الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

بقلم: محمد المجذوب

م ـ ننتظر من فضيلة الأستاذ أن يقدم نفسه للقارئ اسماً وبلداً ومولداً ودراسة .

مص ـ اسمي مصطفى ووالدي هو الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقاء وبلدي حلب ، وقد ولدت في العام (1907م) . واضطررت لتغيير ذلك التاريخ فيما بعد عندما أردت الالتحاق بالمرحلة الثانوية من الدراسة الخاصة ، إذ كانوا لا يقبلون طالباً يتقدم لامتحان البكالورية العامة من ذوي الدراسة الشخصية إلا إذا استوفى الثالثة والعشرين ، فأصبح مولدي رسمياً هو (1904م) . أما الدراسة فقد بدأت على طريقة ذلك العهد في كتاتيب القرآن ، فكان الكتاب الذي التحقت به هو الذي خرج والدي رحمه الله ، ويقوم عليه شيخ مسن من أمهر وأحفظ مستظهري الكتاب الكريم في حلب ، هو الشيخ محمد الحجار الذي سبق أن علم والدي وإخوتي قبلي ، ففي هذا الكتاب تلقيت القراءة والكتابة وتلاوة القرآن والحساب وما على ذلك من مقررات الكتاتيب في ذلك العهد ...

والظاهر أن والدي عليه رحمة الله كان بعيد النظر، فلم يلحقني بأي من المدارس الأميرية ـ الحكومية ـ المعتادة بل ألحقني بمدرسة الفرير الفرنسية بحلب وأنا دون العاشرة ، ومن هذه المدرسة تلقيت مبادئ اللغة الفرنسية ..

م ـ لقد تلاقينا على السن فكلانا ولد في العام السابع بع المائة التاسعة ، وكلانا رشح للدراسة في الفرير بعد الكتاب ، ولكني استبعدت عنها بعد أن أعدت كل أسباب سفري إليها في طرابلس ـ لبنان ـ إذ غلب الخوف على والدي أن يؤثر ذلك على ديني ، فألغى ما اعتزمه في اللحظة الأخيرة ، وأمضى والدكم عزيمته فأتم ما أراده من تلك الدراسة بالفرير التي لا بد من التساؤل عن سبب اختياره إياها ، وهي من المعاهد التبشيرية الخطيرة ؟..

مص ـ لا أعلم لذلك تفسيراً إلا بعد نظر الوالد ، إذ كان يحس أن التطور السريع الذي يعتري كل شيء في تلك الفترة ، التي تمخضت عن انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى ، يستدعي تزويد النشء بشيء من الثقافة الحديثة إلى جانب الثقافة الشرعية الأصلية ، التي نشأ جيله عليها ، وفي طليعتها اللغة الأجنبية ، وكانت الفرنسية تعتبر ـ آنذاك ـ لغة الثقافة العالمية .. ومن حيث الخطر التبشيري ، الذي تنطوي عليه تلك المدارس ، فالذي يظهر لي أن الوالد كان واثقاً من قدرته على تحصيني .

م ـ وصفت والدكم بالحكمة ، ويبدو ذلك من أثره في ولده ، أفلم يكن من الحكمة أن يتذكر أن إدخاله ابنه في مدرسة تبشيرية من هذا النوع مشجع غيره على مثل مسلكه ؟!.

مص ـ لا بد أنه تذكر ذلك ولعله لم يكن يرى بأساً في تشجيع غيره في الحدود التي يتصورها .. أعني تزويد النشء بالوسائل التي تستدعيها حياته المقبلة ، وفي مقدمتها اللغة الأجنبية .

م ـ يراودني هنا خاطر آخر أن المرحوم والدكم وأمثاله إنما أقدموا على ذلك ثقة منهم بأن الجو الإسلامي الذي كان ميزة ذلك المجتمع لا يمنح المبشرين من الفرص ما يمكنهم من نفث سمومهم في أبناء المسلمين ..

مص ـ لا شك أن هذا ملحوظ أيضاً ..

م ـ حتى الآن كان كلامكم حول الدراسة الأولية .. ثم ..

مص ـ بعد سنتين من دخولي مدرسة الفرير انفجرت الحرب العالمية الأولى ، ومنذئذ أخذ القائمون على المدرسة من (الإخوة الفرنسيين) جنوداًَ إلى فرنسا ، وخلفوا عليها بعض الحلبيين من النصارى ، فاستمرت على ذلك فترة غير طويلة ، ثم أغلقت مع سائر المدارس الأجنبية والوطنية جميعاً ، وتحولت المدارس الكبرى ثكنات عسكرية .. وكنت قد انتقلت بعد إغلاق الفرير إلى المدرسة الرشيدية ، التي سميت بالثانوية فيما بعد ، ولكنها لم تستمر سوى أشهر قليلة حتى أغلقت أيضاً ، واستحالت ثكنة عسكرية .. وهكذا انتهى الأمر بالدراسة إلى التوقف التام .

م ـ وكيف استأنفتم هذه الدراسة بعد ذلك ؟..

مص ـ قبل دخول الفرنسيين سورية استقبلت البلاد عهد الأمير فيصل بن الحسين رحمه الله ، الذي لم يستمر سوى سنتين فلم يتح له مجال للاستقرار ، وقد انتهى بدخول الجنرال غورو الفرنسي دمشق بعد معركة ميسلون ، التي قضت على نواة الجيش السوري بقيادة الشهيد يوسف العظمة ، وكان ذلك تنفيذاً لمؤامرة الحلفاء على البلاد العربية ، فكانت سورية ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي ، وشرق الأردن وفلسطين والعراق تحت الكابوس الإنجليزي .

عقب ذلك فكر بعض رجالات حلب من أهل الإيمان والوعي ، وأذكر منهم بخاصة مرعي باشا كبير أسرة آل الملاح ، وهو من أصحاب الوجاهة الموروثة في حلب ، وقد سبق له تسلم مناصب عالية في العهد العثماني ، وبعد الاحتلال عين مديراً لأوقاف حلب ، ثم أسندت إليه ولاية حلب . ومن مزايا هذا الرجل مخالطته لأهل العلم وتقديره إياهم ، وقد فكر في إعادة مؤسسات التعليم التي توقفت كل تلك السنين بسبب الحرب والأحداث التي تليها ، وفاتح جدي ووالدي بأن طبقة العلماء الحلبيين في طريقها إلى الزوال ، وهم ركائز العلم والفقه والقضاء الشرعي ، فإذا هم ولوا انقطع حبل العلم ولم يبق من يخلفهم .. وبعد الاتفاق مع الوالد والجد أقدم على افتتاح مدرسة شرعية ، وأقامها على أسس مخالفة للطريقة القديمة ، التي درجت عليها مدارس الأوقاف ، حيث كان الدرس أشبه بحلقات المساجد دون تنسيق ولا توقيت ، فجعلها صفوفاً ومراحل ، يتعاقب عليها المدرسون في حصص يومية ، ومقررات نظامية تشمل مختلف العلوم والفنون ، وقد وقع الاختيار على المدرسة الخسروية ، لتكون مقراً لهذا المشروع ، وهي المدرسة المنسوبة إلى خسرو باشا ، والتي تمتاز بسعتها وينائها ، وفيها الجامع والقبة الأثرية المشهورة ، وتقع على مقربة من القلعة التاريخية .

وما لبثت المدرسة الجديدة أن افتتحت لاستقبال الطلاب الراغبين في الدراسة الشرعية ، ولم يخطر في بالي أول الأمر أن أكون بينهم ، لأن رغبتي كانت موجهة إلى التجارة التي سبقني أخي إليها ، ولكن جدي أصر على والدي بأن يسجلني في المدرسة الشرعية . وبجهد جهيد جمعوا لها من الطلاب ما يشغل السنة الأولى ، فكان عدد من الشباب الناشئين ، إلى جانب آخرين في الخمسينات ، والذين سبقت لهم دراسة شرعية على الشيوخ وفق الطريقة القديمة ، وكنت أنا أحد الناشئين المبتدئين ..

وقد جعلت مدة الدراسة ست سنوات ، يقبل في أولها من كان في مستوى نهاية الابتدائي ، إذ يكون مؤهلاً لتلقي الدراسة الشرعية ، وقد اعتبرت المدرسة بعد تلك الأيام على مستوى الثانوية ، وحتى اليوم تحمل اسم (الثانوية الشرعية) .

م ـ وهل كان ثمة امتحانات منتظمة ..

مص ـ بلى هناك امتحانات دورية وسنوية يرتقي فيها الطالب من سنة إلى أخرى حتى ينتهي إلى التخرج ، ويحصل على شهادتها النهائية ..

م ـ وما قيمة هذه الشهادة علمياً ؟.

