الشيخ محمد المجذوب

الشيخ محمد المجذوب

ولد عام 1907 بمدينة طرطوس إحدى محافظتي الساحل السوري في بيت متدين يعمل في التجارة وله صلة بعلوم الدين والعربية .

·تلقى دراسته الأولية في الكتاب ثم في مدارس الدولة العثمانية . ثم على الشيوخ . ومن ثم مضى في طلب المزيد من العلم والثقافة معتمداً بعد الله على جهده الشخصي .

·بدأ حبه للمطالعة منذ طفولته إذ كان يستأجر الكتب ليقرأها على ضوء السراج وفي مهب الرياح اللاسعة ، وأهله نيام ، واستمرت المطالعة دأبه إلى يومه هذا .

·توفي والده وهو في الخامسة عشرة فتحمل عبء الأسرة وحده ، وفي السادسة عشرة تم زواجه وبدأ الإنجاب حتى أصبح له اليوم قرابة السبعين من أبناء وأحفاد . وقد اضطر لقضاء شبابه كله في الكدح بمختلف الأعمال للنهوض بمسئولياته نحو أخوته وأبنائه .

·شارك في نضال وطنه بوجه الفرنسيين ، وعانى من أجل ذلك غير قليل من السجن والاضطهاد.

·في مطلع عهد الاستقلال ـ 1936 ـ بدأ عمله في سلك التعليم ، وما زال يتدرج خلال مراحله حتى التحق بخدمة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مدرساً من عام 1383 حتى العام 1403هـ ..

·دخل ميدان الإنتاج الأدبي والفكري قبيل العشرينات من عمره بقصيدة وطنية نشرتها إحدى الصحف المحلية ، ثم برسالة يرد بها على دعاة النصرانية بعنوان (فضائح المبشرين) وهكذا حتى بلغت مؤلفاته المطبوعة والمشرفة على الطبع قرابة الخمسين ما بين شعر وقصص وبحوث ثقافية تنطلق جميعها من الرؤية الإسلامية ، وتنعكس خلالها أحداث عصره في سورية وعلى مستوى عالمه الإسلامي .

·معروف بأنه من أوفر المدرسين نصيباً من حب طلابه المنتشرين في مختلف أنحاء العالم وفي نطاق الأدب يقول عنه الدكتور شوقي عبد الحليم حمادة ـ أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهرـ أنه (الأديب النابه ، والقاص البارع ، والشاعر العملاق ، والخطيب المفوه ، والكاتب الموهوب .. تتميز آثاره في مختلف حقول المعرفة بأنها دائماً حديث القلب إلى القلب ، لأنه من قلم مجاهد يصدع بكلمة الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم ، فهو لذلك مرتاح الضمير مطمئن القلب ، على الرغم من مسئوليته التي تنوء بها العصبة أولو القوة)..

عملي في نطاق الدعوة الإسلامية ..(2).

برأيي أن العمل للدعوة ينطوي على جانبين :

أحدهما : انطلاق حر لا يقيده إلا الالتزام بحقائق الإسلام ، فالسلوك الصحيح ، والدرس المستقيم على ضوء الإسلام ، والمقالة والقصيدة والقصة .. وما إلى ذلك من وجوه النشاط المطبوع بروح الإسلام .. كل ذلك من العمل لخدمة الدعوة ..

وفي كلا الجانبين عملت ولله الحمد ..

فأنا نشأت في بيت ملتزم بأركان الإسلام عبادة وسلوكاً .. وأول ما بدأت تعليمي في الكتاب حيث يسيطر القرآن الكريم والحديث الشريف والنصوص ذات المعاني الإسلامية .

وأذكر أني كنت في سن الحداثة ، ولما أتجاوز الثانية عشرة من العمر، أقوم بصلاة التسابيح في الليل وكل ذلك من أثر النشأة الأولى ثم انتقلت إلى المدرسة التركية في العهد العثماني فاستمر هذا الجو هو المسيطر..

ولما أقبلت على المطالعة الحرة لم أبعد عن هذه الخطة ، إذ كانت الكتب التي أقرأها منطلقة من هذا الاتجاه .. وفي مقدمتها مجلة المنار.. وكتب محمد عبده ومحمد فريد وجدي والرافعي وأمثالهم ، ومن شأن هذا كله أن يضبط خطاي في الطريق الإسلامي .

