الشيخ علي أبو الحسن الندوي

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

الشيخ علي أبو الحسن الندوي

محمد المجذوب

 

  ولد في قرية (تكية) من مديرية (رائي بريلي) من الولاية الشمالية بالهند ، وذلك في المحرم من عام 1332 هـ . من أسرة ذات أصل عربي عريق ، تعيش في الهند منذ قرون . وهو ابن العلامة الشريف عبد الحي الحسني أحد كبار مؤلفي عصره .

كان أول من هاجر إلى الهند من هذه الأسرة الشيخ السيد قطب الدين ابن محمد المدني عام 607 هـ. وكانت أم هذا الشيخ بنت الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني ، ويصل نسبه من الطرفين إلى السيد عبد الله المحصن بن السيد الحسن المثنى ابن الحسن بن علي بن أبي طالب (رض) .

وكان سبب هجرته إلى الهند أنه رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة يأمره بالتوجه إلى الهند للجهاد ، ويبشره بالفتح المبين .

وقد حافظت الأسرة طوال القرون على فضائلها الموروثة والمكتسبة ، إذ عرفت بالتزام السنن الواضح من التوحيد والسنة والوقوف بوجه البدعة والحرص على مبادئ الدعوة إلى الإسلام . وقد شارك رجالها في الجهاد ونال الكثير منهم شرف الشهادة في سبيل الله .

ونبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء والدعاة سجلت أسماؤهم ولا تزال تسجل في تاريخ الدعوة الإسلامية والكفاح من أجلها ، من أشهرهم السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ، قائد كبرى حركات الإصلاح والجهاد في الهند .

ولا ريب أن لهذا المنبت الكريم أثره العميق في نشأة الشيخ وانصرافه التام إلى خدمة الإسلام والاهتمام بأمور المسلمين . وقد شاء الله أن يحفظ للمترجم هذا الجو الفاضل فأتم نعمته عليه بالشيوخ الصالحين ، الذين كانوا امتداداً طيباً لتلك البيئة الطيبة .

دراسته العلمية :

تلقى الشيخ دراسته الأولية في العربية من الشيخ خليل محمد اليماني ، حفيد المحدث الجليل الشيخ حسين بن محسن الأنصاري ، وأتم دراسته الأدبية على الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ، رئيس تدريس الأدب العربي بندوة العلماء يومئذ ، ثم تعلم في دار العلوم ندوة العلماء ودار العلوم في ديوبند ، وجامعة لكهنئو ، بتفوق ممتاز ، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور حيث تخرج عليه في علم التفسير .

وقد استفاد في الحديث من الشيخ حيدر حسن خان ، ونال الإجازة منه ومن الشيخ عبد الرحمن المبار كفوري صاحب (تحفة الأحوذي) وحضر دروس العالم الكبير الشيخ حسين أحمد المدني في الحديث بدار العلوم في ديوبند ، فجمع بين جهابذة الأدب والحديث والتفسير .

الرجال الذين أثروا في توجيهه :

ويسمي الشيخ من الرجال الذين أثروا في توجيهه أخاه المرحوم الدكتور عبد العلي الحسني ، ويصفه بأنه جمع بين الثقافتين الدينية والعصرية ، إذ تلقى دراسته في المدارس الدينية والجامعات العصرية . وأنه كان ذا فضل كبير على ثقافته .

ثم المشايخ أحمد علي اللاهوري والشيخ محمد إلياس مؤسس حركة الدعوة والتبليغ بالهند وفي العالم الإسلامي ، ثم المربي الجليل الشيخ عبد القادر الرائيبوري ، ثم شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال ، ثم السيد طلحة الحسيني أحد كبار الأساتذة في جامعة البنجاب .

ويدع الشيخ أثر هؤلاء الفضلاء دون تحديد ، فلا يعلمنا في أي اتجاه ، ولا من أي نوع ، ولكن ذلك لا يحجب عنا الواقع الذي نعرفه من خلال آثار الشيخ ، ومن خلال مسلكه في خدمة الدعوة ، ثم من خلال ما اشتهر به بعض الذين نعرف آثارهم من أساتذته هؤلاء .

وفي ما كتبه الشيخ أبو الحسن عن روائع إقبال وأفكاره الإسلامية وتأملاته الفلسفية ما يكفي لاستخلاص الصورة المنشودة عن تأثيره في توجيهه الأدبي والفكري .

وقصارى القول في ذلك أن أبا الحسن قد وفق من ملابسته لهذه الثلة الممتازة إلى أن يجمع بين الثقافة الصحيحة والأسوة الحسنة . وإنها لبقية من منهج التعليم الإسلامي ، الذي لا يقبل التفريق بين التعليم والتربية ، ذلك المنهج الكريم الذي مسخه ، بل نسخه ، نظام التعليم الغربي ، حتى أوشك أن يستحيل أثراً بعد عين ـ ويا للأسف ـ !

العلوم التي يؤثرها :

ويحدد العلوم التي يؤثرها بحبه فيحصرها في : القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، ثم التفسير ، والتاريخ ، والأدب .