مص ـ لم يكن لها من قيمة رسمية لأن الدولة لم تعترف بها ، ولكن إدارة الأوقاف قد أولتها العناية ، فهي تفضل خريجيها لوظائف الإمامة والخطابة .. وليس لهم أي اعتبار أو وزن في دوائر الدولة الأخرى ، التي تتطلب الشهادات التعليمية الرسمية ، اللهم إلا دائرة الإفتاء التي تقبل لوظائفها خريجي هذه المدرسة .

م ـ وبعد حصولكم على شهادة هذه المدرسة أين اتجهتم ؟

مص ـ خلال وجودي في المدرسة الشرعية لم أكن لأقتصر على دروسها ، بل كنت أتابع دروس الوالد في مختلف المساجد علاوة على دروسه التي أتلقاها منه في المدرسة ، التي كان يدرسنا فيها مقررات الفقه .. فكنت أحضر عليه في الجامع الأموي ـ بحلب ـ دروس الفقه والحديث في يوميه المقررين من كل أسبوع ، وفي (جامع الخير) كذلك كنت أحضر دروسه التي كانت خاصة بأمثالي من الطلاب ، وكان له درس يومي في المدرسة الشعبانية ورثه عن والده ففيها كان جدي يقوم بتدريس الفقه والأصول والحديث للرجال الذين بلغوا مستوى عالياً من التلقي ، فيقرؤون عليه حاشية ابن عابدين وشرح الزيلعي في الفقه الحنفي وصحيح البخاري ، وهي دروس لا أعرف أحداً من القضاة والمفتين في حلب وأقضيتها إلا وهو تلميذ لجدي فيها ، ولما تقدم جدي في السن حتى تجاوز الثمانين تخلى عن دروسه لوالدي ، فكان هؤلاء ومن في طبقتهم يحضرون عليه ، وأحضر أنا معهم ، فلا أفوت واحداً من دروسه هذه علاوة على دروس المدرسة الشرعية المذكورة وأريد من هذا إلى القول بأن معظم دراستي الأولى إنما بدأت على الركب والحصير والبساط ، على طريقة الأولين من طلاب العلوم الإسلامية .

م ـ ومن هنا بدأنا نحن أيضاً .. فماذا عن دراستكم الجامعية ..؟

مص ـ لم تصرفني دراساتي الشرعية والعربية عن متابعة الفرنسية ، فقد اتفقت مع بعض الأستاذة النصارى على تدارك ما فاتني منها ، فكانوا يزودونني في غرفتي بالخسروية وتارة في بيتنا لهذا الغرض لقاء أجر معلوم ، وكانت الخسروية ـ كما أسلفت ـ قد أدخلت إلى مناهجها بعض العلوم العصرية كالحساب والحديث والجغرافيا والتاريخ والصحة .. وما إلى ذلك من العلوم التي فرضها التطور على المدارس الإسلامية ، بعد أن اقتنع المسئولون فيها أن من الخطأ بقاء الشيوخ بعيدين عن مجرى الثقافة الحديثة العامة .

وكنت كثير التطلع إلى أن يكون لي من تلك الثقافة الحديثة مثل الذي أراه عند خريجي الثانويات العامة ، وبخاصة أن لدي من اللغة الفرنسية الأساس الذي لا بد منه لهذا الأمر، وأفضيت بذلك إلى صديقي ورفيق صباي الدكتور معروف الدواليبي ، فاتفقنا معاً على متابعة هذه الدراسة ، إلا أن عقبة السن قد صدمتنا ، إذ كان علينا أن نبدأ من الصفر بعد مرحلة الابتدائي ، ولم تكن سننا تساعد على أن ننتظم في مدرسة تبدأ من الأولى بعد الابتدائية ، وهي ما يسمى الآن بالأولى الإعدادية ، ومع ذلك لم نلبث أن عقدنا العزم على تحقيق الغاية لإيماننا بأنها ضرورة لا معدى عنها خلال تلك الظروف ، التي اهتزت فيها أوضاع المجتمع تحت وطأة الاحتلال الفرنسي ، الذي شجع عناصر الانحلال والإلحاد ، وبخاصة بين الدارسين في الغرب ، على مهاجمة الدين ، واتهام علماء الإسلام بأنهم لا يفقهون من الحياة سوى أحكام الصلاة والصوم والطهارة والنجاسة .. وأنهم بعيدون عن الثقافة التي لا يجوز لإنسان أن يجهلها .. وكثيراً ما يقارنون بينهم وبين القسس ودعاة المسيحية ليبرزوا الفرق بين الفريقين في هذا الجانب ، حيث يصورون القسيسين مزودين بكل جديد من العلوم الحديثة ، فمنهم الطبيب ، ومنهم المهندس ، ومنهم الماهر في الرياضيات .. على حين جمد شيوخ المسلمين عند أسفارهم وعلومهم الدينية ، فلا يكادون يفقهون في هذه الأمور حديثاً . ومن هنا ينطلق أولئك العصريون لبث سمومهم ودعايتهم الشيطانية ضد الدين كله ..

ويقول الشيخ : لقد كنا نحس هذا الواقع الأليم أثناء دراستنا الثانوية ، ومنذ ذلك اليوم قدرنا أن السلاح الوحيد الذي يعوز المؤمنين لمواجهة هذا التهجم الوقح هو أن نجمع بين حقائق الإسلام وحقائق العلوم الكونية ، وهكذا جاء قرارنا توكيداً لأفكارنا تلك بعد دراستنا الشرعية فاتخذنا من غرف الإسماعيلية في حي القلعة مقراً ، وأتينا بما يلزم من سبورة وكراريس وكتب ، واتفقنا مع بعض أستاذة الثانوية العصرية الوحيدة في حلب ، فرتبوا لنا جدولاً دراسياً وزعت فيه المواد على الساعات كشأن ثانويتهم نفسها .. فحصص للفيزياء وأخرى للرياضيات .. وهكذا في سائر المقررات التي لا بد لها من أستاذ ، وتولينا نحن دراسة المواد الأخرى التي لا عسر فيها علينا ، كالتاريخ والأدب العربي ، الذي ولعت به منذ نعومة أظفاري ، حتى تفوقت به على أساتذتهم .. حتى الهندسة المسطحة لم نحتج فيها إلى مدرس لأن المقرر منها مبادئ أولية لا يتعذر علينا فهمها . وصبرنا أنفسنا في هذه السبيل حتى أنهينا البرنامج كله ، وتقدمنا إلى الامتحان على نظام البكالورية الرسمية ، وقبله كانت المدارس الثانوية هي التي تمنح الشهادات ، فتتعرض امتحاناتها لأنواع من التلاعب ، منها بيع الشهادات نفسها ، فكان نظام البكالورية الذي أحدثه الفرنسيون هو الذي قطع دابر الغش والتلاعب ..

ودخلنا الامتحان العام أنا والدكتور الدواليبي بعد تصحيح أعمارنا بزيادتها ثلاث سنوات على قيدها الأصلي في دائرة النفوس كما أسلفت حتى أتيح لنا القبول حسب النظام .

وكانت البكالورية ذات شقين الأولى ، وتستمر الدراسة فيها إلى السنة الحادية عشرة ، ثم الثانية ويتم منهجها في الثانية عشرة . وتقسم الأولى إلى شعبة العلوم وشعبة الآداب ، والثانية إلى الرياضيات والفلسفة ، وقد دخلت أنا الامتحان في شعبتي الأولى معاً ، وقدر الله لي النجاح بالدرجة الأولى على طلاب سورية جميعاً ، على الرغم من دراستهم النظامية طوال سني المنهاج ، ولم يكن للبكالورية الثانية سوى فصل واحد في دمشق ، وعلى من نجح في الأولى وأراد المتابعة أن يأتي إلى دمشق لينتظم في هذا الصف ، وقد فعلت ذلك ، وشجعني على هذه المتابعة تفوقي في العربية وآدابها كما ذكرت ، إذ كنت منذ العاشرة أحفظ الآلاف من أبيات الشعر، وأقبل على قراءة القصص ، حتى لأستظهر مجموع الأشعار الواردة في قصة عنترة الشعبية ، ولما بلغت العشرين كنت أزاحم كبار الشيوخ من أقران والدي على حل المشكلات اللغوية ، فيلجئون إليّ كلما استشكلوا قاعدة أو معنى ليعلموا رأيي فيه .. وهذا ما دعا مدير معارف حلب الدكتور كامل أشرفية بعد إحرازي التفوق في امتحان البكالورية الأولى على طلاب سورية ، دعاه ليعرض عليّ أن أكون مدرساً للأدب العربي في إنطاكية التابعة لحلب آنذاك ، فاستأنيته ريثما أستشير والدي ، وشد ما دهش الدكتور أشرفية لترددي في قبول عرضه مثل ذلك العمل الذي يتمناه كبار العلماء ، ومن جهة راتبه الذي يعدل واردات والدي بأجمعها .. وبعد تأمل طويل رفع والدي رأسه ليقول لي : يا بني أنا أعلم الناس بك وبموهبتك ، ولا شك أن هذه الوظيفة أكبر منك اليوم وهي بالنسبة إلى سواك حلم وغنم ، ولكني أراها تحد مسيرتك وتلزمك مكانها أستاذاً في الثانوية فقط .. فيتعذر عليك متابعة دراستك بعدها ، فتغلق بوجهك الفرص التي تنتظر استعداداتك .. والذي أراه لك هو انتهاز فرصة البكالورية الثانية ، فإذا أحرزتها تتابعت عليك الفرص حتى ترقى أعلى المناصب إن شاء الله .. ومع ذلك فارجع إلى نفسك واختر ما تشاء ..

