الأستاذ محمد سعيد الأفغاني

د. محمد مطيع الحافظ

ما رأيت وما سمعت من الأستاذ

محمد سعيد الأفغاني

عالم العربية ومؤرّخها ومُربي الأجيال

د. محمد مطيع الحافظ

مقدمة موجزة عن حياته ومؤلفاته:

الأستاذ محمد سعيد بن محمد جان بن أحمد الأفغاني.

علّامة نحوي كبير، موسوعي قدير، مؤلف محقق، صاحب منهج متميز في البحث والتدريس.

ولد بدمشق سنة 1327هـ/ 1909م لوالد صالح، سكن دمشق وتزوج من أسرة دمشقية وأنجبت له زوجه محمد سعيد، ثم ابنة، وتوفيت أمهما بعد ولادتها وعمر محمد سعيد ثلاث سنوات فعاش يتيم الأم، فرباه والده واصطحبه إلى الجامع الأموي، فلازم حلقات الشيخ حسين التونسي، والشيخ أحمد النويلاتي.

وتعلّم بمدارس دمشق في المرحلة الابتدائية والإعدادية، ثم الثانوية في مكتب عنبر ودار المعلمين وتخرج سنة 1928م، ثم التحقق بمدرسة الآداب العليا في الجامعة السورية وتخرج بها سنة 1932م. عُيِّن معلماً في بلدة منين سنة 1928م، ثم تنقَّل بين عدة مدارس بدمشق، حتى استقرّ مدرساً في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق. ولمّا أنشئت كلية الآداب بالجامعة السورية عُيِّن فيها أستاذاً مساعداً وتدرج في وظائفها حتى أصبح عميداً لكلية الآداب من عام 1961 إلى 1963م، ورئيساً لقسم اللغة العربية، ومدرس النحو وعلومه حتى أُحيل إلى التقاعد في 31/12/1968م، ثم درّس بالجامعة اللبنانية، فالجامعة الليبية في بنغازي، ثم في جامعة الملك سعود سنة 1984م، وبقي يدرس حتى بلغ الخامسة والسبعين فعاد إلى دمشق.

وكان انتُخب عضواً في المجمع العلمي العراقي ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.

ثم إنه بعد عودته إلى دمشق ظهرت عليه آثار الشيخوخة بعد فَقْد زوجته فسافر إلى مكة المكرمة حيث ابنته المقيمة بها مع زوجها، وفي مكة عاد اللقاء بين رفيقي العمر الأفغاني والطنطاوي ليعيشا في هذا البلد المبارك، وبقي الأفغاني في مكة المكرمة حتى وفاته في 11 شوال 1417هـ/ 1997م ودُفن بمقبرة المعلاة.

مؤلفاته وتحقيقاته:

الأستاذ الأفغاني عالم موسوعي، مؤلف محقق، اختصَّ بالنحو فكان المحلّق فيه تدريساً وتأليفاً، واختصَّ بدراسة نافعة شاملة عن أسواق العرب، وعن المرأة في الإسلام، واختصَّ بدراسات عن السيدة عائشة بنت الصدِّيق رضي الله عنهما، والإمام ابن حزم.

فمن مؤلفاته:

(أسواق العرب في الجاهلية والإسلامية) طبع أولاً سنة 1937م بدمشق، و(الإسلام والمرأة) طبع أولاً بدمشق سنة 1945م، و(عائشة والسياسة) طبع أولاً بمصر سنة 1947م، و(من حاضر اللغة العربية في الشام) طبع أولاً بالقاهرة سنة 1962م، و(ابن حزم ورسالته في المفاضلة بين الصحابة) طبع أولاً بدمشق 1940م)([1])....