ثم جاءت الحركات الوطنية في مقاومة الانتداب وفي سبيل الاستقلال فشاركنا فيها من منطلق الروح الإسلامي نفسه . وضاعف من شعورنا هذا ما عانيناه من مضايقات الفرنسيين وأعوانهم في السجون وغير السجون .. وفي هذا الجو بدأت أنشر أفكاري الإسلامية في مختلف الصحف سواء عن طريق المراسلة أو المقالة أو الشعر أو القصة ..

ولقد قضيت في التعليم ما يزيد على أربعين سنة درست خلالها العربية والأدب والسيرة النبوية والحديث الشريف ، ملتزماً في كل ذلك الخط الإسلامي ..

وأخرجت كذلك قرابة الخمسين من الكتب حتى الآن لا أذكر واحداً منها في عزلة عن هذا الخط .

وحسبي أن اذكر أن أول مؤلف أخرجته في الثلاثينات كان كتباً بعنوان (فضائح المبشرين) أرد به على تهجمات واحد من دعاة التبشير كان نصيرياً فاعتنق البروتستانية ونشأ في مدارسهم مشبعاً بالحقد على الإسلام ونبيه ، وقد انتهز فرصة الحماية الفرنسية فانطلق ، كالسكران الذي يقول : (أنا أعمى ما بشوف..) فوجدت نفسي مدفوعاً للتصدي له فكان من ثمرة ذلك الكتيب الذي أشرت إليه ..

هذا عملي في الجانب الحر من خدمة الدعوة ، ولا أزال بعد الفراغ من التدريس بالجامعة الإسلامية ماضياً في طريقي أكتب البحوث ، وأؤلف الكتب ، ويزورني طلبة العلم رغبة في الفائدة فلا أفارق ذلك الخط لأنه جزء لا يتجزأ من وجودي ..

أما الجانب الآخر من خدمة الدعوة فهو القائم على التعاون في نطاق منظمة إسلامية معينة . وهو ما قدر لي أن أشارك فيه مع نخبة من خيرة العاملين في هذا المضمار، وفي مقدمتهم المغفور له إن شاء الله الدكتور مصطفى السباعي والأستاذ محمد المبارك رحمه الله ، والأستاذان عصام العطار والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، ومن لا أحصيهم عدداً من رجال الدعوة في سورية ..

أول ما عرفت الأستاذ المبارك يوم قدم علينا مفتشاً في أول متوسطتين للذكور والإناث ، فكانت مبتدأ لصداقة استمرت حتى وفاة أبي هاشم قبيل ثلاثة أعوام في المدينة المنورة ، تغمده الله برحماته ..

أما المرحوم السباعي فقد عرفته أولاً عن طريق المقالات التي كتبها في مجلة التمدن الإسلامي عن خميس المشايخ ، والظواهر غير الإسلامية التي كانت ترافق ذلك الموسم في حمص كل عام ، فكان لمقالاته هذه أثرها الفعال في القضاء على تلك البدعة السيئة ..

ثم لقيته شخصياً في حفل خطابي أقامته جمعية الشبان المسلمين في طرابلس لبنان حيث ألقى كل منا محاضرة إسلامية .. ومن هنا بدأ تعاوننا في سبيل الدعوة .. واستمر هذا التعاون طوال سنوات كانت مفعمة بالأحداث والمتاعب لأن الجو الذي أظل هذا العمل كان يمثل الاضطراب الذي خض الوجود السوري عن طريق التيارات السياسية المختلفة التي تفجرت منذ قيام الكيان الإسرائيلي ..

ومع قسوة هذا الجو مضينا في طريقنا نبذل الجهود المضنية في إحياء الروح الإسلامي وإيقاظ الوعي، وتعميق الانتماء إلى منهج القرآن والسنة .. وقد بدأنا ذلك في طرطوس بالتعاون مع نخبة من شبابها وبلغنا مرحلة لا بأس بها من النجاح ، على الرغم من العقبات التي كان يقيمها في طريق الدعوة بعض ذوي الأغراض المشبوهة ، يريدون بذلك إقصاء الشباب المسلم عنها ، ولكن استجابة هؤلاء الشباب كانت أكبر من دسائسهم ..

