علي عزت بيكوفيتش

مصطفى محمد الطحان

الداعية.. والمفكر.. والسياسي

بقلم: مصطفى محمد الطحان

(1)

تحدثت الأخبار عن وفاة المفكر الإسلامي والسياسي الكبير، والداعية المسلم علي عزت بيكوفيتش يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2003م، عن عمر ناهز 78 عاماً.

شارك في تشييع الفقيد أكثر من 150 ألف مواطن بوسنوي ونحو 80 شخصية عالمية ، ودفن في مقبرة الشهداء في الحي القديم في ساراييفو، المدينة التي طـالما دافع عنهـا وأحبهـا الفقيد الكبير.

لقد عاش علي عزت (رحمه الله) للإسلام، فهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله، وهو الذي قدم كل حياته خدمة لدينه وشعبه وأمته، وشاب وهو على ذلك ولم يبدل تبديلاً. خاض غمار النشاط السياسي والفكري منذ بواكير شبابه، ودافع عن الإسلام بأسلوب المفكر الذي يستقي الدلائل من مجريات الواقع، وطبائع الأنفس البشرية المختلفة.

لقد مات علي عزت بيكوفيتش الجسد، لكن علي عزت بيكوفيتش السياسي والمفكر والمصلح والزعيم المحبوب، سيبقى في عقول ووجدان المسلمين في البوسنة وخارجها، فلولا الله ثم علي عزت بيكوفيتش ما بقيت البوسنة والهرسك سنة 1992 عندما اتفق الصرب والكروات والغرب معهما على تفتيتها.

قال الرئيس الحالي سليمان تيهيتش في مؤتمر صحفي عقده بسراييفو بعد نبأ وفاة الزعيم: (إن علي عزت بيكوفيتش كان مثالاً لكل شيء وإننا سنبقى أوفياء لخطه السياسي اعترافاً بالجميل للرجل الذي لولا الله ثم هو ما كنا هنا اليوم).

وقال الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس مشيخة البوسنة: (وفاة علي عزت بيكوفيتش كانت أسوأ خبر سمعته في حياتي، ولكن ما فعله للبوسنة يجب أن نحافظ عليه وما فعله للإسلام يجب أن نحافظ عليه ونواصل السير على الطريق الذي سلكه).

أما رئيس الوزراء الأسبق حارث سيلاجيتش وهو من الشخصيات البارزة التي عملت مع بيكوفيتش فقال: (علي عزت بيكوفيتش هو الرجل الأول الذي وقف في وجه الإبادة، لقد عملت معه كوزير للخارجية ثم كرئيس للوزراء وناضلنا في خندق واحد من أجل الحرية والديمقراطية والتعايش، كان علي عزت رئيساً للبوسنة والهرسك في أصعب الظروف وأشد مراحل تاريخ البوسنة والهرسك، دافع عن بقاء البوسنة وعن السلام بعد انتهاء القتال، كان شخصية مرموقة ورجلاً شجاعاً ملتزماً ومتوازناً، بعيد النظر حكيماً هادئ الطبع وعميق التفكير، رحم الله رئيسنا علي عزت).

إن وفاة علي عزت تمثل أحد أبرز ما تم في تاريخ البوسنة.

·        فقبل ألف عام تأسست البوسنة، وهذا تاريخ لا ينسى.

·        وفي عام 1463م دخل العثمانيون البوسنة وهذا تاريخ لاينسى.

·        وفي عام 1914م قامت الحرب العالمية الأولى من سراييفو وهذا لا ينسى.

·    وسنة 1992م عمل الكروات والصرب على تقسيم البوسنة وارتكبوا المذابح بحق المسلمين وقاد علي عزت بيكوفيتش عمليات الدفاع وهذا لا ينسى.

·        كما أن موت علي عزت في (23 شعبان عام 1424هـ الموافق 19 أكتوبر 2003م) لن ينسى أيضاً.

إنه مرحلة تاريخية ومفصلية في حياة المسلمين في البوسنة(1).

(2)

ذكريات مع الرئيس

·    التقيت بالأخ علي عزت لأول مرة في استانبول عام 1975.. كان شاباً فارعاً، وجهه صبيح فيه عزم وتصميم، وعيونه زرقاء فيهما عمق البحر وصفاؤه، تواضعه جم، حركات يديه ورأسه وانطلاقة حديثه.. تخبرك عن طاقة كبيرة لدى الرجل.. جاء إلى استانبول بصحبة أخينا الدكتور الفاتح حسنين الذي درس في يوغسلافيا وتعرف على شباب الحركة هناك ومنهم علي عزت.. كنا نتعاون على البعد في متابعة الحركة وأخبارها ونشر الكتب وترجمتها.. فلما سنحت الفرصة بإنعقاد المؤتمر الثالث للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية في استانبول عام 1975.. جاء الدكتور الفاتح ومعه علي عزت بيكوفيتش.

في إحدى غرف الفندق كان اللقاء الأول.. فقد آثر أن يكون الحديث بعيداً عن الأضواء.. فعيون السلطة تتابعه حيث ذهب. تحدثنا طويلاً عن يوغسلافيا، وعن أوضاع المسلمين في ذلك البلد.. وتحدث أخونا الدكتور الفاتح عن المستقبل.. وكأنه يستشرفه من خلال هذه الطاقة المكتشفة.

كنا نتابع على البعد كتاباته وخاصة كتاب (البيان الإسلامي) الذي نشرناه له باللغة العربية.. وقد صاغ في هذا الكتاب فكرة (الهوية الإسلامية لشعب البوسنة) مما أرعب الأعداء.. وهل يسمح لداعية مسلم أن يحلم بموقع يتبنى الإسلام كدعوة حضارية تحفظ كرامة الإنسان، وتسمح بتعايش الأديان، وتقيم أحسن قواعد الجوار مع الآخرين.. حتى الحلم لا يسمحون به..!