ولو سكت الشيخ عن هذا الجانب لأمكننا استخلاصه من مؤلفاته وبحوثه ومحاضراته وأحاديثه . وقديماً قيل :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه        فكل قرين بالمقارن يقتدي

ولا قرين أعمق أثراً في قلب الإنسان وعقله وسلوكه من العلم الذي ينسجم معه ويصدر عنه . ونحن بقليل من الممارسة والملاحظة نفرق بين امرئ وآخر عن طريق الحديث الذي نسمعه أو نقرأه لكل من الاثنين . وقارئ أبي الحسن لا يفوته الإدراك بأنه ثمرة مونعة من حديقة الثقافة الإسلامية الأصيلة .

ثم إن الشيخ يجمعه بين هذه العلوم المتعددة في نطاق التفضيل ، إنما يفعل ذلك إيماناً منه بما يشملها من وحدة الإطار، فهو " لا يؤمن بالانفصال بين هذه العلوم ، بل يرى كداعية إسلامي أن التاريخ مرآة الأمم البائدة ، وخزانة العبر المبرزة لأسباب النهوض والهبوط في حياتها ، فليس ثمة من سقوط أو نهوض يحدث عفواً أو اتفاقاً ،وإنما هي سنن وقوانين مرتبطة بتصرفات الأمم وأعمالها ، فعلى هذه التصرفات والأعمال تتوقف مصايرها في مسيرة التاريخ " .

وعلم القرآن والحديث ، فضلاً عن كونه المصدر الرئيسي والمنبع الأول للثقافة الإسلامية ، فهو كذلك الدليل الهادي إلى أسرار هذه السنن الإلهية وعملها في حياة البشر، وكل منهج لدراسة التاريخ لا يستمد من هذه الضوابط سيظل جهداً ضائعاً ينقض بعضه بعضاً .

والتمكن من علوم الأدب والتمرس به أداة لا معدى عنها لإبراز هذه الحقائق والإفادة منها على أفضل الوجوه .

والشيخ ، بارك الله في حياته وجهاده ، قد علم كيف يستخدم هذه الأداة في خدمة مثله العليا أروع استخدام . ومتتبع ما يكتب يشعر بأن لعبارته الأدبية سحراً لا يتوافر في العادة إلا للعلية من أصحاب المواهب ، الذين تعمقوا سر الكلمة ، وتفاعلوا به ، وكان لقلوبهم أكبر الأثر في ما يصوغون . وتلك هي الخاصة الرئيسية التي يمتاز بها أبداً أولو الأذواق الروحية من المتخرجين في مدرسة القرآن .

وبهذه الخاصة يتناول الشيخ الأحداث التاريخية ، فإذا هي مائجة بالحياة وبالعبر .. وقلما تقرأ له بحثاً أو قصة أو حديثاً لا تلمس أثناءه هذه الصور الناطقة بالحكمة ، وهذا ما يكاد الكاتبون عنه يجمعون عليه .

أهم الأحداث التي عاصرها :

ويعتبر الشيخ سقوط الخلافة على يد الطاغية اليهودي الأصل أتاتورك أكبر الأحداث التي عاصرها ، فهو يقول في ذلك :

" أعتقد أنه كان نقطة تحول في تاريخ الإسلام والمسلمين ، وتحولاً لعجلة الحياة ، إذ كان له الأثر العميق في خضوع العالم لحضارة الغرب .

ومهما تكن عوامل هذا التحول فمن جرائه تم إسلاس قيادة المسلم للغرب ، حيث لا يزال العالم الإسلامي يقاسي تبعيته . ثم كانت الأحداث القاسية التي واجهتها الأمة الإسلامية نتيجة لهذا الحدث المؤلم ، فالحركة الكمالية والثورة (...) إنما تستمدان جذورهما من الأرضية التي خلفها المستعمر ، فاعتبرهما امتداداً لهذه المؤامرة ".

ويتحدث أبو الحسن عن بعض الفتن التي فجرتها فيما بعد تلك الكارثة فيقول :

" إن الحروب التي تلت هذه المأساة الإنسانية ، وغزو الفكر الغربي للأمة الإسلامية ، وجرأة الحاقدين عليها ، إنما حصلت بسبب من رجحان كفة ميزان القوة ، وانسحاب المسلمين من معترك الحياة . وقد امتدت هذه المؤامرة ، التي اقتلعت جذور الوحدة المتأصلة في قلب العالم الإسلامي ، إلى العهود الأخيرة .. وكان يوم احتلال اليهود القدس ، وزحف القوات الصهيونية إلى الضفة الشرقية للقناة ، أحلك يوم في حياتي . لقد تحققت المهزلة ، وبلغت المؤامرة ذروتها . وقد بحثت ذلك في مؤلفاتي ، وأوضحت الأسباب التي تمخضت عنها المأساة الإسلامية الكبرى بعد سقوط الخلافة ، بإبعاد الإسلام ورابطته عن الحياة ، والاستخفاف بقيمه ومظاهره ، وقمع العاملين في سبيله . وإني أعد هذه الفترة من أحرج الفترات التي عشتها ، كما فصلت ذلك في كتابي " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية " و " المسلمون وقضية فلسطين " وقد دعمت هذه الأحداث إيماني بأن الإسلام لا بد أن يتولى الزمام لإنقاذ العرب والعالم ، لأن الحل الوحيد لمأساة الإنسان يكمن في تحول قيادة العالم إلى أيد مؤمنة بقيم الإنسانية ، أمة وسطاً لتكون شاهدة على الناس ، كما يصفها كتاب الله".

