الشيخ الداعية الدكتور محمد عوض

(1931- 2009م )

clip_image002_60cef.jpg

ما زالت أرض الشام تنبتُ الأبطال، وتصنعُ الرجال، وتخرجُ العلماء الذين بهم تضرب الأمثال، ومازالت عاصمة الخلافة تقدم فلذات أكبادها قرباناً لهذا الدين العظيم، ونقف اليوم عند مدرسة من مدارس الدعوة، والتربية، والتزكية، والورع ربطت بين العلم، والعمل، وقد أسسها العالم الرباني الشيخ عبد الكريم الرفاعي –رحمه الله- الذي كان أحد مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة في سورية، ثم تركها، وتوجه إلى التربية والتزكية بعيداً عن السياسة؛ لأن صنع الرجال هو أجدى نفعاً، وأعمق أثراً، وأطول عمراً، وقد قيل إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحاً ، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع نخيلاً، وإذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع رجالاً، لقد كان فضيلة الشيخ محمد عوض غرسة في بستان تلك المدرسة الربانية، ربط القول بالفعل فكان تأثيره مؤكداً، فكان قدوة، وإذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي، وسوفَ نقفُ مع القرّاء وقفةً نحيي فيها ذكرى علمٍ من أعلام الدعوة والجهاد في سورية، إنه الشيخ محمد محيي الدين عوض -رحمه الله تعالى- تلميذ الشيخ عبد الكريم الرفاعي الأول إلى جانب ولديه أسامة، وسارية الرفاعي، لقد  كان الشيخ محمد عوض مشعلاً ينير دروب الأجيال .....

المولد والنشأة :

ولد الشيخ محمد عوض في حي باب سريجة، وهو حي شعبي معروف من أحياء مدينة دمشق في عام 1931م .

ونشأ في كنف والده الحاج محيي الدين عوض ، الذي كان معروفاً بالشهامة والنخوة والشجاعة والقوة، وأما والدته فهي الحاجة أمينة المصري، وكلاهما كانا صالحين من هذا الحي المبارك .

وينتهي نسب الأسرة إلى آل عوض السعدي ، أحد مشايخ الطريقة الصوفية في القرن الثالث عشر، وجدّ (آل عوض) هو الشيخ حسن الجباوي المتوفى سنة 914ه .

ترعرع الفتى محمد عوض في بيت صغير في الحارة الجديدة (في باب سريجة ) مع أخيه الشيخ أحمد عوض، في عائلة فقيرة الحال..

دراسته ، ومراحل تعليمه :

وبسبب فقر العائلة ترك الشيخ محمد عوض المدرسة مبكراً منذ الصف الأول، ولم يتركها عن كسل بل كان مجتهداً في دراسته حتى أنه كان يسمى (البطل) لنباهته وقوته، وبعد أن ترك المدرسة أرسله والده للعمل عند أحد أخواله ( أبو سعيد المصري) حيث عمل في السنكرة، وإصلاح البوابير، ثم عمل في (فرن المصري)، وبعدها عمل في خراطة الخشب، وانتقل بعد ذلك ليعمل في معمل النسيج في معمل السمان في باب شرقي، وهكذا نرى أنه تنوعت الأعمال التي قام بها في صغره، ولكن المشرفين على العمل شجعوه على الدراسة، وأصبح مشرفاً على العمال في فترة وجيزة، ثم التحق بالمدرسة الليلية ليتابع الدراسة .

وعلّمه المشرف على المعمل (الصلاة)، وكان يصلي بهم جماعة، وحبب إليه التدين .

وبدأ حياته الدعوية بالحضور في درس الشيخ محمد بركات في جامع العنابي، وهو والد الشيخ عبد الرحمن بركات، وكان يحضر درسه كبار السن، فنصحه الشيخ محمد بركات بحضور دروس الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله، فكان ذلك طالع سعد بالنسبة للشيخ محمد عوض .

ثم أنهى الشيخ محمد عوض الدراسة الابتدائية، والإعدادية في فترة وجيزة .

ثم التحق بكلية الشريعة ( الثانوية الشرعية )، وحصل على شهادتها بتفوق

ثم التحق بكلية الشريعة في جامعة دمشق، وكان من أساتذته الشيخ العلامة مصطفى السباعي – رحمه الله – وبعد التخرج في كلية الشريعة ، حصل على الدبلوم في التربية .