وضاقوا بنشاطه.. فتابعوه وأرهقوه.. وأخيراً وفي عام 1983م زجوا به مع ثلة من إخوانه في السجن.. ]وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد[.

·    وفي إطار المؤتمر الثالث الذي عقده حزب الرفاه الوطني بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان، التقيت الأخ علي عزت في أنقرة  في أكتوبر عام 1990 مرة أخرى.. ولكنه اليوم غيره بالأمس.. هو اليوم رجل سياسي حنكته وأنضجته الأيام وزادت حصيلته التجارب.

كم تشعر بالسعادة حين تكون مع واحد من هؤلاء.. يحدثونك حديث السياسة الواعية.. دون أن ينسوا للحظة الجغرافيا والموقع.. أو التاريخ والعبر.. وكيف يمكن أن يعيد التاريخ نفسه.. تسمع الحديث من رجل رزين هادئ الطبع تشع الحكمة من ثنايا حديثه..

تحدث عن يوغسلافيا التي تحتـل موقعاً متوسطاً في أوروبا الوسطى والجنوبية وتمثل جمهورية اتحادية تضم جمهوريات هي: صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا والبوسنة والهرسك وإقليم فويفودين وإقليم كوسوفو. وتمثل هذه الجمهوريات والأقاليم جماعات عرقية ودينية مختلفة. استطاع تيتو بقبضته الحديدية أن يحافظ على وحدة البلاد منذ عام 1945 وحتى وفاته عام 1980.

كان علي عزت يشكك في قدرة اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية على الوحدة والتوازن بين جماعاته المختلفة..

فجمهورية صربيا – التي يبلغ سكانها عشرة ملايين نسمة (66% منهم من الصرب و20% من الألبان المسلمين والبقية من الكروات).. تحاول أن تضم لها منطقة من جمهورية كرواتيا يقطنها الصرب، كما ضمت لها إقليم كوسوفو الذي يشكل المسلمون الألبان أغلبية سكانه (93%) والذي كان يتمتع بالحكم الذاتي منذ عام 1947 – تعمل على إقامة صربيا الكبرى بضم بقية المناطق التي يقطنها الصرب في الاتحاد اليوغوسلافي.

والصرب يعتبرون أنفسهم حماة أوروبا النصرانية في منطقة الحدود الجنوبية الغربية من خطر الأصولية الإسلامية.

وما الأصولية الإسلامية التي يتحدث الصرب عنها سوى الأغلبية الإسلامية الموجودة في جمهورية البوسنة والهرسك التي تضم 4،5 مليون نسمة منهم حوالي 55% من المسلمين.

وتحدث علي عزت عن كرواتيا الكبرى..

وتحدث أيضاً عن حزب العمل الديمقراطي الذي شكله في بدايات عام 1990 والذي التفت حوله فوراً الغالبية الساحقة من المواطنين المسلمين. وخاض المواجهة مع عصبة الشيوعيين اليوغوسلاف التي كانت تحكم، مطالباً بالتعددية السياسية وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومحلية حرة، والانتقال إلى الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق. وقد تبعته لاحقاً الأقليات الأخرى فشكلت أحزابها وأيدت إجراء الانتخابات حتى خضعت الحكومة السابقة.

ويجمع ممثلو الأطراف على أن بيكوفيتش لعب الدور الرائد في التوفيق بين الأقليات وإقناعها بالاحتكام إلى المنطق والتعايش وتحييد الصراعات التاريخية بين شعوبها.

·    وقبل أن يسافر الأستاذ علي عزت ليخوض معركة الانتخابات في بلاده.. كان لقاءً حميماً بين الأستاذ علي عزت والبروفسور أربكان والدكتور فاتح حسنين.. والأستاذ مصطفى مشهور.. وكنت معهم..  وتناول اللقاء مختلف القضايا التي تهم المسلمين.. والهجمة الشرسة التي يشنها الآخرون على الإسلام.. في محاولة لسحق كل تحرك إسلامي.. في أي مكان كان ..  والمعركة اليوم هي جزء من الحرب التي بدأت منذ عام 1905 في مؤتمر كامبل في لندن، وعام 1909 الذي أسقطوا فيه السلطان عبد الحميد، وعام 1914 الذي أجهضوا فيه الدولة العثمانية واقتسموا أراضيها.. وما زالت الحرب مستمرة.

وجرت الانتخابات المقررة وفاز حزب العمل الديمقراطي بـ99 مقعداً من أصل 240 واحتل بذلك الموقع الأول بين الأحزاب التي تنافست وعددها 16 حزباً تشكلت في هذه الجمهورية.. ولم يدخل البرلمان منها سوى 12 حزباً فقط.

وكانت الانتخابات البرلمانية ترافقت مع ثلاثة انتخابات حرة هي: رئاسة الجمهورية والمجالس البلدية والمجالس المحلية. وهي الانتخابات الحرة الأولى التي تجري في هذه المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. واعتُبرت الحدث الثاني التاريخي في عمرها بعد الحدث الأول عام 1974 عندما أقر الدستور الجديد تأسيس جمهورية خاصة بشعب البوسنة والهرسك بعدما كان هذا الحق مصادراً وكانت أراضيها موزعة بين جمهورتي الصرب وكرواتيا.

