فارس الخوري (4)

المحامي محمد عنجريني

الوطنية - العروبة - الإسلام

فارس الخوري

تأليف: المحامي محمد عنجريني

2 - كيف يمكننا استعادة فلسطين؟!

إن استعادة فلسطين في الوقت الحاضر تكاد تكون ضرباً من ضروب المستحيل، لأن  الشرق والغرب متضامنان معاً على دعم (إسرائيل) وتأييدها وحمايتها من كل خطر يأتيها من جهتنا.. ولكن ذلك يجب أن لا يفتّ في عضدنا، أو يفلّ من عزائمنا. ولابد من حدوث فرصة ملائمة، كأن تقوم حرب طاحنة بين الشرق والغرب ينشغلان بها عنا.. فنغزو (إسرائيل) ونمحوها من الوجود بضربة صاعقة لا يكاد العالم ينتبه إلينا بعدها إلا ويكون قد أضحى أمام أمر واقع.. وفي سبيل هذا الهدف الذي لابدّ لنا من الوصول إليه عاجلاً أم آجلاً.. علينا أن نتّحد ونستعدّ لذلك اليوم الموعود بتدريب ناشئتنا على حمل السلاح من بعد  إبعاد الميوعة والتحلل عن نفوسها، وأن نزرع غريزة الثأر فيها تجاه اليهود!!

3 - هؤلاء هم اليهود:

واستطرد الأستاذ فارس الخوري:

كنا ننبه الأذهان أيضاً، ونلفت أنظار معتمدي الدول الأجنبية وممثليها إلى ما هو معروف عن اليهود من أنهم لا يرضون من مساكنيهم إلا المحو والانقراض وكنا نستشهد على صحّة ما نتهمهم به من ذلك.. بما جاء عن تاريخهم وتوراتهم وتلمودهم.. وقد حاولوا يوم كانوا يدّعون أنهم شعب الله الخاص أن يغتصبوا هذه البقعة السورية وطناً قومياً يبقون فيه إلى الأبد فكانت مدة محاولتهم على طولها مخضبة بالدماء مفعمة بالفواجع والحروب المستمرة مع أصحاب البلاد إلى أن خرجوا منها وعادت الأرض إلى أصحابها.

وابتسم فارس الخوري وهو يقول:

إنهم- ويقصد اليهود- يسمُّون فلسطين أرض الميعاد بحجة أن الله وعدهم بها.. فإذا كان وعد الله لم يمكن تحقيقه. فهل ينتظر تحقيق وعد بلفور؟!!

إنني- على الرغم من قيام دولة اسمها (إسرائيل)- لا أعتقد أن وعد بلفور قد تحقق لأن العبرة ليست بإقامة الدولة بل ببقائها واستمرارها.. وأنا أشك تماماً في أن (إسرائيل) ستبقى أو تستمر..

وأضاف الأستاذ فارس الخوري يقول:

إن حياة الأمم لا تقاس بالسنين والآجال بل بالقرون والأجيال وقد سبق أن حاولت أوروبا بأسرها انتزاع فلسطين من أيدي العرب في حملاتها الصليبية فلم تفلح إلا أمداً قصيراً عادت بعده بالخيبة والندم، فكان على الصهيونية ومناصريها أن يعتبروا بسوابق التاريخ ويستفيدوا من عبره البارزة ولا يتآمروا لإقحام مشروع محروم من مبادئ العدل ومن عناصر النجاح.. إن تاريخ اليهود القديم المسرود في التوراة مملوء بالفجائع والفظائع. واحتلالهم، كما هو معترف به في ذلك التاريخ.. كان قائماً على إفناء السكان أصحاب البلاد الأصليين وإبادتهم وقد مضى عليهم حتى اليوم تسعة عشر قرناً وهم متفرقون في أقطار الدنيا لا يجمعهم كيان سياسي، وإنما ظل البعض منهم يمنّون أنفسهم بآمال خائبة بإعادة سيرتهم الأولى واغتصاب القطر الفلسطيني من سكانه ليجعلوه وطناً قومياً ويقيموا فيه معالم الدولة التي تمتعوا بها في قسم منه مدة ثلاثة قرون وعجزوا عن الاحتفاظ بها ستة وعشرين قرناً!!..

وختم الأستاذ فارس الخوري حديثه القيم هذا لي بقوله:

لقد كنا نطالب بوضع حدّ بأسرع ما يمكن للحكم الإنكليزي المباشر في فلسطين وتسليم إدارة البلاد إلى أهلها لتقوم بها حكومة وطنية نيابية يمثل بها العرب واليهود بنسبة عددهم، ويكتفي الإنكليز بالإشراف والإرشاد لتأييد المساواة بين السكان كما هو مراد الانتداب المعهود لهم به في المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم والإقلاع عن وسائط الظلم والإرهاق لأجل تحقيق وعد لا يمكن تحقيقه مادام المسلمون والمسيحيون في الأرض قاطبة يعتمدون في سدانة هذه البلاد المقدسة على حمية الأمة العربية وبسالتها.. إلا أن الإنكليز لم يكونوا يأبهون.. رغم المجازر الدموية التي حدثت..حتى إذا تم لهم تنفيذ سياستهم المجرمة في تقوية اليهود وتيسير كل الوسائل المادية والمعنوية التي تمكنهم من التمركز في قلب العالم العربي وإنشاء ما سمَّوه بـ (دولة إسرائيل) انسحبوا فجأة تاركين الفلسطينيين في حالة يرثى لها.. ومن المؤسف أن قادة العرب يومذاك لم يكونوا على مستوى الأحداث ولا على إدراك عميق للنكبة فظلوا مشغولين بحزازتهم وخلافاتهم الطارئة وقبلوا بــ (الهدنة) التي فرضت عليهم وما كان من رأيي قبولها، بل لقد حذرت بكل شدة من الانصياع لها فكان ما كان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الفلسطينيون لم يقصّروا في الدفاع عن بلادهم

ومعلوم أن الفلسطينيين لم يقصروا في الدفاع عن بلادهم، نقول هذا على الرغم من التهمة التي روّجتها المصادر الاستعمارية والصهيونية القائلة بذلك، ويروى عن الهر أدولف هتلر أنه قال للسيد خالد الفرقني مستشار المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود في مقابلة رسمية له عام 1938 إنه معجب كل الإعجاب بكفاح عرب فلسطين وبسالتهم، وكذلك جاء في بيان رسمي وجهه الهر هتلر إلى الألمان في السوديت حينما كانوا يحاولون الخلاص من حكم تشيكوسلوفاكيا عام 1938 والانضمام إلى ألمانيا يطالبهم أن يتخذوا من عرب فلسطين قدوة لهم حيث يكافحون إنكلترا أكبر إمبراطورية في العالم، واليهودية العالمية معاً ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد..

كما أن المرحوم رستم حيدر الوزير العراقي الأسبق قال لبعض زواره في لبنان عام 1939 (لقد كنا في زيارتنا الماضية لأوروبا نتحاشى التظاهر بأننا عرب، ولكننا في هذه المرة، بعد جهاد عرب فلسطين وبطولتهم التي طبّق ذكرها الآفاق، أصبحنا نفخر بعروبتنا، فصرنا نلقى من الأوروبيين كل إجلال واحترام. وفي كتاب ألفه الجنرال متيلاند ولون الذي اشترك في المعارك ضد العرب في فلسطين قال فيه: إن خمس مئة من ثوار عرب فلسطين يستعصون  في الجبال، لا يمكن التغلب عليهم بأقل من فرقة بريطانية كاملة السلاح. أي خمسة عشر ألف جندي(30). 