وشاء الله أن أنتقل إلى اللاذقية للتدريس في الكلية الوطنية الأرثوذكسية ، فكلفت الإشراف على مراكز الدعوة كلها على امتداد الساحل ، وكان الجو السياسي باللاذقية أقوى منه في طرطوس ، إذ كانت التيارات الحزبية تعمل بكل قواها في المدارس ، وكلها على اتفاق في معاكسة التيار الإسلامي ، وبصعوبة كبيرة استطعنا ضبط أعصاب الشباب إلى أقصى حد ممكن ، ولكن هذا كان يكلفني وإخواني مشاق تذهب بنومنا وراحتنا ، ومع كل هذه المعوقات استطعنا بفضل الله أن نحقق الكثير من النجاح في نطاق التوعية الإسلامية ، وتقوية روابط الأخوة بين الشباب ..

ولكن التموجات السياسية العامة بلغت ذروتها في إفساد الرؤية إذ وصل إلى قمة السلطة عبد الحميد السراج وعفيف البزرة ، وكلاهما من ألد أعداء الدعوة الإسلامية وانتشرت الدعايات المرعبة تكتسح الجماهير عن غزو مرتقب من قبل الأسطول السادس والجيش التركي ، وارتفعت اللافتات في كل مكان تحمل عبارة (لن تمروا ..) ثم وزعت الأسلحة على الشعب وأقيمت الدورات التدريبية عليها ، وكان لشباب الدعوة مشاركة في ذلك فتسلموا السلاح وانتظموا في التدريب ، ولكن ما إن استقر في أيديهم هذا السلاح حتى صدرت الأوامر بسحيه منهم .. ولم يعد ثمة من شك في أن ثمة مؤامرة يراد بها القضاء على شباب الدعوة بعد تجريدهم من وسائل الدفاع عن النفس !..

ولكن الله شاء غير ما يشاءون فانتهى هذا الوضع بتسليم أزمة البلاد إلى جمال عبد الناصر، فكانت تلك الوحدة المرتجلة فرصة ردت بعض الأمن إلى القلوب ، حتى فاجأها الانقلاب الثوري ، فرجعت البلاد إلى ما كانت عليه إلى أن صارت أخيراً إلى ما هي عليه الآن ..

على أن هناك أحداثاً لا يحسن إغفالها عند الكلام عن تاريخ الدعوة في سورية أثناء تلك الظروف ..

تذكرون كيف أخرج الدكتور السباعي من سورية إلى لبنان ، وعهد بالأمر في غيابه إلى فئة من الشباب تتولى تسيير الحركة بطريقة سرية ، وقامت هذه الفئة بالمطلوب من استمرار التواصل بين مسئولي المراكز ومواصلة البرامج التثقيفية التي كانوا يتلقونها من حفظ للقرآن وقراءة لبعض المؤلفات الإسلامية ، في حدود الإبقاء على الرباط الأخوي فقط ، ولكن المؤسف أن أيدياً خفية تسربت على أوساط أولئك المسئولين فأقنعتهم بضرورة التغيير وهكذا بدؤوا يخططون لشق الجماعة واستبعاد القيادة الشرعية ، وتسللت هذه المناورات إلى صفوف الشباب باللاذقية ، فإذا هم بعد عودة المراكز منقسمون ، وإذا هنالك سعي لإقامة مركز آخر مقابل المركز الأصلي ، إلا أن هذه المحاولة ظلت محدودة على الرغم من إصرارها على إثارة الخلاف ..

وأخيراً رأيت أن أنتهز موعد انتخاب الهيئة ، فأعلنت للأخوة رغبتي في عدم الترشيح وغادرت اللاذقية ولم أعد إليها إلا بعد أن تم انتخاب الهيئة الجديدة ..

ثم لم تلبث الأحداث السياسية أن فرضت إغلاق المراكز كلها كما أغلقت مكاتب الأحزاب جميعاً .

