عائشة الباعونية

د. محمد مطيع الحافظ

التحقيق في تاريخ وفاتها ومكان دفنها

د. محمد مطيع الحافظ

عائشة بنت يوسف الباعونية: شيخة، أديبة، عالمة، عاملة، شاعرة اشتهرت ببنت الباعوني.

وهي من أسرة معروفة بالعلم والأدب والشعر والخطابة والقضاء.

وأصل تسمية باعوني من باعون من قرى صفد بالقرب من عجلون.

جدها ناصر الدين بن خليفة الباعوني، تفرع عنه ولدان مشهوران قدما دمشق في أواخر القرن الثامن الهجري، وهما الشيخ أحمد والشيخ موسى.

ومن قاضي القضاة أحمد كان العدد الأكبر من ذرية الباعوني، وكان منهم العلماء والأدباء والخطباء والمدرسون. أما حفيدته عائشة الباعونية فقد كان لها أثر واضح في الحياة العلمية في عصرها حتى أيامنا هذه، وقد كان لعائشة الحظ الأوفر من أسباب شهرة أسرتها عبر البلاد والزمان، وقد وصفها ابن العماد بأنها (من أعظم أفراد الدهر ونوادر الزمان فضلاً وعلماً وأدباً وشعراً وصيانة).

عاشت عائشة في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر ناسكة شهيرة، وشاعرة كبيرة، عرف عنها نسكها ومحبتها لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عبّرت عن هذا الحب بقصائدها الذائعة الصيت، وتُعدُّ قصيدتها (البديعية) من أشهر البديعيات في أدبنا العربي.

لها ديوان شعر ما زال مخطوطاً، ولها ثمانية مؤلفات بعضها مطبوع.

هذا تعريف موجز بالشاعرة عائشة، وقد تحدّث عن سيرتها كثير من القدماء والمحدَثين. وفي هذا المقال اكتفيت بـ (التحقيق في تاريخ وفاتها ومكان دفنها) لأن خطأ حصل عند كل من ترجم لها من القدماء وتبعهم المتأخرون. فوفقني الله للوصول إلى الحقيقة لتصحيح هذا الخطأ سواء في تاريخ وفاتها، أو في مكان دفنها.

للتوسع انظر: در الحبب الترجمة 565، الكواكب السائرة 1/288، شذرات الذهب 7/158، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 12/642-653، 721-727، 16/66، مفاكهة الخلان2/74.

التحقيق في تاريخ وفاتها وقبرها

في عام 1933م ألقى الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي نائب رئيس المجمع محاضرة في المجمع العلمي العربي عنوانها (اثنا عشر كوكباً) تحدّث فيها عن مشاهير النساء في القرن العاشر الهجري، فترجم لاثنتي عشرة عالمة من أعلام ذلك القرن، وخصَّ منهن السيدة عائشة الباعونية بترجمة موسعة([1])، واعتمد على كتاب (الكواكب السائرة) للعلامة نجم الدين الغزي، وسمّى كل واحدة منهن كوكباً، كانت السيدة عائشة الباعونية الكوكب الثاني عشر، وهو تتمة الكواكب، وكانت ترجمتها محور محاضرته التي تحدث فيها عن حياتها ونشأتها ومؤلفاتها وشعرها، وفي ختام محاضرته طرح السؤال التالي: أين قبر الباعونية؟ وقد حاول الإجابة عن هذا السؤال بأن بحث بنفسه فهو يقول: (نذهب في نزهة إلى ضواحي دمشق ميممين الجسر الأبيض، ومن هناك نسلك طريق الشيخ محيي الدين الجديد مشياً على الأقدام، نصل إلى نصف الطريق فنجد على يميننا زقاقاً إلى البساتين، نسلك هذا الزقاق الذي يُسمى زقاق طاحونة الأحمر، نمر بالطاحونة المذكورة عن يميننا ثم بساقية ماء شمالنا، ثم نقف أمام بستان فيُقال لنا: إن اسمه بستان الباعونية وأصحابه بيت الشلبي، فتخطرُ ببالنا للحال شيختنا الباعونية، ثم نمشي قليلاً حذاء البستان فنصل إلى عمارة قديمة تشبه المدرسة الصغيرة مبنية من الحجر المنحوت ... وقد كُتب على واجهتها بحروف وبخط واضح جميل العبارة (جديد) (هذا مقام السيدة الباعونية رحمها الله تعالى).