الباب الثالث: فارس الخوري والإسلام

لقد طغى الحديث عن فارس الخوري بأنه عالم حقوقي، وخطيب مفوَّه، وسياسي بارز، أدى لأمته العربية خاصة، والإنسانية عامة، أجلَّ الخدمات، وأثبتها أثراً في التاريخ المعاصر، كما عرف عنه بأنه شاعر فحل يقتدر على المنظوم اقتداره على المنثور.

وقلَّ من يعرفه عالماً بالشريعة الإسلامية، متمكّناً من دراسة القرآن، والحديث، والفقه، والسيرة النبوية، وسيرة الخلفاء الراشدين، وأن فهمه للإسلام ليس كبعض مثقفي هذا العصر الذين يقولون: إن الإسلام دين لا علاقة له بالحياة، وعلاقته بين الإنسان وربه، قياساً على غيره من الأديان، وجهلاً بحقيقة الإسلام.

إن فارس الخوري قد فهم الإسلام على حقيقته، بأنه نظام كامل للحياة. وقد نظّم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والإنسان، وأن الشريعة الإسلامية هي شريعة حية، تناولت كل مناحي الحياة، وهي متقدمة على سائر القوانين والشرائع التي عرفتها البشرية،  وأن القوانين الغربية المعاصرة تأخذ من مبادئ الشريعة الإسلامية، فتقنّنها وتنسبها لنفسها، ولا تعترف بأنها استمدتها من الشريعة الإسلامية، كما يعتقد فارس الخوري بأن الشريعة الإسلامية هي الأصلح لهذا العصر، وطلب تطبيقها في سورية. "فهو يحلل ويقارن بين مختلف الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما يحتويه كل نظام من عدالة يؤملها البشر للعيش بهناءة وسلام.... ثم يخلص إلى القول بأن الإسلام كان ولا يزال وسيظل أفضلها جميعاً، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسيحية خالية من النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لم يشر السيد المسيح (عليه السلام) إلى شيء منها، إلا بإشارات عارضة لا تخرج عن كونها جاءت داعية للصفاء الروحي، والتهذيب الوجداني، والرحمة، واللين، وهي تعطي مالله لله، ومالقيصر لقيصر، تاركة أمر القوانين والنظم للدولة الرومانية الوثنية منذ اليوم الذي نشأت فيه في ظلال تلك الدولة، ومادامت المسيحية قد قبلت تلك النظم التي وضعها وثنيون مشركون، فلا ضير عليها ولا بأس أن تقبل بالنظم الإسلامية وقوانينها، خصوصاً أن الإسلام يعترف بالمسيحية ديناً سماوياً، وبعيسى بن مريم رسولاً ونبياً، وبالحواريّين تلامذته قدسيين وصالحين، وهو في هذا لا يتكلم عن جهل وعاطفة، بل عن عقل وعلم وبصيرة وإدراك، فهو من أعلم الناس بأحكام الدين الإسلامي، وأفقههم في سيرة النبي الكريم وأصحابه".

ولقد روى الأستاذ ظافر القاسمي- نقيب المحامين الأسبق في سورية -أنه زار الأستاذ فارس الخوري في بلودان صيف عام 1950 وكان معه المغفور له نجيب الريس، فرأياه مكبّاً على كتاب قديم، أصفر الورق، رديء الطباعة، فقال له: "ماذا يقرأ أستاذنا؟! فأجابه فارس الخوري : كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) فقال الأستاذ القاسمي (للمرة الأولى؟) فأجابه (بل قرأته مرات، وأنا اليوم أعود إليه... إنني أعبّ من هذه الكنوز الفكرية التي خلّفها العرب، فلا أرتوي ولا أشبع، إن هذه الحياة الفكرية العربية ليس لها مثيل في الدنيا، لأنها استمرت أكثر من خمسة عشر قرناً دون انقطاع ولم يكتب لأي لغة من لغات الدنيا أن عاشت كما عاشت لغة العرب، نقرأ اليوم الأدب الجاهلي، والإسلامي، والأموي، والعباسي، وبيننا وبينه هذه المئات من السنين، فنتذوقه، وكأنه قد قيل في أيامنا هذه، إنك لا تجد هذا عند أية أمة أخرى، إن تاريخ الحياة العقلية، أو اللغوية على الأقل لدى الأمم الأوروبية لا يعدو مئات قليلة من السنين، وقد لا يفهم الفرنسي المعاصر نصاً كتب في القرن الخامس عشر أي قبل خمس مئة سنة. أما نحن، فإننا نقرأ ما خلف العرب منذ أكثر من ألف وخمس مئة سنة، فنرى فيه الكثير من صور حياتنا اليومية".

الفصل الأول: الشرع الدولي في الإسلام

(الشرع الدولي في الإسلام) عبارة عن عنوان لرسالة تاريخية قانونية تقدم بها الدكتور نجيب الأرمنازي إلى  كلية الحقوق في جامعة باريس، فحصل بواسطتها على لقب دكتور في الحقوق بدرجة جيد جداً، ونشرت هذه الرسالة بالفرنسية، ثم بالعربية عام 1930 وتبحث هذه الرسالة في تكوين الدولة الإسلامية، وعلاقاتها الخارجية، وما يتصل بذلك من تاريخ الإسلام السياسي، وقواعد الشرع في الحرب والسلم، وكان هذا أول بحث علمي تاريخي من نوعه فيما نعلم..

ولقد كتب الأستاذ فارس الخوري مقدمة هذا الكتاب. والذي يطالع هذه المقدمة، يلمس الروح العلمية المتغلغلة في أعماق فارس الخوري، وتجرده وإنصافه، وأنه حينما يقول بالحكم الإسلامي، فإنما لواسع معرفته بأحكام الدين الإسلامي، والفرق بينها وبين أحكام أيّ دين سماوي آخر... وجدارة الإسلام وأهليّته للحكم دون غيره من الأديان.

وإن ما جاء في هذه المقدمة من أفكار عظيمة عن الشريعة الإسلامية، ومن مقارنة بينها وبين الشرائع، جدير بأن يطلع عليه كل مسلم، لأنه يسلّط الأضواء على أمور حاول المستشرقون والإعلام العالمي طمسها ومحوها من ذاكرة البشر.

ولذلك، فإننا سنعرض أهم الأفكار التي وردت في هذه المقدمة الرائعة للعالم فارس الخوري.

يقول الأستاذ فارس الخوري في هذه المقدمة:

.... (الشرع الدولي في الإسلام) بحث جديد لم يطرقه أحد من المؤلفين قبل اليوم. وسبب ذلك أن الشرع الدولي بالعرف الراهن لم ينشأ إلا مع الدول الأوروبية الحديثة، ولا ظهرت آثاره للناس إلا في التاريخ الحديث، في عصر الانبعاث، منذ القرن السادس عشر، فكان ذلك نتيجة طبيعية للمذاهب الحديثة التي اعتبرت كل دولة شخصاً حكمياً له وعليه من الحقوق والواجبات المتقابلة مثلما للأفراد وعليهم، بعضهم تجاه بعض. ولم يكن في التاريخ القديم والمتوسط دول يعترف بعضها لبعض بحق البقاء والاستقلال والمساواة، فمن البديهي ألا يكون هناك علم يسمى (علم حقوق الدول) ولا تشريع خاص لهذه الحقوق. ولذلك لا نجد في أوضاع الأقدمين ومؤلفاتهم الضخمة شيئاً صريحاً خاصاً بهذا العلم أو هذه الشريعة، لا عند الرومانيين الذين لم يتركوا صفحة من صفحات الحياة الاجتماعية إلا وضعوا لها قانوناً، ولا عند الفقهاء المسلمين الذين لم يدعوا شاردة ولا واردة إلا أحصوها.