قلت للوالد رحمه الله : بعد أن أبديت رأيك وآثرت لي ما آثرت لم يعد لي مجال للاختيار، ولا شك أن الخير في ما هو أرضى لك ..

وفي غداة اليوم التالي قصدت إلى مدير المعارف فأبلغته قرار الوالد وإيثاره لي متابعة الدراسة .. فاستغرب ذلك بل دهش ودعا لي بالتوفيق ..

ومن ثم توجهت إلى دمشق وتم تسجيلي بين المقبولين داخلياً ، ولم يكن الجمع بين فرعي البكالورية الثانية ممكناً ، فآثرت قسم الفلسفة ، وقدر الله لي نجاحاً كالأول في نهاية السنة ، إذ أحرزت الأولية على طلابها جميعاً ولله الحمد .. وكان بين الطلبة الذين تخرجوا معي عدد من الرفاق تسلموا فيما بعد أسمى المناصب فكان منهم وزراء وأساتذة جامعيون .

م ـ ومن ثم أخذتم طريقكم إلى الجامعة ..

مص ـ أجل .. لقد التحقت فور تخرجي بالجامعة السورية التي سميت فيما بعد جامعة دمشق بعد إنشاء جامعة حلب ، وكانت تحتوي عدة كليات أقدمها كلية الطب ، التي أنشئت منذ الحرب العالمية الأولى ..

م ـ والحقوق هي أولى الكليات التي أنشأها الفرنسيون ، وكان غرضهم منها تأمين حاجتهم من الموظفين الصالحين للإدارة ..

مص ـ هو كذلك .. وتبعها كلية الصيدلية ، وقد أنشئت كلية الآداب قبل التحاقي بالجامعة بعام واحد وسميت مدرسة الآداب العليا ..

م ـ أكان عميدها الأستاذ عبد القادر العظم ؟.

مص ـ كلا .. بل الأستاذ شفيق جبري ، وهو من كبار شعراء الشام وأدبائها ، وكان من أساتيذها الشيخ عبد القادر المغربي ، والشيخ عبد القادر المبارك ، الملقب بالقاموس الحي ، والأستاذ سليم الجندي ، وهو من كبار أساتذة الجيل وأساطينه . أما الأستاذ العظم فكان عميد كلية الحقوق .

وقد جمعت بين الحقوق والآداب ، فكنت أحضر دروس الحقوق قبل الظهر، ودروس الآداب العليا بعد الظهر، وكان بين المنتسبين إلى الآداب كثير من الموظفين الذين وجدوا في فسحة ما بعد الظهر متسعاً لحضورهم .

وفي العام 1933 تخرجت في كلتا الكليتين ، وأحرزت الدرجة الأولى في كلتيهما أيضاً بفضل الله ، ومما يسرني أني لا أزال أحتفظ بخطابين يسجلان لي التقدير والثناء على ذلك ، أحدهما من عميد الحقوق الأستاذ عبد القادر العظم ، والآخر من عميد مدرسة الآداب الأستاذ جبري .

م ـ سؤال بين معترضين : إن بحوثكم القيمة في الثقافة الإسلامية تقتضي أن يكون وراءها ذخر كبير من القرآن الكريم ، فهل قدر لكم حفظه ؟.

مص ـ لم أوفق إلى ذلك ، ولكني أحفظ منه أقساماً كثيرة بحمد الله ..

م ـ والحديث الشريف ؟.

مص ـ لقد عنيت لاحديث الشريف كثيراً ، ولكني لم أحفظ منه إلا ما أتاحته لي الدراسة الشرعية وحاجتي المتجددة إليه ، فأنا كثير الاطلاع ولست بكثير الحفظ .

م ـ هل تشعرون بأن ذاكرتكم تسعفكها بالشواهد اللازمة من الوحيين عندما تقبلون على كتابة البحوث ؟...

مص ـ أشعر دائماً ولله الفضل والمنة ، أن الشواهد تسعفني ، وأن أفكاري يستدعي بعضها بعضاً، عندما أقوم بالكتابة ...

م ـ ولكن المعلوم عند أصدقائكم أنكم أحد المبتلين بضعف الذاكرة ..

مص ـ هذا الضعف يكاد ينحصر في ناحية الحوادث والوقائع وتحديد أزمنتها ، ففي هذا الجانب أشعر بأني سيء الحفظ ، وأما في الجوانب العملية والفقهية وأمور الأحكام وما إليها ، فإن ذاكرتي قوية ولبقة وعالية الضبط ولله الحمد .

م ـ لقد آن لنا أن نعرف بعض الأنباء عن الرجال الذين أثروا في توجيهكم ..

مص ـ لعل أعمق الرجال تأثيراً في نفسي هو الرجل الذي لم أدرس عليه . إنه جدي رحمه الله ، أدركته وأنا شاب وقد حصلت ما حصلت من الدراسة الأولى وهو حي ، إذ كانت سنه تقارب الخامسة والثمانين ، إلا أني كنت أرى وأستشعر ما بلغه من العلم حتى لقد استدعي إلى استانبول ليكون أميناً للمشيخة الإسلامية ، وقد بلغ بمزاياه الفكرية النادرة منزلة لا حاجة للتحدث عنها ، لأنها مشهورة لدى العلماء وكان رجال القانون في حلب يعدونه مرجعاً لا غنى عنه في كل ما يريدون استخراجه من الأحكام الشرعية ...

وكنت أشهد وقاره وما يتمتع به من احترام مهيب ، فقلما ورد حلباً أحد إلا كان أول عمله زيارته وتقبيل يده وطلب الدعاء منه ، فكان بمركزه المرموق يعد فوق جميع المستويات . وكثيراً ما سألت نفسي ، وأنا ألحظ هذه المكانة : هل يأمل أحد أن يبلغ مثلها ؟.. وهل أطمع مثلاً أن أبلغها في حياتي؟.

فأنا أعتقد أن جدي رحمه الله ، بهذه المزايا التي كنت ألمسها منه هو أكبر مؤثر وحافز لي .. وقلت إني لم أدرس عليه لأني لما بدأت الدراسة في مطلع شبابي كان هو قد اعتزل التدريس لتقدم سنه ، إلا درساً واحداً في الأسبوع يتطوع به لكبار أهل العلم من طبقة والدي .. وأذكر أني حضرت عليه في إحدى المرات فترك في نفسي صورة نموذجية له ، ثم لم يلبث بعدها إلاً قليلاً حتى انتقل إلى جوار ربه ، وأنا في السنة الثانية من الثانوية الشرعية ، فرثيته بقصيدة سكبت فيها كل مشاعري نحوه رحمات الله عليه ، وكانت من بواكير شعري .

م ـ كان هذا الجد غفر الله لنا وله أول الرجال أو أعمقهم أثراً في نفوسكم . ثم من ؟

مص ـ ثم يأتي الأساتذة الذين أفدت من دروسهم ، وفي طليعتهم والدي ، وبخاصة من الناحية الفقهية ، فقد كان يقضي معي الليالي الطوال ، وربما امتد السهر إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، ونحن في نقاش فقهي ، يبلغ بنا أحياناً إلى التشاد ، كل مع دليله وطريقة فهمه ، وقد ينحاز على رأيي بعد طويل جدال ، وقد يكون الانحياز مني إلى رأيه أخيراً ، وعلى كل حال كان معي مثل المدرب الرياضي الذي يريد تخريج الأبطال يشجعني على النقاش ، ويمرنني على استخلاص الأحكام من خلال الأدلة والحجج .. تمرين خبير أوتي صبراً وسعة إطلاع حتى لا يكاد يوجد كتاب في الفقه ولا من أمهاته الأولى إلا وله فيه لا أقول دراسة ، بل حراثة ، وكان أحسن من رأيت بعد جدي رحمهما الله ثقافة في الفهم الفقهي ، والتخريج وتنزيل المسائل والحوادث على القواعد ، ولا أعلم أحداً بعده له مثل دقة نظره في هذه الجوانب ..

