الدكتور عبدالخالق محمود والتصوف الإسلامي

أبو الحسن الجمّال

 عرفت الدكتور عبدالخالق محمود عبدالخالق، أستاذ الأدب الصوفى فى جامعة المنيا وأنا فى عهد الطلب، عندما عاد من البحرين عام 1997، وتولى رئاسة قسم الدرسات الإسلامية الذى أعيد فى نفس العام بعد أن ألغى عام 1983، وأسس بدلاً منه كلية الدرسات العربية (دار العلوم الآن) بالمنيا فى نفس العام، وكان الدكتور عبدالخالق أول عميد لها..كان يتسم بسمت العلماء وأخلاقهم، يهش للجميع استاذاً وطالباً، متبسطاً معهم فى حسن المعاملة، وفى هذا الوقت أجرى أستاذنا الدكتور عبدالمجيد الإسداوى حواراً شاملاً معه، نشره فى مجلته (الأدهم)، وقد شجعنى هذا فى الاقتراب من الرجل، أزوره كلما عدت من أسفارى، وقد كان لى معه ذكريات، وأهدى لى معظم مؤلفاته، وكان يحسن لقائى حتى فجعت برحيله المأساوى عام 2006، إذ سقط به مصعد عمارة أعضاء هيئة التدريس فمات فى الحال، وقد عز علىّ أن ينسى فى خضم حياتنا الأدبية الفاسدة التى تعلى من الأقزام وتهبط بالأعلام إلى الدرك الأسفل السحيق.      

  والدكتور عبدالخالق محمود علم من أعلام أساتذة الأدب الصوفى فى مصر بما تركه من آثار فى هذا المجال، وقد كرس حياته لهذه الدراسات؛ فأعاد تحقيق ديوان ابن الفارض بعد طبعات شعبية بها أغلاط وتصحيف، ولم ينتهى دوره عند هذا الحد بل درس شعره فى ضوء النظريات الأدبية الحديثة فهو فى هذا المجال امتداد لجهود الأقدمين منهم: الدكاترة زكى مبارك، ومحمد مصطفى حلمى، وأبو العلا عفيفى، وعبدالحليم محمود، وطه عبدالباقى سرور..

   ولد الدكتور عبدالخالق محمود عبدالخالق فى التاسع من شهر رجب الفرد 1453هـ (7نوفمبر 1934م) فى مدينة شبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية، تلقى تعليمه الإبتدائى فى مدرسة الجيزة الإبتدائية، والثانوى فى المدرسة السعيدية الثانوية، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية التى كانت تعج بكوكبة من الأساتذة الأعلام فى هذا التوقيت، وتلقى تعليمه على بعضهم منهم: شوقى ضيف، وعبدالعزيز الأهوانى، وسهير القلماوى، ويوسف خليف، وشكرى محمد عياد، وحسين نصار، وقد تعهده د.عياد ود.نصار بالرعاية وساعداه فى مرحلة الدراسات العليا وقد حصل على ليسانس اللغة العربية وآدابها عام 1384هـ - 1964م وعلى درجة الماجستير فى الآداب عن موضوع "تائية ابن الفارض وشروحها فى العربية" سنة 1391هـ - 1971م، والدكتوراه فى الآداب عن تحقيقه لديوان ابن الفارض وشرحه ودراسته فى ضوء النقد الأدبى الحديث.

 عمل الدكتور عبدالخالق محمود مدرساً للأدب العربى فى قسم اللغة العربية فى كلية الآداب جامعة المنيا ابتداءً من 5/9/1976 فأستاذا مساعداً للأدب العربى القديم فى 26/8/1982م ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية بالكلية ذاتها 17/8/1982، كما عين أول عميداً لكلية الدرسات العربية (دار العلوم الآن) بجامعة المنيا 4/9/1983- 30/9/1985، فاستاذاً مشاركاً بقسم اللغة العربية فى كلية الآداب جامعة البحرين (1/10/1985- 1/7/1997) فرئيساً لقسم الدرسات الإسلامية 2/9/1997 وحتى وفاته سنة 2006أثر حادث أليم ...(1)

  أثرى الدكتور عبدالخالق المكتبة العربية بالعشرات من البحوث والمؤلفات فى الأدب العربى والتصوف الإسلامى وأعلامها، وله عدد من الكتب المحققة التى دلت على تفرد منهجه وأصالته وهو الذى تلقى العلم مباشرة على أحد أهم محققى التراث فى عصره وهو الأستاذ الدكتور حسين نصار، ومن مؤلفاته:

1-    "سيكولوجية الإبداع فى الشعر الصوفى".

2-    "شعر ابن الفارض فى ضوء النقد الأدبى الحديث".

3-    "شخصية أدب الدين فى أدب طه حسين".