وتابع فارس الخوري يقول في مقدمته:

عندما كان صديقي المرحوم فوزي بك الغزي يضع كتابه في حقوق الدول العامة، نبّهت فكره إلى وجوب إفراد فصل خاص للبحث فيما كانت عليه هذه الحقوق في الإسلام، وكنا نرى أن كل عربي يضع كتاباً في علم حديث، جدير بأن يجعل لمباحثه صفحة تاريخية يتناول بها ما وصل إليه أسلافنا العرب من موضوع تلك المباحث، فتحيا آثار السلف الصالح، ويسهل على أبناء هذا الجيل ومن بعده الوصول إليها واستيعابها، وقد عزم المرحوم فوزي بك على القيام بهذه المهمة، وإنجاز هذا العمل النافع غير أنه استوعر المسلك، بسبب ما يجب من فراغ الوقت، وإطالة التنقيب فأخرج كتابه خالياً من هذه الصفحات، وفي نيته أن يعود لهذا الموضوع، ويفرد له كتاباً خاصاً ولكن أعجلته الأيدي الأثيمة عن إخراج النية إلى العمل.

العلاقات بين الدول قديماً

الدول التاريخية كان بعضها دنيوياً قائماً على الغزو والفتح والاستعمار والسلب والنفع المادي، كاليونان والرومان والفرس والتتر، وهؤلاء كانوا يستبيحون لأنفسهم كل شيء عند النصر والغلبة، وينهضون إلى الغزو والاغتنام كلما اجتمعت لهم القوى الكافية لذلك، لا يمنعهم عهد ولا وازع آخر غير مؤيد بالسيف. وكان بعضها سماوياً كاليهود والإسلام ودولة البابا يعتمد أهلها في شرائعهم على ما يتلقونه من وحي السماء، وإلهام الإله، وكل منهم يعتبر غيره كافراً لا يساويه في هذه الدنيا، ولا يشاركه في نعيم الآخرة. ومع ذلك كانت الضرورات تقضي على أولئك الأقوام بتعيين علائقهم مع غيرهم من السلاطين والملوك، وباتخاذ خطط وأساليب للمعاملات معهم، كمناهج توجدها الحاجة، وتكيّفها المصلحة. ونزولاً على حكم هذه الضرورة والمصلحة، خرج سليمان بن داود على قواعد سيّدنا موسى القاسية، وعقد مع حيرام ملك صور الفنيقي عهد سلام وتجارة، كانا فيها ندّين متكافئين.

وكان ملوك إسرائيل ويهوذا يعاهدون ملوك آرام في دمشق وغيرهم من أمراء الشام ومصر وجزيرة العرب.

الضرورات هي التي توجد القواعد

والضرورات والمصالح والقوة في كل زمان توجد القواعد والعلائق بين القبائل والشعوب، وقد عرفت مبادئ هذه الحقوق، ولجأ إليها الأقوام منذ فجر المدنية، حتى بين القبائل، وهي بعد في ظلام الجاهلية. فمن ذلك لما خرج موسى الكليم ببني إسرائيل من أرض مصر، وصل إلى قادش في ملك أدوم عند الأطراف الشرقية من برية سيناء، وأراد المرور في أرض أدوم للوصول إلى أرض كنعان التي هو قادم لغزوها واحتلالها، وعرف أنه بحسب اصطلاح ذلك الزمان، لا يجوز له أن يمر غازياً في بلاد بدون إذن صاحب البلاد فأرسل رسلاً إليه يستأذنه، فلم يجبه إلى ذلك، وخرج إلى لقائه بجمع غفير، فتحول عنه، ومرة أخرى طلب مثل ذلك من سيحون ملك الآموريين فأبى عليه المرور، فحاربه وغصب أرضه..

فترى أن هذه القبائل العريقة في القدم، البعيدة عن المدنية، كان عندها منذ 35 قرناً شيء يشابه ما عند الدول  من الشرائع في القرن العشرين.

ألم يكن مرور الجيش الألماني في أراضي بلجيكا سنة 1914 سبباً لإعلان بلجيكا وإنكلترا الحرب على ألمانيا؟!.. وحقوق الدول الحديثة تعتبر السماح للجيش المحارب بالمرور إخلالاً بالحياد، وسبباً لإعلان الحرب.

ثانياً- بين شريعتي موسى ومحمد

وشريعة موسى تحتوي أظهر الأمثلة بين الشرائع الإلهية للشدة، فهي مبنية على القتل العام، ومحو سكان البلاد المفتوحة، سواء أكانوا أسرى حرب أم مسلّمين صلحاً. ولا فرق بين رجل مسلّح محارب، وشيخ أعزل وامرأة أو طفل، فالكل يذهبون طعام السيوف: "تمحو اسمهم من تحت السماء لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم تدريجياً لئلا تكثر عليك وحوش البرية".

والبون شاسع بين شريعتي موسى ومحمد عليهما السلام. فالأولى تأمر بالتقتيل بدون إنذار ولا عهد ولا صلح ولا دعوة إيمان. فلا يقبل من الأعداء التهود، ولا يعصمهم من القتل والفناء الإيمان، خوفاً من الارتداد فيما بعد، ولا يسمح لهم بالرحيل والجلاء عن بلادهم لتخلو لليهود الفاتحين خوفاً من استجماع القوى، والكر على الغاصبين، والثانية تأمر بدعوتهم إلى الإسلام، فإن قبلوا الدعوة، عصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال، وهذه دعوة دينية قبل كل شيء.

1 – ما يقوله الشرع الإسرائيلي

قال موسى (عليه السلام) لقومه: "كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية والبنيان، من نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم".

وهذه أيضاً خالفته بها الشريعة الإسلامية السمحاء، فتركت الأرض لسكانها، وفرضت عليها خراجاً، كما فرضت الجزية على السكان، لتموين المحاربين في الجيش، مقابل إقرار الأمن وإقامة العدل وحماية البلاد وهو عين ما تفعله كل سلطة عادلة حتى في هذه الأيام.

وهنالك في شريعة موسى عليه السلام قاعدة أخرى تطبَّق على البلاد والمدن البعيدة الخارجة عن الحدود المذكورة في الفقرة السابقة مما هو ضمن تخوم بني إسرائيل فقد جاء فيها:

"حين تقرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك أبوابها، فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، وعملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريماً".

ومعنى التحريم في هذه الآية وغيرها: القتل العام. فانظر يا رعاك الله إلى هذا الصلح، وإلى هذا القواعد.

أما حفظ العهود، ووجوب العمل بها في شريعة موسى، فهو محصور بالعهود المعقودة بين بني إسرائيل فقط. ولا يجب على الإسرائيلي أن يحتفظ بعهده مع الوثني التاعس، ولامع العدو المحارب، وهذا غير ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الوفاء بالعهد، وإنكار النكث والنقض. وأمثلة ذلك كثيرة.

