الشهيدان محمد زيدان وابنه أنس

هل أخطأت عجائز قرية (سرجة) حيث ظنت أن الفرنسيين قدموا من جديد ليبحثوا عن إبراهيم هنانو أو صحبه من المجاهدين ضد الاستعمار؟

لقد لبث أهل قرية (سرجة) من جيل الزاوية, برهة يعيدون النظر في هذه الطائرات (الهيلوكبتر) تظلل المدينة بحقد, وبهذه العشرات من الجنود تحيط بالقرية المسكينة من كل جانب.. ثم ما لبثت الدهشة أن رحلت بسرعة وزالت عن الوجوه والعيون.. لقد عرفوا أن هذه القوات الكثيفة لا بد تبحث عن أحد أبناء قريتهم من المجاهدين, وتوقعوا أن خراباً ودماراً سيحلان بالقرية لا محالة, فلقد ألف كل المواطنين في سورية همجية قوات أسد والوحشية التي تمارسها والحقد الذي يملأ قلوبها.

كان ذلك الهجوم (الساحق) على أحد منازل قرية سرجة في جبل الزاوية يوم 28/9/1981, وفي ذلك اليوم الذي ما نسيته القرية ولن تنساه, وقف المجاهد محمد زيدان, بسلاحه المتواضع ومساعدة ابنه اليافع أنس, يجاهدان المعتدين بقوة وشجاعة ويدفعان عن نفسيهما الظلمة والطغاة.

ويستبسل الوالد والولد, وتدخل قرية سرجة ببسالتهما تاريخ سورية المعاصر, وتزداد الأرض الطهور طهراً بعد حين, حين تضمخت بدم الشهيدين البطلين الوالد محمد والولد أنس فقد استشهد الفارسان بعد معركة استمرت ساعات طويلة, صمدا فيها كما يصمد أقوى الرجال.

* * *

ولد الشهيد محمد زيدان عام 1942 في قرية سرجة التابعة لجبل الزاوية من محافظة إدلب وفي معرة النعمان درس العلوم الشرعية في ثانويتها, وتابع هذه الدراسة في المدارس الشرعية بحمص وحماة, ولم يكتف بذلك, بل انتسب إلى كلية الآداب بجامعة الأزهر في القاهرة, وكانت حياته في جملتها ملأى بالعمل والعلم والتعلم, والكد والكدح, وليس هذا غريباً في الحقيقة على منهج الإخوان المسلمين الذين انتسب إليهم الشهيد عام ثلاثة وسبعين, فقد كان معظم شباب الإخوان على تربية واحدة من حب العلم والعمل, والتعلم والتعليم, والجدية في كل معاني الحياة, فلا فراغ في حياتهم ولا عبث, بل هَمٌ دائم وحرص مستمر على النهضة بالنفس والأهل والوطن.

وهكذا فقد كان الشهيد محمد رحمه الله تعالى معلماً في مدرسة النهضة الإسلامية بإدلب وكان حيناً آخر إماماً للصلاة وخطيباً في قرية (محمبل) من جبل الزاوية, وكان إلى جانب ذلك ملتزماً بحلقات الإخوان وأسرهم, ففيها تلاوة القرآن الكريم ودراسته, والسيرة والبحث فيها, والفقه وأصوله, وكل ألوان الدراسات الإسلامية والمعاصرة.. وكانت هذه الأعمال تأخذ من جانب الشهيد كل وقته واهتماماته وجهده.

ومع ازدياد طغيان أسد وظلمه, تزايدت الحاجة إلى دفع هذا الظلم والطغيان.. وكان أمام شهيدنا محمد أن يلتحق بالمجاهدين وأن يعيش معهم أقسى ظروف العمل وأخطرها وكان رحمه الله شعلة من النشاط والتوثب والفداء, مما أجج حقد السلطة الغاشمة عليه, فشددت الحصار من حوله, وبثت العيون ترقبه من كل جانب, وبذلت الكثير لرخيصي النفوس من أجل أن يعطوا أي خبر عنه.. وصمد المجاهد محمد زيدان طويلاً مع إخوته الميامين وكان شعاره الذي يترنم به في خاصة نفسه وبين إخوانه المقربين:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد      لنفسي حياة مثل أن أتقدما

* * *

أي ملحمة حياة الشهيد محمد, وأي ملحمة سطرها وابنه الصغير أنس يوم استشهدا بعد قتال ضار لساعات طويلة...

بل أي ملاحم سطرها أولئك الإخوة المجاهدون في سائر أرض سورية المباركة, فأعادوا للأمة روحها وحيويتها, وبثوا فيها من جديد, اعتزازاً بالماضي, وأملاً في إنقاذ الحاضر لبناء مستقبل مشرق, طالما تطلعت إليه, ليعيد إليها سيرتها الأولى المفعمة بألوان العظمة, وهو لا بد مشرق بإذن الله تعالى.. فقد تحطم المستعمر الفرنسي على صخرة الصمود الإسلامي الذي مثِّله المجاهدون يومذاك، وسيدكُّ المجاهدون اليوم عرش أسد، فجبل الزاوية يأبى أن يستذلَّ أو يستكين فهو لا يقبل المجرمين الخونة حكاماً يسومون أبناء شعبه الذل والهوان.

رحمك الله يا أبا أنس، ورحم الله أنساً وجمعنا معكما في جنةٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وسوم: العدد 709