في الاحتفاء بالدكتور جابر قميحة

 قلماً مجاهداً

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

وصفي عاشور أبو زيد

[email protected]

لكل أمة رموزها وعلماؤها وأدباؤها وقادة الرأي فيها، وإنَّ من شِيَم الأمم الناهضة المتحضِّرة أن تحتفي وتحتفل بهؤلاء الرموز، وتعطيَهم قدرَهم وتُنزلَهم منزلتَهم، وتُكرِّمَهم بما هم له أهل، وقد كان العرب قديمًا يحتفلون بالشاعر إذا قرض الشعر وظهر نبوغه.

ومما يؤسَف له أن ميزانَ القيم والأولويات أصبح مضطربًا وذا خللٍ كبيرٍ في أمتنا، فالمُقَدَّم اليوم هم لاعبو الكرة والفنانون ومَن على شاكلتهم، أما العلماء والأدباء والمفكِّرون فيعيشون مظلومين مغمورين، حقوقهم مبخوسة، وجهودهم مخبوءة، وشخوصهم مغمورة، لا يعرفهم أحد إلا أهل التخصُّص، والمؤسِف أكثر أننا ربَّما نظلمهم بعد وفاتهم.

 فلاعبُ الكرة إذا أحرزَ هدفًا أو اعتزل، والراقصة أو المطربة إذا أقامت حفلاً أو ماتت، انقلبت الدنيا وانشغل الإعلام أيامًا بهذا البطل أو ذلك الفنان أو تلك الراقصة، أما إذا قدَّم العالم كتابًا، أو أبدع الأديب في شعرٍ، أو قدَّم المفكِّر مشروعًا نهضويًّا، أو وافت أحدَهم المنيةُ، فلا تحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا.

 والأستاذ الدكتور جابر قميحة الكاتب الناقد، والأديب الشاعر، والداعية المجاهد، واحدٌ من هؤلاء العِظام الذين يستحقون الاحتفاء والاحتفال؛ لِما له من جهود ملموسة، وجهاد متواصل، وقد تعوَّد الناس أن يحتفوا بالعالِم عند بلوغه السبعين أو الثمانين، كما قال الشاعر أبو همام عبد اللطيف عبد الحليم لشيخه الحجة محمود شاكر يرحمه الله، محاكيًا قول الشاعر القديم:

إن الثمانين وبُلغتُها          لم تحوج السمعَ إلى ترجمان

 وقد تجاوز أديبُنا السبعين بـ 3 أعوام، ومع ذلك لم يتنادَ محبُّوه وتلاميذُه بالاحتفاء به، غير أن المرحوم بإذن الله أستاذنا الدكتور علي عشري زايد (ت: 27/4/2003م) أستاذ النقد الأدبي بدار العلوم بالقاهرة كتب عنه دراسةً بوصفه من الدعاة الأدباء، نشرتها مجلة (الرسالة)، التي يصدرها مركز الإعلام العربي بالقاهرة، كما نوقشت عن حياته وأدبه رسالةُ ماجستير بجامعة الأزهر بالمنصورة.

المولد والنشأة

وُلد جابر المتولي قميحة في مدينة المنزلة بأقصى شمال الدلتا عام 1934م، ودخل الكُتَّاب ثم المدرسة الإلزامية، ثم المدرسة الابتدائية (ومدتها أربع سنوات)، ثم التحق بالثانوية، وكانت خمس سنوات، وكان التخصص يتم من الصف الخامس، وكان تخصُّصه هو الشعبة الأدبية، فحازَ ترتيب الأول على المدرسة، وقد نما حبُّه للأدب واللغة العربية منذ سن مبكرة، ثم التحق في عام 1953م بكلية دار العلوم بدافع حبِّ اللغة، والارتباط بشخصية الإمام حسن البنا ليتخرج فيها عام 1957م.

 كان منذ الصغر نهِمًا بالقراءة، وكلما صعب عليه كتاب تصدَّى له من منطلق التحدِّي حتى يستوعب ما فيه، وكان يحكم على نفسه من خلال ما يقرأ وما يستوعب، وكان حفَّاظةً للشعر والنثر، حتى قال عنه الأستاذ الدكتور عمر الدسوقي- أستاذ الأدب بدار العلوم-: "التحق بدار العلوم طالب اسمه جابر قميحة يحفظ حِمل بعير من الشعر، ومثله من النثر".