2 - ليس عند اليهود آخرة

ثم إن شريعة موسى الكليم استهدفت أمور الدنيا فقط وليس في التوراة إشارة ما إلى خلود بعد الموت، أو ثواب في الآخرة على عمل صالح في الدنيا، بل كان ما فيها من هذا القبيل وعود بالمكافأة في الدنيا، كالوعد بطول العمر، والشفاء من الأمراض، وإعطاء النسل الصالح، وتكثير المال، وغلة الأرض، والانتصار على الأعداء وتوطئة أكناف المعيشة، وتمهيد سبل الرفاهية، والتسلط على الغير، وأمثال ذلك من الوعود الدنيوية الصرفة، وأما الذين يعبدون غير الرب، أو يرتكبون المنكرات المعدودة في التوراة، فهناك وعيد وتهديد بتسليط الأعداء عليهم، يغلبونهم، ويسلبون أموالهم ونساءهم، ومنع الأرض عن إعطائهم غلّتها، والسماء عن صبّ أمطارها، وإرسال الأوبئة عليهم لتهلكهم، وأمثال ذلك من مصائب الدنيا وآفاتها.

المقصود ما يؤمن به اليهود حالياً وليس ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام فالتوراة التي أقرها الإسلام لا تختلف عن القرآن في الإيمان بالآخرة والبعث والحساب والجزاء والعقاب.

3 - طبيعة الشرع المسيحي

ولم يضع السيد المسيح عليه السلام شريعة دنيوية، ولا تعرَّضَ لذلك تلاميذه الحواريون، وبقي أتباعهم في الدنيا مطلقي الأيدي، يواجهون كل زمان بما يناسبه من الشرائع والأحكام.

وبعد أن تخلّصوا من سلطة البابا الزمنية، وسائر رجال الدين، انقسمت شعوبهم إلى أقسام، بحسب عناصرها ولغاتها وحدود أرضها، وألفت دولاً تبادلت بينها الاعتراف بالحقوق القائمة على قاعدة المساواة، ونشأ عن هذا الاعتراف تلك القواعد التي ولدتها الحاجة والتعامل، وسمَّوها بالشرع الدولي، وصار كل شخص له جنسية واحدة ينتمي بموجبها إلى دولة، ويتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها مواطنوه، كما تتمتع دولته بكل حق يتمتع به غيرها. وبهذه العهود نشأت فكرة الوطنية الأرضية على أنقاض العصبية النسبية والجامعة الدينية، وصارت الأقاليم هي التي تربط البشر المقيمين فيها واحدهم إلى الآخر بدون نظر إلى دينه أو نسبه، وقبلت قاعدة المساواة بين المقيمين في أرض واحدة، كما قبلت هذه القاعدة بين الدول أيضاً، وكل دولة تعامل الأخرى بموجب قواعد حقوق الدول الخاصة.

4 - بين الشرعين الإسلامي والروماني

ويتابع الأستاذ فارس الخوري هذا البحث القيم فيقول:

أتينا على هذه المقايسة الموجزة بين الشريعتين الإلهيتين: الموسوية والمحمدية، المستندتين على كتابي التنزيل، التوراة والقرآن، وتبيّنّا الفروق البارزة بينهما. أمّا المقايسة بين الشرع الإسلامي والشرع الروماني مثلاً، فلا نراه يستقيم لنا، بالنظر لاختلاف الهدف والسنّة بين الشرعين. الأول منهما قائم على قواعد العدل المطلق، ومقتضيات العقول، والثاني على المصالح والمنافع الدنيوية، فيبنى على هذا التخالف أن الأساس في الشرع الإسلامي مصلحة الفرد في الدنيا والآخرة، وفي الشرع الروماني مصلحة الجماعة فقط. وهذه المبادئ ظاهرة آثارها في كل صفحة من صفحات هذين الشرعين العظيمين، تفرّق بينهما تفريقاً يتعاصى على المزج والتوحيد، حتى إن الحكيم يكاد يستنبط استنباط الحكم بالمسائل المعروضة في كل من الشرعين إذا اعتبر بهذه القواعد ورجع إليها. وفي الأعم الأغلب يكون ظنه يقيناً. مثال ذلك: مرور الزمان، إما أنه يسقط الحق، وإما أن يسقط الدعوى، فالشرع الإسلامي لا يمكن أن يقول بسقوط الحق، لأن الحق يبقى في الذمة، والفرد لا تبرأ ذمته إلا بالوفاء أو بالإبراء مهما مر من الزمان على الحق، ولذلك قال: إن الحق لا يسقط بتقادم الزمان، وإنما يمنع الحاكم عن سماع الدعوى، فلم يكتف الشارع الإسلامي بتأمين مصلحة الدنيا بل استهدف مصلحة الآخرة أيضاً، في حين أن الشارع الروماني اتخذ الجانب الآخر وقال: إن الحق المتروك يسقط، والساقط لا يعود، ولم يكترث بأثقال الذمة وعقاب الآخرة.

لذلك ترى أنه ليس من السلامة القول: إن أحد هذين الشرعين مأخوذ عن الآخر. وقد يكون المتأخر منهما استعان بسابقه للتذكير والجمع والتعريب، وإنما لم يعتمد عليه في التحليل واستنباط الأحكام، فإن له في ذلك منهاجاً آخر غير منهاج رفيقه. وإذا طالعت أقوال فقهاء الأمتين في إحدى المسائل، تجد كل فئة تعلل اجتهادها بطريقتها الخاصة، مراعية المبادئ المتقدم ذكرها، غير متأثرة بالأساليب وطرق التعليل التي سلكتها الفئة الأخرى، وهذا بحث واسع، وليس هنا موضع الإفاضة فيه، وقد أتينا بهذه الإشارة لنبين صعوبة المقايسة بين الشرعين.

ومن أين لأمير من أمراء القرون الوسطى غير مأخوذ بالعاطفة الدينية وغير حريص على سلامة الآخرة أن يجعل رائده تقوى الله في حروبه وغزواته، ويحرص على كل ما ينيله ثواب الخلود، والمرتبة العالية في الجنة بالتزام العدل والرحمة والبعد عما يشوب طهارة النفس وفضائل الأخلاق؟!.. ذلك ما نراه شائعاً بين أمراء المسلمين وقوادهم، وتجد أمثلته كثيرة، ومن أحسن ما نذكره في هذا القبيل أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد يقول: ".. ونحِّ منازلهم (جنودك) عن قرى أهل الصلح والذمّة فلا يدخلها من أصحابها إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحداً من أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتُليتم بالوفاء بها، كما ابتُلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم ففوا لهم". (نهاية الأرب ج 6 ص 169).

ففي هذا الأمر الصريح لا يكتفي أمير المؤمنين ابن الخطاب بالتوصية الحسنة بأهل الصلح والذمة، بل تجاوز في الرفق بهم العهود المقطوعة لهم، وفيها أنهم يضيفون عسكر المسلمين ثلاثة أيام. أما هو فأمر بتنحية العسكر عن قراهم حتى لا يصابوا بأذى ولا معرّة، وفي هذه الفقرة بيان يدلي به هذا الإمام العظيم عن ثقل وطأة الفاتحين على أهل البلاد، ومرارة نفس الغالب في عدم الاعتداء على مغلوبه، فقال لقومه: إنكم ابتليتم بالوفاء بحرمة أهل الصلح وذمّتهم، كما ابتُلوا هم أيضاً بالصبر على تغلبكم وتحكمكم بهم في بلادهم، فعليهم بالصبر وعليكم بالوفاء.