ولقد آنس مني استعداداً للاستزادة من علمه وتدريباته فرأى أن تكون ملازمتي له أطول ما يمكن ، لذلك استخرج سرير أمي من غرفته ليجعل مكانه سريراً لي فأبيت بجواره ، فلا نضيع فرصة دون فائدة أو مذاكرة . وكان ذا ولع بالأدب والشعر وذا بصيرة منقطعة النظير في نقد الشعر، يطربه منه الفحل الجزل فيكاد يرقصه إعجاباً .. إلا أنه لم يجرب قرض الشعر فيما أعلم .

م ـ ليس ضرورياً أن يكون الفقيه من صاغة الشعر بل المهم أن يتذوقه كي يفيده في دراسة النصوص العالية .

مص ـ وكذلك كان فهو على مستوى رفيع من هذا الذوق .. ولم تكن مذاكرتنا كلها في حقول الفقه ، بل كانت متنوعة الأشكال ، وربما أنفقنا الساعات والأيام والليالي في مطالعة الروائع من كتب الأدب ، كالأغاني والعقد الفريد وما إليهما .. وقد كان لهذه المشاركات أثرها الفعال في تكويني الأدبي ، إلى جانب المناقشات الفقهية التي لم تكد تنقطع .. ثم هناك أساتذة آخرون تركوا بصماتهم على فكري من جهات أخرى ..

م ـ إن نشأة في مثل هذا الجو الرفيع لا بد أن تسترعي الانتباه وتستدعي الدراسة .. فقد تبين لي من خلال عرضكم الدقيق للعلامة التي كانت بينكم وبين والدكم أنه من طراز خاص نادر الوجود بين الآباء . إنه يحترم شخصيتكم وإنسانيتكم ، ويثق بعقلكم فهو لكم كالصديق الممتاز الذي خلت نفسه من آثار العنف ، وتحلت بالصبر والدماثة والمرانة .. فكان بذلك خير معوان على تنمية مواهبكم وتوسيع آفاق تفكيركم ، فلا عجب والحالة هذه أن يكون الرباط بينكم وبينه رباط أبوة وبنوة واخوة معاً .. وجدير بهذا الضرب من التربية أن يترك آثاره كأعمق ما تكون المؤثرات ..

مص ـ لقد ارتفعت الحجب بينه وبيني في نطاق المناقشات العلمية ، مع الحفاظ التام على كرامة الأبوة ووقارها .

م ـ بقي أن نسألكم عن علاقتكم مع أبنائكم هل تطبقون معهم المنهج التربوي نفسه ؟..

مص ـ نعم .. إنه المنهج نفسه ، على أن الفرق الذي لا يمكن تداركه هو فقدان المناسبات التي أتيحت لي مع الوالد . فالدراسة كما تعلمون قد تطورت اليوم فسلبت البيت الكثير من حرية الحركة مع الأولاد ، وهم في مراحل الدراسة ، فالأنظمة مرهقة ، والالتزامات المدرسية ثقيلة ، والساعات محدودة ، فلو أخذت من ولدك ساعة لعطلت عليه واجبه ، ولعرضته للسقوط في الامتحانات ..

م ـ تلك ظروف يستحيل التغلب عليها بعد أن تجاوزت إمكانات البيت ، ولكن يبقى الجانب الثاني من التربية وهو نوعية العلاقة بين الوالد والولد .. فهل جريتم مع بنيكم على طريقة أبيكم اللينة الحليمة البعيدة عن الشدة والعنف ؟..

مص ـ تماماً ، فأنا رفيق صغيرهم في ألعابه ورياضاته ، وصديق كبيرهم في دراسته ومشكلاته..

م ـ فهنيئاً لذلك البيت السعيد إذن !..

مص ـ نعم ولله الحمد إنه لبيت قريب من حدود السعادة إن لم يكن في صميمها .. إذ لم يبق التطور في الحياة من سبيل إلى استعادة الجو الذي عشناه في ظل الوالد كاملاًًَ ، فقد أغرقت الدراسة الأولية معظم أوقات الأولاد ، ثم جاءت المرحلة الجامعية لتبتلع سائرها .. حتى إذا ما أتم أحدهم دراسته الجامعية أخذ سبيله إلى أمريكة ، وتبعه الآخر إلى كندا .. لاستكمال الدراسات العليا التي أصبحت ضرورة لا مندوحة عنها ، وما عن يفرغ الواحد من تلك المرحلة حتى ينصرف إلى الجهة المهيأ لها . وهكذا فرقت الحياة شمل الأسرة ، ففقدت معظم المقومات التي كانت تحتفظ بها حتى عهد قريب ، ولعلي أنا آخر حلقة في هذه السلسلة بين القديم والحديث ..

م ـ أشرتم في ما تقدم إلى آخرين كان لهم أثرهم في نشأتكم وفكركم ، فلو تفضلتم بشيء من التفصيل عنهم ..

مص ـ أذكر من هؤلاء اثنين تركا أثراً قوياً في تكويني الفكري والاجتماعي ، وكان لأسلوبهما العلمي يد لا تنسى في بنائي الذهني . أحدهما الأبلغ أثرا هو الشيخ محمد الحنفي رحمه الله ، تتلمذ على جدي ، ثم التحق بالأزهر، وتخرج على علمائه ، ومنهم الإمام محمد عبده ، الذي أخذ عنه رسالة التوحيد وكثيراً من التفسير ، ثم عاد إلى حلب ليكون واحداً من رعيل الأساتذة الذين جيء بهم للتدريس في الخسروية أول نشأتها ، فكان يدرسنا التفسير والتوحيد والبلاغة .

لقد امتاز هذا الأستاذ الفاضل بحسن البيان وفصاحة اللسان وانطلاق الفكر وتسلسله ، إذ كان يبسط الأمور المعقدة فيمضي بها من البسيط على المركب ، حتى ليصور لنا أعقد المشكلات ماثلة بمنتهى الوضوح ، فمن هنا كان إيحاؤه عميقاً في ذهني ، وطريقة أدائي وفي التزامي البيان الناصع .

ومن مواقف هذا الشيخ معنا أتذكر ساعة كنا بين يديه على الحصير في المدرسة الخسروية ، وذلك قبل إدخال المقاعد إلى قاعات الدرس ، وقد شرع في شرح إحدى القضايا العلمية ، فعرض لي خاطر يختلف عن مرئياته فيها ، فاستأذنته لإبدائه ، فأذن وأصغى إليّ باهتمام وأنا أعالج المشكلة وكيفية حلها في تقديري ، فاستقبل ذلك مني بالرضى والإعجاب ، وقال لي تلك الكلمة التي تركت صداها مدوياً في نفسي :

(يا مصطفى .. سيكون منك واحد من رجال العلم إن شاء الله ..).

أما الآخر فهو الشيخ محمد راغب الطباخ المؤرخ المشهور وصاحب كتاب (إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء) سبعة مجلدات ، وكان ذا ولع كبير بكتب الحديث ومخطوطاته ، وله تتبع في مخطوطات التاريخ والسيرة النبوية ، ويحرص أن يستخرج لنا العظات من حوادث السيرة فيقف بنا على مواطن العبرة فيها مما يسمى اليوم بفقه السيرة ، وكذلك يعمل في درس الحديث الشريف ، إذ كان ينبهنا إلى العميق من علومه وكنوزه .. هذا إلى تنور في الفكر ، وانفتاح على حاجات الزمن ، كشأن شيخنا الحنفي ، رحمهما الله جميعاً ومن هنا كان أثره في توجيهي إلى حرية التفكير والبحث ، وإلى ربط العلم بالحياة .. فلهذين الأستاذين بعد والدي أكبر الأثر في تثبيت خطاي في الطريق العلمي الصحيح ..

م ـ وما أهم الأحداث التي عاصرتموها وانفعلتم بها ؟

مص ـ سأكتفي من هذه الأحداث بواحدة كان انفعالي بها كبيراً جداً ، وكان من آثارها أنها علمتني دروساً جديدة في الحياة والسلوك وفي أخلاق الناس .

بعد وفاة والدي حللت مكانه في المدارس التي كان يعمل فيها .. وتوليت القيام بالدرس الذي كان له في الجامع الأموي بحلب ، وكذلك في جامع الخير والمدرسة الشعبانية ، والمدرسة الخسروية النظامية ، التي سبق ذكرها وسميت فيما بعد بالثانوية الشرعية .