 وبعد الجامعة عيِّن مدرسًا بالتربية والتعليم ثم موجِّهًا، والتحق بكلية الحقوق، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1965م، ثم على الدراسات العليا (ماجستير) في الشريعة الإسلامية بكلية حقوق القاهرة عام 1967م، وهمَّ أن يقوم بعمل دكتوراه بعنوان (نظرية التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون)، لكن استهواه الأدب، وخاصةً الشعر.

 العطاء الجامعي

أُعير أديبُنا إلى الكويت، وحصل من جامعة الكويت على ماجستير في الأدب عام 1974م بعنوان (الفن القصصي في شعر خليل مطران)، ثم حصل من كلية دار العلوم على الدكتوراه عام 1979م، كانت بعنوان (منهج العقاد في التراجم الأدبية(.

 وقد درَّس الأستاذ الدكتور جابر قميحة في كلية الألسن بجامعة عين شمس، ثم أرسلته الحكومة المصرية للتدريس في جامعة (يل (بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالجامعة الإسلامية بباكستان، وجامعة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية.

 عاد بعد ذلك إلى مصر ليتفرَّغ للقراءة والكتابة بعيدًا عن السلك الجامعي، ويعتزُّ الدكتور قميحة بتاريخه وخط سير حياته؛ حيث يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما غيَّرت مسيرة حياتي".

 مؤلفات ودواوين

وللدكتور قميحة مؤلفات في الأدب والنقد، منها: منهج العقاد في التراجم الأدبية- أدب الخلفاء الراشدين- التقليدية والدرامية في مقامات الحريري- أدب الرسائل في صدر الإسلام- الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود- التراث الإنساني في شعر أمل دنقل- صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم- الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف.

 وله دواوين شعرية كثيرة، منها: لجهاد الأفغان أغني- الزحف المدنَّس- حسبكم الله ونعم الوكيل، وله أيضًا عدد من المسرحيات، إلى جانب عدد من المؤلفات في الدعوة والفكر الإسلامي.

 جهوده الدعوية

لن أتحدث في هذه العُجالة عن أدب الدكتور قميحة، فهذا يحتاج إلى متخصِّصين في هذا المجال، كما يليق به دراساتٌ واسعةٌ من جوانب متعددة، فهو شخصيةٌ ثرية أدبيًّا، شعرًا ونثرًا، لكن أتحدث عنه كاتبًا مجاهدًا، ولسانًا صادقًا، وداعيةً مثابرًا، وجنديًّا من جنود الدعوة الإسلامية في هذا العصر.

 قد تتفق أو تختلف مع الدكتور جابر حول بعض شعره أو فنونه الأدبية التي كتب فيها من حيث القيمة الفنية، لكنك لا تستطيع أن تختلف في أنه- إضافةً إلى علمه- صاحب خلق كريم وأدب عالٍ، يُشعرك وأنت معه كأنه تلميذٌ وأنت الأستاذ، ويخجلك عند الحديث من تواضعِه أمامك ورفعِه من مقامك، أو عندما يعطيك كأنك المعطي وهو الآخذ، فكأن الشاعر عناه بقوله:

تراه  إذا ما جــئته متـهللاً          كأنك معطيه الذي أنت سائله

فلو لم يكن في كفه غير روحه          لجاد بها فـليتق الله سائله

هو البحر من أيِّ النواحي أتيته          فلجَّته المعروف والجود ساحله

 كذلك لا تختلف في أنه رجلٌ من رجالات الأمة الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، جعل قلمه وقفًا لله تعالى، وسخَّر كلَّ وقته للشعر والنثر والقصة والمسرحية والمقالة المحترفة؛ من أجل القيام بحق جهاد الكلمة وخدمة قضايا أمته.