وأسفرت الانتخابات الرئاسية عن اختيار المواطنين سبعة ممثلين لهم إلى مجلس رئاسة الجمهورية، يمثل اثنان منهم الطائفة الإسلامية التي تشكل نسبة 55% من مجموع السكان حسب الإحصاءات الرسمية، واثنان للصرب الأرثوذوكس الذين يشكلون 23%،  واثنان للكرواتيين الكاثوليك الذي يشكلون حوالي 15% من السكان، وممثل واحد للأقليات الأخرى وأبرزها الأتراك.

حزب العمل الديمقراطي، حزب إسلامي يرفع العلم الأخضر، ويدرس القرآن والفكر الإسلامي كثقافة وقومية. لكنه يرفض التعصب والطائفية. ويدعو لدولة ديمقراطية واقتصاد حرّ ويوغوسلافيا جديدة يتساوى فيها الجميع في ظل الشرعية الديمقراطية وتندمج بأوروبا.

تسلمت رسالة من الأخ فاتح.. يعلن فرحته الكبرى لعودته إلى يوغوسلافيا بعد أن كان منع من دخولها.. وهو اليوم في ضيافة رئيس الجمهورية علي عزت بيكوفيتش.

فهل يستنكر المستضعفون بعد ذلك أن ينتقلوا من زنزانة ضيقة في أحد سجون الطغاة إلى منبر الحكم يحكمون شعوبهم بالشورى والعدل..؟

·    اللقاء الرابع والأخير مع الرئيس علي عزت بيكوفيتش كان عام 1997 في منتجع سيليفري على بحر مرمرة الهادئ فقد جاء الرئيس للإستجمام بعد عملية أجريت له في القلب..

كان جسده متعباً وفكره متألقاً.. وعندما علم أربكان بمرضه وكان رئيساً للوزراء أصرّ على زيارته..

كنت في صحبتهم.. وسجلت ذاكرتي أروع لقاء بين القمم الرائعة المتواضعة المتقدمة في فهم دينها ومنطق عصرها.. كان للرئيس طلبات كثيرة.. وكانت موافقة فورية من الرئيس الآخر..

ولأول مرة أشعر بالرضا من أخينا علي عزت.. الذي كان يشعر بالألم الشديد من مواقف حكام المسلمين الذين خذلوا البوسنة عندما كانت تذبح.

وأخيراً.. ترجل الفارس.. ولابد أن يترجل.. ولكنه عاش وسيبقى في ضمير كل مسلم. يتعلّم منه:

·        كيف يكون وهو في السجن رجل موقف!

·        وكيف يكون في السياسة علماً ينتزع احترام العالم!

·        وكيف يكون السياسي عند الحاجة مجاهداً يرتدي البزة العسكرية يبث الروح والعزيمة في شعبه الذي تآمر الجميع على ذبحه..

·        وكيف يكون أحد علامات الضوء الساطع في ليل المسلمين الطويل.

(3)

علي عزت المفكر

نبدأ بعلي عزت الكاتب والمفكر.. الذي تحسس قضايا شعبه فعبر عنها بقلمه وفكره قبل أن يلج من أجلها المجالات الأخرى. نفهم فكره من خلال كتابيه المنشورين باللهجة البوشناقية، وهي السلافية القريبة من اللهجتين الصربية والكرواتية، (الإسلام بين الشرق والغرب)، و(البيان الإسلامي). فهو يتوجه فيهما إلى المسلمين عامة للاعتزاز بما ينتسبون إليه، بأسلوب الإقناع (عن طريق إدراج الحقائق، والاستنتاج، ومعرفة الحقوق والواجبات عما يحبونه وينتمون إليه بهدف واضح وغاية موحدة).

·    لقد صدر كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) عام 1975 في تركيا والهند والولايات المتحدة الأمريكية، وطبع لأول مرة في بلغراد في يوغسلافيا عام 1988، ثم أعيد طبعه في ساراييفو عام 1990، وترجم إلى العديد من اللغات العالمية بما فيها اللغة العربية. كان الهدف من هذا الكتاب كما ذكر المؤلف في المقدمة: محاولة ترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل المسلم ويفهمها.

ليس كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب) كتاباً بسيطاً يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخياً. أو يقتحمه من أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك ثم يظن أن قد فهم شيئاً، أو أنه قادر على تقييمه أو تصنيفه بين الأنماط الفكرية المختلفة. إنما على القارئ الجاد أن يحتشد له ويتهيأ للدخول في عالم كتاب ثري بأفكاره، متميز بمنهجه، أخاذ بأسلوبه وقوة منطقه وثقافة صاحبه العميقة الواسعة. فمؤلف الكتاب متمكن من الثقافتين الإسلامية والغربية معاً. مسلم حتى النخاع وأوروبي بالمولد والنشأة والتعليم. لقد استوعب الفكر الغربي ولكنه لم يغرق فيه. ولم يجهل أو يتجاهل مواطن القوة وجوانب الإنسانية فيه. ولكنه في نفس الوقت - وهو ينظر من داخله – أدرك مواطن الضعف والتناقض والقصور في هذا الفكر. واستطاع علي عزت بقدرته التحليلية أن يطلعنا على حقائق لم تستلفت انتباهنا من قبل أو نضعها في موضعها الصحيح. ويتسق منهجه التحليلي في تقصّي الحقائق مع هدفه الذي عبّر عنه بقوله: (لكي نفهم العالم فهماً صحيحاُ لابد أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم وأن نعرف معانيها).