ويؤسفني أن أقول : لقد أثبتت الوقائع أن جهودنا الدعوية كلها ، سواء في طرطوس أو اللاذقية ، لم تتجاوز سطوح الأنفس إلا قليلاً ، فما إن توقفت مسيرة الدعوة حتى انفض الأفراد كل في طريقه وكثير منهم نسي التزامه الإسلامي حتى في سلوكه الخاص .. ولا حول ولا قوة إلا بالله !..

وتسألونني عن أهم ما عبر بي من طرائف الحوادث خلال عملي الإسلامي هذه الطرائف كثيرة وليس ضرورياً أن تكون من الأمور السارة دائماً ، ولكنها من الأحداث التي تحمل العبر..

الأخوة الذين أسلفت الكلام عن موقفهم المتغير من القيادة الشرعية للجماعة ، حدث أن دعوا للاجتماع في منزل أحد الأخوة بدمشق ، وكانت الأوضاع قد استتبت بعض الشيء وأمكن للدكتور السباعي أن يعود من بيروت ، وحضرنا نحن المسئولين القياديين .. وكان بيننا من المصريين الأستاذان صالح أبو رفيق وعبد الحكيم عابدين رحمه الله ..

وهنا طرحت المشكلات التي تعرضت لها الدعوة في غياب مراقبها العام ، فابتدر الكلام أحد الضالعين في الانشقاق ، وأخذ يقول بلهجة لم تخل من العنف : إن الجماعة ـ يريد المنشقين ـ يعلنون أن الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله ، لما تقرر ابتعاثه إلى أوروبة لاستكمال دراسته العليا دفع إلى الدكتور السباعي خمسمائة ليرة سورية هبة للجماعة فنحن نسأل الدكتور أين هذا المبلغ وكيف تصرف به ؟..

وكان من المحزنات المخزيات أن يوجه لرجل كالسباعي مثل هذا السؤال ، وهو الذي بذل حياته وعرض نفسه لأكداس البلايا في سبيل الإسلام !..

وقبل أن يتكلم السباعي أشار أحد الأخوة ـ المرحوم الدكتور عبد الكريم عثمان أو الأستاذ عصام العطار ـ طالباً الإذن له بالإجابة ، والتفت إلى صاحب الاتهام يقول له : إني أذكرك أيها الأخ بيوم كنا في قاعة الأساتذة من المعهد الإسلامي .. إذ كان الحديث حول الدكتور السباعي ، فقلت : حقاً إن هذا الرجل لمظلوم .. تصوروا أن خصومه يزعمون أنه قبض من الدكتور محمد أمين المصري خمسمائة ليرة لمصلحة الدعوة ، فاحتجزها لنفسه .. ووالله لقد دفعها السباعي إلي لأنفقها في سبيل الدعوة .. فأسألك بالله . هل تذكر قولك هذا ؟..

وأنا أقول لقد والله أطرق صاحب الاتهام برأسه ، ثم لم بنبس ببنت شفة ، وكان موعد صلاة الجمعة قد حان فسعينا إليها ثم عدنا ، ثم لم نر له أثراً بيننا !..

وهذه واحدة من طرائف الحوادث في نطاق الدعوة ..

وإليكم الثانية من واقع حياتي في التعليم ..

لقد أسند إلي في الكلية الأرثوذكسية درس التربية الإسلامية التي ألزمت بها المدارس الخاصة ، وذلك إلى جانب مادة الأدب العربي والبلاغة ، وطبيعي أن يفرد لدرس الدين أهله من الطلاب المسلمين ، ولكن بعض شباب النصارى كانوا يلتمسون مني الإذن بحضوره .. فلم أر داعياً لرفض طلبهم وهكذا بدؤوا يهجرون دروسهم الدينية إلى درس التربية الإسلامية ولم يكتفوا بذلك بل طلبوا إلي الإذن بالحضور إلى منزلي لطرح بعض الأسئلة فرحبت بهم ، ثم كثر هؤلاء وطلبوا إلي أن أزورهم في ناديهم ، فاستجبت لهم ، وتحركت غيرة الشباب المسلم فرغبوا غلي أن أحضر اجتماعات لهم في بعض المنازل ، ففعلت وكان الحضور ذكوراً وإناثاً كلا في حجرة على حدة .