في هذه الفترة من عام 1938 كان قاضي حلب الشرعي رجل من جسر الشغور هو الشيخ محمد الأهدلي ، ثم ما لبث أن نقل من القضاء إلى إدارة المعارف ، وكان رجلاً تقدمياً محباً للإصلاح ، فتذاكرنا وإياه مع بعض الزملاء من الشباب المتطلعين على الإصلاح ، وتلاقينا في التفكير على مشروع عظيم الأهمية ، هو تجميع المدارس الوقفية القديمة تحت نظام دراسي موحد يجعل منها كلية شرعية ذات مرحليتين ثانوية وعالية ..

وقبل المضي في الحديث أحب أن أذكر بأوضاع المدارس الوقفية إذ ذاك ، ليتضح أكثر الهدف الذي اتفقنا عليه يومئذ ..

هذه المدارس كان معظم الطلاب المجاورين فيها ـ المقيمين في غرفها ـ من الكسالى الذين يتخذون من غرفها مأوى لهم باسم الدراسة ، وقلما يلقى فيها درس ، وإنما هي أشبه بملجأ عجزة ، ولا سائل ولا مسؤول ، مع أن في أوقافها خيراً كثيراً ، ولكنها مقصورة النفع على متوليها إذ يأكل المتولي تسعة أعشار غلتها ، ويتناول أولئك الكسالى العشر الباقي لطعامهم دون أن يناقشوه بشيء ، ولو تجرؤا على مناقشته لاستبعدهم وجاء بغيرهم .

فالجميع والحالة هذه متواطئون على الرضى بالواقع ، الطلاب ساكتون عن تصرف المتولي احتفاظاً بمنفعتهم القليلة التي لا يستحقونها ، وهو راض عن كسلهم وبطالتهم لأنهم يتيحون له الذهاب بحصة الأسد دون مناقشة ولا حساب .

كان هذا شأن الكثير من المدارس الوقفية ، التي لو ضبطت وارداتها لأنشأت جامعات .. وقد تم الاتفاق بيننا وبين مدير الأوقاف الجديد على القيام بهذه المهمة بحيث نحقق غايات الواقفين لهذه المدارس فتوحدها في تنظيم دراسي حديث ، ونبدأ ذلك في توسيع نطاق الدراسة الخسروية بإحداث مرحلة عالية للدراسة الشرعية ، وهي مرحلة لا وجود لها في سورية حتى ذلك العهد ، ينتقل إليها خريجي الثانوية الشرعية لمتابعة دراسته العالية على مستوى الكلية ضمن أربع سنوات ، فيكون المتخرج في هذا القسم مستحقاً صفة العالم ، بعد أن كانت الثانوية الشرعية تقف به في منتصف الطريق ، فلا هو بالعالم ولا هو بالجاهل ، وليس لشهادتها أي قيمة عملية كما أسلفنا .. وتعتبر بقية المدارس الموحدة بمثابة مدرسة ثانوية ، وكل واحدة منها يؤلف طلابها واحداً من الفصول الثانوية المتدرجة في الارتقاء .

وطبيعي أن هذا يقتضي إنشاء صندوق موحد تجبى إليه غلات تلك الأوقاف ، وتصرف في تخطيط حسابي دقيق على هذه الإحداثات التي ستكون الدراسة فيها متتابعة في ارتقاء الطالب دون توقف ، حتى يتخرج .. وإذا رسب في امتحان إحدى السنين يمنح مهلة سنة أخرى ، فإذا رسب بعدها دون عذر مقبول فصل لكسله أو لعدم قابليته .

ولما عرضنا هذه الأفكار على مدير الأوقاف طار بها فرحاً ، وكلفنا أنا وزميلين السعي لتحقيق هذه الغاية ، وقمنا نحن مع بعض فضلاء الشيوخ بوضع البرنامج اللازم ، وفي مقدمة هؤلاء الفضلاء الشيخ عبد الحميد الجابري رحمه الله وقد تم ما أردنا فجاء البرنامج على الغاية من التوفيق ، وبدأ مدير الأوقاف الشيخ الأهدلي خطواته الأولى في طريق التنفيذ فأصدر قراراً بتوحيد هذه المدارس الوقفية ، وطلب إلى المتولين أوقافها أن يقدموا مخصصاتها التالية إلى صندوق خاص أعد لهذه الغاية في إدارة الأوقاف .. ولكن .. ما هو إلا أعلن هذا التخطيط حتى قامت قيامة ذوي العلاقة بالموضوع ، من الطلاب المجاورين في تلك المدارس ومن الشيوخ المدرسين فيها ، ذلك لأن التنظيم الجديد سيفرض دراسة وتدريساً بصورة جديدة ، وسيميز بين الكسالى والجادين من الطلاب ، وبين الأكفاء وغيرهم من الشيوخ المدرسين . فمن كان مستعداً للمتابعة النظامية وكفؤاً لها فالباب مفتوح أمامه ، وإلا فنصيبه الفصل والتسريح ، فليفتشوا لهم عن عمل آخر خارج هذه المدارس التي إنما وقفت ورصد لها الأموال للتعلم والتعليم الشرعيين ، وتخرج العلماء الذين تحتاج إليهم الأمة ، ولم توجد للبطالة وشرب الشاي .

وبلغت ثورة الانتفاعيين يومئذ ما لا يتصور ، فقد حشدوا كل طاقاتهم لمقاومة ذلك التنظيم الإصلاحي ، واشتروا بعض فاسدي الذمم من الصحفيين ليهاجموا المشروع ، فراحوا يشنون عليه الغارات ، ويسميه بعضهم (خطة إلحاد) لأنه بزعمهم يخالف شروط الواقفين لتلك المدارس ، كأن من شروط الواقفين تجميع الكسالى وإشباع البطالين والرتزقة على حساب العلم والدين !.

ويالها من معركة شغلتنا وقتاً غير يسير بالرد على أباطيل المرجفين ، ومغالطات المشبوهين وافتراءات الكاذبين وكان نصيب مدير الأوقاف منها متاعب كثيرة ، وقد زاد من قوة الخصوم دعم السلطات الفرنسية إياهم .. حتى انتهى الأمر بإعادة مدير الأوقاف إلى القضاء ، والإتيان بآخر من دمشق لم يلبث أن انحنى للعاصفة فقد كان امرءاً ملايناً أكثر من اللازم ، ولم يجد في نفسه ـ على الرغم من طيبته وحسن خلقه ـ القدرة على متابعة خطى سلفه مع يقينه بصحتها ، فوقف المشروع ثم دفن في مهده .. وكان ذلك نصراً للباطل الصريح على الحق الصحيح . ولكن بعض مناوئيه استيقظوا بعد سنوات فأدركوا خطأهم ، وندموا على فعلتهم ، وبخاصة عندما أنشئ القسم العالي للدراسة الشرعية في دمشق ، فاضطر العديد من أبناء حلب للهجرة إليها لمتابعة التحصيل الشرعي العالي ، الذي أتاحه ذلك القسم لطلاب العلوم الشرعية .. على أن كثيرين من أولئك المعارضين ظلوا علىة عنادهم وحقدهم .. وبذلك انطوى مشروع توحيد المدارس الوقفية في حلب نهائياً ، ثم أعقبه بعد ذلك توقف القسم العالي للدراسة الشرعية الذي أنشأته الإدارة العليا للأوقاف في دمشق ..

م ـ خلال حياتكم المباركة مررتم بظروف خضت العالم وأحدثت كثيراً من التغيرات في المجتمعات العربية ، فيرجى التفضل بعرض انطباعاتكم في هذا الصدد .

مص ـ في المرحلة الأولى من هذه الظروف كنت في بداية نشأتي ، فلم يكن لديّ الوعي الكافي ، ولا قدرة الاستيعاب التي تمكنني من الربط بين الأحداث ومسبباتها ونتائجها .. وإنما بدأت أعي هذه الأمور منذ الاحتلال الفرنسي في أول العشرينات ، ولا شك أن لهذا الاحتلال تأثيراً كبيراً في نفسي ، وفي تكوين مفاهيمي السياسية ، وفي إدراكي لمصاير الأمم التي يحتلها الأعداء كما حدث في سورية ولبنان ، وقد شهدت وسمعت الكثير من وحشية المحتلين وفقدانهم الإنسانية ومدى مطامعهم في بلادي ، وهذا ما دعاني إلى الانغماس مبكراً في الأعمال السياسية ، وفي النضال الوطني ضد الفرنسيين ، وكنت أنا والدكتور الدواليبي وعدد قليل من الشباب في صفوف الكتلة الوطنية ، وقد توثقت صلاتنا بقادتها أمثال إبراهيم هنانو وسعد الله الجابري وإخوانهما ، ومن خلال هذه المشاركات الوطنية عرفنا المزيد من نفسية المستعمرين كما وصفها شوقي بقوله :

وللمستعمرين وإن ألانوا = قلوب كالحجارة لا ترق

م ـ إن هذا التصوير الحي لأيام النضال ضد الفرنسيين يدفع إلى سؤال آخر نستوضح به رأيك في المقارنة بين عهد المحتلين وعهد الانقلابيين ..