وللمؤلف أفكار ومفاهيم جديدة ويستخدم مصطلحات مألوفة في معان جديدة غير مألوفة. فهو مثلاً عندما يتحدث عن الدين لا يشمل بهذا المصطلح الإسلام، وإنما يقصره على مفهومه عند الغربيين سواء منهم الذين اتبعوه أو الذين هدموه. فهو تعبير عن علاقة شخصية تأملية بين الإنسان وبين ربه ولا شأن له بالدنيا أو بأمور الحياة. وعندما يتحدث عن الإسلام فإنه يتحدث عنه في إطار الفكرة الجديدة التي ابتدعها وهي فكرة (الوحدة ثنائية القطب) التي تضم في مركب جديد القضيتين المتصادمتين المنفصلتين في العقل الغربي ألا وهما: الروح والمادة، السماوي والأرضي، الإنساني والحيواني، الدين والدنيا. هذه الثنائية الكامنة في طبيعة الإسلام هي التي مكنته من أن يجمع بين المتناقضين في كيان واحد. فهما لا يوجدان معاً وجود تجاور وإلا كان جمعاً متعسفاً، وإنما هو وجود تفاعل وتزاوج تنتج عنه كائنات جديدة متكاملة العناصر منسجمة، تماماً كما يحدث في الطبيعة عندما تلتحم ذرات من عناصر مختلفة فتنتج عناصر ذات خصائص جديدة، كما تفعل ذرات الأكسجين مع ذرات الهيدروجين لتنتج الماء الذي يشرب منه الإنسان والحيوان والنبات، وهي خاصية جديدة، وإلا فإن أحداً لا يشرب الأوكسجين أو الهيدروجين. ويرينا المؤلف كيف أن هذه الثنائية تتسق اتساقاً فطرياً مع ثنائية الحياة وثنائية الإنسان.

ويؤكد المؤلف بتحليلاته الدقيقة أن الفشل الذي أصاب الأيديولوجيات الكبرى في العالم إنما يرجع إلى نظرتها إلى الإنسان والحياة نظرة (أحادية الجانب) شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، ينكر كل واحد منهما الآخر ويدينه بلا أمل في لقاء.

إن منهج علي عزت وتحليله لمفاهيم أخرى كثيرة خلال القسم الأول من الكتاب أوْصَله إلى حقائق ربما تصدم القارئ لأول وهلة. بل إنه يتطرق إلى موضوعات ربما اعتاد القارئ العربي أن يطرحها جانباً وهو يتناول قضية الدين. ولكن علي عزت بنظرته الثاقبة يكشف عن عناصر دينية في موضوعات مثل: الفن والدراما والقانون وعلم الأخلاق وحتى في الفلسفات الوجودية والعدمية.

ويلفت المؤلف انتباه القارئ إلى أن عداء الغرب الحالي للإسلام ليس مجرد امتداد للعداء التقليدي والصدام الحضاري المسلح بين الإسلام والغرب منذ الحملات الصليبية، وإنما يرجع إلى تجربته التاريخية الخاصة مع الدين، وإلى عجزه عن فهم الإسلام لسببين جوهريين وهما طبيعة العقل الأوروبي (أحادي النظرة) وإلى قصور اللغات الأوروبية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية. وضرب لذلك مثالاً بمصطلحات: الصلاة والزكاة والوضوء والخلافة والأمة، حيث لا يوجد ما يقابلها في المعنى باللغات الأوروبية. فالمصطلحات الإسلامية كالإسلام تنطوي على (وحدة ثنائية القطب) مما جعل العقل الأوروبي عاجزاً عن فهمها، وبالتالي كان عاجزاً عن فهم الإسلام. فقد أنكر الماديون الغربيون الإسلام باعتباره دين غيبيات، بينما يرى المسيحيون الغربيون في الإسلام حركة اجتماعية سياسية أي ( اتجاهاًً يسارياً)، وهكذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين متعارضين.. ويرى المؤلف أنه لكي يفهم الغرب الإسلام لابد له أن يعيد النظر في مصطلحاته التي تتعلق بالإسلام.

ولا أجد أصدق من شهادة (وودز ورث كارلسن) وهو مفكر أوروبي محايد لا ينتمي إلى دين مؤلف الكتاب ولا إلى عشيرته حيث قال معلقاً على كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب): إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته).

وينهي علي عزت كتابه بتسبيحة بالغة الدلالة على موقفه النفسي تجاه المحن والخطوب التي تنزل بها الأقدار. فما أحوجه الآن هو وشعبه وهم يواجهون أعتى مذبحة في التاريخ الحديث، وقد تخلّى عنهم العالم كله بمسيحييه القادرين ومسلميه الخانعين أو العاجزين.. ما أحوجهم إلى أن يتأملوا آخر عبارة خُتم بها الكتاب: (إن الإسلام لم يأخذ اسمه من تشريعاته ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه.. من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمن.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث.. من حقيقة التسليم لله.. إنه استسلام لله.. والاسم: إسلام(2)!

·    وكما حوكم دعاة في أماكن كثيرة بسبب فكرهم.. فقد قدم علي عزت مع ثلة من إخوانه إلى المحاكمة وحكم عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً بتهمة العمل ضد الدولة وأمن شعبها من أجل كتاب.. حاكموه من أجل كتابه البيان الإسلامي.. ولم يكن في كتابه هذا أية إشارة للدولة أو ما يمسّ أمنها.. ولكنه الطاغوت الذي يريد القضاء على كل فكر إسلامي قوي والقضاء على أصحابه.

لقد تمّ طبع هذا الكتاب في سراييفو عام 1990، وكانت قد نشرت مقتطفات منه بعنوان (مقومات العمل الإسلامي – اتجاهات وبرامج وآراء للحركة الإسلامية)، في الكويت عام 1981. هدف المؤلف من هذا الكتاب هو أن يجمع شباب المسلمين في الاتحاد اليوغسلافي على مفاهيم واضحة بسيطة وعملية، وأن يكون دليلاً مرشداً في العمل الإسلامي.