4-    "تائية ابن الفارض وشروحها فى العربية"، وهو فى الأصل رسالته للماجستير.

وفى مجال التحقيق:

1-    شرح وتحقيق "ديوان ابن الفارض".

2-    "اصطلاحات الصوفية" للكاشانى وقد سبق فى تحقيقه لهذا الكتاب طبعة الدكتور محمد كمال جعفر أستاذ الفلسفة الإسلامية فى كلية دار العلوم جامعة القاهرة، دون أن ينوه الأخير بمن سبقه.

3-    "جلال الدين السيوطى والتصوف الإسلامى"، وحقق فيه رسالتين للإمام السيوطى فى التصوف الإسلامى، وهما "قمع المعارض فى نصرة ابن الفارض"، وتنبيه الغبى فى تبرئة ابن العربى".

 عنى الدكتور الخالق محمود بالتصوف مبكراً قبل أن يحتك به أكاديمياً، وكان فى مبتدأ حياته أن نشأ ظاهرياً سنياً يكره التصوف، حتى تعرف إلى الشيخ القطب صالح الجعفرى الذى غير حياته، فدفعه إلى التواصل مع التصوف بآفاقه الرحبة، وفى المرحلة الجامعية التقى بالأستاذ الدكتور شكرى محمد عياد الذى قاده إلى دراسة تائية ابن الفارض وشروحها وسما به إلى رحاب سامقة من الصدق العلمى. والتقى أيضاً بالأستاذ الدكتور حسين نصار الذى راعى خطواته الحثيثة فى تحقيق ديوان ابن الفارض ودراسته، وذرع فيه صورة مثلى من التحلى بعدالة المحقق ونزاهته.(2)

رحلته مع ابن الفارض:

 يعد ابن الفارض (576هـ- 632هـ) بحق شاعر التصوف العربى الإسلامى، الذى وهب حياته ووقته لمعالجة هذا اللون من الشعر، فقد عاش حياته كلها مسبحاً بالحب الألهى، موحداً لم يشرك فى حبه أحداً ولابن الفارض دون غيره من شعراء العربية، بما أعطى هذا اللون من الشعر فى أن يكون علامة أصالة وعراقة للأدب العربى، فى مواجهة شعراء هذا اللون فى الأدب الفارسى من أمثال: جلال الدين الرومى، وفريد الدين العطار، وحافظ الشيرازى.(3)

يقول ابن الفارض مؤكداً مذهبه:

وعن مذهبى فى الحب ما لى ...إن ملت يوماً عنه فارقت ملتى (4)

  ويصف ابن حجلة ديوان ابن الفارض بقوله: "هو من أرق الدوواين شعراً، وأنفسها دراً وبراً وبحراً، وأسرعها للقلوب جرحاً، وأكثرها على الطلول نوحاً، إذ هو صادر عن نفثة مصدور وعاشق مهجور وقلب بحر النوى مكسور" (5)

  وقد عايش الدكتور عبدالخالق شعر ابن الفارض لمدة تزيد عن عشر سنوات حيث كانت دراسته للماجستير فى موضوع "تائية ابن الفارض وشروحها فى العربية" محاولاً الكشف عن ماهية الطريقة التى تناول بها الصوفية الشراح هذا النص الصوفى؟ وعلام اعتمد هذا التناول، أعلى قواعد يأخذون بها أنفسهم، فيجمعون عليها، ومن ثم يحتكمون إليها، أم على طرائق فردية تختلف باختلاف مشارهم، وإن وجدت تلك القواعد، فهل يمكن لها أن تشكل – بصورة أو بأخرى- نظرية أو شبه نظرية فى النقد الأدبى يمكن أن يطلق عليها "النقد الصوفى"، وانتهت الدراسة إلى أن السؤال جد كبير وخطير وفى حاجة إلى جهود علمية مخلصة ومتصلة ليمكن الإجابة عنها، فكان لزاماً عليه أن يستكمل المسيرة ويدخل فى طور آخر من الجزء (التائية) إلى الكل (الديوان) كاملاً ليقوم بتحقيقه ودراسته وشرحه فكان لابد من السير فى طريق شاق ومرهق، أضناه كثيراً، إذ جمع كل مخطوطات النص واستبعد النصوص المطبوعة منه لوجود تصحيف وأغلاط كثيرة بها، وكذلك واصل التنقيب فى بطون المخطوطات الموجودة فى مراكز المخطوطات ودار الكتب، وبعد تحقيق النص وضبط أبياته وشرحها قام قام بعمل دراسة له فى ضوء النقد الأدبى الحديث ليجمع بين إحياء التراث وبعثه وبين إلقاء الأضواء عليه من وجهة نظر حديثة ومعاصرة بغية الكشف عن أصالته وبيان مقوماته وخصائصه الفنية.(6)

