نبيل البشتاوي

أحمد الجدع

إنها حادثة بسيطة ، ولكن آثارها كانت عميقة.

نعم حادثة تمر في حياة كثير من الطلاب في مدارسهم ولكن دون آثار ، وقد تمر مثل هذه الحادثة في حياة بعض الطلاب عشرات المرات... وبلا آثار يمكن أن تكون موضوعاً لحديث.

كان ذلك عام 1955م عندما كنت طالباً في الصف الثالث الإعدادي في مدرسة جنين الثانوية، قدم إلينا من نابلس مدرس للرياضيات، كان جاداً ، لا يعرف في غرفة الدرس سوى لوحه وطبشوره ، وأنا كنت طالباً هادئاً ، بل كنت كما يقول المثل العامي في جنين: القطة تأكل عشائي !

ولكن لقبي العائلي "الجدع" كان يجلب لي بعض المتاعب، إذ كان من يسمع بي لأول مرة يظن بي ما يوحيه هذا الاسم من العنف والتمرد فيعاملني بهذا الإيحاء!

وهذا  ما حدث لي مع مدرس الرياضيات القادم إلينا من نابلس الأستاذ نبيل البشتاوي!

كان يشرح درسه ووجهه إلى اللوح الأسود وظهره للطلاب، سمع صوتاً لم يرقه ، واعتبره "زعرنة" من أحدهم ، و التفت إلى الطلاب قائلاً: من فعل هذا فليخرج إليَ.

لم يرد أحد .. وساد الطلاب سكون مطبق.

جال المدرس بنظره بين طلابه ، وعندما وقع نظره علي َتذكر أنني الجدع ، ومن غير الجدع يمكن أن يتجرأ ويحدث صوتاً مشوشاً على رتابة الدرس ،أشار إليَ قائلاً: أخرج أنت..

قمت من مقعدي وأنا أوكد له أنني بريء مم يتهمني به، ولكنه لم يصغ إلي ، وطلب مني أن أرفع يدي وأن أبسط كفي.

فعلت ذلك، فهوى بعصاه يريد أن يضربني، فأمسكت بالعصا وانتزعتها من يده.

كانت حركة احتجاج على ظلم، ولم تكن حركة زعرنة ..ولكن التمرد على أوامر الأساتذة كان ذنباً لا يغتفر، ثارت الثائرة  ،وأستدعي مدير المدرسة (رشيد مرعي) ودون أن يسألني أو بأبه لقولي أمر بفصلي من المدرسة ، وقررً إستدعاء أبي لإبلاغه ما حدث....

كان آباؤنا يأبون الاستماع لنا، ويعتبرون أقوال المدرس والمدير كأنها وحي من السماء لا يناقش.

كان أبي يكلم المدير بكل احترام، ويصدق على كل كلمة يتفوه بها، وكنت أنا أقف إلى جانب الحائط ساكناً لا أجرؤ على الحراك ، ذلك لأن عيون المدير كانت تصوب إلي كلما ذكر ذنباً أو موعظة ، وكان تهديده ووعيده يملآن نفسي رهبة ورعباً.

ولكن توسلات أبي في طلب العفو لم تذهب أدارج الرياح ، استجاب المدير الثائر لهذا الأب الراجي العفو والسماح  ، كان أبي يقول: اعتبرها المرة الأولى  والأخيرة، والمدير يلجأ إلى الصمت الرهيب ، وأنا أرخي أذني لعلي أسمع ما ينجيني مما أنا فيه.

وأخيرا قال المدير : لا بد من الاعتذار للمدرس

أجاب أبي : دلني عليه حتى أرضيه.

كانت وقت الدوام قد انتهى فقال المدير : ربما وجدته في دار جماعة الأخوان المسلمين ، ومن المدرسة إلى دار الجماعة.

فهناك كان الشيخ فريز جرار – رحمه الله- دخل عليه أبى سائلاً عن المدرس: الأستاذ نبيل البشتاوي.

قال الشيخ ما الأمر؟ فشرح أبي الأمر.

ابتسم الشيخ وقال لي : هناك في تلك الغرفة تجد الأستاذ نبيل.. أذهب واعتذر إليه!

طرقت الباب ، سمعت صوته يقول: ادخل

ودخلت وأنا أعتذر ، قال دون أن يعير اعتذاري أهمية :اجلس.

التفت  ، فإذا مجموعة من الطلاب يجلسون في الغرفة، لم أرهم عندما دخلت لانشغالي بالاعتذار ..... الاعتذار المنجى من الفصل!

جلست مع الطلاب ... وتابع الأستاذ ما كنت قد قطعته بدخولي...

لست أدري ما الحديث الذي دار في تلك الجلسة، فقد كان عقلي آنذاك في شغل شاغل: أيقبل الأستاذ الاعتذار.. أم يرفضه ، فأقع تحت مطرقة أبي ... رفضت عصاً من رجل غريب ... وأنا سوف استقبل عصياً من أب حبيب، وأنا هنا لا استطيع أن أمد يدي إلى عصا أبي ...ولكم أن تفهموا الآن ماذا يعني الشاعر عندما يتحدث عن ظلم ذوي القربى...

لم يكن لمخاوفي ما يبررها.. قبل الأستاذ اعتذاري واعتذار أبي، وكان تعليق الشيخ فريز على كل ما حدث أن اشترط علي أن أدوام حضور"الأسرة " مع الأستاذ ..في الأسبوع مرة.وعسى أن  تكرهوا شيئاً...

نعم، أدمت الحضور، كان مدرسنا يدعو لمكارم الأخلاق، ومن منا لا يجب مكارم الأخلاق؟

غادرنا الأستاذ نبيل البشتاوي بعد انتهاء العام الدراسي 1955 – 1956 أنا لم أقطع صلتي "بالأسرة"بل استمر حضوري وأصبحت واحداً من جماعة الإخوان المسلمين.

لم أر أستاذى – صاحب الفضل علىً- بعد ذلك ، طوتني الأيام.. حتى إذا كان حدث مرج الزهور الشهير حيث أبعد العدو اليهودي أكثر من أربعمائة من رجال فلسطين إلى القرية اللبنانية ذات الزهور ، سمعت أن أستاذنا كان أحد المبعدين.

إبعادً..لكن إلى مرج الزهور .. ألا يحق لنا أن نتفاءل بالزهور !

كان لهذا الإبعاد أثره على الحركة الجهادية في فلسطين، لقد عاد هؤلاء الأربعمائة ليقودوا جهاد الشعب الفلسطيني ، الجهاد المتنامي يوميا بعد يوم ، وعاماً بعد عام ولا أظنه يتوقف حتى تعود فلسطين عربية مسلمة ، تحتضن الخلافة الراشدة الثانية بإذن الله.

علمت أن أستاذي الفاضل – صاحب الأيادي البيضاء- يزور عمان.

في هذا اليوم ،يوم السبت، السادس عشر من شهر رجب 1429هـ الموافق التاسع عشر من شهر تموز عام 2008م زرت أستاذي في منزل أخيه الدكتور ربحي  البشتاوي، وسعدت بلقائه وبالاستماع إلى حديثه، وذلك بعد ثلاثة وخمسين عاماً من ذلك التاريخ السعيد.

الأستاذ نبيل البشتاوي وإخوته كانوا من أوائل الذين ارتبطوا بدعوة الإخوان المسلمين في فلسطين، وهذا يدل على طيب عنصرهم ، العنصر الذي يتقبل الحق ويسير معه.