أ. محمد قطب (رحمه الله) الداعية الأديب

المستشار عبد الله العقيل

السابقون إلى الدار الآخرة

(1919 – 2014م)

المستشار عبد الله العقيل *

ودَّع العالم الإسلامي، وودعت الأمة الإسلامية الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها الجمعة (الرابع من جمادى الآخرة سنة 1435هـ - الرابع من أبريل سنة 2014م): قطباً من أقطابها، وعلماً من أعلامها، وقلماً من أقلامها، ونجماً من نجومها، وَهَبَ عمره من أوله إلى آخره لها ولدينها، ودعوتها وثقافتها، وحضارتها وتراثها، وهو الداعية الكبير، والكاتب العزيز، المصري وطناً، الإسلامي هُوية، العالمي امتداداً، الأستاذ محمد قطب، الذي لقي ربه بمكة المكرمة بجوار بيت الله الحرام، بعد حياة حافلة راضية، ثائرة على الطاغوت، مؤمنة بالله تعالى، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. قضى هذه الحياة في خدمة الفكرة الإسلامية والدعوة الإسلامية، التي كان (رحمه الله) بها يعيش، ولها يحيا، ومن أجلها يدرِّس ويحاضر، ويؤلف ويكتب، ويدعو ويربِّي، حتى لقي ربه راضياً مرضياً.

نشأته وحياته العملية

ولد محمد قطب إبراهيم في 26 إبريل 1919 وفي قرية موشا بمحافظة أسيوط بمصر، وعمل والده بالزارعة، وكان الأب يحب القراءة والمطالعة حتى صار أحد مثقفي القرية رغم أنه لم يكمل تعليمه نظراً للظروف الاقتصادية السيئة، وكانت الأم محبة للعلم، فحرصت على إرسال ولديها سيد ومحمد إلى القاهرة لتلقي العلم.

بدأ محمد قطب دراسته في القاهرة فأتم المرحلتين الابتدائية ثم الثانوية، ثم التحق بجامعة القاهرة، ودرس اللغة الإنجليزية وآدابها، وتخرج فيها عام 1940م، ثم درس في معهد التربية العالي للمعلمين وحصل على دبلوم التربية وعلم النفس، وعمل بالتدريس أربع سنوات، ثم عمل بإدارة الترجمة بوزارة المعارف خمس سنوات، ثم بالتدريس مرة أخرى لعامين، ثم مشرفاً على مشروع الألف كتاب بوزارة التعليم.

تأثره بأخيه سيد

تأثر الأستاذ محمد قطب بأخيه سيد إذ كان يكبره باثنتي عشرة سنة، وكان يشرف على تعليمه وتوجيهه، وكان له كالأب والصديق.. ولذلك قال محمد قطب عن أخيه: "لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات؛ ولذلك امتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجاً كبيراً، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب.. لقد كانت صلة سيد بي من حيث التربية يتمثل فيها العطف والحسم في آن واحد، فلا هو اللين المفسد ولا الشديد المنفر، كما أنه كان يشجعني على القراءة في مختلف المجالات، وكان هو نفسه نهماً في القراءة فساعدني هذا التوجيه على حب المطالعة منذ عهد الطفولة".

كما تأثر الأستاذ محمد قطب بخاله وفي ذلك يقول: "كان لوجودنا مع خالي ذي النشاط السياسي والأدبي والصحافي أثره الملموس في توجيهنا - أنا وأخي - نحو الأدب والشعر وتغذية ميلنا إلى القراءة والاطلاع..