5 - أساليب التشريع في الأصول الدنيوية

أساليب التشريع في الأصول الدنيوية جارية على قاعدة التقنين ونشر القوانين من قبل صاحب السلطان الأعلى، بعد أن تقرّها هيئات نيابيّة، أو لجان منصوبة، أو شخص السلطان عندما يكون مستأثراً بالأمر، ولا يكون هنالك قانون واجب الطاعة، إلا إذا أمر بإنفاذه صاحب السلطان، وأيّده غرم العبث والمخالفة، وهذه الطرق كانت منذ القديم شائعة بين البشر في جماعاتهم الراقية. فنرى القوانين السلطانية في شريعة حمورابي وفي آثارالفراعنة المصريين وشريعة فارس المنعوتة في التوراة مثالاً للبقاء والدوام حتى ضربت بها الأمثال بأنها لا تقبل النسخ، وشرائع الدول والمدن اليونانية، والشرع الروماني الذي هو أعظم ما وضعه البشر في التاريخ القديم، وغير ذلك من الشرائع الباقية آثارها إلى  هذا الزمان. فلا يكون الشرع شرعاً مدنياً إلا إذا نشرته السلطة، وأوجبت على الناس إطاعته وإنفاذه تحت طائلة القصاص والمغارم المنصوص عليها فيه، وأما ما هو شائع منذ فجر التاريخ من أقوال الحكماء، وآراء الفلاسفة والفقهاء، مثل أفلاطون، وشيشرون، وجان جاك روسو، وأضرابهم، مما هو على ما فيه من سداد غير واجب الإنفاذ، ولا ملزم للناس إلا بطريق الاتعاظ وحبّ التحلّي بمزايا الحكمة وفضائل الرشد والصواب، فليس من القانون بشيء ولا يعد شرعاً مأثوراً، وإنما يكون في كثير من الأحايين مأخذاً جليلاً للشرائع ومستنداً متيناً للشارعين.

ثالثاً- أساليب التشريع في الإسلام

أما الشرع الإسلامي فلم ينشأ عن مجلس مستشرع، أو عن سلطان مستأثر، بل مصدره الأول أحكام القرآن الكريم، وهذه لم يُقْدم أحد منذ نزولها على تقنينها وإفراغها في قالب غير القالب الذي نزلت فيه، ولا كانت هنالك حاجة لإصدار أمر أمير برعايتها ووجوب إطاعتها، فقد أمر وحي الله بذلك، وهو خير الآمرين. ويليها ما نقله المحدّثون الصادقون عن سنة الرسول. فما فعله أو أمر به أو أجازه قبله المسلمون خطّة مسنونة، وحكماً مقبولاً. وما لم يرد عليه النص في الكتاب، ولا نقلت به سنّته، يرجعون به إلى الإجماع والقياس على أيدي الفقهاء المحقّقين من أصحاب المذاهب المقبولة.

ولم ينشأ في وقت من الأوقات القديمة شكل قانون واجب الإنفاذ، بل بقي أمر الأحكام محصوراً بآراء العلماء والفقهاء، وهؤلاء لم يكن لهم في الدولة عمل رسمي، ولا كانوا مكلفين من قبل صاحب السلطان باستنباط الأحكام، وإعداد الأنظمة لنشرها على العمال والناس للعمل بها.

كذلك بحث الفقهاء في أكثر الأمور، وأبدوا بها آراءهم، ولكن عملهم لم يكن إلا من قبيل التوسع في العلم، والإتيان على وجوه الاجتهاد المحتملة بالصورة الطوعية، أتوها متبرعين غير مدعوين إليها بأمر آمر. وقد قعد أمراء المسلمين عن القيام بمثل ما قام به يوستنيان من التقنين، وما فعله خلفاء آل عثمان في القرن التاسع عشر.

وهكذا بقي عمل التشريع متروكاً ليقوم به المتطوعون من علماء الدين، غير مندوبين إليه، ولا محاسبين عليه، وجلُّ ما تركته هو آراء شخصية لم يكن لها صفة التنفيذ الواجب تحت طائلة العقوبة المسنونة على المخالفين، كما هي الحال في قوانين هذا الزمان.

وكان الصلاح في العمل معتمداً على صلاح نفس العامل؛ إن كان تقياً ورعاً عدل في الناس، وأدى الأمانة، وإن كان فاسقاً فاجراً ظلم واعتدى، وكان عقابه على الله، فأحكام الشريعة جميعها كانت، من هذه الجهة، مثل حقوق الدول العامة في هذا الزمان، ليس لها قوة مؤيدة تضمن نفوذها وتجبر الخلق على إطاعتها.

أ - المسلمون وغير المسلمين في الإسلام

والشرع الإسلامي في عرف حقوق الدول العامة يقسم الدنيا إلى دارين: دار الإسلام، ودار الحرب، وقد أضاف بعضهم دار العهد. وفي عرف حقوق الدول الخاصة، يقسم البشر إلى أربعة أقسام، مسلمين وذميين ومعاهدين وحربيين فما كان من قواعده عائداً لمعاملة أهل دار الحرب يدخل في نطاق حقوق الدول العامة، وما كان عائداً لمعاملة أقسام البشر الثلاثة غير المسلمين، يشبه حقوق الدول الخاصة المعروفة في هذا الزمان.

وليس من المنتظر أن يجعل المسلمون لغير المسلمين في بلاد الإسلام نفس الحقوق التي للمسلمين في كل شيء. فهذه الدول الحديثة في عصر الحضارة الباهر الذي نحن فيه لا تمنح الأجانب النازلين في بلادها حق المساواة مع أبناء البلاد، فليس لهم حق التوظف، ولاحق الانتخاب، ولا حق احتراف بعض الحرف المخصوصة، ولا حق التنقل الحر، ولا حق التمتع المطلق بحماية القوانين واستثمار الحرية مثل الرعايا المحليين. وأنت تعلم أن اختلاف الدين في دولة الإسلام مثل اختلاف الجنسية في هذا العصر. والإسلام جنسية عامة لكل المسلمين في دار الإسلام، وقد بنيت الدعوة الإسلامية على وحدة الدولة، كما بنيت على وحدانية الله، ولذلك لم يقرر في الشرع وجود دول إسلامية متعددة، لكل واحدة ما للأخرى من الحقوق والاستقلال.

وعملاً بنصوص الشريعة الإسلامية الغراء، عن معاملة غير المسلمين في دار الإسلام... أن أهل الذمة بقيت لهم محاكمهم المذهبية، تفصل في النزاع بينهم في أمور الزواج والطلاق والنفقة والنسب والوصية والوقف والحضانة والإرث وتحرير التركات وسائر ما هو من الأحوال الشخصية أو من الخصومات الطائفية الصرفة التي تهمّ غير المسلمين. وقد كان للبطريرك في دمشق سجن متصل بالكنيسة يحبس فيه من يستحق التأديب من النصارى، ومرة حبس الأخطل شاعر بني أمية، وقيّده بسبب كثرة سكره، ولم يطلقه حتى شفع به الخليفة نفسه.

وأوصى سيدنا محمد بأهل الذمة فقال: لهم مالنا وعليهم ما علينا. ومن آذى ذمياً كنت خصمه يوم القيامة. وأمّا سيّدنا موسى فقد جعل فروقاً عظيمة في المعاملة والحقوق بين اليهودي وغير اليهودي فقال في التوراة: "لا تقرض أخاك الإسرائيلي بربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء ممايقرض بربا. للأحنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا". وقس على هذه القاعدة سائر القواعد الاجتماعية في المعاملات والعقوبات فكان الحكم في الشريعة الموسوية يختلف باختلاف أشخاص الخصوم والعقوبة تخفّ على اليهودي وتشتدّ على الأجنبي مع وحدة الجرم. وجاء في موضع آخر من التوراة: "اليهود يقرضون أمماً كثيرة وهم لا يقرضون" (تث 15: 6) ويسقط الدَّين بعد مرور سبع سنين عن العبراني، وأمّا عن الأجنبي فلا يسقط أبداً، ولا يمرّ عليه الزمان.