وقد يتساءل القارئ ـ ومن حقه ذلك ـ كيف يعد أبو الحسن سقوط الخلافة أكبر حادث في حياته ، وهو في سن المراهقة أثناءئذ ؟

والجواب على ذلك بالنسبة إلى الشيخ أنه يقيس الحادث على مجريات الأحداث التاريخية ، التي شهدتها الحقبة الممتدة حتى أيامنا هذه ، فلا يرى أكبر منه في سائر الوقائع العالمية .

ثم لتقويم الشيخ هذا الحدث على هذا الوجه علاقة هامة بوقف مسلمي الهند أثناء ذلك من موضوع الخلافة . فالمعروف أن هؤلاء كانوا أشد مسلمي العالم حرصاً على بقائها ودفاعاً عنها وألماً عليها . وقد وصل بهم ذلك الحرص إلى حد أن الإنجليز ، وهم المسيطرون على أرجاء الهند ، قد عجزوا أن يجدوا في مسلميها من يقبل التطوع في صفوفهم لقتال الدولة العثمانية ، أثناء الحرب الكونية الأولى ، لأنها في يقينهم تمثل الخلافة التي لا يجوز لمسلم الخروج عليها ، حتى اضطر الإنجليز لتوسيط زعماء العرب ـ الذين استباحوا التحالف معهم ضد الخلافة ـ لإقناعهم بما يريدون فلم يجدوا منهم إلا الصد والنقد وتوجيه أخطر الاتهام ، فعادوا من وساطتهم تلك مخفقين بخفي حنين .

فمن الطبيعي إذن أن ينشأ كل مسلم هندي عاصر تلك المأساة على هذا النحو من الشعور بهولها . فكيف إذا كان مثل هذا الفتى الناشئ في أشد بيئات المسلمين الهنود إحساساً بتلك الفاجعة !..

وجاءت الأحداث تترى في أعقاب هذه المحنة ، فإذا هي أرزاء متلاحقة تدمر كل رابطة بين المسلمين ، حتى لتستحيل الأسرة الواحدة أحزاباً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون !

نشاط الشيخ في خدمة العلم :

وتجاوز الشيخ الصديق مضمون السؤال الثامن عن أهم الأحداث ، التي قد تكون عرضت لفضيلته أثناء عمله في التدريس ، مكتفياً بأنه لا يذكر من ذلك ما يستحق الذكر .

وعن مدى نشاطه في خدمة العلم وطلابه يشير إلى بعض مجهوداته في (مكافحة الغزو الفكري ، وبث روح الاعتزاز بالإسلام في المسلمين ، وبخاصة طبقة المثقفين والشباب ، ومقاومة الردة وآثارها ... (1) ).

وهذه المجهودات مما يدركه كل قارئ لكتب الشيخ في مختلف أنحاء العالم ، سواء بلغاتها الأصلية أو المترجمة ، فليس ثمة كتاب له إلا وهو توكيد لهذا الاتجاه الإصلاحي على أرفع المستويات .

ومع ذلك فقد أغفل الجواب جانباً هاماً من نشاط أبي الحسن في خدمة العلم وطلابه ، فلم يشر مثلاً إلى آثاره في ندوة العلماء ذات الماضي العريق في إذاعة العربية ، وفي توضيح حقائق الإسلام ، سواء في قلوب طلاب الندوة ، أو عن طريقهم بعد التخرج بين جماهير المسلمين ، في مختلف مواطنهم من شبه القارة الهندية .

الشيخ والندوة :

ومن جميل الاتفاق أن أكتب هذه الأسطر باللاذقية ـ حيث أقضي إجازة الصيف ـ في حين يحتفل العالم الإسلامي بالمهرجان الذي نظمته ندوة العلماء في الهند ما بين 25 و28 شوال 1395 هـ . لمناسبة مرور خمسة وثمانين عاماً على إنشائها وبدء رسالتها العالمية ، فكانت فرصة سعيدة لتلاقي رجال الفكر الإسلامي من المعنيين بقضايا التربية والتعليم ، وشد ما كنت حريصاً على المشاركة فيها استجابة لدعوة كريمة ، لولا أقدار محكمة صرفتني إلى اللاذقية بدل (لكهنؤ) . وليس ثمة من ريب في أن تدفق وفود العالم الإسلامي أثناءئذ على ذلك المهرجان ، إنما ينطوي خلال تكريمه لتلك المؤسسة المرموقة ، على تقدير كبير لمجهود ذلك الشيخ الفاضل ، الذي تسلم رايتها ، فكان خير خلف لأولئك السلف الذين نهضوا برعايتها على مدى تلك العقود التسعة من السنين ..