وبعدها توجه إلى مصر لدراسة الماجستير، ثم حصل على الدكتوراه في التفسير، وكانت رسالته ( سورة المجادلة تفسيرها وأهدافها )، قد أشرف على الرسالة العلامة عبد الغني عبد الخالق ، وكانت هذه خطوات سريعة في حياته .

حياته الاجتماعية :

تزوج الشيخ محمد عوض سنة 1959م من السيدة الفاضلة (سعاد السيروان)، ولم يرزق منها بأولاد إلا بعد خمس سنوات، حيث أنجب منها /8/ أولاد، وأكرمها الله بالشهادة في المدينة المنورة سنة 1982م بعد أن احترق بيتها، وما كانت تفوت صلاة المغرب والعشاء في الحرم النبوي الشريف إلا أياماً معدودة .

صبرت مع زوجها على الفقر، وبعد وفاتها تزوج الشيخ محمد عوض من الحاجة (حنان عمار)، وهي تقيم الآن في المدينة المنورة .

خطب الشيخ محمد عوض في مساجد دمشق العامرة حيث خطب، ودرس في مسجد ابن حجر، ومسجد الفاخورة، ومسجد الفردوس، ومسجد التعديل، ومسجد زيد بن ثابت، وآخرها (جامع الإيمان) قبل أن يترك دمشق مرغماً هروباً من بطش الأسد .

هاجر إلى المدينة المنورة في أول سنة 1982م، وبقي فيها إلى أن توفي في 26 /5/2009م .

ملازمته للشيخ عبد الكريم الرفاعي :

كان الشيخ محمد عوض يحاول كتابة كل ما يسمع من الشيخ، ولكنه لم يكن يجيد الكتابة، فكان الشيخ المربي عبد الكريم يقول له : يا بني اترك الكتابة، وأنا أكتب لك الدرس بعد ذلك .

وعاهد الشيخ محمد عوض ربه أن يرى الشيخ في كل يوم، من شده حبه وتعلقه به، فكان يزوره في البيت، ويطرق عليه الباب، ويسلم عليه، وينصرف .

وكان الشيخ محمد عوض يقف بعد انتهاء درس الشيخ الرفاعي، ويلخص درس الشيخ في ثلاث أو أربع نقاط، فيستفيد التلاميذ من ذلك التلخيص .

وكان الشيخ محمد عوض وفياً لشيخه يذكره في كل مجلس، ويثني عليه ويجله .

جهوده في الدعوة والإصلاح :

يذكر الشيخ نعيم عرقسوسي أن الشيخ محمد عوض كان يرى أنه الوحيد المكلّف بتبليغ الدعوة حيث كان يزور المقاهي، ويعظ، ويرشد، ثم يذهب إلى المسجد، وصلى مرة الفجر في مسجد السلخدية في سوق باب سريجة، فلم يجد سوى الإمام والمؤذن، وبعد صلاة الضحى خرج إلى السوق المجاور، وبدأ يعظ الناس، ويحضهم على صلاة الفجر في جماعة، وفي اليوم الثاني امتلأ المسجد بالمصلين .

وكان يرى نفسه مسؤولاً أمام الله عن العصاة والجاهلين لذا كان يسافر إلى القرى للدعوة إلى الله، فكان يقول للأب: أنت مسؤول عن أولادك، وللتاجر : أنت مسؤول عن عمالك ....

وكان يهتم بأبناء العلماء، ويخصص لهم جلسة فقه، وتذكير، ويرى أن ابن العالم عالم أيضاً .

وكان يحترم العلماء على اختلاف مشاربهم، وكان يقول: اختلافنا في الرأي لا يفسد للود قضية، هو يعمل فيما اجتهد فيه، ونحن نعمل فيما اختلفنا فيه .

وقد عاش في السعودية زمناً طويلاً، ولم يجادل واحداً من علمائها بل كان يحترمهم، ويحترمونه .

وكان أسلوبه جميلاً يشبه البرمجة العصبية، وكان يرفض الغيبة في مجالسه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر .

سمع أن فتاة في الحي تخرج للحرام، فذهب إلى منزلها، وقال لها : سمعت أنك تخرجين للحرام ؟ فقالت له : نعم، وادخل لتعرف السبب، فدخل، فوجد أباها مقعداً ، ففرض لها راتباً شهرياً، ثم تابت، وزوجها من عامل بسيط أغناه الله، فصار تاجر بناء كبير .