ولقد أشاع الصرب والكروات ضجة حول الكتاب ووصفوه بأنه المنفستو الإسلامي الذي يدعو إلى الجهاد المقدس لإقامة دولة إسلامية في قلب أوروبا. يتناول الكتاب الأسباب التي أدت إلى ضعف حركة الجماهير الإسلامية وتخلفها، والقضايا الضرورية الراهنة لمقومات نجاح وتقدم النظام الإسلامي، والمشاكل التي واجهتها بعض الدول التي عملت على تبني النهج الإسلامي وأسباب ذلك وسبل تجاوز المعوقات.

لقد أحيط البيان الإسلامي بمبالغات كثيرة ومغالطات، وأصبح وثيقة اتهام لعلي عزت وللإسلام بصفة عامة ليس في وسائل الإعلام الصربية والكرواتية فحسب وإنما في الدوائر الغربية التي تصنع القرارات المتعلقة بمأساة البوسنة الحالية، وتنفذ خططها تدريجياً لتصفية دولة البوسنة وتحويل شعبها إلى لاجئين تحت نظام حماية تقوم به الأمم المتحدة.

ولعلي عزت كتب أخرى قيمة للغاية مثل:

·              عوائق النهضة الإسلامية.

·              وهروبي إلى الحرية.

·             والأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية.

(4)

علي عزت السياسي

الوحيد الذي يحق له أن يفتخر بين رؤساء الجمهوريات اليوغسلافية السابقة بنقائه من أدران العهود الماضية هو رئيس البوسنة والهرسك علي عزت بيكوفيتش.

فالرؤساء الخمسة الآخرين ظهروا على مسرح زعامة الجمهوريات منذ عام 1990 حين بدأ انهيار جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية، من خلال مكانتهم المتقدمة في العهد السابق كقادة أوفياء لمسيرة النظام الشيوعي.

·        ميلان كوتشان (رئيس سلوفينيا) كان زعيماً لـ(رابطة الشيوعيين السلوفينيين).

·        وفرانيو تودجمان (رئيس كرواتيا) من أبطال قوات الأنصار الشيوعية أثناء الحرب العالمية الثانية.

·        وسلوبودان ميلوسيفيتش (رئيس صربيا) برز من خلال رئاسته (رابطة شيوعيي جمهورية الصرب).

·        ومومير بولاتوفيتش (رئيس الجبل الأسود) بقي رئيساً لشيوعيي جمهوريته حتى بعد انتخابه رئيساً لها.

·        وكيرو غليغوروف (رئيس مقدونيا) كان الأبرز بين شيوعيي مقدونيا.

أما علي عزت بيكوفيتش فهو على النقيض منهم جميعاً. فقد ظل دائماً مسلماً مؤمناً لا يتوانى عن المجاهرة بمعارضته الشديدة لمؤسسات النظام السابق وحكمه، سواء بالتزامه الأخلاق الدينية وشعائرها ومواظبته على الصلاة في المساجد، أو بمواقفه ومبادئه التي جاهر بها في مقالاته وكتبه التي استمر ينشرها من دون كلل طيلة عهد النظام الشيوعي على رغم صنوف المضايقة التي تعرض لها، وبقي على نهجه غير آبه بما لحقه من مطاردة واعتقال وسجن وفاقة وعوز.

ولد علي عزت بيكوفيتش في الثامن من أيلول (سبتمبر) عام 1925 في مدينة بوسانسك شاماتس في شمال شرقي البوسنة، والمطلة على مصب نهر بوسنة في نهر سافا الذي يشكل الحدود بين جمهوريتي البوسنة وكرواتيا، والتي يحتلها الصرب حالياً، وقد وضعتها خرائط تقسيم البوسنة كلها خارج منطقة المسلمين. ويدل لقبه على أن عائلته كانت تتمتع بمكانة مرموقة في عهد الوجود العثماني في البوسنة، وكانت تحمل لقب (بك) الذي يلازم اسمه (بيكوفيتش) وهو أرفع تكريم كانت تقدمه السلطات العثمانية لأهل تلك البلاد.

انتقل في مطلع شبابه إلى العاصمة ساراييفو بهدف الدراسة، وكان ذلك مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي ألحقت دمـاراً كبيـراً، وأدت إلى آلاف الضحايـا والتصفيـات الجسديـة الواسعة بين

المسلمين والصرب والكروات في البوسنة والهرسك، في وقت كان الشيوعيون المنتصرون في أوج نشاطهم وسلطانهم.

أكمل علي عزت تعليمه الثانوي عام 1943، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1956، ثم نال الدكتوراه عام 1962، وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964.

في العشرين من عمره التزم النهج الديني، وانتسب عام 1946 إلى تنظيم (الشبان المسلمين)، الذي أسسه بعض العلماء البوسنيين الذين درسوا في الأزهر وتأثروا بالحركة الإسلامية في مصر، ليدخل بذلك في صراع مع نظام الحكم الشيوعي حيث اعتقل وحوكم وسجن لمدة ثلاث سنوات (1946 – 1948م).

بعد خروجه من السجن، ومنذ بداية الخمسينات، اتجه إلى الكتابة وشرع ينشر المقالات التي تعبر عن آرائه الإسلامية تحت أسماء مستعارة في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، كان علي عزت يدرك المخاطر التي تحدق بالمسلمين ويخشى أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وقد حرموامن أي تعليم إسلامي حتى في بيوتهم، بينما تحاصرهم الأفكار الشيوعية الإلحادية، والأرثوذكسية الصربية التي تعتبر نفسها في معركة مع الإسلام.

