الشهيد محمد عبد القادر أبو الذهب

أخي أبا عبيدة كلما هممت بالكتابة عنك ارتعش القلم في يدي, واغرورقت عيناي بالدموع، ويكاد لساني ينعقد عن البيان حينما أعود بشريط الذكريات إلى الوراء، فتتواثب الآهات في صدري، وتمر الذكريات تمحيها ذكريات أخر، تمر خجلى كسرعة البرق، ولا أكاد أستوقف واحدة منهم حتى تشدني أخرى أعذب لحناً وأشد حنيناً، وأبلغ أثراً وأحتار ماذا أستوقف منها وماذا أقول فيها وكلها ذكريات عزيزة علي.

ولد الشهيد محمد على أبو الذهب في مدينة حماة عام 1957، في منطقة الدباغة في أسرة كريمة مؤمنة متوسطة الحال، تحصل قوت يومها يوماً بيوم، شأن كثير من أسر حماة التي تردت أوضاعها المادية في عهد الطائفيين الذين تقصدوا إفقار المدينة. كان رحمه الله يتمتع بمزايا أخلاقية عالية لا يعبأ بالمحن لأنها من طبيعة الدعوة إلى الله- كما كان يردد- قوي الإرادة، لا تهزه الخطوب، بل إنها تزيده نوراً على الدرب، وصلابة في الموقف، وثباتاً على الإسلام.

درس (أبو عبيدة) الابتدائية والإعدادية ثم حصل على الثانوية في الفرع العلمي لمرتين حيث كان يطمح لفرع أعلى وتحقق ما أراد الله له فدخل معهد البتروكميائي في حمص.. تمتع (أبو عبيدة)  بثقافة إسلامية نيرة واعية، وكان ذا حس سياسي بعيد، ونباهة شديدة، وذكاء متوقد.

جسمه ضعيف البنية غير أن المحنة لم تضعف من عزيمته فكان صلباً عنيداً في الحق، وكان خيراً من كثيرين ممن تنكبوا عن طريق الجهاد مع أنهم يزعمونه لأنفسهم فهو لايخشى في الله لومة لائم، كان يقول الحق ولو على نفسه.

انتسب إلى صفوف جماعة الإخوان المسلمين عام 1972 فكان مثال الأخ الملتزم الواعي والمطيع يحب جلسات الاجتماع بإخوته في صفوف الدعوة ويصغي لموجِّههِ فكأنما أمر يتنزل من السماء.

ظل ثابتاً على طريق الدعوة رغم المحنة التي زلزلت الكثير من ضعاف الإيمان فكان يقول: إنهم لم يفقهوا حقيقة الدعوة وحقيقة الإسلام.

ولما دعا داعي الجهاد كان محمد يعمل في مقدمة الرتل الإيماني، ويعمل بسرية متناهية دون أن يتحدث بذلك ولو مع أقرب المقربين إليه. كنت أشكو إليه مرارة المحنة وقسوة الظالمين في تعذيب إخواننا فيجيب بكل وطمأنينة: (إن تكونوا تألمون فأنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون).

وفي داخل الحرم المكي وفي جواره تحاول الأم جاهدة، والأب ينافح ويعمل جاهداً وهو يتوسط للإخوة لئلا يعود محمد إلى حماة، شفقة على جسمه الضعيف وذلك في عام 1981 لما اشتدت المحنة في حماة وازدادت ضغوط السلطة على المجاهدين ويبسط المال وتزداد المغريات ويوعد محمد بفرع جامعي خارج القطر، لكنه يصر على الرفض ويصر على الثأر لدين الله، ولإخوة مضوا على الدرب يحدثونه بكل تلك المغريات، فيلتفت محمد التفاتة المستغرب وهو يعيش في عالم آخر، في عالم الثأر، ويرتقي في مدارج علوية ربانية ويجيب: (سأعود إلى حماة مهما كلف ذلك من ثمن ومن تضحيات، فالدين أولى من كل شيء، فلا تتعبوا أنفسكم بإقناعي فأنا أدرى بما اصنع) يردد هذا الكلام وكأن جنة الله ماثلة أمام عينيه، لا يرده أحد عن غايته فكأنها والله الشهادة تلوح بوادرها على محياه، يجيب على ذلك بإيمان الواثق من نصر الله وجنة الله، وما درى أن الله سيحقق له أمنية الشهادة بعودته إلى أرض الوطن الحبيب، وأنه سيمسي ضيفاً على الرحمن، مكللاً بإزار الشهادة ووقار الإيمان.