لقد أحسن الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي في مقاله الذي صدر به العدد الخاص بتلك المناسبة من جريدة (الرائد) تحت عنوان " في رحاب المهرجان " إذ أبرز ما لا يجهله خبير من فضل أبي الحسن فيقول :

" الشيء الأصيل الذي كان يعمل في المهرجان ويعمل في كل ما يتصل به أولاً وآخراً هو ذلك القلب الواسع الكبير الذي يخفق في جنب سماحة أستاذنا العلامة السيد أبي الحسن علي الندوي . فلولا عبقريته العميقة ونظرته الواسعة ، وفهمه الدقيق .. وفوق ذلك إيمانه الراسخ القوي ، وإخلاصه في خدمة قضايا الإسلام ، وتفانيه في حب الله ورسوله ، عن دراسة وتفقه .. فلولاه ولولا هذه الصفات العالية لم يكن لهذا المهرجان أي قيمة أو أهمية . ولولاه لما كان له أثره البعيد في تاريخ التعليم والتربية في هذه البلاد بوجه خاص ، وفي العالم الإسلامي بصفة عامة .

ليس من سعادة الهند أو ندوة العلماء فحسب أن يوجد فيها مثل هذا الرجل العظيم المخلص المؤمن ، بل إن وجوده سعادة لتاريخ العلم والثقافة والتعليم والتربية ، وصفحة ناصعة في سيرة العلماء الأعلام والدعاة العظام . وأن العالم المعاصر لفي أمس الحاجة إلى أمثاله حتى يتبين هداه في مسيرة العلم والمدنية ، ويعين خطاه في زحمة الصراعات والاتجاهات التي تموج بها المجتمعات الإنسانية اليوم ".

ولا مبالغة في هذا الإطراء لذلك العامل الجليل الذي ـ كما قال شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود في تلك المناسبة ـ

" أخلص وجهه لله ، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فدعا إلى الإسلام بكتبه النقية ، ودعا إلى الإسلام بسياحاته التي حاضر فيها ووجه وأرشد . فجزاه الله خير ما يجزي عالماً عن دينه ".

ولا جرم فقد اطلع الله على إخلاص هذا العبد الصالح ـ ولا تزكي على الله أحداً ـ فبارك في مساعيه ، وبارك في مواعظه ، وبارك في محاضراته العميقة الغور ، الغنية بالحقائق ، التي يلقيها هنا وهناك ، في الهند ، وفي البلاد العربية ، وفي إنجلترا .. وفي مختلف المؤتمرات الإسلامية ، التي لا ينفك يشارك فيها ، ويسافر إليها ، مضحياً براحته ، ومغامراً بصحته ، فأكرمها سبحانه بالرضوان والقبول ، حتى صارت المورد العذب لناشدي الحق .. لأنه لا ينشد من ورائها شهرة ولا منفعة .. ولا شيء إلا ابتغاء رضوان الله .

وأنا لا أذيع مجهولاً من حياة الشيخ عندما أذكر أنه ، وهو العضو الدائم في المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، لم يقبل أن يصرف له فلس واحد من المكافآت السخية المخصصة لمثله ، ولم أعرفه نزل فندقاً قط على حسابها ، على تعدد المرات التي حضر فيها اجتماعات هذا المجلس حتى الآن . وأنا لا أدري كم في علماء الإسلام من نظير لهذا الزاهد الكبير !

إن خاصة الزهد والترفع عن حطام الدنيا ، في هذا الجسد النحيل اللطيف ، الذي يكاد ينطق بقول ابن الرومي عن نفسه :

أنا من خف واستدق فما يثـ      ـقل أرضاً ولا يسد فضاءَ

هذه الخاصة هي التي مكنت له في مضمار الإصلاح والنقد الاجتماعي ، فلا يهادن باطلاً ، ولا يكتم حقيقة .. وجعلت لكلامه مساغاً في الأسماع فلا تنكر عليه ما يقول .

وهو كالشيخ ابن باز في حسن تأتيه عند توجيه النصيحة الواجبة ، يطرق بها أبواب القلوب في أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة ، ولا يسخط ولا ينفر ، ولكنه يبعث على التأمل والتفكر .

عالمية الشيخ :

والإشارة إلى مشاركة الشيخ في عضوية المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة منذ تأسيسها ، توجه الذهن إلى مشاركاته في العديد من المنشآت العلمية الأخرى .

إنه عضو مراسل في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة . وهو مؤسس المجمع العلمي الإسلامي بالهند ورئيسه ، كما أنه يرأس المجلس التعليمي لولاية (أثر بردلش) هناك ، وهو عضو في المجلس التنفيذي لمعهد (ديوبند) ، ومن أعضاء المجلس التنفيذي لدار المصنفين في أعظم كرة بالهند أيضاً .

والشيخ أحد رؤساء التحرير لمجلة (معارف) تلك المجلة العلمية الأكاديمية للمسلمين في شبه القارة الهندية .

هذا وقد أخرج المجمع الإسلامي بالهند سلسلة من ترجمات كتب الشيخ باللغة الإنجليزية تعميماً لفوائدها ، وسبق لمجلة المجمع اللغوي بدمشق أن نشرت عدة فصول من آثاره .

وهذه المشاركات الواسعة إنما تؤكد الصفة العالمية لهذا الرجل ، الذي أجمع على تقديره رجال الفكر من مختلف الأقطار .

عمله في التأليف :

وإلى القارئ هذه القائمة بأشهر مؤلفاته المطبوعة :

1 ـ مختارات في الأدب العربي (وهو من المقررات الدراسية في كثير من المدارس والجامعات) .