والظاهر أن هذا الوضع لم يلق من مدير الكلية رضى فجاءني يقول : لماذا تكلف نفسك هذا العبء فوق أعمالك اليومية في الكلية ؟!.. وإذا أبيت إلا أن تتجشمه فهذه قاعة الفصل النهائي تستطيع أن تشغلها بمحاضراتك في أي ليلة شئت ..

واستقبلت العرض بالشكر وعينت للطلاب مواعيد معينة من أيام الأسبوع وهكذا استمر الوضع على خير ما يرام ..

لكن الخواجة المدير والهيئة الدينية التي وراءه لم تستطع الصبر على ذلك فإذا هم يفاجئونني بما لا أتوقعه ..

لقد دخلت الفصل في صباح أحد الأيام فإذا الجدران مشحونة بالنصوص الدينية التي تحذر المسيحيين من الأنبياء الكذبة .. وتحت كل عبارة منها هذه الكلمة (تذكر أنك أرثو) وتعني : أيها الطالب المسيحي تذكر انتماءك للأرثوذكسية ، وحذار أن تتأثر بدعاية هذا المسلم !..

لقد كانت هذه العبارات تكتب أول الأمر في وسط الجدار المقابل للسبورة ، فلما فطنت لها جعلت أسرع إلى محوها قبل أن يحين موعد دخول الطلاب في درس الصباح .. ولكنهم تداركوا ذلك ، فجعلوا يرسمونها في أعالي الجدران بحيث لا تصل إليها اليد إلا على سلم !..

وقدر الله أن يقطع دابر هذه المحنة بعد إحدى عشرة سنة من عملي في هذه الكلية لم تخل يوماً واحداً من المكدرات ، وكان ذلك عندما تم الاتفاق بيني وبين الجامعة الإسلامية برقياً على التعاقد معها ، فجئت أودع الخواجة وكان بيني وبينه يومئذ الحوار التالي : قال : لعلك تحمل لنا ذكرى طيبة ؟!.. قلت : طبعاً .. ذكرى النار التي لم تقف عن اللذع قط ، لغير ذنب إلا أنني إنسان مسلم !..

ـ وتسألونني عن الإنجازات التي وفقت إليها خلال هذا الزمن الذي يزيد على نصف قرن .

إن للإنجاز وجوهاً كثيرة ، وقد قدر لي أن أسهم في بعض هذه الوجوه ، فأحدها شعوري بأني ، من خلال عملي في التعليم والنشر، قد أسهمت ولله الحمد في إبراز المعالم الإسلامية سواء في أذهان الأجيال التي شاركت في تعليمها ، وهي الآن منتشرة في مختلف أرجاء الوطن الإسلامي من أقصى الفلبين إلى أقصى حدود تركيا .. أو في أذهان القراء الذين أشعر من خلال رسائلهم أنهم يحبون أن يقرؤوا ما أقدم لهم من أعمال فكرية وأدبية ، وقد بلغت حتى اليوم قرابة الخمسين كتاباً ولله الفضل والمنة ..

ولعلي لا أحيف على حق أحد من الأخوة العاملين في نطاق الأدب الإسلامي إذ قلت إنني من أول الداعين غليه ، وتشهد بذلك مقالاتي الدراسية التحليلية في " مجلة حضارة الإسلام " الدمشقية في أوائل عهدها بالصدور، وقد جمعت هذه البحوث وغيرها بعد ذلك في كتابي (مشكلات الجيل في ضوء الإسلام) الذي نشر لأول مرة عام 1390 هـ في بيروت ولا يزال يكرر نشره حتى الآن ..

وأضيف إلى ذلك أنني كنت المحرك لهمة الأخوة المسئولين في ندوة العلماء بالهند لإقامة " ندوة الأدب الإسلامي " وذلك أثناء زياراتي مندوباً من قبل الجامعة الإسلامية للمحاضرة فيها ، إذ عرضت الفكرة على بعض مسئوليها فظفرت بالقبول ، ثم لم تلبث أن خرجت للواقع بفضل الداعية الإسلامي الكبير العلامة أبي الحسن الندوي .. ثم تلتها ندوة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، ثم الندوة الثالثة بالرياض برعاية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وما أعقب ذلك من نشاط العاملين في هذا الحقل من دعاة الخير.