2 - فكرة العدل الراسخة في نفوس المسلمين

ويتابع الأستاذ فارس الخوري في المقدمة المذكورة:

....كثير من الأمور التي تستوقف نظر المطالع، فيعجب عندها من فكرة العدل المجردة الراسخة في نفوس زعماء العرب، وحرصهم على النهج القويم، والصراط المستقيم، في أفعالهم وصلاتهم مع محاربيهم ومعاهديهم، من ذلك: الأصول التي وضعت للنبذ عند جوازه، فإذا فسخوا الصلح وأصبحوا في حالة حرب، لا يناجزون خصومهم إلا بعد إعلامهم  بالفسخ ومضي الوقت الكافي ليخبر الملك رعاياه في أطراف البلاد، وعند تخوم المسلمين، حتى إذا هاجمهم هؤلاء لا يكونون مأخوذين على غرة أو غفلة. وهذه درجة من الإنصاف قصّر عنها أهل زماننا، مع ما عندهم من حقوق الدول، وقواعد الحرب، ومحكمة العدل؛ فإن دول العصر الحاضر، تبدأ بالهجوم وسائر أعمال الاعتداء، حالما تعلن الحرب، بدون أن تكون مجبرة على الانتظار بعد الإعلان، حتى إن بعضها تهاجم قبل إعلان الحرب بصورة رسمية، كما فعلت اليابان بالمدرعات الروسية الراسية في ميناء سيؤول في كوريا سنة 1904 وكما فعلت تركيا بهجوم أسطولها على الأسطول الروسي في (سيباستبول) سنة 1914. ومن هذا القبيل: قاعدة عدم أخذ العامة بجرائر الخاصة، وهذا مستند للآية الكريمة: "ولاتزر وازرة وزر أخرى" فنهوا عن تحميل المغارم أهل القرى بالجملة لأجل الجرائم التي يقترفها أفراد منهم. وقد  لام الإمام الأوزاعي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس على تنكيله ببعض نصارى لبنان، عقاباً لهم على عصيان فريق منهم. وأنت ترى أن حكومات هذا العصر تفرض الغرامات على القرى، وتأخذ الطائعين منها بجريرة العاصين. وأمامنا حوادث التقتيل والتهجير في القرن العشرين بمرأى أوروبا ومسمعها، وإن شئت فقل برضاها، تدلّنا على أن العرب في عنفوان دولتهم، كانوا أقرب إلى العدل والإنصاف من أكثر أهل هذا الزمان. وقد شرعوا أيضاً أن خروج الشراذم من المعاهدين، واعتداءهم على بلاد المسلمين بدون إذن ملكهم، لا يُعَدُّ نقضاً للعهد، ولا يوجب الغرم على الملك المعاهد، أو على قومه بصورة عامة، وهذا مبلغ من الإنصاف جدير باحترام أرقى العصور، وأعلقها بالإنسانية والعدل. ومازالت الدولة غير خاضعة لهذه القاعدة، ولا عاملة بها. فقد حملت إيطاليا الغرم دولة اليونان من بضع سنين بسبب اعتداء بعض اليونان على البعثة الإيطالية في اليابان، ففرضت عليها غرامة خمسين مليون فرنك مع أشياء أخرى، واحتلت جزيرة كورفو ضماناً لإنفاذ هذه المطاليب، ورأينا 

مؤتمر السفراء يقرّ إيطاليا في هذا العمل الذي أنكره الأوزاعي وغيره من علماء العرب وفقهائهم. وفعلت إنكلترا مع الحكومة المصرية في مقتل السر لي ستاك باشا فأخذتها بجريمة بعض الشبان المتهوسين. وجرى في بلاد الشام حوادث شتى من هذا القبيل في أثناء الحرب العامة وبعدها في أيام العصابات وأيام الثورة الأخيرة، كما أخذت النمسا حكومة الصرب بجناية اغتيال ولي العهد بيد فتى صربي، وكان ذلك سبباً مباشراً لاضطرام الحرب الكونية التي لم يأت على البشر أفجع منها ولا أفظع.

ومن المبادئ العربية الإسلامية، اجتناب قتل النساء والأطفال، ولو تترس المقاتلون بهم، وهذا أيضاً تقاصرت عنه المدنية الحديثة، فإن وقائع الحرب العالمية، وحادثة دمشق سنة 1925 و1926 وما لا يحصى غيرها من فواجع القتال، أدلة ناطقة على أن قواعد حقوق الحرب التي تحظر على المحاربين إطلاق القنابل على الأماكن غير المحصنة لا توجد إلا في بطون الأوراق والدفاتر.

ومن قواعدهم السنية وجوب ردّ المستسلم إلى حصنه قبل منابذته، وذلك عند تعذر إيفاء شرطه، فإذا سلّم إليهم عدوّهم على أن يخرج إليهم من حصنه، ويدفع إليهم سلاحه، وينزل على حكم رجل معيَّن في دمه وماله، وبعد خروجه، مات ذلك الرجل، وأبى النزول على حكم سواه، يرد إليه سلاحه، ويعاد إلى حصنه، ويمنح كل الحالات التي كانت له قبل التسليم، ويعلن إليه النبذ، ويمهل ليستعد للقتل، وهذا أسلوب يعسر أن يقول به فاتح يرى أن الحرب خدعة.

ومن تفوقهم على أهل زمانهم، منعهم قتل ما في أيديهم من الرهائن إذا نقض أصحابهم العهد، ولو قتل عدوهم رهائن المسلمين فقالوا وفاء بغدر خير من غدر بغدر معتمدين في هذه القاعدة الجليلة على حديث للنبي يقول: "أدِّ الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك" وهذا غير ما كانت عليه الشعوب الغابرة من مقابلة الشر بالشر وغير ما جاء في الآية: "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" ولعل هذا جاء لتجويز دفع الاعتداء بمثله وليس لوجوبه، ومقابلة الشر بالخير أجدر بالكريم، وأقرب للتقوى كما جاء في آية ثانية(31).

 الفصل الثاني

فارس الخوري والإسلام السياسي

الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها، يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود، ويحدد مكانة الإنسان في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجود الإنسان. ويشمل التنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي، وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنظام الأخلاقي، والينبوع الذي ينبثق فيه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي، وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي، وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..

إن أعداء الإسلام في عصرنا لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن وحدة الأمة فريضة، وأن النهوض الاقتصادي فريضة، وأن إعداد القوة فريضة، وأن التقدم العلمي فريضة، وهذا ما يتناقض مع أهداف العدو الذي يستمر في نهب ثروات العالم الإسلامي، ويسعى لإبقائه متخلفاً جاهلاً ممزقاً فقيراً.

فالإسلام السياسي كما يعرّفه الأستاذ محمد سليم العوا هو : (إصلاح الدنيا بالدين) ودعاة الإسلام السياسي هم قوم يرون أن من حقهم أن يصلحوا شؤون حياتهم، مهتدين في هذا الإصلاح بما ثبت في دينهم من مبادئ وقيم ومثل عليا. وهذه المجموعة التي تحاول هذا الأمر هي التي اصطلح حديثاً على تسميتها بالإسلام السياسي(32)، أو (دعاة الإسلام السياسي) وإذا كان هذا الإصلاح لم يكن معروفاً في أيام فارس الخوري، ولكن دعاته كانوا على الساحة العربية والإسلامية ملء السمع والبصر، فما كان رأي فارس الخوري فيهم؟ وما كان موقفه منهم؟.