مص ـ أول ما يواجهه المفكر الاختلاف بين العهدين في نطاق الحرية التي تتاح في ظلهما . ومما لا خلاف عليه أننا كنا أيام الفرنسيين نملك القدرة على التعبير عن أفكارنا ومطالبنا المشروعة أما في ظل الانقلابيين فتحت ستار الوطنية ومصلحة الأمن ومقاومة العدو ، يكممون الأفواه ، ويخنقون الأفكار ويبلغون من الاعتداء على الحريات الشخصية والفكرية ما لم يبلغ بعضه الفرنسيون ذلك لأن الانقلابيين يمارسون هذا الضغط باسم المصلحة العامة ، فيخترعون لمعارضيهم ما يريدون من التهم ، ولا يسمحون لمتهم بالدفاع عن نفسه .. وحسبك ما كانت تتمتع به المعارضة أيام الفرنسيين من حق الكلام في صحافة خاصة بها ، على حين يقبض الانقلابيون على أزمة الإعلام كلها مسموعة ومنظورة ومقروءة ، حتى لا يسمع غير صوتهم ، ولا يرى سوى وجوههم ، ولا يقرأ إلا كلامهم . فأنا الآن أشعر أن حرية النضال ضد الظلم وضد السياسة الاستعمارية والانحرافات ، كان لها مجالها وحريتها في عهد الفرنسيين ، والإنسان المعارض لهم يجد القدرة على إبداء رأيه بكل وسائل التعبير. وسأحدثك بمثل من ذلك .

رأى الفرنسيون ذات يوم أن يعلنوا ما يسمونه بقانون الطوائف ، ويريدون به توحيد أحكام الأسرة بين المسلمين والمسيحيين ، فما إن علمنا بهذا الأمر حتى خرجنا للاحتجاج عليه بتظاهرة تضم عشرات الآلاف ، وعى درج الحكومة ألقيت خطبة نارية ضد الفرنسيين ومفوضيهم وعلى مسمع منهم ومرأى ، فألهبت الجماهير حماسة ، ولم ينلني من جراء ذلك أي أذى . وبهذه التظاهرة منعنا صدور هذا القانون ونفاذه بالصورة التي كانوا يريدونها .. فأين هذا من العهود التي سدت المنافذ بوجه كل حر ، وجعلت الموت والتعذيب جزاء كل كلمة لا يرتضونها !

م ـ بقي أن تحدثونا عن آثاركم العلمية الأدبية .

مص ـ سأحدثكم بآثاري التي أنجزتها في كلية الحقوق ، إذ لا حاجة إلى إعادة الكلام عما سبق هذه المرحلة . عندما عينتني جامعة دمشق أستاذاً لتدريس الحقوق المدنية والشريعة الإسلامية ، كان أساس هذه الحقوق مجلة الأحكام العدلية المستمدة كلياً من الفقه الإسلامي ، وقد سبق أن تلقيت دراستها في الكلية طالباً ، واليوم كلفت تدريسها أستاذاً . وكان لدي شعور بالحاجة إلى عرض أحكام هذه المجلة ومرتكزاتها من الفقه الإسلامي بأسلوب عصري جديد ، على نسق ما نراه من عرض الأحكان في القانون المدني الفرنسي وشروحه ، وقد ضاعف من شعوري هذا ولعي الفطري أو الكسبي بعرض الأفكار مرتبة بحيث تتدرج من البسيط إلى المركب ، يضاف إلى هذا الولع ذخيرتي من الدراسة القانونية وبحوثها ومناهجها ونظرياتها .. ولهذا رأيت أن أفيد من هذه الفرصة فأستخدم إمكاناتي واختصاصاتي في خدمة الفقه الإسلامي ، وبخاصة فقه المجلة ، عن طريق عرضه في ذلك الأسلوب الذي أتصوره . وقد أعانني الله على هذه المهمة الجسيمة بمدد من الصبر والجهد واستلذاذ العمل ، حتى لقد كنت أقضي فيه الليالي الطوال دون كلل ولا ملل . وأذكر أني في ليالي الشتاء القارسة كنت أصلي العشاء في وقتها ، وأقعد بجانب المدفأة مكباً على أوراقي ومراجعي ، أحرر وأكتب وقد انصرف عني أهل البيت ليأخذوا حقهم من النوم ، وانصرفت عنهم إلى المراجعة والكتابة فلا أنتبه من استغراقي إلا وقد كادت تطلع الشمس ، فأثب ذاهلاً لأدرك صلاة الصبح قبل فوات وقتها ..

في هذه المرحلة وفقني الله لإخراج سلسلتين من المؤلفات ، أولاهما هي السلسة الفقهية ، وعنوانها العام (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) وقد بلغت أجزاؤها أربعة مجلدات ، وقدر الله لها البقاء والذيوع فهي مرجع للتدريس إلى اليوم ـ 1400 هـ في جامعة دمشق ، وفي الجامعة الأردنية وغيرهما ، وتعتبر من المراجع المعتمدة لدى القانونيين والشرعيين والأساتذة المدرسين لموضوعاتها في جامعة دمشق ، ولا سيما النظريات الأساسية في الفقه الإسلامي ، وهي مؤممة في جامعة دمشق ..

هذه السلسة بما تنطوي عليه من التجديد في أسلوب عرض الفقه وتبسيطه قد أوضحت المعتقدات من القضايا الفقهية ، التي كانت تستعصي على غير طلاب الفقه القارحين ، حتى باتت بمتناول أفهام غير ذوي الاختصاص ..

أما السلسة الثانية فتتألف من ثلاثة مجلدات في شرح القانون المدني السوري ، الذي حل محل مجلة الأحكام الملغاة بالقانون المدني عام 1949 . عرضت فيها النظريات القانونية الوضعية بصورة مبسطة كذلك ، ولم أجر فيها على غرار ما يفعله الكثيرون من القانونيين العرب ، إذ يأخذون المصادر الأجنبية ويترجمونها حرفياً بل سلكت مسلكاً حراً في شرح القانون وفي عرض أحكامه ونقدها .. وقد أودعتها آراء وبحوثاً قد تخالف آراء أولئك القانونيين الذين نقلوها بمحض التقليد للأجانب في مصر وغيرها .

وهكذا امتازت السلسلتان بخصائص واضحة من التجديد ، جعلت الكثير من الدارسين يرجعون إليها لتكوين الفهم السليم ، ومن ثم ينصرفون إلى الكتب المقررة عليهم ..

م ـ إن انصرافكم للعلوم الحقوقية لم يخمد ميلكم الأدبي إذا لم يساعد على تعميقه .. فهل ثمة أثر أدبي تحدثوننا عنه ؟

مص ـ لقد درست الأدب العربي في المدرسة الخسروية عقيب دراستي الجامعية ، ولكني لم أؤلف أي كتاب في الأدب وعلى الرغم من ولعي بالشعر وممارسته لم أخرج فيه ديواناً حتى يومي هذا ، لأن عملي العلمي وانشغالي بالتأليف القانوني لم يدعا لي مجالاً لشيء من ذلك .. بل لقد حافا ميولي الشعرية فقل إنتاجي منه بإزاء ما سبق لي من المنظوم .. وقد نشرت من شعري بعض القصائد أو المقطوعات ، وهي قليلة بالنسبة على ما ينشر ، والمحفوظ لديّ منه لا يعدو أوراقاً مبعثرة يعوزها التصنيف والتنسيق .. وفي النية أن أنتهز لها بعض الفرص التي تمكنني من جمعها في إطار منظم ، وربما فكرت بتقديمها للنشر في ديوان ....

م ـ لو تفضلتم ببعض الحديث عن الأعمال التي توليتموها ..

مص ـ هذه الأعمال تتألف من ثلاثة أقسام :

(1) التدريس . (2) النيابة . (3) الوزارة .

أما القسم الأول فبدأ بانتقالي إلى دمشق للتدريس في الجامعة السورية . لقد عينت أستاذاً في كلية الحقوق عام 1944 م . لتدريس القانون المدني والشريعة الإسلامية ، وعندما أنشئت كلية الشريعة سنة 1954 م في الجامعة السورية كان لي فيها عدداً من المحاضرات ، وعلى الرغم من دخولي الانتخابات البرلمانية ونجاحي فيها ممثلاً عن مدينة حلب ، لم أتخل عن التدريس في الجامعة ، لأن النظام السوري كان يسمح بالجمع بين التدريس الجامعي والنيابة ، إذ يرون أن في هذا الجمع مزيداً من الخبرة للأساتذة يستفاد منها في ميدان الأعمال العامة ..