2 ـ القراءة الراشدة (ثلاثة أجزاء) .

3 ـ قصص النبيين للأطفال (خمسة أجزاء) .

4 ـ مذكرات سائح في الشرق العربي .

5 ـ حديث مع الغرب .

6 ـ روائع إقبال .

7 ـ الأركان الأربعة .

8 ـ الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية .

9 ـ ربانية لا رهبانية .

10 ـ المسلون في الهند .

11 ـ إذا هبت ريح الإيمان .

12 ـ رجال الفكر والدعوة في الإسلام .

13 ـ القادياني والقاديانية .

14 ـ إلى الإسلام من جديد .

15 ـ المسلمون وقضية فلسطين .

16 ـ الطريق إلى المدينة .

17 ـ النبوة والأنبياء في ضوء القرآن .

18 ـ الصراع بين الإيمان والمادية .

19 ـ تأملات في سورة الكهف .

20 ـ العرب والإسلام .

21 ـ النبي الخاتم .

22 ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين .

23 ـ السيرة النبوية .

24 ـ نحو التربية الإسلامية الحرة في البلاد الإسلامية .

وهذه الكتب نشرت كلها بالعربية، وترجم معظمها إلى مختلف اللغات كالتركية والإنجليزية والفارسية .

على أن هناك عشرات من مؤلفاته الأخرى باللغة الأردية ، لم يذكر عنوانها .. ومحاضرات عدة نشرت منفردة في كراسات تتداولها آلاف الأيدي ، ولم نشر إليها في هذا الجدول .

ويقول الشيخ أن أحب هذه الكتب إليه هي : " الطريق إلى المدينة " و " النبوة والأنبياء في القرآن " و " الأركان الأربعة " و " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية " .

والحديث عن مؤلفات أبي الحسن لا تغني فيه الإشارة العجلى ، بل يتطلب الوقوف على كل منها بكلمة تحليلية تكشف عن قيمته العلمية والأدبية ، وما ينطوي عليه من خصائص ذلك القلب الحي . إلا أن هذا أمر متعذر في عرض سريع كهذا ، وحسبنا أن نسترعي انتباه القارئ الواعي إلى صيغ العناوين وما توحي به من أبعاد وأعماق .

لما صدرت الطبعة الأولى من كتاب " ماذا خسر العالم .. " سمعت الأخ الأستاذ محمد المبارك يقول في وصفه : " إنه واحد ممن خير الكتب التي صدرت في هذا القرن " .

وقرأت الكتاب في أناة محاولاً التحرر من إطراء الأستاذ المبارك إياه ، ولكني لم أستطع ذلك لأني لم أجد تعبيراً أكثر إنصافاً للكتاب تلك الكلمة .

وأشهد لقد أعدت قراءة هذا السفر النفيس عدداً من المرات ، بين قراءة كلية أخرى جزئية ، ولا أزال أحس عطشاً نحوه . وقد أثبتت طبعاته الاثنتا عشرة حتى الآن أنه جدير بكل إطراء يستحقه عمل عبقري ، وحسبه تقديراًًً ما ظفر من أقلام كبار العلماء كأحمد أمين ، وأحمد الشرباصي ، ومحمد يوسف موسى ، والشهيد سيد قطب .

وإني لأعتبر هذا الكتاب أنموذجاً لعقلانية الشيخ ، فقد جمع بين التاريخ والفقه والبلاغة والنقد والتحليل ، في انسجام تام بين عناصره جميعاً .

وإن القارئ المتدبر ليطل من خلال الكتاب على مواكب البشرية تتوالى نحو غاياتها كالسيول الدافقة في طريقها نحو المصب ، وقد اختلفت بها السبل ، فسيل يتحدر على غير هدى فيدمر كل ما يمر به ، ثم يتلاشى في أعماق المحيط . وآخر يتدهدى في نظام على غاية من الدقة والعظمة ، فيشيع الخير والخصب والجمال في كل بقعة تعترضه .

إنها حركة الإنسانية في اضطرابها بين الخير والشر ، بين الصراع المشرق بنور الوحي ، والمهامه الضائعات في ظلمات الجاهليات . بين القيادة النبوية العاصمة الراشدة ، والقيادات الإبليسية الطاغية الحاقدة .

وعلى ضوء هذا المنهج يحسن النظر إلى بقية الخمسة المفضلة من أسفاره ، مع التذكير بأني لا أجد تعليلاً لإيثاره إياها على سائر كتبه سوى العلاقات النفسية ، التي كثيراً ما تربط بين المنشئ وأثره لمناسبة لا يكاد يذكرها .

السبيل إلى الإنقاذ :

وحول مستقبل الجيل الإسلامي ومهمة علماء الإسلام نحوه ، جمع الشيخ في الإجابة بين السؤالين 11 و 12 على النحو التالي :

يقول فضيلته : إن الجيل الإسلامي الجديد سواء في بلادنا ـ الهند ـ أو سواها من وطن الإسلام ، يمر بمرحلة انتقالية على غاية من الأهمية .