ثم يقول الأستاذ المغربي: (فلا يبقى عندنا شك في أن هذا البناء قبر شيختنا الباعونية، إذ أية باعونية غيرها لها مثل شهرتها في دمشق ... ثم نمشي قليلاً ...) فيصف لنا بناءً قديماً كُتب على حجر من حجارته وهي شاهدة قبر شبل الدولة كافور الحر الحسامي سنة 923هـ.

وبعد هذه المحاضرة التي نشرها الأستاذ المغربي في مجلة المجمع، يقول الشيخ محمد دهمان معقباً([2]): (إن هذه المدرسة هي الخانكاه الشبلية، وأمّا القبر الذي ذُكر في أعلى البناء فإنما هو قبر العفيف أبي الفوارس وتدعوه العامة قبر السيدة عائشة الباعونية، وجاء هذا الوهم؛ لأن الجنينة سميت الجنينة الباعونية).

وقد أيّد الدكتور صلاح الدين المنجد([3]) ما توصل إليه الشيخ دهمان، خاصة أن المستشرق الفرنسي سوفاجيه قد أثبت أن البناء أيوبي، ونشر الدكتور المنجد صورة نادرة للتربة والبناء الأيوبي.

ثم أصدر الأستاذ فارس أحمد العلاوي دراسة قيّمة في كتاب عنوانه (عائشة الباعونية الدمشقية أشهر أعلام دمشق أواخر عهد المماليك)([4]) وذهب في دراسته إلى ما ذهب إليه الأستاذ المغربي في أن قبرها هو في المنطقة التي وصفها في محاضرته.

هذا من حيث مكان قبرها. أما عن تاريخ وفاتها فكان أول مَنْ ترجم لها هو ابن الحنبلي في كتابه (در الحبب) ونصه فيه بعد أن عرَّفَ بالسيدة الباعونية فقال: (دخلتْ حلب سنة اثنتين وعشرين وتسع مئة والسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري بها، لمصلحة كانت لها عنده، وسكنتْ بساحة ألطنبغا فاجتمع بها مِنْ وراء حجابٍ البدرُ السيوفي وتلميذه الشمس السفيري وغيرهما ثم عادت إلى دمشق)([5]).

ثم نقل هذا النصَّ النجم الغزي([6]) في ترجمته، ولكننا نجد زيادة على نص ابن الحنبلي وهي: (وتُوفيت بها [أي دمشق] في السنة المذكورة) أي سنة 922هـ.

هذه الزيادة جعلتني أعود إلى مصورة مخطوطة كتاب (در الحبب) لابن الحنبلي وهذه المصورة يحتفظ بها مركز جمعة الماجد بدبي – وبعد قراءة النص لم أجد هذه الزيادة ولا ندري من أين أثبت الغزي هذه الزيادة([7])وكأنه هو قائلها؟

مما تقدَّم لا بُدَّ لي من متابعة البحث لأصل إلى أمر حازم في تاريخ وفاتها وقبرها، وخيرُ من يرشدنا إلى الحقيقة هو مؤرخ دمشق الحافظ ابن طولون الدمشقي المتوفى سنة 953هـ، وهو معاصر للسيدة عائشة الباعونية، وكتابه (مفاكهة الخلان)([8]) هو تسجيل للحوادث اليومية والوفيات. فبعد التتبع في هذا الكتاب في سنتي 922 وسنة 923هـ كانت المفاجأة التي أزالت كل وهم في الأمرين ففيه نص صريح وواضح فهو يقول: (وفي يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة 923هـ توفيت الشيخة الصالحة المصنفة، صاحبة النظم الفائق أم عبد الوهاب بنت الباعوني ودفنت بأعلى الروضة).

ومن تراجم عدد من أفراد بيت الباعوني نجد أن تربتهم كانت بالقرب من زاوية أبي داود، وهي تربة تقع شمالي الجامع المظفري بدمشق وكذلك فإن الروضة هي تربة الموفق المقدسي المتوفى سنة 620هـ.

مما سبق نصل إلى حقيقة أن وفاتها كانت في سنة 923هـ، وأن قبرها في شمال الجامع المظفري ولا يعرف الآن.

               

([1]) مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 12/642-653، 721-727.

([2]) القلائد الجوهرية 1/255.

([3]) خطط دمشق ص130-131.

([4]) نشره بدمشق سنة 1994م.

([5]) در الحبب ½، ص1060-1069.

([6]) الكواكب السائرة 1/287.

([7]) مما يجدر بالذكر أن الأستاذ عبد الله مخلص قد نشر بحثاً مفيداً عن السيدة عائشة الباعونية في مجلة المجمع العلمي العربي 16/66-72 وقد اعتمد في تاريخ وفاتها على الغزي في كتابه (الكواكب السائرة).

([8]) مفاكهة الخلان 2/74.