أما عن إيوائه لبعض الإخوة المجاهدين، فحدث ولا حرج فهو المبادر دوماً إلى نجدة إخوانه وإيوائهم لدى من اكتسب عندهم الثقة والمحبة، في أقسى الظروف وأحلكها، يسعى في تلبية حاجاتهم وطلباتهم دوتما تأخير.

ويرثي محمد لحال إخوانه الملاحقين فتمسك العبرات في المآقي، شأن كل الرجال الأشداء، الذين لا يستسلمون للمحنة مهما ثقلت وألقت بكلكلهاـ وهو يقول: (الله كريم سنثأر لإخواننا ولديننا والله إن شاء الله- لن تضيع قطرة دم أريقت في سبيل الله ولن تذهب هدراً مهما أوغل الباطل في تكبره وانتفش) كان للشهيد شرف الانتساب لجماعة الاخوان المسلمين في عام 1972.

وقبلها كان قد التحق في أسر تجميعية لعدة سنوات، فهو إذاً قد ترعرع في وسط إيماني من الشباب المسلم الواعي المثقف، وكان من رواد مسجد السلطان يحضر الدروس والخطب فيه، ويداوم فيه على صلاة الجمعة والجماعة.

تدرج محمد مع أبناء المحنة، وتنقل في الأسر الإخوانية، إلى أن جاء دور حمل السلاح والدفاع عن حياض العقيدة الإسلامية، إنها الفترة الفاصلة التي طالما تاقت إليها نفسه وأحب أن يثلج بها صدره وهو يرى أئمة الباطل تتهاوى صرعى برصاص المجاهدين فيتهاوى معهم كبرياؤهم ولكن الله يختار ما يشاء لعباده.

كان(أبو عبيدة) –وهذه كنيته- واسع الاطلاع على الكتب الإسلامية وغير الإسلامية- رغم ضعف بصره- وكان يؤكد على معرفة الفكر الآخر، ويعتبر ذلك ضرورة من ضرورات الدعوة إلى الله والسلك التنظيمي، ويردد قول عمر بن الخطاب: (ماعرف الإسلام من لم يعرف الجاهيلة).

كان رحمه الله يدقق في المسائل الشرعية، ويستقصي معاني التفسير وعبر السيرة، فلم تكن تفوته فكرة إسلامية إلا ناقشها واستوعبها وطرق لها أبواباً واسعة، لا تخطر إلا ببال ذي اللب الفطن، وإذا سألت عن التزامه في أسر الجماعة والاجتماع، فهو حريص عليها أشد من حرصه على طعامه وشرابه،

فإذا حضر وقت الاجتماع فلا شيء غيره، ولم أعهده تخلف يوماً عن الاجتماع مهما كانت العوائق.

عشر سنين من الصحبة لم أعهده فيها يتردد أو يتخاذل ولم يَكْبُ له فيها جواد، لقد أدرك(محمد) عظم الأمانة وعظم التبعة الملقاة على كاهل أبناء الدعوة فعرف أن المحنة تصقل الرجال وتزيدها صلابة على قوة وكان محمد كذلك فقد اعتقل في عام 1980 ولم يعترف بشيء عن تنظيمه رغم مالاقاه من العنت والشدة، فكان حذراً في السجن في كل ما يقول ويفعل، وأمضى شهرين وعاد إلينا سالماً لكنه كان أشد عزيمة ومضاء مما كان عليه فقد أدرك حقد الطائفيين عملياً كما عرفه من قبل وسمع عنه.

ويسعى أبو عبيدة في خدمة إخوانه الملاحقين ويشارك في الرأي والتدبير ويساهم في توزيع منشورات المجاهدين، ويأخذ على عاتقه مع أخ آخر، نسخ (النذير) وتوزيعها في أطراف المدينة الباسلة التي كانت تغلي كالمرجل الذي يتميز غيظاً ولكن صبراً فوعد الله آت والمجاهدون يدبرون ولا بد من مواجهة النظام والانقضاض عليه في يوم من الأيام.