اهتمامه بالأدب

الأدب هو مفتاح شخصية محمد قطب؛ فقد كان شديد التركيز على أهمية الأدب في مخاطبة القراء والمستمعين، لذلك كان يقول: "غير خاف أن الأدب ألوان مختلفة، ولكل لون خصائصه المناسبة.. وحين أتحدث عن التعبير غير المباشر فلا يمكن أن يتطرق ذهني إلى المقالة والبحث والدراسة والموعظة، التي تلقى على الناس مباشرة بقصد التوجيه والتذكير، إنما أقصد بذلك الشعر والقصة بأنواعها والمسرحية.. ففي هذه الفنون يحسن دائماً أن يتوارى المؤلف، وأن يتوارى القصد المباشر، وأن يصل المؤلف إلى هدفه من خلال عرضه مشاهد حية، شعورية وفكرية، وحسية، يتصرف الناس فيها تصرفاتهم التي تتناسب مع مواقفهم المختلفة ومن خلال براعة العرض يتبين الموقف الصحيح، أو الذي ينبغي أن يتجه إليه الناس، وهي طريقة أكثر تأثيراً في هذه الفنون من التعبير المباشر الذي يفسد على القارئ أو المشاهد متعة المشاركة مع أشخاص القصة أو المسرحية، ومتعة استخلاص القصة بنفسه لنفسه. والملحوظ أن الشعر والقصة والمسرحية إذا لجأت إلى التعبير المباشر تستوي مع الموعظة بكون تأثيرها يكون عابراً مؤقتاً ثم لا يلبث أن يخفت ويضيع.. على حين تظل مع التعبير غير المباشر مؤهلة للخلود."

محنة الأستاذ محمد قطب

تعرض آل قطب لمحنة شديدة أيام حكم عبد الناصر، ورأى وإخوته شدة التعذيب في سجون عبد الناصر، قال الأستاذ محمد قطب عن هذه المحنة بعد مسرحية حادث المنشية الشهير سنة 1954م: "كانت فتنة السجن الحربي بالغة الأثر في نفسي إذ كانت أول تجربة من نوعها وكانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييراً كاملاً من بعض الجوانب على الأقل.

ثم أفرج عن محمد قطب وحمل عبء الأسرة عشر سنوات حتى أفرج عن أخيه سيد، ثم اعتقل الاثنان عام 1965م. وكان نصيب الأستاذ محمد  أن يقضي فيه ست سنوات متصلة من 30 يوليو 1965م إلى 17 أكتوبر عام 1971م، قال عنها الأستاذ محمد: "كانت هذه السنوات الست بكل أحداثها ووقائعها هي في النهاية زاد على الطريق"، وبعد خروجه من السجن غادر مصر إلى السعودية حيث تفرغ للتدريس في الجامعة وتفرغ فيها للدعوة.

جهوده العلمية

سافر الأستاذ محمد قطب إلى السعودية فعمل مدرساً في كلية الشريعة بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، ثم في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، واستفاد منه طلابه، وتعلقوا به، وأنزلته المملكة آنذاك منزلته، فكان محاضراً في كل الجامعات وشتى المناسبات، وحظيت كتبه بالشهرة والانتشار، وطلب منه وزير التعليم العالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ بإشارة من الأستاذ محمد المبارك أن يكتب (منهاج التوحيد) لطلاب الثانوية، فألف كتاب (التوحيد) بأجزائه الثلاثة، وقرأه ألوف الطلاب وانتفعوا به، ثم غُيِّر المنهاج إلى أسلوب آخر، وكاتب آخر، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام 1988.

تزوج الأستاذ محمد قطب بعدما تقدم به العمر من أسرة دمشقية عريقة، وأنجب ثلاثة أبناء بررة: أسامة، وعبد الرحمن، فضلاً عن ابنة واحدة تخصصت في علم التاريخ.

معرفتي به

لم تكن معرفتي أول الأمر بالأخ محمد قطب عميقة كمعرفتي بأخيه الشهيد سيد قطب، الذي كنا نكثر التردد عليه في بيته بحلوان أثناء الدراسة بالأزهر مع إخواننا طلبة البعوث من العراق وسورية وفلسطين والأردن والسودان والبحرين وغيرها، ونستفيد من توجيهاته وآرائه في مختلف القضايا التي تهم الشباب المسلم، ولكن بعد سنوات حين خرج من السجن، واشترى شقة في نفس البناية التي أمتلك فيها شقة بمنطقة (ألماظة) بمصر الجديدة، وهي للحاجة زينب الغزالي، وكان الواسطة بالشراء لي وله هو الشهيد محمد كمال السنانيري زوج الأخت أمينة قطب، رحم الله الجميع.