لقد تجرع هذا الجيل مرارة الأفكار الأجنبية ، وعاش في ظل نظم الحكم غير الإسلامي . ولا يختلف بعضه عن بعض في أي قطر وآخر ، لأن هذه النظم في جميع البلدان تستمد جذورها من الحضارة الغربية ، فهي على منوال واحد . لكن الصورة اليوم تختلف عما كانت عليه في الماضي . إن تطبيق هذه النظم قد سهل عملية إقناع الجيل الحاضر بضلالها وبكونها جافة وجوفاء .

لقد أخفقت الحضارة الغربية في إسعاد المسلم كلياً ، وذلك من فضل الله علينا ، إذ كلما عرف العاملون للدعوة الإسلامية كيف ينتهزون هذه الفرصة ، بتوجيه قواهم إلى الكشف عن مساوئ هذه النظم وما تقاسيه الشعوب في ظلها .. كلما فعلوا ذلك أحرزوا نجاحاً جديداً لدعوتهم .

والمهم الأهم لقادة الفكر الإسلامي ، بعد فضح الحضارة الغربية ، أن يحسنوا تعهد قلوب المسلمين ، بإلهاب العاطفة الدينية ، وتعميق الإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأول ، على أن يستخدموا لذلك الوسائل الحديثة والقديمة ، وطرق النشر والتعليم والاستعداد المادي .

ويقول الشيخ : من أجل تحقيق هذا الهدف لا مندوحة عن إعداد الكتب المفيدة في أسلوب عصري ، وتربية الشباب الروحية بتوطيد الصلة بينهم وبين الربانيين ، وتضييق الفجوة بين الإسلام وغير المسلمين ، وذلك بتنظيم اللقاءات معهم ، وتزويدهم بما يجهلونه من حقائق الإسلام .

ويختم فضيلته توصياته الرشيدة بقوله :

" إن القرآن العظيم وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم ، قوتان في وسعهما أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان ، وتحدثا في كل وقت ثورة مظفرة على العصر الجاهلي ، وتجعلا من أمة مسلمة مخذولة أمة فتية مائجة بالحياة والحماسة والغيرة " .

وفي هذه الخطوط المركزة خلاصة عميقة الغور تحمل ضروباً من تجارب السيد أبي الحسن في دراسة الواقع الإسلامي ، وطرق معالجته وتصحيحه .

لكن .. من لهذه العقبات :

إن ها هنا نقداً حاداً للحضارة الغربية ، التي أفسدت الضمير الإنساني ، فجنت على الإنسان بعامة والمسلم بخاصة ، وهي نظرة ثابتة في أفكار الشيخ لا ينفك يعرض لها في كل ما يؤلف ويحاضر . وبذلك يلتقي مع كبار مفكري الإسلام والغرب المعاصرين ، كالمرحوم محمد إقبال ، والشهيد سيد قطب ، وأخيه محمد ، ومحمد محمد حسين ، ومحمد البهي ، وأنور الجندي ، وألكسيس كاريل مؤلف " الإنسان ذلك المجهول " و ...

وها هنا كذلك توكيد على مفاسد النظم الحاكمة في بلاد الإسلام ، بوصفها صوراً ممسوخة من تلك الحضارة المدمرة للروح . ويريد الشيخ من علماء الإسلام ومفكريه أن يستفيدوا من إخفاقها الذريع في معالجة قضايا المسلمين ، لإبراز عظمة النظم الإسلامية ، وقدرتها على تقويم كل عوج . وتصحيح كل فساد .

وفي سبيل هذه الغاية يحث على الانتفاع بكل الوسائل الإعلامية ، وبخاصة الكتاب الذي يعتمد الأساليب العصرية لنشر هذه الحقائق ، إلى جانب التربية الروحية القائمة على الأسوة الحسنة .

ولا جرم أن في هذه التوجيهات الحكيمة ، لو أمكن ترجمتها إلى الواقع ، خيراً كثيراً .. ولكن .. وما آلم " لكن " هذه ؟ .. ما السبيل إلى هذه الترجمة ؟.. وما الوسائل الموصلة إليها ؟..

إن أهم أدوات الإعلام في ظل الحياة الإسلامية تتركز في هذه المنطلقات الأربع : المسجد ، المنهج التعليمي ، الكتاب ، السلوك الاجتماعي .

ففي المسجد تبنى النفوس المؤمنة على مراقبة الله ، والعناية بشئون عبادة .

وبالمنهج الإسلامي في التعليم بتكوين اليقين بقداسة العلم ، على أنه النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام .

ثم يأتي الكتاب الإسلامي تفصيلاً لهذه المبادئ وإيضاحاً لحقائقها .. ومن هذا وذاك يتكون السلوك المثالي الذي يميز مجتمع الإسلام .

والأربع المنطلقات هذه قد ارتفع سلطان الإسلام في معظم أقطاره . لأن النظم الطاغية قد فرضت رقابتها عليها جميعاً ، فليس لخطيب المسجد أن يعلن كلمة الله إلا ملفوفة بألف غشاء .. وكثيراً ما يكره على ترديد أفكار الطواغيت أنفسهم ، وقد يعرض نفسه للعزل والسجن ، بل والإحراق حياً ، إذا جرؤ على الإشارة إلى حكم الله في قوانينهم ـ كما حدث في الصومال منذ مدة ـ ولم يبق للفكر الإسلامي أي صلة بمنهج التعليم ، لأنه أخضع للأيدي الملحدة أو المضللة تعبث به كيف تشاء ، وإذا استبقت للإسلام فيه من أثر فللتمويه على البسطاء ، ولإبرازه في مركز الضعف بإزاء المواد الأخرى التي استغرقت معظم المنهج ، وفيها الكثير مما يصادم حقائقه البديهية .