 فما من حدث من الأحداث التي تمر بها مصر أو تخص قضايا الأمة الكبرى أو تمس حركة الإخوان إلا لبَّاه، بقلمه ينثر مقالات ويسطر شعرًا، وبلسانه يلقِي ما كُتب في المؤتمرات والملتقيات والتجمعات هنا وهناك، لا يتأخر عن دعوة يُدعى إليها تخصُّ الهمَّ الإصلاحي العام، بالرغم من ظروفه الصحية، فهو بحق يمثل الصوت الأدبي لأحداث أمته، وهكذا يجب أن تكون مهمة الشاعر في الحياة.

 فكم من حمْلةٍ جائرة تهاوت أمام عمق فكره ورسوخ علمه!! وكم من عاصفة هوجاء تكسرت على صخرة قلمه الذي ينبري لها، مفنِّدًا شبهاتها، ومبينًا شهواتها، وموضحًا تهافتها وضحالتها، معتمدًا في ذلك على منهج له معالم رئيسة وقسمات واضحة!!

 أولاً: أهمية اللغة وضبط المصطلح

فمن هذه القسمات وتلك المعالم أنه يعتمد على اللغة والوقوف أمام مضامين المصطلحات بعد ضبطها وعلى استعمالات الكلمة واشتقاقاتها في تفنيد الشبهة أو الردِّ على الافتراءات، ففي ردِّه على فؤاد علام "خبير التعذيب" يقول الدكتور جابر: "فالخبير الأمني- لغةً واصطلاحًا، وعادةً وعرفًا، ونظريًّا وعمليًّا- هو ذلك الرجل الذي درس بتعمُّق علمَ الإجرام، وأبعادَ الجرائم وأنواعها، وأصولها، والدوافع إليها، وسبُل الوقاية منها، وآليات القضاء عليها، يُضاف إلى ذلك دراسة علوم تبعية، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وتاريخ المجتمعات البشرية، وعوامل تطورها أو تآكلها، ومكان الجريمة فيها، كما يجب أن يكون ذا عقلية واعية فاعلة؛ بحيث يملك قدرة التخطيط والتنفيذ بأمانة ونزاهة، ومرونة، وسعة أفق، فيجعل همَّه الأساسيَّ حمايةَ الوطن، وحقوق المواطنين، وأن يطبِّقَ رؤيته تطبيقًا عمليًّا، ويطوِّرَها لما هو أحسن تبعًا لمقتضيات الحال، دون مجاوزة القانون، أو إهدار أيِّ حقٍّ لأيِّ مواطن، مهما كان هذا الحق ضئيلاً"، وينطلق من ذلك إلى تهافته وكذبه وسذاجته.

 وفي مقال لأسامة سرايا يهاجم فيه الإخوان ومرشدهم قال أديبُنا: وبفوقية مرفوضة يصف "سرايا" مرشد الإخوان بـ"الشيخ"، ومن سذاجته أن يجهل أن إلصاق هذا الوصف بمرشد الإخوان يعدُّ تشريفًا لرجل لم يتعلَّم في الأزهر، وأقول لسرايا- حتى يتخلى عن "فوقيته المرفوضة" إن كلمة "شيخ" كلمة شريفة ترتبط بالعقل لا بالسن، فيقال "شيوخ قريش" أي حكماؤهم، ويقال حكم "الشيخان" بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقال في مصطلح الحديث: "رواه الشيخان" أي البخاري ومسلم.

 وفي مقال له بعنوان: (بل الحزب الوطني هو المحظور)، يقول: "جاء في معاجم اللغة: الحظر هو المنع والحجْر، وهو ضد الإباحة، وحظره فهو محظور أي محرم" وجماعة "الإخوان المسلمين" تكاد تفرد في الساحة السياسية بإلصاق هذا الوصف بها، فيقال: "جماعة الإخوان المحظورة"، ويجري هذا التوصيف على ألسنة كبار الحزب الوطني ورجال السلطة، ومَن سار على دربهم من الصحفيين وغيرهم، ومن الأوصاف التي تُخلَع على الجماعة أيضًا ما نراه في قولهم "جماعة غير شرعية" أو "جماعة غير مشروعة.."، وأقدم من ذلك قولهم "الجماعة المنحلَّة"، وهو وصفٌ غالط لغويًّا؛ لأن "الانحلال"- وهو يعني التفكك- فعْلٌ ذاتيٌّ وليس فعلاً غيريًّا، فهو يعني أن الجماعة حلَّت نفسها بنفسها، فهي "منحلَّة" أي مفكوكة مبعثرة، من "حلَّ" العقدة أي فكَّها"، كذلك يخالف هذا الوصف "العُرف الاستعمالي" الذي دأب على استخدام الكلمة بمعنى "الانهيار الخلقي"، فيقال "هذا إنسان منحلّ" أي: فاسد عربيد، سيِّئ الخلق والسلوك، ويقال "حزب مشروع" أي يتمتع- قانونًا- بالوجود، ومزاولة النشاط، والمشاركة في الحركة السياسية، ويقال: حزب محظور، أي يحرِّم القانون قيامه ومزاولة نشاطه، وعمله الحزبي كشخصية "اعتبارية"، وإن سُمح بذلك لأفراده بوصفهم مواطنين، وينطلق من هذا كله ويقارنه بوضع الجماعة في الواقع الذي يتناقض مع كل ما سبق.