وقد أتاح لنا الجوار في السكن فترة الصيف كثرة اللقاءات والحوارات والتعارف بين العائلات، وكان للحاجة زينب الغزالي دور كبير في الدعوة إلى الله، فكانت كخلية النحل التي لا تهدأ ولا ينقطع بيتها من الزوار ليلاً ونهاراً لبحث قضايا الإسلام والمسلمين.

وحين عملت بمكة المكرمة برابطة العالم الإسلامي كثرت الزيارات بيني وبين الأخ محمد قطب، وكانت جلساتنا محورها الأساسي دراسة حال المسلمين في العالم ومخططات أعداء الإسلام في الشرق والغرب لوأد الصحوة الإسلامية وتصفية العاملين للإسلام، وتجهيل عامة المسلمين، وإبعادهم عن الأهداف الحقيقية لنصرة الإسلام، ومنهج القرآن والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة.

وكذا تكررت اللقاءات بالأستاذ محمد قطب داخل المملكة وخارجها، حيث كانت لقاءاتنا مع الأستاذ أبي الأعلى المودودي والدكتور خورشيد أحمد في لندن، ومع الدكتور محمد حميد الله في باريس، وكذلك في تركيا مع الدكتور نجم الدين أربكان، وتلامذته العاملين في الدعوة الإسلامية بتركيا.

مؤلفاته

استمر تدفقه في عالم التأليف، يمتع المسلمين في بلاد العرب، والعالم الإسلامي، وعالم الغرب والشرق، بكتبه القيمة، التي تقدم البيّنات، وترد على الشبهات، وتقاوم الباطل، وتنشر الحق، وأمد المكتبة الإسلامية بكتبه الإسلامية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ويمد الجامعات بما يمد به شبابها من فقه وثقافة، وهذه الكتب هي:

1- دراسات في النفس الإنسانية

 2- التطور والثبات في حياة البشرية

 3- منهج التربية الإسلامية (بجزئيه: النظرية والتطبيق)

 4- منهج الفن الإسلامي

 5- جاهلية القرن العشرين (1965)

 6- الإنسان بين المادية والإسلام (1951)

 7- دراسات قرآنية

 8- هل نحن مسلمون؟ (1959)

 9- شبهات حول الإسلام

 10.في النفس والمجتمع

 11- حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

 12- قبسات من الرسول (1957)

 13- معركة التقاليد.

 14- مذاهب فكرية معاصرة.

 15- مغالطات (2006).

 16- مفاهيم ينبغي أن تصحح.

 17- كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟

 18- لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

 19- دروس من محنة البوسنة والهرسك.

 20- العلمانيون والإسلام.

 21- هلم نخرج من ظلمات التيه.

 22- واقعنا المعاصر.

 23- قضية التنوير في العالم الإسلامي.

 24- كيف ندعو الناس؟

 25- المسلمون والعولمة.

 26- ركائز الإيمان.

 27- لا يأتون بمثله!

 28- من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر.

 29- حول التفسير الإسلامي للتاريخ.

 30- الجهاد الأفغاني ودلالاته.

 31- دروس تربوية من القرآن الكريم.

 32- حول تطبيق الشريعة.

 33- المستشرقون والإسلام.

 34- هذا هو الإسلام.

 35- رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر.

 36- مكانة التربية في العمل الإسلامي.

ولقد كان يعيد طباعة كتبه القديمة مرات ومرات، وكثيراً ما كان يراجع نفسه فيها، ويتراءى له من الأفكار ما قد يعاتب عليه نفسه. انظر إلى ما كتبه في مقدمة الطبعة الرابعة، بعد عشرين سنة من الطبعة الأولى، لكتابه الأول (الإنسان بين المادية والإسلام).يقول رحمه الله:

"هذا الكتاب هو أول كتبي، ومن أحبها إلي!

إنه يمثل في نفسي خط الاهتداء إلى الإسلام!

ولقد عشته سنوات طويلة قبل كتابته بالفعل. عشته خواطر متفرقة، وتأملات متشعبة في النفس والحياة. ولكنها لم تتبلور، ولم تأخذ صورتها النهائية، إلا في أثناء كتابة الكتاب!