كان عدد المسلمين في الاتحاد اليوغوسلافي قراية الثلث من مجموع السكان ومع ذلك فقد كانوا بلا حقوق. لهذا فقد كان علي عزت معنياً بأن يوفر للشباب المسلم الأدوات لفهم الإسلام عن طريق المحاضرة والندوة والمجلة والكتاب.

في عام 1983 اعتقل علي عزت بيكوفيتش وحوكم كمتزعم لـ(جماعة إسلامية تسعى إلى تغيير النظام الدستوري)، ضمن مجموعة ضمت 13 من المثقفين المسلمين البوسنيين، وقد حكم عليه بالسجن 14 عاماً، إلا انه أطلق سراحه قبل إنهاء مدة الحكم في أواخر 1988.

في بداية 1990 شرع بتشكيل (حزب العمل الديموقراطي)، الذي تحوّل بسرعة إلى حركة جماهيرية إسلامية غدت أكبر تنظيم سياسي في البوسنة والهرسك، وهو يحمل رؤية إسلامية شاملة لجميع مسلمي البلقان.. وهذا هو سبب انتشار الحزب ووجود فروع له في كرواتيا ومقدونيا وكوسوفا والسنجق، وانتخب مرشحا الحزب (هو ونائب الرئيس فكرت عبديتش) في أيار (مايو) 1990 لعضوية هيئة الرئاسة الجماعية للجمهورية، والتي تضم سبعة أعضاء، ثلاثة منهم مسلمون وصربيان وكرواتيان.

وفي أواخر 1991 تم انتخابه رئيساً لـ(هيئة الرئاسة) أي رئيساً للجمهورية حتى عام 2000م.

استقلال البوسنة    

لقد كان علي عزت في بداية انتخابه من أشد المناصرين لبقاء يوغوسلافيا فيديرالية أو كونفيديرالية، لأنه كان يرى في ذلك ضمانة للحفاظ على استقرار البوسنة والهرسك، وكانت صدمته كبيرة حين هدم الآخرون يوغوسلافيا، وأُرغم هو وشعبه على تحمّل العبء الأكبر لنتائج ما حدث من دون أن يكون هو، أو جمهوريته، طرفاً في المسؤولية عن ذلك.

في آذار (مارس) 1992 أجري استفتاء في البوسنة على الاستقلال بناءً على طلب الاتحاد الأوروبي وتحديداً فرنسا ليتم الاعتراف بالبوسنة والهرسك وقد تم الاستفتاء الذي شارك فيه الصرب أيضاً. وقال 62.8%: نعم للاستقلال. وفي أبريل بدأت الحرب في البوسنة وخاضها عزت بيكوفيتش باقتدار، رغم أن موازين القوى كانت إلى جانب الصرب، وعندما جاءه وسطاء سنة 1992 ليخبروه بأن الصرب يحيطون بسراييفو من كل جانب وأن عليه التفاوض قال لهم: (إنهم يريدوننا أن نستسلم) فقيل له كما روى في مذكراته (وماذا ستفعل)؟ قال: (سنقاتل). وقد قاتل الرجل مع شعبه وحافظ على بلاده بعد أن قدمت البوسنة ثمناً باهظاً، وهو 200 ألف شهيد، ومليون ونصف المليون مهجر و150 ألف معاق وهدم ما يقرب من 90% من البنية التحتية.

لقد فرض على شعب البوسنة حرب إبادة لتقويض وجوده المادي والمعنوي تماماً وفرض عليه حظر التسلح حتى لا يتمكن من الدفاع عن نفسه، ووقف الغرب والشرق يتفرج على هذه المذبحة التاريخية للمسلمين.

ومعاناة الرئيس بيكوفيتش لم تقتصر على محاولات أعدائه الصرب، وأصدقائه القدامى الكروات، تقويض وحدة بلاده ووجودها، فقد لدغه بعض أشقائه المسلمين أيضاً وحاولوا بعثرة العشرة في المائة من الأراضي التي ما زالت في حوزته. فعلى رغم تباين وجهات نظره مع زميله السابق في عضوية هيئة الرئاسة وقيادة حزب العمل الديموقراطي، فكرت عبديتش، فإنه لم يكن ليتصور أن يتجرأ هذا الساعد الأيمن إلى حد اقتطاع منطقة بيهاتش المسلمة في غرب البوسنة وإعلان صلح أبو رغال مع الصرب والكروات، وتحريض المسلمين الآخرين على التمرد واستخدام السلاح.

لهذه الأسباب فقد اضطر بيكوفيتش في مطلع رئاسته في سنة 1991 إلى إعلان  استقلال جمهورية البوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي، كان هذا الإعلان هو الشرارة الأولى للحرب البوسنية التي شنتها صربيا ضد البوسنة والهرسك في أبريل سنة 1992 وانتهت في نوفمبر 1995 بتوقيع اتفاق دايتون للسلام بولاية أوهايو الأمريكية.

واستطاع بيكوفيتش بحنكته السياسية أن يخرج بأفضل النتائج الممكنة في ظل التآمر والتكالب الدولي على بلاده.