وإذا أردت أن أصف شخصية الأستاذ الأفغاني فلا أجد أفضل ولا أصدق من كلامه عن نفسه حيث قال:

(في طبعي هيام بالحرية والصراحة، وكثيراً ما أنكب الطريق الأسلم في سبيل الجهر بما أرى من الحق في العقائد والأشخاص، متحمّلاً بصبر وطمأنينة ما أجر على نفسي من عناء وعداء، وهذا بلاء حتم لا مفر منه لمن خُلق حراً صريحاً، ولو حاول غير ذلك ما استطاع).

ما رأيت وما سمعت عن الأستاذ الأفغاني:

هذه مقتطفات مما رأيته وسمعته من الأستاذ الأفغاني بدءاً من سنة 1965م حتى آخر لقاء معه في مجمع اللغة العربية قبل سفره إلى مكة المكرمة. أذكرها عبرة وعظة وبياناً لمنهاج فريد تميز به أستاذنا تدريساً وسلوكاً وتأليفاً، وتعبيراً عن وفائي ومحبتي له.

قبل التحاقي بجامعة دمشق (قسم اللغة العربية) كنت أسمع الكثير عن شخصه وفضله من الإخوة الأصدقاء الذين سبقوني في الدراسة على يد الأستاذ محمد سعيد الأفغاني، كنت أسمع عن علمه الغزير، ومنهجه الفريد في التدريس، وشخصيته الرصينة الحازمة، وهيبته ووقاره، وإنتاجه الكبير والمتعدد في عدة مجالات من مجالات العلم، ولذلك كنت حريصاً على اقتناء ما يمكنني شراؤه من مؤلفاته، وأول كتاب قرأته له قبل دخولي الجامعة، (من حاضر اللغة العربية في الشام) فوجدت فيه تاريخاً للتعليم والتعريب بدمشق منذ بداية القرن العشرين حتى منتصفه تقريباً، فهو يضم بحوثاً عن المدارس ومدرسيها، وعن المجمع العلمي، وجامعة دمشق والمدرسة الكاملية والمدرسة الأمينية والمعهد الطبي ومعهد الحقوق، ومدرسة الآداب العليا، وإنتاج مدرسيها، ودفاعهم عن اللغة العربية وجهودهم في العودة إلى اللغة الفصحى في كل مناحي الحياة. في هذا الكتاب يجد الباحث المباحث المهمّة التي لا يجدها في غيره، ويبقى مرجعاً أصيلاً في تاريخ اللغة العربية في الشام في تلك الحقبة.

قرأت الكتاب بشغف وأعدت قراءته أكثر من مرة وشدَّني لمتابعة القراءة فيه أسلوبه المحبب الرصين، ومعلوماته الدقيقة المفيدة، عشت معه وأنا أتابع ما تكلّم به عن أساتذته الكبار ووفائه لهم ووصفهم بالنعوت التي تدل على محبته لهم وأنه أخذ منهم الكثير المفيد وذكر منهم: عبد الرحمن سلام، ومحمد سليم الجندي، ومحمد الداودي، ومحمد البزم، وتحدَّث عن الجهود المبذولة في الحفاظ على اللغة العربية بأسلوبها وألفاظها وتراكيبها وتعريب مصطلحات العلوم الطبية وغيرها، وتحدَّث عن سُبل النهوض باللغة والأدب، وكيف استطاع علماء تلك الفترة أن يُعيدوا للغة العربية والتاريخ العربي مجدهما بعد ركود طويل قبل العهد الفيصلي، كل ذلك بفضل العزيمة والجهد الكبير، والمنطق الإيماني بالهدف والغاية.

هذا الكتاب زادني حباً للغة العربية والتاريخ العربي، لما فيه من غيرة أستاذنا على العربية والدفاع عنها إضافة إلى ما تلقيته من عمّي الشيخ عبد الوهاب رحمه الله من توجيه بأن طالب العلم لا يُمكن أن يعدّ طالباً للعلم إلا إذا أتقن العربية، وهذا ما جعلني أصبو وأتلهف للالتحاق بقسم اللغة العربية لمتابعة تلك الخطوات العظيمة التي قام بها أساتذتنا والأخذ عن هؤلاء العمالقة في القسم خدمة للعربية وإيماناً بحقها علينا دينياً ووطنياً.