وأي كتاب إسلامي يتاح له الظهور في مثل هذه المباءات المغلقة ، إلا أن يحمل من مسوغات الظهور ما يقصم الظهور !

ولا حاجة للإسهاب في وصف المجتمع الذي يرزح تحت هذه الكوابيس ، بعد أن فسدت عناصر تكوينه جميعاً .

ذلك هو واقع المسلمين في كل مكان إلا من رحم الله .. ولا بد لنا من ملاحظته في كل ما نصف له من علاج .

وكلمة أخرى في شأن الكتاب .

من فضل الله على القلم المؤمن أنه لا يزال قادراً على التصريح ولو ببعض الحق ، وفي بعض المواطن .. إلا أن في مقدمة العقبات التي تواجهه قلة القراء الذين يعينعهم أمره .

لقد سلكنا الطريق إلى مكافحة الأمية ، وكدنا نغرق البلاد الإسلامية بالمدارس على اختلاف أقسامها ، وبذلك كثر الذين يحسنون القراءة . ولكن حظ الكتاب الإسلامي من هؤلاء القراء ظل قليلاً محدوداًً ، لأن التوجيه المدرسي والإعلامي قد سبق إلى عقله فصرفه إلى الترهات ، فما لبث أن فقد القدرة على استساغة الحقائق .. ثم جاءت الدعايات الساذجة ، التي يتطوع لإشاعتها عن حسن نية كتاب مسلمون، ليوهموا بقية القراء أن ميدان النشر خال من الأدب الإسلامي والفكر الإسلامي ، فلا قصة إسلامية، ولا شعر إسلامي … ولا من يحزنون !

أجل … إن هذا هو واقع المسلمين .. وتلك هي الفجوات التي تعترض سبيل المصلحين .

فمن لنا بإزالة هذه العقبات ؟

وما السبيل إلى تحقيق هذه المقترحات ؟ ! .

في التربية والتعليم :

والذي أعلمه من أفكار الشيخ ، ومن خلال الأحاديث الخاصة التي يتيحها لنا لقاؤه في المناسبات الإسلامية ، أن جوابه على تساؤلنا الآنف يكاد ينحصر في الناحية التربوية .. ذلك لأنه شديد التركيز على هذا الجانب في معظم أعماله الفكرية ، فهو بنظره المعول الأهم في تكوين الجيل الصالح لإقامة المجتمع الصالح . ونظرة مستوعبة إلى أحاديثه الكثيرة في هذا الموضوع كافية لاستبانة هذا الواقع ، ولإمداد الباحث بما يكاد يؤلف منهجاً متكاملاً للتربية والتعليم كما يريده أبو الحسن ، بل كما يتراءى له في ضوء الإسلام ، ومن خلال تجاربه العميقة في هذا الميدان .

وبين يدي الآن صورة المحاضرة التي ألقاها في مهرجان الندوة ـ 26 / 10 / 95 هـ بعنوان " أهمية نظام التربية والتعليم في الأقطار الإسلامية .. " ومنها أنقل للقارئ الفقرات التالية :

منابع السموم :

ويتحدث الشيخ عن عمل المستشارين الأجانب في نظم التعليم المفروضة على العالم الإسلامي ، فيقول عن أصحاب السلطان : أنهم " حكّموا في تخطيط برامجهم التعليمية ومؤسساتهم العلمية الأخصائيين أوالمستشارين من البلاد الأجنبية ، ولم يستوردوا منها المقررات الدراسية فحسب ، بل النظرات التعليمية والتصورات التربوية ، وأرسلوا البعثات إلى الخارج لتنشأ في أحضان المربين الغربيين والأساتذة الأجانب ، ثم أطلقوا أيديهم ومنحوهم كل حرية في تخطيط البرامج وسياسة التعليم .. فكانت النتيجة وجود طبقة مضطربة العقائد والأفكار والسيرة والأخلاق ، أحسن أحوالها أن تكون مذبذبة بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية ، وإلا فهي في أكثر الأحيان تنسلخ من كل ما يدين به مجتمعها وأمتها " .

التربية لدعم العقيدة :

وينقل هنا عن (دون آدامس) في أمر هؤلاء الموجهين طرفته التالية :

" زعموا أن فيضاناً قد اجتاح بعض الأماكن ، وكان هناك قرد وسمكة ، فأما القرد فقد استفاد من سوابق تجاربه فتسلق شجرة ونجا ، ثم وقع بصره على السمكة تكافح التيار فأشفق عليها ، وحملها إلى الشاطئ وهو يظن أنه ينقذها ، فكان في ذلك القضاء عليها " .

