثانوية التي بها حصل بها على شهادة البكالوريا بترتيب لم يرق والديه.

رغم الإعاقة المعنوية جراء هذه النتيجة، فقد تخطى هذا الحاجز فكان أن حصل على شهادة الليسانس في الحقوق، رفق

 نخبة من خيرة أبناء مصر.

نذر الأديب بداياته المهنية للتمرين بمكتب النيابة، ليبدأ بعدها حياته التي كان يكنى فيها بصبي وكيل النيابة.

لم تشأ إرادة الرجل أن تجرجر بأغلال الاستعباد الإداري، بل راحت تكسر القيود لتنتقل للعمل بسلك المحاماة. هذا الانتقال

لم يرقه، إذ لم يكن ليؤمنه من عواصف الوساطات والتلاعبات به ولا حتى راتبه الزهيد الذي لم يفق الجنيهات المعدودات كان ليرضيه. لم تطل التنقلات الفاشلة بالأديب إلى أن استقر به المقام في وظيفة أبيه كمعاون إدارة

ظل نور القنديل اليسير مغالبا لظلماء الحياة الكاسرة ، إلى أن تبدت لسبيل يحي طريق جديدة، وسعت وفتحت له آفاقا

جديدة طارت به من مصر، إلى السعودية، ثم إلى إسطنبول، فروما كملحق إداري لقنصليات هذه البلدان.

 تقلد  بعدها المناصب الراقية التي توالت عليه -رغم عارض الاستقالة الذي حرمه من الاشتغال بالسلك الدبلوماسي إثر زواجه من الرسامة  والعارضة الفرنسية جان ماري جيهو. مشوار يحي تكلل برئاسة الرجل  تحرير مجلة المجلة المصرية.

كان صاحب القنديل منارة معرفية قائمة بذاتها، خلال توليه لمدة تقارب العشرية لمجلة المجلة التي أشرف عليها إشرافا

كاملا حتى ارتبط اسمها باسمه، ففتح بها المجال للمواهب والإبداعات الناشئة،  فكانت منارة لكل الذين يبحثون عن مرفإ

فكري، أو روحي، أو معرفي. بيد أن هذه الأخيرة لم تصمد أمام عاتيات أمواج الاستبداد الذي أطفأ آخر شمعة تعلو صرحها، فكانت الاستقالة بداية، ثم الغلق سنة 1970م

صاحب القنديل، كان يمارس الطفولة بكل حياة، وكان متكشفا لكل صاحب فضول، عظيما ككل الأدباء، فكان صاحبنا

إضافة  إلى هذه الصفة النفسية التي لاصقته، قصيرالقامة بشكل  لافت،مما  كان له آثار خجل ذكي، وقاد على جبين عريضة،  وعينين تبرقان رسائل من خبايا وادي عبقر ربما كان ذلك لمسة إضافية، من لمسات أنامل رقيقات، لأم عرفت كيف تغرس فن الإتيكيت في وليدها، فكان لائقا، رائقا، مهذبا.

 كان لهذا الغرس أكله في حياة الأديب، الذي أسس صداقات انطلاقا من جمعية الأخلاق الفاضلة إلى جماعة الحقوقيين، ثم بعدها جماعة الأدباء- رغم القلق الوجودي الذي طالما خامر نفسية موزعة بين البعد الجسدي والبعد النفسي، والعامل الاجتماعي والتاريخي وغيرها من فواعل قدمت لحياة أديب بحجمه-. وكما شاءت الرياح أن تأتي بما لا تشتهي السفن،  شاءت الأقدار لمصباح يحي أن ينطفئ ليس تحت عاصفة الريح،

ولكن  هذه المرة تلبية لنداء  الموت، حيث فارقنا الأديب سنة 1992م.

فاز الأديب بجائزة التقدير الأدبي، و منحته فرنسا وسام الفارس من الطبقة الأولى سنة 1983م، كما منح

الدكتوراه الفخرية من جامعة المنيا، و كان الأديب ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1990م.

كان الأديب متعدد المواهب، بيد أن المقام هنا لا يسمح  لنا إلا بذكر بعض من أعماله التي نستهلها بالتقديم  للعمل الأدبي

قنديل أم هاشم.

العلم والخرافة  تحت ضوء قنديل أم هاشم.

في قرن خلت أيامه، تكشفت أنوار قنديل باهت، قنديل أم هاشم. هي قصة طويلة، أو هكذا أراد أديبنا الذي لم يجد مفرا

من ولوج صراع حضاري كان في قمته بين الحضارة الغربية وموقف المثقف العربي منها.

أحداث القصة نسجت حول شخصية إسماعيل بن الحاج رجب الذي كان يطمح أن يكون ابنه طبيبا، بيد أن الابن لم تكن

 نتائجه الدراسية لتؤهله للالتحاق بكلية الطب مما، حدى بالأب أن يرسله على نفقته لدراسة الطب في الخارج حيث دلف

الفتى عالما من بعد آخر قلب مفاهيم الحياة في عقله خاصة بعد نجاحاته، ثم تعرفه على ماري التي لقمته مباهج الحياة.

عاد الابن الطبيب إلى تربته، يحمل معه سلاح العلم الذي استعاض به عن سلاح المعتقدات. حيث واجه وضع فاطمة

 النبوية التي أصيبت في عينيها بداء كانت أمه تعالجها منه بقطرات من زيت قنديل أم هاشم المقدس في نظر أهل البلدة.

كانت ثورة الشاب عارمة دفعته لتحطيم القنديل مما حدى بهؤلاء السكان إلى ضربه حد المكوث في الفراش . هذا الوضع

دفع به إلى محاولة علاج فاطمة التي كان العمى آخر ما يكون من نصيبها وعلى يديه...مما أغرقه في تأمل أفضى به إلى

 قناعة ضرورة المزج بين العلم والدين، بين التجديد والتقليد ليعود بعد فترة التأمل طالبا نور القنديل لينير بذلك بصر

 فاطمة.

 كانت هذه وصفة حاولت أن أجمع لكم من خلالها أنوارا بددتها كواسح رجل بقامة يحي حقي، ولكم مني جميل العرفان  على حسن صحبتكم.