أولاً: المسلمون أمة واحدة

قال فارس الخوري: (إننا نستطيع أن نثير بهذا الإسلام قوى خطيرة جبارة ليس في العالم الإسلامي فحسب، وإنما في جميع أقطار الدنيا، فالمسلمون بروابطهم الدينية الوثيقة، واتجاههم نحو قبلة واحدة، وتأديتهم مناسك حج واحدة، وفروض صيام، وصلوات، وعبادة واحدة، وإيمانهم بكتاب واحد، وعملهم بسنة نبي واحد، إنما هم يشكلون أمة واحدة متماسكة مفروضاً بها أنها تتعاون على البر والتقوى، والعدل والإحسان، وإن لم تكن كذلك تنتفي عنها صفة الإسلام. هذه الأمة الإسلامية إذا ما أثيرت في أفرادها العاطفة الدينية بشكل جيد، وأحسن تسييرها، فباستطاعتها أن تغير مجرى التاريخ).

ولقد روى مفتي فلسطين محمد أمين الحسيني عن فارس الخوري فقال:

"في صيف عام 1959 زار السيد محمد ناصر رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق مدينة دمشق، وأراد مقابلة فارس الخوري ليشكره على جهوده القيمة في مساعدة أندونيسيا على دخولها عضواً في الأمم المتحدة فيما كان الخوري رئيساً للوفد السوري.

وكان الأستاذ فارس الخوري في مصيفه في (بلودان) فدعا الرئيس الأندونيسي ومن معه من وزراء وسفراء، ودعا عدداً كبيراً من الزعماء السوريين وغيرهم من كبار المصطافين في بلودان. فلما وصل ضيف الشرف الرئيس الأندونيسي ومن معه فوجئ الأستاذ فارس الخوري بأنهم يحدثونه باللغة العربية الفصحى، فعجب، وسألهم: أين تعلموا اللغة العربية؟ فأجابوه: إنهم تعلموها في أندونيسيا حيث تقوم ألوف من المدارس العربية المختصة بتعليم اللغة العربية، فقد جعلت اللغة العربية لغة التدريس الأساسية لجميع العلوم. فأعجب فارس الخوري بما سمع، وخاطب الحاضرين من  المدعوين العرب قائلاً: (ما أعظم رصيد الأمة العربية الثقافي في البلاد الإسلامية، وما أجدرنا نحن العرب، المسيحيين منا والمسلمين، أن نعض بالنواجذ على صلاتنا بالأقطار الإسلامية، وأن نوثق علاقاتنا بمئات الملايين من سكانها الذين يكنّون لنا أصدق مشاعر الحب والولاء، فإن لنا بذلك فوائد عظيمة، ثقافية، وسياسية، واقتصادية، وإن واجب الأمة العربية أن تعي هذه الحقيقة، وتعرف كيف تفيد من هذه الكنوز الثمينة المدخرة لنا في أقطار العالم الإسلامي).

ويروي الأستاذ محمد الفرحاني عن حديث للأستاذ فارس الخوري في 7 من شباط 1959 قال فيه: "لا حياة للعرب ولا قوة لهم بغير الإسلام. هذا أمر أنا أؤمن به. ولقد كنت في هيئة الأمم المتحدة منسجماً كل الانسجام مع وفد الباكستان وغيره من الوفود الإسلامية، وكان الباكستانيون يدافعون عن قضايانا بأشد من الروح التي يدافعون بها عن قضاياهم... إنهم يحبّون العربي حباً عظيماً، بل يقدّسونه تقديساً.)

ثانياً: الإسلام دين ونظام متكامل.

وفي نقاش بين الأستاذ فارس الخوري والأستاذ عبد الصمد الفتيح الذي شغل منصب الوزارة ومنصب نائب رئيس مجلس الشعب، قال السيد الفتيح: لقد انتشر بين شعبنا الفساد والتحلل الخلقي وموت الضمير، فمن المستحيل تطبيق أحكام الإسلام على أفراده. فأجابه الأستاذ فارس الخوري: (نحن بحاجة لحكومة حازمة تؤمن بالإسلام كدين ونظام متكامل، وتعمل لتطبيقه فكما أن الشيوعية تحتاج لدكتاتورية فالإسلام أشد حاجة لمثل ذلك. ومن ذا الذي يرضى ضميره ويطمئن قلبه إلى سلامة أمته، وكيان بلده، وهو يعلم أن التحلل والفساد منتشران بدرجة يصعب معها صدُّها وإيقاف تيّارها... ومن ذا الذي ينكر على المسؤولين فيه مكافحة ذلك التحلل، وذلك الفساد بشريعة هي من تلك الأمة، وفيها؟!!

ثالثاً- ضرورة تبني الدولة تطبيق أحكام التشريع الإسلامي:

روى السيد مراد زكي المرادي: (في عام 1954 زرت الأستاذ فارس الخوري في منزله، وكان عنده بعض النواب، منهم نعيم الأنطاكي، وعلي الحياني، وأحمد قنبر. وكانوا يتناقشون حول مايراه فارس الخوري من ضرورة تبني الدولة لتطبيق أحكام التشريع الإسلامي بنظام الحكم القائم، وبعد أخذ ورد قال فارس الخوري:

(إن خير قانون قُدِّم إلى مجلس النواب السوري منذ أن دخلت هذا المجلس، هو القانون الذي تقدم به المرحوم الشيخ عبد الحميد الطباع نائب دمشق، والذي كان عند تقديمه أضحوكة أغلبية النواب، لاعتقادهم بعدم إمكان تطبيق مثل هذا القانون، مع تقدم المدنية في عصرنا الحاضر، وكان المرحوم الطباع قد تقدَّم به ليحلّ محلّ القانون المدني).

وأخرج فارس الخوري نسخة من مشروع القانون المذكور، يحتفظ بها، وعرضها على الموجودين ثم قال: "تذكرون، ولاشك، عندما تضعون الموازنة العامة للدولة، المبالغ الطائلة التي تخصص للأمن العام، وللشرطة، وللدرك، وللمحاكم، رواتب ونفقات... فلو طُبِّق الشرع الإسلامي، وقطعت يد في حلب مثلاً... وجُلِد آخر في دير الزور، ورُجِم ثالث في دمشق، وكذلك في بقية المحافظات، لانقطع دابر هذه الجرائم، ولتوفّر على الدولة ثلاثة أرباع هذه الموازنة".

واستدرك فارس الخوري يقول:

"في العهد العثماني كان في دمشق ثلاث محاكم: شرعية، وصلحية، تنظر في الدعاوي الجزائية والبدائية، وكان قضاة هذه المحاكم يقضون أغلب أوقاتهم في مراكز عملهم بدون عمل... فإذا قسنا ذلك الظرف، وقارنّاه بظرفنا الحالي، وجدنا أن السبب في كثرة المحاكم اليوم، يعود إلى تدنّي الأخلاق، وانتشار الفساد، وعدم الاكتراث بما تفرضه الدولة من عقوبات غير رادعة ولا زاجرة، لعدم تطبيق التشريع الإسلامي في الحكم".

وأثناء قيام الوحدة بين سورية ومصر كان يوماً في مجلس فيه عدد من الوزراء والوجهاء السوريين، ومن بينهم القسيس البروتستانتي داود قري فقال فارس الخوري -كما يروي الفرحاني-: "أنا مسيحي، ولكنني أجاهر بصراحة أن عندنا النظام الإسلامي، وبما أن الجمهورية العربية المتحدة بأكثريتها الساحقة مسلمة، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع!!" فقلت له: (ولكن هنالك بعض المسلمين الذين لا يعتقدون بسهولة تطبيق النظام الإسلامي اليوم، ويتوجسون خيفة من أنهم لو عملوا لتطبيقه ديناً ودولة لتألبت عليهم دول الشرق والغرب".