ذكرتُ فيما سبق أني سمعت من الذين سبقوني في التلقي بقسم اللغة العربية أن الأستاذ الأفغاني رجل صارم في درسه، حازم في تصرفاته، معتز بعلمه، متقن لفنه، لا ينطق إلا عن أصالة وتمكن وحكمة، يخيم على درسه الهيبة والوقار، وأن كل من يدرس عنده ويلتزم بتوجيهاته يتقن النحو، وأن الذي ينجح عنده ينجح بجدارة. هذا ما جعلني أنظر إليه نظرة إكبار وتوقير ليكون لي قدوة أسير على نهجه ودربه.

بعد هذه الصفات التي ترسخت في نفسي عنه جعلتني أحسب الحسابات الكثيرة وكما يقولون (ألف حساب) إذا أردت مقابلته أو سؤاله عند حضوري دروسه، ولكن هذا الخوف تغير بعد الاقتراب منه ومجالسته. فعرفت فيه التواضع والبساطة وخاصة لمن يجد عنده المقدرة العلمية والغيرة.

*          *           *

لقد كنا نترقب الإعلان عن جدول الدروس الأسبوعية، بعد أن قُبلنا في قسم اللغة العربية عام 1965م، فقبل موعد الدرس الأول دخلت المدرج المخصَّص برفقة الأستاذ الشيخ أسامة الرفاعي وجلسنا بانتظار قدوم الأستاذ الأفغاني، وكانت أبصارنا متجهة إلى الباب الذي يدخل منه لنرى ما سمعنا عن هيبته ووقاره، ولنسمع ما يقدم لنا من علم وتوجيه حتى إذا كان الموعد دخل في الساعة المحددة تماماً دون تأخير؛ دخل مرفوع القامة، تبدو على وجهه ملامح الجد، ثم اتجه خلف المنصة، فوقف الطلبة احتراماً له، ثم بدأ الكلام بالبسملة والصلاة على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، مُرحّباً بالطلبة في قسم اللغة العربية، شارحاً نظام الدرس، موضحاً كيفية جلوس الطلاب والطالبات فمما قال: إن الصفين الأولين من مقاعد المدرج هما للطالبات فقط، ولا يجوز لهن الجلوس مع الطلاب، وعليهن أن يلتزمن لباس الحشمة في الدرس. ثم بيّن منهجه في درس النحو وأنه يعتمد على أمرين: القاعدة والشاهد وأنه سيُكلف أحد الطلبة ممّن يُتقن الخط بكتابة الشواهد المتعلقة  بالبحث المقرر كسباً للوقت، وأنه بعد بيان المادة النحوية وقاعدتها وما يتعلّق بها يعقب بالشواهد التي يحتج بها وموضوع الشاهد. وأن الكتاب المقرر لهذه المادة لهذه السنة الدراسية هو (مذكرات في قواعد اللغة العربية) من تأليفه، وأنه خصّص له ثلاث حصص في الأسبوع، وبيّن أن هذا الكتاب في مستوى الوسط بين كتابين من كتب قواعد اللغة العربية: 1– الجزء الرابع من الدروس النحوية (قواعد اللغة العربية) لحفني ناصف ورفاقه، 2-  جامع الدروس العربية لمصطفى الغلاييني، ولا بأس بالرجوع إلى كتاب (شرح شذور الذهب) لابن هشام، وذلك للاستفادة والاطلاع على نهج القدماء.