وهكذا يسير الرجل في نقده وتفنيده للشبهات، مستصحبًا اللغة، وتوضيح المفاهيم، وضبط المصطلحات؛ حتى يأتي على الشبهات من القواعد، ويؤسس عليها بنيانًا صحيحًا.

 ثانيًا: فنون البلاغة

كما أنه يستخدم فنون البلاغة فيما يكتب، ولم لا وهو فارسها الأصيل؟! فهو يستخدم التورية فيما يكتب وفي ردوده، وبخاصة مع أسماء الكتَّاب الذين يفنِّد كلامهم، ففي ردِّه على أسامة سرايا المشار إليه قبل قليل قال: "ويسقط "سرايا"- هكذا بين قوسين- في التناقض بعد ذلك مباشرة"، فهو يقصد الاسم حقيقةً ومجازًا يقصد سقوط عمارة "سرايا" في تورية لا ينقصها الجمال في التعبير والصورة.

 وحينما كان يرد على ثروت أباظة افتراءاته على الإخوان وصفَه بالكاتب الفحْل، ثم يسير في رده قائلاً: ويقول الكاتب "الفحل"- هكذا بين قوسين- والتورية فيها واضحة.

 ومع السيد ياسين حينما وصف شعار الإخوان "الإسلام هو الحل" بأنه شعار غوغائي، قال أديبنا مستخدمًا آلة اللغة والتورية معًا: "كاتب الأهرام الفحل- السيد ياسين- وصف شعار الإخوان "الإسلام هو الحل" بأنه "شعار غوغائي" أي أنه "شعار سوقي"، والغوغاء شيء يشبه البعوض، ولا يعضُّ لضعفه، وبه سمِّي الغوغاء من الناس، وهو ما نطلق عليه حاليًّا "الهاموش"، فيكون المعنى المتكامل "للغوغاء" من الناس أنهم السوقة والدهماء، والجهلة، والتافهون من العامة الذين لا ثقل، ولا همَّة ولا وزنَ لهم، ولا أدري على أي أساسٍ حكم هذا "الفحل" بهذا الوصف على الشعار..؟ هل بالنظر إلى منطوقه، ومنطوقه قيم رفيع راقٍ".

 ثالثًا: السخرية التصويرية اللاذعة

ومن الأدوات التي يستخدمها في كتابته والأساليب التي يعتمد عليها السخرية اللاذعة التي ترتسم بها صورة الموقف أمامك، فلا يفتأ يقرأها القارئ حتى ينطرح على ظهره ضاحكًا، ففي المظاهرة التي أقامها الحزب الوطني قبيل حرب العراق ليحاكيَ بها مظاهرة الإخوان المليونية آنذاك يقول أديبنا مبينًا أسباب كون المظاهرة خارجَ (الاستاد) لا داخله كما كانت مظاهرة الإخوان: الأول: أن كل المتظاهرين لن يشغلوا مدرَّجًا واحدًا من مدرَّجات (الاستاد) الذي ضاق بكل مدرجاته وطرقه وملعبه عن الإخوان من قبل.

الثاني: العجز المتوقَّع عن ضبط المتظاهرين وتنظيمهم، ويومها أدرك الشعب الفارق بين حزب "محظور" بأمر الحكومة، وحزب محظور ملفوظ مكروه "بأمر الشعب".