ويحج محمد إلى بيت الله الحرام ليزداد طهراً على طهر وصفاء على صفاء الله أكبر حَجٌّ وجهاد بآن واحد والله لاينالها إلا من أحب الله لقياهم واصطفاهم على خلق الله أجمعين ويعود محمد إلى أرض الوطن ويواصل درب الجهاد رغم كل ما كان يعانيه أهل المدينة من إيذاء وتعذيب واعتداء على المحرمات والمقدسات ويختفي محمد في إحدى قواعد المجاهدين عَلَّ الشبهة التي دارت حوله من السلطة المجرمة تزول.

ويراقب أحد الجواسيس منزل هاني العلواني فيشي إلى السلطة فتجند الأجناد وتطوق المكان في آواخر تشرين الثاني 1981 ويدخل المجرمون البيت وهم يطلقون الرصاص ولا يجدون أحداً في داخله، والمجاهدون يختفون في مخبأ داخل البيت، ثم يخرج البغاة، ولكن الأجير المخلص يصر على أن أحداً كان يتردد على هذا البيت فيفتشون مرة أخرى ولا يجدون أحداً فيشتم الضابط الأجير ويهدده ويتوعده فيقسم لهم الأيمان المغلظة أن أحداً دخل هذا المكان وعندما أعيتهم الحيلة طوق المجرمون المخربون البيت بالديناميت من كل الجهات، وفجروه بما فيه وبمن فيه، ويمضي سبعة إخوة شهداء إلى ربهم ويضمهم تراب الوطن بين جناحيه، فأصبح باطن الأرض خيراً من ظاهرها، إذ تشرفت بضم رفاتهم بين ثناياها وهكذا دفنت بذرة الخير، وارتوت بالدم الطهور وامتدت جذورها في باطن الأرض بعيداً ولن يقدر الباطل على اقتلاعها لأنها أصيلة وعميقة عمق التاريخ البعيد وتتهدم أربع أبنية مجاورة للمنزل على ما فيها:

لم أدر أن يد القضا ستهزنا            هزاً فيفترق الأحبة في الجهات

هذا يغطيه التراب وذاك يحجبه         عن اللقيا به سجن الطغاة

أغفو وأصحو بينهم وأرى مصا         بيح السعادة فوقنا متألقات

أما أخوه الأكبر أحمد-وهو مدرس للغة العربية الحائز على شهادة الليسانس من جامعة حلب وهو من مواليد 1956 فلم يكن يَقلُّ ذكاء ووعياً عن محمد قتله المجرمون أثناء أحداث شباط بعد أن أمَّن المجرمون أهالي منطقة الدباغة فخرج هو ليحصل بعض القوت لأهله فتعرض له أحد المجرمين بالإهانة وحاول النيل من كرامته- ويعلم الله أنه كان شديد الإباء عزيز النفس ذا فطرة إسلامية صحيحة إلا أنه لم يرض الدنية من نفسه وكانت نفسه قد امتلأت حقداً مقدساً على المجرمين الذين قتلوا أخاه أبا عبيدة فهجم أحمد على العنصر الحقير وراح ليوسعه ضرباً وتماسكا بالأيدي إلا أن المجرمين حالاً صرعوه برصاصات أردته قتيلاً، لحق بها أخاه وارتقى إلى مدارج المؤمنين الأحرار الشهداء.

كان أحمد محط آمال الأسرة الكريمة المجاهدة في تحسين وضعها المالي إلا أن القتلة صرعوه وغدت العائلة بلا معيل ولا ولد.