وأكّد أننا يجب أن نعتمد على الشواهد المذكورة في كتاب (المذكرات) لاستخراج القاعدة، وهذه الشواهد منها ما يحتج به من الشعر حتى عصر المولّدين أي قبل سنة 150هـ وهي السنة التي توفي فيها آخر من يحتج به من الشعراء أمّا الشواهد من القرآن الكريم فهي معتمدة بكل القراءات المتواترة، أمّا الاستشهاد بالحديث الشريف فيحتاج إلى تفصيل. ويرى أن إغناء الدراسة بالشواهد ومناقشتها أمر لابدّ منه في دراستنا، وذلك لتمكين الملكة النحوية عند الطالب، وأنه اختار الشاهد المناسب لفهم المعنى أولاً، ثم لموضع الاستشهاد وما يتصل به من قواعد نحوية، ومدى قيمة هذا الشاهد في الاحتجاج، وهذا منهجنا في الدرس طَوال العام، وأنه أعطى الحرية للطالب في الاستفسار عن أمر لم يُفهم.

وأشار في المحاضرة الأولى أن مادة النحو لها منزلتها بين العلوم، وأنها مادة دقيقة تحتاج إلى مناقشة عقلية فهي كالرياضيات تعتمد على الفرضية والبرهان والحجة لإعطاء النتيجة والقرار المناسب.

ومرت الأيام ونحن نتابع الدرس تلو الدرس بشغف لأننا رأينا في أستاذنا منهجاً متميزاً، ممّا جعلنا نتابع كل صغيرة وكبيرة يقولها فنسجلها. وهذا ما جعل درسه يخيم عليه الوقار والإنصات.

وفي أحد الدروس دخل المدرج ونظر فإذا طالبة تجلس مع الطلاب في غير المكان المقرر لها وربما وجد طالباً يجلس في المقاعد الأمامية المخصصة للطالبات، فينظر نظرة استغراب لعدم الالتزام بالقانون الذي سَنَّه لهذا الأمر، وإذا به لا يتكلم وإنما يشير بأصبعه للمخالف في أن ينتقل إلى المكان المطلوب فما كان على المخالف إلا الامتثال.

وفي أحد الدروس يجد طالباً يتحدث مع زميل له بشكل لافت للنظر، فيقف عن متابعة الدرس ثم يقول: أنت أنت ويشير إلى هذا الطالب ويقول: بإمكانك أن تصبح وزيراً ولا تضيّع وقتك ولا تضيّع هذه الفرصة منك، فكثير من الوزراء اليوم لا يملكون الشهادة الثانوية وكان ذلك في سنة 1965م، فيخجل الطالب ويعود إلى صمته.

وإذا ألقى نكتة مُرَّة في مناسبة ما كان الطلاب يضحكون وترتفع أصواتهم بالضحك إلا أنه يبقى ملتزماً بوقاره وهيبته كعادته في الدرس يتابع ما بدأ به.

وربما يشاهد طالبين يتحدثان في الدرس أكثر من مرة فيقول لأحدهما وهو يعلم أنه من طلاب الكلية. أنت يا هذا يمكنك أن تتحدث مع ابن خالتك الذي أتيت به إلى هنا فتذهبا إلى الحديقة، ويضحك الطلاب ويعود الأستاذ إلى درسه وكأن شيئاً لم يكن.

كان درسه بالطبع بالفصحى، حتى الطلاب حينما يسألون يجب أن يكون بالفصحى.

كنت أخجل أن أسأله سواء في قاعة الدرس أو خارجه هيبة له، وأذكر أني تقدمت إليه مرة وسألته عن مسألة في ورقة الامتحان، وذلك بعد خروجنا من صلاة المغرب في مسجد الجامعة، فأجابني باختصار مفيد وتابع سيره، ولا تسألني كم كانت دقات قلبي عندما تقدمت إليه للسؤال،  لأني كنت أنظر إليه نظرة إجلال واحترام وهيبة، لأنه وضع نفسه موضعاً فيه عزة النفس وهيبة العلم.