وفي هذه الفترة النيابية ما بين (954 ـ 958) كنت مع فريق من الأصدقاء المنسجمين نشكل في مجلس النواب ما سميناه بالجبهة الإسلامية .

م ـ كان الدكتور مصطفى السباعي معكم في هذه الجبهة ؟

مص ـ بل الذي كان معنا هو الأستاذ محمد المبارك أما الدكتور مصطفى السباعي فقد كان في هذه الجبهة قبلنا بمرحلة سابقة ..

وقد أسندت إلي عام (1956 م) من هذه الفترة وزارتا العدل والأوقاف إلا أن هذه المرحلة لم تستمر سوى أقل من سنة ، تحرك خلالها المكتب الثاني للمخابرات العسكرية برئاسة عبد الحميد السراج ، فاستقالت الوزارة ، وقامت مكانها وزارة أخرى بتوجيه المخابرات ، ثم ألغيت هذه الوزارة بقيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 ولم تستمر إلا قليلاً حتى حصلت الانتفاضة التي قضت على هذه الوحدة في 29 / 9 / 961 ووضعت البلاد تحت حكم عسكري غير دستوري قرابة سنة أعيدت في نهايتها الحياة الدستورية من جديد ، وأجريت الانتخابات العامة ونجحت فيها عن حلب أيضاً ، وتألفت الوزارة الجديدة برئاسة أخينا الدكتور معروف الدواليبي ، وقد أسندت إليّ فيها وزارتا العدل والأوقاف كرة ثانية ، ولكن ما لبث العسكريون أن تحركوا وألغوا الحياة النيابية واعتقلوا النواب والوزراء ورئيس الجمهورية الأستاذ ناظم القدسي ، وبذلك انتهت أعمالي السياسية في النيابة والوزارة ، وعدت إلى قواعدي الأولى في التدريس الذي لم أنقطع عنه خلال ذلك ..

م ـ هناك جانب رابع من أعمالكم لا يقل أهمية عن هاتيك الثلاثة هو مشروع الموسوعة الفقهية التي قمتم عليها عدد سنين في الكويت ، ثم المجمع الفقهي بمكة المكرمة ، ثم عملكم الراهن في الجامعة الأردنية ..

مص ـ بعد إنشاء كلية الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق عام 1955 فكرنا أنا وإخوان من زملائي الأساتذة فيها ، هم الدكتور معروف الدواليبي والدكتور مصطفى السباعي والأستاذ محمد المبارك ، بمشروع موسوعة للفقه الإسلامي تقوم به كلية الشريعة ، يعرض فيه الفقه الإسلامي على مختلف مذاهبه ، مرتبة مسائله وفق أسمائها الاصطلاحية حسب الحروف الهجائية ليستطيع غير فقهاء الشريعة من رجال القانون والإدارة ، أو القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات وشراح القانون في البلاد العربية والأجنبية كالمستشرقين ، أن يرجعوا إلى فقهنا الإسلامي فيتبينوا ما فيه من ذخائر النظريات القانونية والحلول المنطقية السديدة في مشكلات التعامل وقضاياه ، وفي العبادات كذلك لتتضح سعة الآفاق في فقه الشريعة ، ولتمكن الاستفادة من مختلف المذاهب والآراء الفكرية .فمن أراد العلم مثلاً بأحكام العدة في الطلاق أو وفاة الزوج يرجع إلى حرف العين من هذه الموسوعة فيستخرج كلمة (عدة) كما يستخرجها من معجم اللغة ، فيرى أحكام العدة بمختلف أنواعها وفي مختلف المذاهب ، ومن شاء معرفة ما في الفقه الإسلامي عن أحكام الركاز، أو عن تقادم الحقوق المانع لسماع الدعوى رجع إلى كلمة (ركاز) في حرف الراء أو إلى كلمة (تقادم) في حرف التاء المثناة ، فيجد أحكامهما المفصلة .. وهكذا . فهذه الموسوعة أصبحت ضرورة إسلامية حين ندعو إلى تطبيق الفقه الإسلامي واستمداد التقنيات الزمنية منه ، ولا سيما القانون المدني العام . فقد بدأت مصر في القرن الماضي بأخذ قانون مدني أجنبي الأصول ، ثم انتشرت العدوى في أواخر الأربعينات من القرن الحاضر إلى كثير من البلاد العربية ، فأخذت بالقانون المدني المصري الأجنبي الأصول ، وانقطعت عن تراثها الفقهي العظيم .

وقد كان تفكيرنا بمشروع الموسوعة الفقهية نتيجة لتوصية مؤتمر (أسبوع الفقه الإسلامي) الذي عقد في كلية الحقوق بالسوربون من العاصمة الفرنسية في تموز 1951 وشاركنا فيه أنا والدكتور معروف الدواليبي عن الجامعة السورية ، فقد أردنا أن تقوم كلية الشريعة الحديثة في جامعة دمشق بتحقيق هذه التوصية . فعملنا على إنشاء لجنة رسمية لمشروع الموسوعة واستصدرنا به مرسوماً تنظيمياً ، ورصدت له ميزانية مالية خاصة ، وقطعنا فيه مرحلة تحضيرية هامة ، وضع فيها الهيكل اللفظي الشامل لجميع الكلمات الاصطلاحية الفقهية في المذاهب الأربعة كما وضع في هذه المرحلة معجم للفقه الظاهري من كتاب (المحلّي) لابن حزم ، وفيه خلاصات لأحكام المذاهب في كل موضوع ومسائله مرتباً كذلك على حروف الهجاء ، ومحالاً في كل منها على التفصيل في مكانه من المحلي ، ليكون مساعداً لمن يكتبون موضوعات الموسوعة الفقهية في الرجوع إليه ، باعتبار أنه من أمهات الكتب في الفقه المقارن .

ولما حصلت الوحدة بين سورية ومصر سنة 1958 رغبت وزارة الأوقاف المصرية أن تشارك في هذا العمل وتقوم بتمويله ، فألفت لجنة موحدة جمعت بين أعضاء لجنة دمشق وآخرين مصريين ، منهم الأستاذان الكبيران الشيخ علي الخفيف والشيخ محمد أبو زهرة ، رحمهما الله ، وفي هذه المرحلة سرنا في مشروع الموسوعة الفقهية سيراً حثيثاً ، وخرج منه جزء نموذجي يتضمن عدداً من الموضوعات من حروف شتى غير مقيدة بالتسلسل الهجائي ، لترى فيه طريقة معالجة الموضوعات وعرض مسائلها في مختلف المذاهب .

ولما وقع الانفصال بين مصر وسورية عام 1961 على يد الضباط السوريين توقف عمل الموسوعة في مصر وسورية .. وفي آخر العام 1966 فكرت وزارة الأوقاف في الكويت أن تبني هذا المشروع العلمي العظيم ، فاستطلعت رأي شخصيات عديدة في البلاد العربية ، ثم وقع اختيارها عليّ ، فاستعارتني من جامعة دمشق لأكون خبيراً للموسوعة الفقهية وتنفيذ هذا المشروع لديها ، فقمت بتأسيس جديد لسير العمل والاستكتاب فيه مدة خمس سنوات أنجزنا خلالها ما يعادل ربع المشروع كتابة .. وكنت قد قدرت لهم أن يخرج في ثلاثين مجلداً ، في كل مجلد ألف صفحة ، وفي كل صفحة ما بين 250 و 300 كلمة .

وذات صباح من صيف 1971 فوجئنا بقرار من وزير الأوقاف الجديد ، وهو غير الذي بدأنا العمل معه ، يقضي بإلغاء المشروع !!.. وعلى أثر ذلك استدعاني الجامعة الأردنية للتدريس في كلية الشريعة التي أنشأتها في ذلك الحين ، فالتحقت بها حيث لا أزال ، وكنت قبل هذا قد أحلت على المعاش من جامعة دمشق لبلوغ السن القانونية خلال وجودي في الكويت .. ثم جرى تبديل وزاري آخر في الكويت ، فعرفوا خطأ الوزير السابق في إلغائه مشروع الموسوعة الذي سيكون المآثر المخلدة لذكر الكويت على الأجيال ، فقرروا استئناف العمل فيه ، واتصلوا بي ، ولكن ارتباطي بالجامعة الأردنية كان حائلاً دون العودة ، فألفوا لجنة للموسوعة ، وتابعوا العمل بصدق وجدية ، وهو الآن ماض بطريقة تختلف عن طريقتي التي أسستها ، وأثناء وجودي في الكويت أنجزنا معجماً للفقه الحنبلي من كتاب المغني لابن قدامة المقدسي ، على غرار معجم الفقه الظاهري من كتاب المحلي لابن حزم الذي أنجزناه بدمشق .

م ـ هذه معلومات هامة عن مشروع الموسوعة الفقهية ودوركم فيها ، فماذا عن المجمع الفقهي بمكة المكرمة ؟..