حنانيك أبا عبيدة ماذا عساي أن أقول وماذا أذكر من ذكرياتي معك، وقد غدوت في منازل الشهداء؟

أأذكر عزتك التي انقطعت دونها همم الرجال؟

أم أأذكر إصرارك على الجهاد رغم كل العقبات التي اعترضتك؟

أأذكر نشاطك وحماستك في مسجد (السلطان) و(الشيخ إبراهيم) وأنت تصبر وتصابر، تعلم الفتية الصغار مبادئ الإسلام وأسس العقيدة؟

أم أذكرك وأنت تحدثني عن الخليفة العادل (عمر بن الخطاب) والدموع تنسكب من عينيك، وأنت تقول: هؤلاء هم جند محمد صلى الله عليه وسلم؟ ماذا عساي أن أقول فيك، وقد جعلك الله في المصطفين الأخيار أليس الله يقول: (وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء) فأي درجة أعلى وأسمى من هذه المنزلة إلا درجة النبوة والصديقية؟

مازال مُحيَّاكَ ماثلاً في مخيلتي، وأنت في المسجد النبوي، بجوار رسول الله، تصمم على الثأر لهذا الدين والحزنُ بادٍ على وجهك، والدموع تنهمل من عينيك حزناً على رفيق جهادك الشهيد محمد السراج.

ومازلت أذكر الساعات الطوال، التي أمضيتها معك في الحرم المكي، وأنا أحاول جاهداً أن أقنعك بالتحيز إلى فئة وعدم العودة إلى سورية إلى أجل مسمى. فأبيتَ أشد الإباء وكنت في كلامي معك أنشد المستحيل.

أأذكرك وأنت تلهج بالدعاء حول الكعبة المشرفة وفي مواطن الاستجابة والقبول وأنت تقول: اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، وأنت تدعو لنصرة المجاهدين وتستغيث وتجأر فلم يَرُدَّ الله دعوتك فقبلك واصطفاك شهيداً؟

أم أذكر حنكتك السياسية ونباهتك وذكاءك الحاد، في تحليل واقع المحنة التي كنا نعيشها وقتذاك وتكتوي بنارها؟

ولكم كنت أسترشد بآرائك السديدة ونصائحك الثمينة ونحن في درب الجهاد سائرون ولكم سمعتك تردد قول الشهيد سيد قطب رحمه الله:

(إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء).

هنيئاً لك أبا عبيدة بهذا المقام الكريم لقد غدَّيت ما آمنت به بدمائك الطهور ولا بد ستنتفض هذه الدماء المؤمنة والكلمات والآيات في وجه الطغاة والمفسدين بإذن الله- حتى تنهار دولة الطائفيين في شام الإسلام.

ألا فلتعلم السلطة المجرمة أننا على الدرب سائرون مهما تساقط المتساقطون وتخاذل المتخاذلون وتردى الجبناء في شباك وأفخاخ المجرمين، ونحن مدركون وواعون تماماً لما نقول، وسنصبر ونصابر، ونجاهد ونقاتل حتى آخر رمق فينا، وإننا لها، ولن نتخلف مهما كانت المعوقات وكانت المحن، فإن دعوة الله باقية والجهاد ماض إلى يوم القيامة.

وأنتم يا إخواننا الشهداء هنيئاً لكم جنة الخلد مع النبي والصحب الكرام. وليخسأ الخونة المنحدرون إلى جهنم إلى الكفر إلى الذل والمسكنة حيث غضبُ الله ولعتنه وخزيه في الدنيا لهم، ومقته في الآخرة.

وأنتم يا أحباءنا الشهداء لا يغرنكم المتساقطون فأنتم في الفؤاد، ذكراكم لا تغادرنا لحظة ورخم الله القائل فيكم:

ياإخوتي إني لعاشق نوركم             أين أختفى إني له أتشوق

يا صحبة الدهر الطويل هواكم         عقلي وقلبي بل مناي فأشفقوا

وتمهلوا في هجر باعث حبكم          في أصغريه مقدساً وترفقوا

فخياله قد فاض من نفحاتكم           صوراً تمر ودمعه يترقرق

هل كان من حق الإخاء عليكم         أن تهجروه ودونما أن تنطقوا

فبحقِّ من جعل القداسة ثوبه           لاتتركوه فقلبه يتمزق

رحم الله شهيدنا محمداً وأخاه أحمد وجعلهما في عداد المحمودين عند رب العالمين.

اللهم لا تفتنا بعدهم ولاتحرمنا أجرهم واجمعنا معهم على طريقهم حيث العزة والرضوان والسلسبيل إنك على ما تشاء قدير.

وسوم: العدد 709