جاءه طالبان اختلفا في إعراب كلمة في ورقة الامتحان، فكان جوابه اذهبا إلى البيت وفكرا بالمادة التالية وانسيا هذه المادة، لأننا سنشرح ورقة الامتحان في موعد نحدده لكم بعد النتائج واشتغلا بالمفيد ولا تشغلا بالكما بما لا يُفيد.

سألني عمي الشيخ عبد الوهاب رحمه الله عن المواد التي أدرسها في الكلية، وعن أساتذتها، فذكرت له أن أستاذ النحو هو الأستاذ محمد سعيد الأفغاني فقال: إذا رأيته فقل له: يسلّم عليك عمي.

والحق أقول: إني تهيبت أن أنقل سلامه وخشيت أن يظن أن هذا السلام لحاجة في نفسي.

ومع هذه الهيبة فإنه في نهاية العام الدراسي الأول وذلك في آخر حصة من دروسه وجه إلينا نصائحه، عند دخول الامتحان وعند كتابة الإجابة على الأسئلة. لقد شعرت أن هذه النصائح كأنها موجهة من والد عطوف إلى ولده.

كانت شدته وحزمه في الدرس لكي يلتزم الطالب بحرمة هذا الدرس، ولكي تصل المعلومة التي يريدها لطلابه كاملة مفهومة، فإذا به في هذا اللقاء نجد عنده نظرات عطف ورأفة ومحبة، وإذا به يُطَمئن الطلاب بقوله: لا تخشوا من أي ظلم، فالعدالة في التصحيح واجبة عليَّ، وأن الأسئلة ستكون من الكتاب نفسه (المذكرات) وكذلك الشواهد النحوية، وأن على الطالب الهدوء عند تسلم ورقة الامتحان وقبل الإجابة، وأن على الطالب أيضاً أن يستجمع أفكاره وعليه قراءة الأسئلة بعيداً عن الخوف. وأن لا ينسى أن يتناول الطعام قبل الامتحان، كل ذلك ليخفف من روعنا من الامتحان.

وبعد ظهور النتائج يعين لنا ساعة في كل يوم محدد يأتي من يريد الاطلاع على ورقة امتحانه ويشاهد أخطاءه، وليعترض من يعترض ليجد العدالة كاملة.

عند استعراض بعض النتائج وجدت أن فيها الكثير أقلَّ من الصفر: -5، -10، -15، ... وعندما جاء طالب قائلاً: يا أستاذ أما أستحق أكثر من الصفر؟ أجابه قائلاً بكل ثقة: هل ظننت أن الصفر قليل؟ فكثيرون نالوا أقل من الصفر، والسبب في أن النتيجة تكون أقل من الصفر لأنه يحاسب على كل خطأ سواء كان إملائياً أو نحوياً بخصم خمس درجات عن كل خطأ.

وإني بفضل الله وتوفيقه نلت عند الأستاذ الأفغاني في السنة الأولى في مادة النحو /83/ وهذا مما أفتخر به وأحمد الله عليه.

وفي السنة الثانية درّسنا الأستاذ الأفغاني مادتين: الأولى متابعة لمادة النحو في كتاب مغني اللبيب الجزء الثاني في إعراب الجمل، والمادة الثانية: أصول النحو. وفي السنة الثالثة: الجزء الأول من مغني اللبيب الأدوات ومعانيها.

وما إن وصلنا إلى منتصف السنة الثالثة حتى فوجئنا بأن المسؤولين في الجامعة أحالوا الأستاذ الأفغاني إلى التقاعد بحجة بلوغه الستين فكم كان وقع هذا الأمر مؤلماً لنا وقاسياً علينا – نحن الذين أحببناه وتمنينا المتابعة معه -، وعلمنا أنه كان من الممكن أن يتابع الدرس حتى نهاية العام الدراسي وفق العرف الجامعي ولكنَّ خصومَه الذين كانوا على غير منهجه سياسة وعلماً أرادوا له غير ذلك.