مص ـ إن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرر في سنة 1398 هـ إقامة مجمع للفقه الإسلامي بمكة ووضع له نظاماً للنظر في المشكلات العصرية وقضايا الساعة وتقرير الحلول الشرعية فيها على ضوء نصوص الشريعة ومبادئها العامة واجتهادات الفقهاء وهذه بداية تفتح الطريق للاجتهاد الجماعي الذي نحن بمسيس الحاجة إليه في ظل هذا التطور السريع للحياة العصرية وقد اختارني مجلس الرابطة لعضوية المجمع .

م ـ أتذكر أنكم من أول المنادين بفكرة الاجتهاد الجماعي فإلى أين وصلت هذه الفكرة في مجال التطبيق ؟.

مص ـ حقاً . كنت في طليعة الذين فكروا وكتبوا في هذا الموضوع منذ ثلاثين عاماً وقد وجد القناعة المنشودة ولله الحمد . ومن ذلك أن السيد محمد سرور الصبان رحمه الله قد طلب إلى وضع مشروع ونظام لإنشاء مجمع فقهي فوضعته وقدمته إليه في بيروت . وللمجمع دورة سنوية في مكة يتدارس فيها البحوث المقدمة إليه ويقرر فيها ما يرى . وقد قدمت إليه عدة بحوث هي الآن قيد النظر منها بحث ضاف عن المصارف ومعاملاتها والفوائد التي تتعامل على أساسها والحكم الشرعي فيها ومنها أيضاً بحث عن التلقيح الصناعي البشري وأطفال الأنابيب وهو من أهم قضايا الساعة .. ولهذا كله صلة وثيقة بقضية الاجتهاد الجماعي الذي أصبح هذه الأيام هو الحل الأمثل لحماية العلم الشرعي من فوضى الاجتهادات الفردية .

م ـ بقي أن تحدثونا عن مشروع القانون المدني الموحد في جامعة الدول العربية ..

مص ـ في العام 1975 قررت جامعة الدول العربية توحيد القانون المدني ، وهو القانون العام لجميع المعاملات ونتائجها المالية في البلاد العربية ، وألفت لذلك لجنة تجتمع في دورات سنوية بمقر الجامعة ، ولم تكن فكرة الفقه الإسلامي والتراث واردة في الأذهان ، بل بدءوا على أساس اختيار النصوص الأنسب من مجموع القوانين المدنية القائمة في البلاد العربية ، وكلها أجنبية الأصول منقطعة عن تراث الفقه الإسلامي ، وأساسها القانون المصري الجديد كما أسلفنا ، وبعد سير اللجنة عدة سنوات في وضع النصوص الموحدة نبهت فانتبهت إلى أنه من غير الممكن قبول قانون مدني موحد في جميع البلاد العربية ، إذا لم يكن قائماً على أساس التراث ، ومستمداً من الفقه الإسلامي ، ومؤصلاً على أصوله بمذكرة إيضاحية تربط مواده جميعاً واحدة فواحدة بمراجعها الفقهية ووافياً أيضاً بالحاجات الزمني .. وعند ئذ قرروا ـ عام 1978 ـ تحويل شراع السفينة ، وتأليف لجنة خبراء من فقهاء الشريعة والقانون لتضع النصوص وتؤصلها على أساس الفقه الإسلامي ، ولجنة عامة تعرض عليها أعمال لجنة الخبراء لإقرارها بالصيغة النهائية ، وقد اختاروني عضواً خبيراً في لجنة الخبراء هذه ، من حيث كوني أجمع الصفتين الشرعية والقانونية ، ولكن لم نمارس العمل في هذا الشأن إلا في السنة 1980 بعد انتقال الجامعة العربية إلى تونس إثر انفراد مصر بالصلح مع إسرائيل .. ونحن الآن ماضون في هذا العمل ، وقد قطعنا في الطريق الصعب منه مرحلة طويلة ، مرحلة وضع نصوص النظرية العامة وتأصيلها .

م ـ هذه المعركة الضارية بين الإسلام والجاهلية الحديثة .. كيف تتوقعون نهايتها ؟..

مص ـ إنها معركة مؤسفة ، وما سميته أنت بالجاهلية الحديثة أسميه أنا جاهلية العلم ، وهي أشد خطراً من جاهلية الجهل ، ذلك أن أصحاب هذه الجاهلية ركبهم الغرور بما عندهم من العلم ، وإلحادهم قائم على أسس فلسفية ، فهم أشد عناداً وأشرس عداء للإسلام من أهل الجاهلية الأولى ، التي كان علاجها التوعية والتنوير بخلاف هؤلاء الذين يستعصون على الإصلاح . ومهما يكن فأنا لست متشائماً كثيراً ، لأنني أشاهد اتجاهات جديدة في الشباب المسلم وفي الرأي العام نتيجة للكوارث العظيمة التي ألمت بالأمة الإسلامية وبالبلاد العربية على أيدي أولئك المغرورين المبهورين بتقاليع الغرب .. الذين جمعوا في قلوبهم بين الغرور بمظاهر المدنية والجهل التام بحقائق الإسلام ، أجل .. إن هناك إدراكاً جديداً ووعياً أكيداً في البيئة الإسلامية نلمسها في أوساط الشباب وفي أوساط بعض الحكام أيضاً . وقد اتسعت معلومات هؤلاء وأولئك عن الإسلام فازداد إقبالهم عليه وثقتهم به ، فنفضوا أيديهم من الأمل بأولئك الذين لا يزال دم الاستعمار وشهوته يجريان في عروقهم ، فيدفعانهم إلى الإيقاع بأهل الإسلام ، ولكن بأسلحة غير التي جربها أسلافهم في عهود الاستعمار العسكري ، ويتضح ذلك في أساليبهم الشيطانية التي يريدون بها تسميم أفكار المسلمين ، وإفساد مجتمعاتهم .. غير أن محاولاتهم الهدامة التي سجلت كثيراً من النجاح لهم قد بدأت تنكشف لأعين الغافلين ، فيزدادون كل يوم حذراً منهم واقتراباً من دينهم وأصالتهم الإسلامية.

وإن أملي لكبير إن هذا التفتح الذي نشهده بين المثقفين من الشباب والفتيات وبعض الحكام ، سيؤتي أكله قريباً إن شاء الله ، ومن دواعي التفاؤل هذا الاتجاه الذي نراه اليوم لدى بعض حكام المسلمين نحو تطبيق الشريعة الإلهية في بعض الدول العربية والإسلامية ، وننتظر أن تتبعهم في ذلك دول أخرى ، وأن تتابع خطوات الخير في هذا الطريق حتى تشمل البيت والشارع والمصنع ومؤسسات الدولة كلها بفضل الله وتوفيقه .. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

يقول مؤلف الكتاب :

ولقد شاء الله جلت حكمته أن تكون خاتمة هذه الصفحات إحدى البشريات التي من حقها أن تبعث الرضى في كل نفس تقدر العلم وأهله ، وذلك بما بثته إذاعة الرياض من أن اللجنة الناظرة في جائزة الملك فيصل ـ رحمه الله ـ قد وقع اختيارها على علامتنا هذا فائزاً وحيداً بجائزة هذا العام ـ 1404 هـ ـ للدراسات الإسلامية على كتابه (المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي) وهو الحلقة الثالثة من سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) آخذة في الاعتبار ما للأستاذ من جهود متعددة في هذا الميدان ..

فللأستاذ الصديق تهانينا القلبية على هذا التقدير الذي صادف أهله ، وللجنة الحكيمة أخلص الثناء على قرارها الذي وافق محله ..

نماذج من شعر المترجم:

القرآن العظيم

كـتاب من العلم المحيط iiمداده
فـآيـاتـه مـرآة صدق iiجلية
عـظات وأمثال وهدي iiوحكمة
إلا إنه القرآن ، فاعلم ، iiملاذنا
بـه قـارعات كالصواعق قوة
بـلاغ كـسـاه الله ثوب بلاغة
عـلاج لـبؤس البائسين iiمحقق
كـفاءة لحاجات الحياة iiجميعها
شـفـاء لأدواء النفوس ورحمة
تـراه جـديداً كلما جئت iiسامعاً









به صفحات الكون تتلى وتسمع
يـرى ما مضى فيها وما iiيتوقع
وشـرع جليل نير الحكم iiمبدع
فما دونه خير ، ولا عنه iiمنزع
ونور رفيق بالعيون (مشعشع) !
تـرد بـليغ القوم عياً فيخضع
وروح لـروح اليائسين iiمشجع
فـلـلـفرد تقويم وللقوم iiمهيع
وتـكـراره أحلى لسمع iiوأمتع
كـأن الـمعالي من مثانيه iiتنبع