اتفاقية دايتون

علي عزت بيكوفيتش من الموقعين في عام 1995 على اتفاقات دايتون للسلام التي أنهت الحرب، ووضعت أسس تشكيل رئاسة وحكومة ثلاثية الأطراف تضم المسلمين والصرب والكروات في البوسنة. ولقد علق الرئيس على هذا الاتفاق فقال: إن الاتفاق لم يكن عادلاً بالنسبة للبوسنة، ولكن ليشهد الله أننا بذلنا غاية ما في وسعنا من جهد لبلوغ ذلك الهدف، هناك من يتحدث عن استمرار احتلال الصرب للمناطق الشرقية الموازية لنهر (درينا) خاصة (سربرنيتسا وجيبا) وأنا واحد من الذين يستشعرون حسرةً وكمداً إزاء ذلك. أدري أيضاً أن هناك من ينتقد فكرة إحداث كيان خاص للصرب، ويتوجس شراً من ذلك، لكن الذي يجب أن ينتهي إليه الجميع أننا على الورق لم نتنازل عن شيء، فلقد حافظنا على حدود البوسنة الطبيعية والتاريخية، وحافظنا على وحدة العاصمة، وأكدنا حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها، وجعلنا للدولة جيشاً ومحكمة دستورية عليا ومصرفا مركزياً، بمعنى أننا حافظنا على شكل الدولة وعناصرها، ووضعنا نصاً في الاتفاق لا يجيز الانفصال عن دولة البوسنة. باختصار أثبتنا في الاتفاق حقنا كله، رغم علمنا بأننا قد لا نستطيع أن نحصل على ذلك الحق على الأرض في ظروفنا الحالية. لقد بذلنا غاية جهدنا، لكننا لم نفرط في حق الأجيال القادمة، التي سيكون بمقدورها، ولو بعد مائة سنة أن تسترد ما لم نستطع تحقيقه الآن. لقد تحملنا مسؤوليتنا في حدود قدرتنا، وعلى الأجيال اللاحقة أن تتحمل بدورها مسؤوليتها في الدفاع عن الوطن وتحرير أرضه التي سلبت من أهلها.

في اتفاقية دايتون خسائر كبيرة.. كما أن فيها مكاسب كبيرة.. ومن الناحية الاستراتيجية أعتقد أن مكاسبنا أكبر.

لا تنس أن هذه الاتفاقية قضت على حلم صربيا الكبرى، وأنهت المستقبل السياسي لكل مجرمي الحرب الذين ولغوا في دماء المسلمين. إن أكبر إنجاز حققناه هو إيقاف قتل رجالنا ونسائنا وأطفالنا في البوسنة، بعد أن تجاوز القتل كل الحدود التي يمكن تحملها.

ولا تنس أنه صار للبوسنيين. لأول مرة في تاريخهم. جيش قوامه أكثر من 200 ألف رجل أصبح قادراً على الدفاع عنهم.

أيضاً لا تنس أنه بمقتضى الاتفاق فإن الصرب ينبغي أن يغيروا في دستورهم وقوانينهم خلال 3 أشهر لكي يضمنوا حقوق الأقليات المسلمة التي تعيش بين ظهرانيهم، خصوصاً في منطقتي (كوسوفو وسنجق). وحين يؤدي الاتفاق إلى رفع حظر السلاح عن البوسنة، وإلى إحداث توازن في التسليح بين دول المنطقة الثلاث، فإن المستفيد الأول من ذلك هم المسلمون.

لقد فرضت علينا الحرب، واضطررنا للدفاع عن أنفسنا وديننا وبلادنا، وقدمنا تضحيات غالية من دماء أبنائنا وشعبنا، ومع ذلك فهناك شعور عام بأن هذه الكلفة الغالية من الضحايا والخسائر، إنما هي ثمن إعادة الإسلام إلى هذه الديار التي دفع أجدادنا دماءهم وأرواحهم من أجل توطينه فيها، وإن كل شيء يهون غير تغييب الإسلام عنها مرة أخرى.

انسحابه من المسرح السياسي

بعد مرور عام كامل على اتفاقية دايتون للسلام انسحب علي عزت من الحياة السياسية في تشرين الأول (أكتوبر) 2001، ليظل رئيساً فخرياً لحزب العمل الديمقراطي الإسلامي الذي أسسه وقاد به البوسنة إلى الإستقلال.. قالوا انسحب لأسباب صحية وخاصة.. لكن العارفين ببواطن الأمور أشاروا إلى ضغوط خارجية تعرض لها بيكوفيتش، ولم يكن أمامه سوى خيارين: الاعتزال أو مواجهة حرب شرسة تستهدف سمعته. لقد واجه بيكوفيتش انتقادات أمريكية وأوروبية بسبب توجهه الإسلامي، كما تعرض حزب العمل الديمقراطي – الإسلامي الحاكم إلى انتقادات وتهم مماثلة.

لقد استطاع علي عزت أثناء الحرب البوسنية، والتي استمرت أربع سنوات، أن يُفشل كل المؤامرات الغربية لإنهاء القضية مبكراً لصالح المعتدي الصربي.

لذلك حرص الغرب منذ بداية الأزمة أن يقصي الرئيس بيكوفيتش عن الحياة السياسية، وبأي وسيلة.

·    كانت المرة الأولى بعد بداية الحرب، حين تعالت الأصوات بضرورة أن يترك بيكوفيتش الرئاسة لعضو المجلس الرئاسي الصربي، والذي كان يليه آنذاك حسب ما ينص عليه الدستور البوسنوي، إلا أن الشعب البوسنوي والبرلمان اعترضا، وطالبوا بوقف العمل بهذا القانون، نظراً لحالة الحرب التي تمر بها البلاد، ولم تفلح هذه المحاولة واستمر بيكوفيتش في الرئاسة.