 يقول: وضحكت- والله- وأنا أسمع الشريف يخطب الحاضرين قائلاً: "يا مظاهرة المليون.. هذا يوم من أيام مصر.. إلخ، وضحكت وأنا أرى عادل إمام يذكرني بنفسه في فيلم "الأفاكاتو" رأيته يخطب وقد فتح عينه اليسرى "بزيادة" عن اليمنى، فإذا ما عجز عن مواصلة الكلام هتَفَ ليردِّدَ الجمهور هتافه "لا للحرب.. ونعم للسلام"، ويظل يكررها حتى يفتح الله عليه بكلمتين، فيواصل!!

 ولم تُخدش أمريكا أو إسرائيل أو بوش بهتاف واحد، ولا حتى كلمة مكتوبة على لافتة، ولكن يبقى الأكثر إضحاكًا كلمة الشريف "يا مظاهرة المليون"؛ لأن عدد المتظاهرين لم يكن يزيد على عشرين ألفًا بأية حال، ولكن استُخدمت "الحيل" السينمائية في التصوير من زوايا متعددة؛ مما يدل على براعة "الكبار" لا في التزوير الانتخابي فحسب، ولكن في "التزوير التصويري" كذلك.

 وفي مقالة بعنوان "وزير الأوقاف وتجلياته الزقزوقية" قال: الشيخ الدكتور محمود حمدي زقزوق: وزير أوقافنا ليس شيخًا ولا وزيرًا عاديًّا؛ لأنه صاحب "تجليات" موسمية لا تنقطع، وكلها بحمد الله تجليات "مضروبة" لا تليق به شيخًا، ولا دكتورًا، ولا وزيرًا، فهي تذكِّرني بتجليات مولانا "كبير الهامة" الذي كان يجلس على مصطبة في بلدنا، وقد علَّق في عنقه عشرات من المسابح، وكل عمله أن يهزَّ رأسَه يمنةً ويسرةً، ويمر به العوام يقبلون يده، ويضعون فيها النقود".

 وهكذا يمضي في سخرية لاذعة لا تخلو من صورة واضحة يرسمها ببراعة قلمه وسعة خيالة ودقة تعبيره، وهو أمرٌ له أهمية للقارئ لا تخفى.

رابعًا: استصحاب التاريخ

ومن أهم ما يستخدمه أديبُنا في دفع الشبهات ورد الافتراءات أنه يستصحب التاريخ باليوم والشهر مع ذكر المصدر موثَّقًا، وهذه ميزةٌ عنده استخدمها في كثير من المقالات، في ردِّه على ثروت أباظة، وفي ردِّه على الحزب الوطني، وفي ردِّه على كلام هيكل في (الجزيرة)، وفي بيانه لحادث المنشية، وفي ردوده على أحمد عبد المعطي حجازي، وغيرها من الموضوعات يضيق المقام هنا عن الاستشهاد لها.

 **********

 هذه لفتة سريعة للتنبيه إلى بعض جهود هذا الشيخ الجليل والكاتب القدير، وكلمات قليلة في حق رجل مكثِرٍ من الخير؛ اعترافًا بجهده في الدعوة وفضله في الصحافة والأدب واللغة، وعلى قرَّائه، وإذا كان هو قد تبنَّى الشعراء الشباب الذين لهم شعرٌ معتبَرٌ، وكتب عنهم في سلسلة كاملة أخرجها كتابًا فيما بعد عن فلسطين في شعر الشباب، كما كان يفعل الأدباء الكبار من قبل مع ناشئة الأدب، وهو نموذج نادر في عصرنا الذي أصبحت سمته الأولى المصالح والمال، فلا يكتب أديب أو ناقد عن شاعر صغير إلا إذا كان وراءه مصلحة.

 أقول إن كان أديبُنا قام بهذا من أجل إبراز هؤلاء الشباب لا غير، فأَولى بتلاميذه ودارسي الأدب والشعر، وحريٌّ بالشعراء الذين كَتَب عنهم وأخرجهم إلى الوجود أن يهتمُّوا به الآن، ويوجِّهوا عنايتهم إلى أدبه؛ درسًا وتحليلاً وشرحًا ونشرًا .