وبين كتبي الخمسين ، وهي متعددة المضمون كتاب : علماء ومفكرون عرفتهم " وقد صدر منه الجزآن 1 ، 2 وهذا ثالثهما عن دار الاعتصام ، وهي تضم تراجم العشرات من أفاضل الدعاة على مستوى العالم وكلهم ممن سعدت بلقائهم شخصياً فحاورتهم وناقشتهم عن كثب إلا واحداً أو اثنين ..

س 5 ـ في هذا السؤال ثلاث فقرات رأيت أن أخص كلاً منها ببعض التفصيل :

أ ـ تجربتي في ميدان التعليم خلال أربعين سنة :

إن التعليم ـ وهو مهمة الأنبياء ـ أشقى المهن وأسعدها . فالمعلم يتعامل مع عالم من المتغيرات والثوابت ، فلكل تلميذ خصائصه التي ينفرد بها ، والتي يشارك بها سواه . ولا سبيل لنجاح العملية التعليمية إلا بملاحظة هذه الفروق وإعطاء كل منها حقه ، وإلا تحول التعليم إلى حركة آلية لا تزيد التلميذ إلا تعقيداً والمدرس إلا عناءً .

ثم يأتي التفاوت العقلي والنفسي بين المعلم وطالب العلم ، وكثيراً ما يكون مدعاة لإثارة المشكلات ، وبخاصة في المجتمعات غير المستقرة ، ومن هنا يكون شعور المدرس بالرهق والألم من غربته في ذلك الجو.. وهو ما يشكل الجانب الشقي من حياته ..

والمدرس الناجح هو الذي يدرك أهمية التجربة ، فيعالج مشكلاته مع طلابه بروح الأبوة التي تقدر واقع الولد فتمنحه ما يقتضيه وضعه الطبيعي من الرعاية والحكمة . وما أقل هذا النوع من المدرسين !..

وأما جانب السعادة في مهنة التعليم فقد جربها كل مدرس عندما يواجه ثمرات جهاده الطويل في تلك المودة الخالصة التي يقابله بها أولئك الأصدقاء القدامى الذين طالما عانى من مشكلاتهم ومشاكساتهم !..

ومن فضل الله علي أنني تذوقت ، ولا أزال أتذوق ، من هذه الثمرات أثناء تجوالي في بعض أنحاء العالم ، ما لو تصوره المعلم المرهق لأيقن أنها نعمة تستحق أن يدفع ثمنها الكثير من النصب والعرق ..

وملاحظة أخيرة حول موضوع التعليم ، وهي أن المعلم الصالح هو الركيزة الأساسية في بناء المجتمع ، فما لم يع هذه الحقيقة ، ويبذل كل إمكاناته لتحقيق واجبه في تكوين الأجيال السليمة فلا سبيل إلى أي أمل في مستقبل أفضل ..

ب- تجربتي في ميدان الصحافة :

لقد كان للصحافة ـ ولا يزال ـ قسطها الوافر من حياتي خلال الستين من أعوامي الثمانين . وهي المدة التي مارست فيها العمل القلمي مراسلاً ومعلقاً ومحللاً ومعالجاً لمشكلات المجتمعات الإسلامية في العديد من الصحف والمجلات على امتداد العالم الإسلامي .. وكنت في بعض هذه المراحل أكتب افتتاحيات صحيفة سياسية يومية ، وفي بعضها الآخر مشرفاً على واحدة أسبوعية نطلق من خلالها صوت الدعوة واضحاً صريحاً ..

والحصيلة التي خرجت بها من هذه التجارب هو أن الصحافة ـ بعد المدرسة ـ من أهم العوامل المكونة للرأي العام صلاحاً وفساداً . وعلى ذخيرة الصحفي من الإخلاص أو النفاق يتعين تحديد أثره في نفوس قرائه سلباً أو إيجاباً ..

واعترافاً بفضل الله علي أستطيع القول بأني طوال تلك العقود لم أدخر وسعاً في إعلان كلمة الحق ، ومهما ضاق مجال القول ، واحلولك الظلام ، حتى لا نجد لها منفذاً ، لم أسمح لنفسي بالوقوف إلى جانب الباطل ..