  وتعرض الدكتور عبدالخالق محمود لمذهب ابن الفارض الصوفى فى "الحب الإلهى" إذ هو مذهباً إسلامياً فى جوهره، لم يشط كغيره من المتصوفة الذين احترفوا التصوف المذهبى الذى يقول بـ"الحلول والاتحاد"، و"وحدة الوجود" والمغالاة فى الاستعارة من تراث الأمم السابقة، مثل: السهروردى، والحلاج، وابن سبعين، وصدر الدين القونوى، وعفيف الدين التلمسانى، وهو فى ذلك كغيره من المتصوفة المصريين الذين اعتنوا بالجانب العملى الخلقى من التصوف أكثر من العناية فى الخوض فى المسائل النظرية الصوفية، الذين كانت دعوتهم عملية خلقية كالواسطى والبدوى والدسوقى والشاذلى ولاقت صدى وقبولاً، ثم شيوعاً وانتشاراً بين أفراد الشعب المصرى.(7)

  وعنى أيضاً بالإمام جلال الدين السيوطى (849هـ - 911هـ) ومؤلفاته فى التصوف وهى:

1-    "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال".

2-    "المعانى الدقيقة فى إدراك الحقيقة" .

3-    "تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية".

4-    "قمع المعارض فى نصرة ابن الفارض".

5-    "تنبيه الغبى بتبرئة ابن عربى".

 وحدث أن دعى الدكتور عبدالخالق محمود للمؤتمر العلمى الثانى لجامعة أسيوط عام 1982وكتب بحثاً قيماً بعنوان "جلال الدين السيوطى والتصوف"، تعرض فيه لجهود الإمام السيوطى فى هذا العلم الذى مارسه عملياً وكتب فيه الكتب والرسائل القيمة، واختار من هذه الرسائل اثنين هما: "قمع المعارض فى نصرة ابن الفارض"، و"تنبيه الغبى بتبرئة ابن عربى"، وكان قد عزم النية لإخراج بقية المؤلفات، وكان يعمل فى الرسالة الثالثة "تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية"، لولا أن القدر لم يمهله ورحيله المفاجىء – رحمه الله تعالى.

 ومحور الرسالتين يدور حول الخصومة التقليدية بين الفقهاء والمتصوفة تلك التى لعبت دوراً خطيراً على مسرح الحياة الدينية الإسلامية خلال عصور متطاولة ومحاولة السيوطى تبيين وجه الحق فى ذلك. وقضية التصوف وعلاقته بالفقه ليست قضية تاريخية منتهية، بل هى قضية عصرية لا تزال حية، ومن هنا تأتى أهمية تحقيق كتب السيوطى الصوفية ودراستها والكشف عما دار حول التصوف  وأعلامه من حوار يتصل بأصول هذه القضية فى الثقافة الإسلامية.(8)

 وموقف الفقهاء من التصوف موقف مبكر، فقد فرق صوفية الإسلام بين مذهبهم ومذهب غيرهم فى علاقة كل منهم بالله فهم يرون أنهم أحباء الله على الحقيقة وبقية المسلمين اتباع الشريعة يعبدون الله خوفاً من ناره وطمعاً فى جنته، أما علاقتهم بالله تعالى فنزهة عن الرغبة والرهبة والفرق بين الفريقين يوضحه الفرق بين الاصطلاحين "الشريعة"، و"الحقيقة"..فالشريعة عندهم ظاهر الدين والحقيقة باطنه. (9)

 ولم يقتصر دور د.عبدالخالق على دراسة التصوف وأعلامه فقط، بل كان يمارسه، ويتخلق بأخلاقه الرفيعة، لم يعرف الكبر أو التعالى طريق إلى قلبه، وكان إذا اجتمعت به يشعرك بأنك تجتمع مع أحد أولياء الله الصالحين، رحمه الله رحمة واسعة.     

ــــــــــــــــــــــــ

1-     د.عبدالمجيد الإسداوى ، صفحة من تجربة الدكتور عبدالخالق محمود ، مجلة الأدهم مايو 1998م.

2-     د.عبدالمجيد الإسداوى، مرجع سابق.

3-     ابن الفارض ، الديوان، تحقيق عبدالخالق محمود ، دار عين 1995، ص27.

4-     البيت رقم 64 من التائية الكبرى ، مرجع سابق، ص229.

5-     مرجع سابق ص17.

6-     د.عبدالخالق محمود، شعر ابن الفارض فى ضوء النقد الحديث، دار المعارف 1984 ص28 .

7-     مرجع سابق ص 30، 32.

8-     د.عبدالخالق محمود، جلال الدين السيوطى والتصوف الإسلامى، القاهرة، 1987، ص3.

9-     مرجع سابق، ص 4.

وسوم: العدد 654