وعندما ودعَنا في آخر درس له في الكلية أوصانا بوصايا ما زلت أذكرها لأني حفظتها وقمت بتنفيذ ما أملاه علينا، فممّا أوصانا به قوله:

لا تظنوا أن الواحد منكم عندما يتخرج من الكلية يصبح عالماً في النحو أو الأدب أو ...، بل نحن فتحنا لكم الطريق لتتابعوا طلب العلم لتصبحوا علماء.

وأما من حيث البحث العلمي، فإني أنصح الواحد منكم إذا أراد أن يختط لنفسه منهجاً في البحث، أن يختص بناحية معينة ليصبح مرجعاً فيها، وأشار إلى نفسه بأنه قد عمل وتابع البحث بكل ما يتعلق به من كليات وجزئيات عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما وعن الإمام ابن حزم، وبذلك استطعت أن أصل إلى نتائج مهمة عنهما، وهي أن المرأة لا تصلح للسياسة، وأن العالم يجب أن تكون عنده عزة النفس وأن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم كما كان عليه ابن حزم.

وبعد أن نلت شهادة الجامعة كنت ألتقي به في كثير من المناسبات، وبقيت هيبته واعتزازه بعلمه وسلوكه متمثلة في نفسي، وبعد اللقاءات المتكررة لمست عطفه ومحبته لطلبته، وخاصة بعد أن زرته مرة في بيته وجرى الحديث في بعض مسائل الفقه الحنفي، وكان قد سمع في جلسة من الجلسات التي كان يجلسها مع عدد من إخوانه وأحبابه في دار الحديث الأشرفية بعد صلاة الجمعة أني تخرجت بالفقه الحنفي على عمي رحمه الله فجرى الحديث في مسألة في كتاب مراقي الفلاح وطلب مني أن أشرح له عبارة فيه، وكانت هذه العبارة مما نبهني إليها عمي رحمه الله وأنها تعتمد على أصول الفقه، وأنها تحتاج إلى دربة وتحليل لفهمها، وهذا من توفيق الله.

ثم تتابعت اللقاءات مع الأستاذ الأفغاني، وصار يتردد إلى مجمع اللغة العربية ويأتي إلى غرفتي مباشرة بعد أن علم أني عُينت في المجمع، فكان يطلب مني بعض المراجع لبحوثه، ويطلب ما صدر من كتب في المجمع، فألبي طلبه بكل افتخار وسرور فهذا يدل على تواضعه ومحبته لي، وهذا مما أفتخر به.

وفي أحد اللقاءات جرى الحديث عن قبر ابن قيم الجوزية وأنه سمع أن أحد المتنفذين يريد اغتصاب القبر، فقلت: إني على علاقة جيدة مع مدير أوقاف دمشق، ويستطيع أن يساعدنا في ذلك، ثم إننا ذهبنا معاً إلى المدير وعرفته بالأستاذ الأفغاني وبقضية التعدي على قبر ابن القيم. فرحَّب بنا ووعد بمتابعة الموضوع بنفسه، واستطاع أن يمنع هذا.

 وبعد أن ذكرت ما حفظته مما رأيت وسمعت منه فإني أفتخر بأني كنت طالباً عند الأستاذ سعيد الأفغاني، فقد كان له تأثير كبير في إتقاني للنحو، والبحث العلمي، والسلوك والاعتزاز بالعلم، والجد في التحصيل، ومتابعة البحث، فجزاه الله خيراً.

والأستاذ الأفغاني من شيوخي وأساتذتي الذين أفتخر بهم وأقتدي بهم في منهجهم وسلوكهم، فلهم الفضل في نشأتي وتعليمي...

رحم الله الأستاذ سعيدًا الأفغاني، وجعله وشيوخي في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.

والحمد لله رب العالمين.

               

([1]) للتوسع في حياته ومؤلفاته انظر كتاب: (سعيد الأفغاني حامل لواء العربية وأستاذ أساتيذها) للدكتور مازن المبارك. دار القلم – دمشق.