ج ـ تجربتي في ميدان الجامعة الإسلامية :

قد رافقت هذه الجامعة الأثيرة من أوائل سنيها وعلى مدى عشرين سنة ، وأسعدني الله بقضاء معظمها في صحبة العلامة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز، نائباً لرئيسها ثم رئيساً لها ، وكنت موضع ثقته والمخلصين من إخوانه ، مدرساً ومشرفاً اجتماعياً ، ومشاركاً في تنظيم مناهجها الدراسية ، ومقوماً لمناهج المعاهد التعليمية الواردة إليها من أنحاء العالم الإسلامي ، ثم مشاركاً فيما بعد للجنة المكلفة دراسة هذه المناهج ، وعضواً في مجلس إدارة الجامعة ، إلى جانب مسئوليتي في تحرير مجلتها على مدى خمس عشرة سنة ، وما إلى ذلك من المهام الكثيرة ..وكانت هذه الحقبة من أعمالي في الجامعة الإسلامية ، على ثقل أعبائها ، أسعد مراحل حياتي ، لما كننت أحسه من نعمة الانسجام مع الجو العام ، وللروابط الروحية التي كانت تؤلف بيني وبين طلبتها الممثلين لكل جنسيات العالم الإسلامي ..

والحديث عن تجاربي في هذه الجامعة لا يفي به استطلاع عابر، ولعلي أستوفيها في مذكراتي التي أكتبها بعنوان (فصول من الحياة) .

س 6 ـ وتختتمون استطلاعكم بالسؤال عن موقفي من الغزو الفكري والتغريب .. وعليه أجيب : إن حملاتكم المركزة على عملائها ، وتتبعكم مثالبهم ، وفضحكم مؤامراتهم ، في مقابل إبرازكم لخصائص الحضارة الإسلامية المتفوقة هي التي جمعت بيني وبينكم في نطاق الرؤية والفكر، وهي التي حديثي لكتابة ترجمتكم في المجلد الثاني من (علماء ومفكرون عرفتهم) ولعلي أشرت إلى هذه الناحية من أفكاركم في غضون تلك الترجمة ، وحين تستوفون النظر في ثلاثة المجلدات من هذا الكتاب سيتضح لكم موقفي أكثر فأكثر في هذا الصدد ..

وصفوة القول في هذا الموضوع ينطلق من إيماني القاطع بقوله تعالى : [وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله] (الأنعام 153) فنحن أمة اصطفاها الله لرسالته التي عليها يتوقف إنقاذ الإنسانية من الضياع ، ووعدنا بالعزة والنصر ما التزمنا سبيله ، واعتصمنا بحبله ، فكل انحراف عن صراطه المستقيم إلى شمال أو يمين دافع بوجودنا ومن ثم بالإنسانية كلها إلى أعماق الهاوية .. وكيف نسمح لترهات الضائعين باقتحام عقولنا ونحن نرى إلى تخبطهم في الظلمات ، لا يكادون ينهضون من حفرة حتى تتلقاهم الأخرى ، على حين تدوي في قلوبنا وأسماعنا دعوة الله يخاطب بها رسوله إلى الثقلين ، ومن ورائه كل المؤمنين بكتابه المبين إلى يوم الدين [ونزلنا عليك الكتاب تبيناً لكل شيء ، وهدى ورحمة ، وبشرى للمسلمين] (النحل 89) وأي خير يمكن توقعه خارج هذه المنطلقات الأربعة التي ضمنت السعادة الأبدية من كل جهاتها !.. وماذا بقي لدى المستغربين والمستشرقين وراء هذه الأضواء غير الظلمات والهراء الذي لا يستهوي سوى المغرورين والفارغين !!..

ورضي الله عن الفاروق القائل لأخيه أبي عبيدة ، وهو يرد على التماسه تغيير بعض سلوكه المتواضع استهواء لمستقبليه من غير المؤمنين : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما نبتغ العزة بغيره أذلنا الله .." وهل نحن بحاجة لتوكيد هذه الحقيقة بعد أن سلط علينا بذنوبنا أذل خلقه ممن لا يخافه ولا يرحمنا !!.