ويعقب على ذلك بقوله : " إن عملية التربية في أمة أو بلاد ليست بضاعة تصدر إلى الخارج ، أو تستورد إلى الداخل ، كالمصنوعات أو المواد الخام ،أو الحاجيات أو المخترعات التي لا تختص ببلد دون بلد ، وإنما هي لباس يفصل على قامة هذه الشعوب ، وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة ، وآدابها المفضلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها ، وأن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد ، وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز.. "(2)

وعلى الرغم من ثقته التامة بصحة هذه الأفكار لم يرض إلا أن يؤيدها بموافقات أساطين الخبراء في هذا الشأن ، من أمريكيين وبريطانيين وحتى الشيوعيين ، مما يؤكد أن ارتباط التربية والتعليم بمقومات الأمم قضية لا خلاف عليها ، بل هي القاعدة الأساسية في بنائهما عند كل أمة تريد لنفسها البقاء في معركة الحياة .. وما دام الأمر كذلك فأحق الأمم بالاستقلال في هذا الميدان هي الأمة التي حملت أمانة الله إلى البشرية ، وبدينها الخالد الكامل ختمت رسالات السماء إلى الأرض ، فلا سبيل لها إلى أداء هذه المهمة إلا عن طريق استمساكها بالتميز ، الذي يحفظ لها أصالتها سليمة من كل تميع أو تبعية أو تقليد . ذلك هو المنطلق الرئيسي الذي عنه يصدر الشيخ كل ما يتناوله من شئون التعليم منهجاً وأسلوباً وغاية ، ولا جرم أن لوسطه الندوي إيحاءه الفعال في هذا الاتجاه ، بما كان لندوة العلماء من أثر ضخم في إحياء هذه المثل وإخراجها من حيز النظر إلى مجال التطبيق .

تجربة رائدة :

ويصف أبو الحسن هذه المؤسسة فيقول : إنها " تمثل فصلاً من أروع الفصول في تاريخ الوعي الإسلامي " . إذ كان قيامها ـ 1311 هـ . لغرض واحد هو إنقاذ الكيان الإسلامي من عملية التدمير التي شنها (دعاة التغريب والردة الفكرية والحضارية من المسلمين والقوميين وغيرهم) (3) .

والمتتبعون لأعمال هذه المؤسسة ، والمطلعون على نشاطها الواسع في خدمة الفكر والخلق والعربية، يؤيدون أبا الحسن في ما ذهب إليه من تقديرها .

ولا أذيع سراً إذا قلت إنني أحدهم ، فمن طريق معرفتي بمناهجها ، وصلتي بخريجيها الملتحقين بالجامعة الإسلامية ، أدركت عظم المهمة التي تنهض بها في خدمة الإسلام . (إن هؤلاء الفتية في مقدمة طلاب العالم الإسلامي التزاماً لأدب الإسلام ، ورغبة في العلم ، وتقديراً لمدرسيهم ، وتقديساً للغة القرآن ، التي لا يكاد يضاهيهم في سلامة النطق بها عربي من نوابغ الطلاب .إنها لتجربة رائدة نهضت بها تلك المؤسسة ، فقدمت للعالم الإسلامي أنموذجاً للتربية والتعليم يستحق الدراسة ، ويمكنه أن يقيم لدعاة الإصلاح معالم على الطريق ذات دلالات لا تنكر .

ولقد حفلت مناهج الندوة بكل جديد مفيد من المواد العصرية ، إلى جانب المقررات الإسلامية الضابطة ، مع مراعاة الاحتمالات النفسية لطالب العلم . إلا أن عامل التفوق في عملها هو دستورها التربوي ، الذي جمع بين التعليم والتطبيق على أفضل الوجوه . وأن في خريجيها ، الذين تسنموا أرفع المنازل بين أساطين العلم في العالم الإسلامي ، لأبرز الأدلة على أننا منها تلقاء واحد من أنجح المشروعات التعليمية في هذا العصر (3).

تقدير وحب :

ولا حاجة إلى التذكير بأن فضيلة الشيخ أحد ثمرات هذه المؤسسة المباركة ، وقد شاء الله أن ينتهي إليه لواؤها ، فيتابع طريق أسلافه في دفعها إلى الأعلى يوماً بعد يوم . وحسبه من ذلك وهذا ثروة لا تقوم من الخبرات الحية ، التي تمده بكل سديد من الرأي في مجال التعليم الإسلامي . ولا عجب بعد ذلك أن يحظى هذا المفكر العملاق بكل التقدير الذي تحفه به أوساط العلية من مثقفي العالم الإسلامي ، حتى ليجمعون على تقديمه للكلام باسمهم في أكبر المؤتمرات .

ثم لا غرو أن ينال هذا (العلم) الممتاز مثل الحب الذي لمسته من طلابه نحوه ، حتى ليتسابقون إلى خدمته في سعادة لا توصف ، وحتى ليكون وقع الألم في أعينهم أخف عليهم من أن يلم به أي أذى مهما يكن قليلاً .

وذلك بعض فضل الله عليه في الدنيا ، وللآخرة أكبر درجات ـ إن شاء الله ـ وأعظم تفضيلاً .

              

الهوامش :

(1)   ورد في جواب الشيخ على هذا الاستطلاع نقاط هامة رأينا إرجاءها إلى السؤال12 .

(2)   صفحة 10 و12 من المحاضرة .

(3)   من بحث قدمناه إلى المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة ـ ربيع الآخر 1397 هـ .