ولذلك أحسست وأنا أكتبه، أنني أجد نفسي! وأجد إسلامي واضح الصورة، مفصل القسمات!

ولقد كان مدخلي إليه هو دراسة النفس الإنسانيَّة. وما زال هذا أوسع مداخل البحث لدي. فأنا أشعر دائماً أن دراسة النفس الإنسانيَّة هي القاعدة التي نبني عليها معرفتنا وتصوراتنا، في كل ما يختص "بالإنسان" سواء كان أدباً وفنًاً، أو تاريخاً، أو سياسة، أو اقتصاداً، أو اجتماعاً، أو تربية وعلم نفس.. وأننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المجالات بغير تصور سليم، ودراسة وافية للنفس الإنسانية.

وأيًاً كان الرأي، فهذا هو المدخل الخاص الذي دخلت منه إلى الدراسة الموضوعية في هذا الكتاب، وفي كتب كثيرة تالية.. وما زلت مقتنعاً بأنه يمكننا التوصل إلى كثير من الحقائق عن هذا الطريق!

ثم إن هذا الكتاب– في الوقت الذي تبلورت فيه أفكاري ومشاعري و"مدخلي" إلى الإسلام ذاته- كان في الحقيقة "مستودعاً" لكثير من الأفكار التالية التي تولدت عنه، فكانت امتداداً له أو بلورة أو تخصيصاً لما جاء فيه من موضوعات. وبهذه النظرة أنظر مثلاً إلى كتاب "شبهات حول الإسلام" و"في النفس والمجتمع" و"معركة التقاليد" و"منهج التربية الإسلامية" و"دراسات في النفس الإنسانية" و"التطور والثبات في حياة البشرية" وحتى "جاهلية القرن العشرين"!

لقد كانت كلها بذوراً محتواة في الكتاب، أو براعم تفتحت فيما بعد، وامتدت في شتى الاتجاهات..

وربما كان هذا كله تفسيراً للصلة النفسية التي تربطني بالكتاب!

غير أنه ينبغي لي أن أقول: إنني عند مراجعتي له من أجل هذه الطبعة – وتلك أول مراجعة حقيقية منذ كتبته أول مرة سنة 1951- وجدت أن هذه المدة المتطاولة من الزمن قد فعلت فعلها، ولا شك في طريقة تفكيري وفي موقفي من بعض قضايا الكتاب!

لقد وجدت مثلاً أنني أعطيت فرويد – والتفكير الغربي عامة- أكثر مما ينبغي من "التوقير العلمي"! وأن هذا التفكير الغربي– بما فيه فرويد بالذات- لا يستحق كل هذا التوقير، ولا كل هذه العناية بتفنيده! ولست أعني بذلك أنني عدلت عن منهج المناقشة الموضوعية لأية فكرة أو نظرية، بل هذا الذي ينبغي دائماً أن نفعله. ولكن المناقشة الموضوعية شيء و"التوقير" شيء آخر.. وأرى اليوم- بعد زيادة خبرتي بانحرافات الفكر الغربي، وبمخططات الإفساد التي تخطط لإفساد البشرية - أن ذلك الفكر يناقش- إذا لزم الأمر- مناقشة موضوعية، نعم، ولكن بغير الحفاوة والاحتفال الذي كان قبل عشرين سنة من الزمان! وأن الأجدر بنا أن نعرض حقائق الإسلام المشرقة الوضيئة، دون التفات لتلك الانحرافات!".

واستمراراً لمسلسل المحن الذي تعرض له الأستاذ محمد قطب أراد أناس من المملكة أن يخرجوه منها، مع من خرج من الإخوان، ولكن كثيرين توسطوا له، وحققوا له ما أراد، من الإقامة والاستقرار بمكة المكرمة، دون أن يمارس أي نشاط، فوافقوا على ذلك فبقي بها، حتى وافاه الأجل وهو فيها {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11].

اللهم ارحم آل قطب الأبرار، وارحم محمد قطب واغفر له، وعافه واعف عنه، وتقبل منه، واكتبه في عبادك المرضيين، وعلمائك العاملين، ودعاتك الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين.

               

* الأمين العام المساعد لشؤون المساجد برابطة العالم الإسلامي – سابقاً.