فأجاب فارس الخوري "يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه أنه إسلام، كما يطبّق اليوم حكامنا الشيوعية أولاً بأول، دون أن يعلنوا لأحد بأنهم يطبقون الشيوعية، بل نراهم يبتدعون لما يطبّقونه الأسماء والشعارات والألقاب" وقد ذكرت هذا الحديث أمام الأستاذ عصام العطار عندما التقيت به في مجلس الأستاذ محمد محمود الصواف المراقب العام للإخوان المسلمين في العراق، فدهش الأستاذ العطار، وكاد لا يصدق ما أرويه، لو لم يؤيدني الأستاذ محمد المبارك الذي كان حاضراً(33).

مواقف فارس الخوري مع الإخوان:

1 - كانت محكمة الثورة المصرية برئاسة جمال سالم (وهي محكمة استثنائية لا تتقيد بقوانين الإجراءات وأصول المحاكمات)  قد أصدرت أحكام الإعدام بحق عدد من قادة الإخوان المسلمين في مصر عام 1954 ووقفت الشعوب العربية وحكوماتها مستنكرة هذه الأحكام، وانطلقت المسيرات الشعبية تطالب بتخفيف هذه الأحكام..

وقد أعلنت الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية وجميع فئات الشعب السوري وحكومته استنكارها لهذه الأحكام.

وكان تجاوب الأستاذ فارس الخوري رئيس الوزارة السورية مع الشعب السوري ومع  حكومات وشعوب الدول العربية عظيماً.

وبدافع من إنسانيته ووضوح جذور العدل في أعماق نفسه عرض الأستاذ فارس الخوري وساطته الشخصية، بالإضافة لوساطة حكومته والشعب السوري، برئيس جمهوريته، ومجلسه النيابي، وفئاته وأحزابه، وواضعاً كرامته الشخصية كرجل يحفظ له المصريون أخلد الذكريات.. لقاء تخفيف هذه الأحكام... فلم يُجْدِ كلُّ ذلك نفعاً، ونُفِّذت أحكام الإعدام بحقّهم، وكان لذلك أثر كبير في نفسه لم يزايله بقية عمره(34).

2 - على أثر محنة الإخوان المسلمين في مصر على يد جمال عبد الناصر، لجأ إلى سورية أربعة من أقطاب الإخوان المسلمين، كلاجئين سياسيين هم:

1 - عبد الحكيم عابدين: الأمين العام للإخوان المسلمين في وادي النيل.

2 - سعيد رمضان عضو مكتب الإرشاد.

3 - سعد الدين الوليلي عضو مكتب الإرشاد وقائد جوالة الإخوان المسلمين.

4 - كامل إسماعيل الشريف عضو مكتب الإرشاد وقائد مجاهدي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين.

ولقد أقدم مجلس قيادة الثورة المصري على نزع الجنسية المصرية عنهم، مخالفاً كل عرف وقانون دولي، وراحت الحكومة المصرية تضغط على الحكومة السورية لتسليمها هؤلاء اللاجئين. وكان رئيس الوزارة السورية في ذلك الوقت الأستاذ فارس الخوري في وزارته الرابعة، فردّ على الحكومة المصرية بالحجج القانونية، ومنها، أن الحكومة المصرية لم يَعُدْ لها أيّ حق بأن تطلب تسليم هؤلاء الرجال، بعد نزعها الجنسية المصرية عنهم، لأنهم لم يعودوا من رعاياها، فضلاً عن عدم جواز تسليم اللاجئين السياسيين، وتساءل عما سوف يقوله الناس عنه وهو القانوني الضليع، وعضو لجنة التشريع الدولي وهو يخالف أبسط المفاهيم والقوانين الدولية بتسليم لاجئين سياسيين نزعت عنهم الجنسية إلى حكومتهم التي تطالب بهم.

ولكن الحكومة المصرية ظلت راكبة رأسها وراحت تضغط عليه ضغطاً شديداً لكي يسلمها إياهم.

فلما أعيته الحيلة قال لهم: (إنكم تعلمون أنني رجل مسيحي أتولَّى الحكم في بلد إسلامي، يتأجج حماسة للدفاع عن هؤلاء الإخوان وسوف يذبحني أهل الشام في بيتي إذا سلّمتهم لكم، انتقاماً لهم، وسيوجد بين الناس من يتّهمني بأنني إنما سلّمتكم اللاجئين بدافع من تعصّبي لنصرانيتي... فأرجوكم ألا تحرجونني وتسببوا لي الأذى من بني وطني، بعد أن بلغت (أرذل العمر). وعندها كفَّ المصريون عن المطالبة بالإخوان المسلمين اللاجئين(35).

3 - لما قامت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 كان لفارس الخوري مكانة مرموقة عند جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وعبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة المكلف بإدارة الحكم في الإقليم الشمالي (سورية).

لذلك رأى فارس الخوري أن من واجبه الوطني والقومي أن يقدّم النصيحة إلى المسؤولين عن الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، فأرسل رسالة إلى المشير عبد الحكيم عامر، حملها الأستاذ محمد الفرحاني، وسلّمها إلى المدير العام لمكتب نائب رئيس الجمهورية العقيد الركن أحمد الحنيدي، ومما جاء في هذه الرسالة: "من أجل مكافحة الأساليب الهدامة، أعتقد أن وجود الإخوان المسلمين في الحكم ضمان لتحقيق هذه النتائج، وتأمين الشعب على سلامة عقائده).

وجاء فيها:

"من الخطأ القول: يجب على الإخوان المسلمين الابتعاد عن المطالبة بالحكم، بل يجب أن نرجوهم ونلحّ في الرجاء ليقبلوا الاشتراك في الحكم، وأنا شخصياً كنت كلما دُعِيتُ إلى تأليف وزارة، أسعى جهد طاقتي لإدخال واحد من الإخوان المسلمين في الحكم، ويمكن سؤال الأستاذ محمد المبارك كم رجوته وألححت في الرجاء كي يقبل الاشتراك معي في الحكم بوزارتي الأخيرة عام 1954"(36).

ويروي الأستاذ محمد الفرحاني أن فارس الخوري لم يكتف بطلبه من عبد الحكيم عامر، بأن يسلم الحكم للإخوان المسلمين، وإنما قال أكثر من مرة في أحاديث خاصة جرت معه، وفي أحاديث خاصة جرت له مع غيره من زواره بوجوب تسليم الإخوان المسلمين حكم البلاد. وهو لا يكتفي بإلقاء النصيحة كلمة مجردة، بل إنه يحلل ويقايس ويقارن بين مختلف الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما يحتويه كل نظام من عدالة يؤملها البشر للعين بهناءة وسلام.. ثم يخلص إلى القول بأن الإسلام كان ولا يزال وسيظل أفضلها جميعاً(37).

           

الهوامش :

 (28) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 123 - 146

(29) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 212 - 214

(30) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 291 - 318

(31) المصدر السابق: 273 - 287

(32) مجلة الوطن العربي العدد 1058 (13/ 6/ 1997)

(33) فارس الخوري وأيام لا تنسى: ص 265 - 270

(34) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 152 - 164

(35) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 467- 468

(36) نفسه: 270

(37) نفسه: 265