·    أما المحاولة الثانية لإقصاء بيكوفيتش، فكانت قبيل اتفاق (دايتون)، وذلك حينما قام الغرب بطرح خطة التقسيم الظالمة، والتي اعترض عليها الرئيس بيكوفيتش، فقام الغرب بدعوة أعضاء المجلس الرئاسي السبعة لإقرار خطة التقسيم، فتخلف عن الذهاب بيكوفيتش ونائبه أيوب جانيتش، فحاول الغرب أن يمرر الاتفاقية عن طريق أعضاء المجلس السبعة الذين وافقوا عليها، لأنهم أغلبية فقام بيكوفيتش بإلقاء خطاب في سراييفو أكد فيه أنه الوحيد المفوض من قبل الشعب البوسنوي، وأن أي موافقة على الاتفاقية من أعضاء المجلس السبعة ستكون مرفوضة شكلاً وموضوعاً، وعلى الجميع أن يعلم ذلك.

وفي اليوم التالي أعلنت وكالات الأنباء العالمية أن الرئيس بيكوفيتش أثبت دائماً أنه هو المفتاح الوحيد لحل قضية البوسنة.

·    وحتى حينما قام الرئيس بيكوفيتش بالموافقة على اتفاق دايتون في نهاية عام 1995، اعترف بأنه غير راض عنه، ولكن ماذا يفعل أمام الإجماع الدولي وتخاذل الجميع عن مناصرته سياسياً؟

لهذه الأسباب وغيرها امتلك الرئيس بيكوفيتش قلوب البوسنيين جميعهم، ولولا حكمته لانتهت قضية البوسنة مبكراً، ولابتلع الصرب البوسنة كلها.

 (5)

أسرة الرئيس

للرئيس بيكوفيتش ابنة وولد، وقد اشتهرت ابنته سابينا بيروفيتش (نسبة إلى لقب زوجها مرساد بيروفيتش الذي هو من كبار موظفي وزارة الداخلية البوسنية ولها منه ابنتان)، باعتبارها سكرتيرة والدها والمسؤولة عن جهاز أمنه الخاص، رافقت والدها في جميع رحلاته إلى الخارج، وكانت معه حين احتجزه الصرب لمدة يومين في مطار ساراييفو ونقلوه إلى إحدى ثكناتهم العسكرية عند بداية الحرب.

ومن انطباعات سابينا عن والدها أنه مؤمن بمشيئة الله عز وجل إلى أقصى الحدود، ولهذا كثيراً ما بقي في مكتبه يقرأ القرآن الكريم بهدوء أثناء القصف العنيف على ساراييفو ويرفض الامتثال للطلبات بالنزول إلى الملجأ الخاص بالقصر الرئاسي.

أما ابنه فمهندس، وتنسب إليه فكرة النفق الذي تم حفره لتسهيل الوصول إلى ساراييفو، من دون المرور بالمناطق التي يسيطر عليها الصرب.

ولنقرأ معاً ما كتبه الصحفي فهمي هويدي(3) حول حياة الفقيد:

في شارع (فيشنييك) توجد حارة باسم (محمد شاكر كورتشهايتش) على ناصيتها تقع البناية التي يقيم فيها الرئيس وهي من ثلاثة طوابق، في كل طابق ثلاث شقق، في إحدى شقق الطابق الأول يسكن ابنه باكر وزوجته الطبيبة وابنتهما، فوقه مباشرة يسكن الرئيس في شقة من ثلاث غرف مساحتها 78 متراً مربعا، وفي ذات الطابق شقتان أخريان تسكنهما اثنتان من الأسر البوسنية العادية. وليس هناك أحد يخدم الرئيس، ولكن ابنه وزوجته يقومان بخدمته ورعايته، وليست هناك حراسة خاصة له باستثناء الجندي الجالس في (كشك) خشبي على الباب، يتأكد من هويات الداخلين.

إن الرئيس انتقل إلى هذا البيت بعد وقت قصير من بداية الحرب، بعدما دمر الصرب البيت الذي كان يسكنه منذ ثلاثين عاماً، وهو يمارس حياته العادية ويستقبل أصدقاءه فيه، لكنه كان يغير محل مبيته في اللحظات التي كان يظن أن حياته مهددة بالخطر.

هل تعلم أن الرئيس أصدر قراراً بمنع تعليق أي صور له في المكاتب الرسمية والأماكن العامة، ونص القرار على أن صورة علم البوسنة فقط هي التي ينبغي أن تعلق على الجدران؟ وأنه يتناول

غداءه مع موظفي مكتبه يومياً، والوجبة التي تقدم إليهم هي ذاتهـا التي تقـدم إلى بقية موظفي وحراس مقر الرئاسة؟ وهل تعلم أنه منع طباعة كتابه الشهير (الإسلام بين الشرق والغرب) في البوسنة، حتى لا يظن أنه يستغل منصبه للترويج للكتاب، كما أنه رفض أن يطلق اسمه على أكبر شوارع سراييفو الذي كان يحمل اسم الرئيس الأسبق (جوزيف بروزتيتو)، وفضل أن يطلق على الشارع اسم أحد أبطال البوسنة القوميين.

حصل بيكوفيتش على جوائز إسلامية لجهوده في خدمة الإسلام، منها: جائزة الملك فيصل الدولية لخدمة الإسلام عام 1993م، ولقب مفكر العام من مؤسسة (علي وعثمان حافظ) عام 1996م، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية من المركز الأمريكي للدفاع عن الديمقراطيات والحريات، وجائزة مولانا جلال الدين الرومي لخدمة الإسلام بتركيا، وجائزة الشخصية الإسلامية لعام 2001م عن مؤسسة دبي الدولية للقرآن الكريم في رمضان 1422هـ.

-- ----------------

(1) عبد الباقي خليفة- مجلة المجتمع (25/10/2003).

(2) مجلة النور الكويتية – محمد يوسف عدس (سبتمبر 1993).

(3) المختار الإسلامي 5/3/1996