 وذهب مرة إلى الشيخ عبد الغني عبد الخالق المشرف على رسالة الدكتوراه في مصر، فوجد عنده حفلاً فيه موسيقى واختلاط، فنصحه، وغادر المنزل، ولم يخش أن يرسب في امتحان الدكتوراه الذي كان مقرراً بعد يومين .

وكان قدوة حسنة للدعاة والناس، يكثر من الذكر والعبادة، حريصاً على الورع. وكان له مع القرآن غرام شديد، وضع برنامجاً يومياً حفظاً وتلاوة، و كان يحترم أهل القرآن، وكان محباً للرسول -صلى الله عليه وسلم- ملتزماً بالسنة .

وكان يجلس في حرم المدينة قرابة عشر ساعات يساعد المرضى، ويعلم الجاهل، ويذكر الله، ويتلو القرآن .

وكان باراً بوالديه يربط حذاء أبيه بيده، وفي إحدى المرات فعل ذلك مع أبيه في موسم الحج، وكان الشيخ عبد الكريم الرفاعي واقفاً معه، فراح الوالد العجوز ينظر إلى الكعبة، ويدعو : اللهم كما أعزيت هذا البيت أعز ولدي الشيخ محمد، فتأثر الشيخ عبد الكريم الرفاعي، وبكي .

وكان الشيخ محمد عوض رحمه الله حريصاً على الشورى في الأسرة، ومع تلاميذه وكان وفياً لا ينسى معروف من أسدى إليه معروفاً .

حضر مؤتمر العلماء المسلمين في باكستان، وكان ولده الشيخ فايز عوض يرافقه، فلم يكن يتناول الطعام في المقهى بسبب وجود السافرات بل كان يأخذ طعامه إلى الغرفة في الفندق، فيتناوله، أو يشتري البسكوت .

 وكان -رحمه الله- مرحاً طيب القلب ، لطيف المعشر ، يبتسم، ويمزح بلطف، ولكنه يرفض المزاح المسفّ.

وكانت معاملته لزوجته وأولاده في غاية الاحترام تجلس زوجته في المطبخ حين يأتي الضيوف حتى يغادروا، ولما سئلت لماذا تصبرين على الشيخ محمد عوض، وهو فقير؟ أجابت : إذا قال لي : - جزاك الله خيراً ينسيني كلّ التعب في الدنيا .

وكان -رحمه الله- يهتم بمشكلات المجتمع، يزوج الشباب، وهو أول من سن سنة الزواج الجماعي في جامع الإيمان ...وغيره .

وفاته :

وبقي يدعو إلى الله حتى قبيل وفاته فلما أحس بألم في جنبه الأيمن دخل المشفى، وأجريت له عملية جراحية، ثم عافاه الله منها، وبقي بكامل وعيه يصلي في الحرم، ويسلم على الناس، وفي ليلة الوفاة زاره الشيخ أسامة الرفاعي، وقرأ عليه القرآن فراح يردد الله.. الله، ثم فاضت روحه - رحمه الله تعالى- في  يوم الثلاثاء 2/6/1430هـ / الموافق 26/5/2009م. عن عمر يناهز السبعين عاماً، قضاها في الدعوة، والجهاد، والبذل، والتضحية، والعطاء .

أصداء الرحيل :

وفي اليوم التالي في 27 مايو 2009 م نعاه الشيخ الداعية أحمد معاذ الخطيب، فقال :

(( وفاة العالم الجليل الشيخ محمد محي الدين عوض رحمه الله

علماء وخطباء ودعاة العالم الإسلامي وبلاد الشام

رابطة العلماء السوريين

أحباب وتلامذة العلامة الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله

ومسجد زيد بن ثابت رضي الله عنه

ينعون إليكم بكامل التسليم لأمر الله تعالى

وفاة العالم الفاضل الداعية الشيخ محمد عوض رحمه الله

تنعي رابطة علماء سورية فضيلة العالم الداعية الشيخ محمد عوض الدمشقي ـ رحمه الله تعالى ـ الذي توفي في المدينة المنورة قبيل فجر هذا اليوم الثلاثاء 2/6/1430هـ الموافق 26/5/2009م. عن عمر يناهز السبعين عاماً ، إثر مرض ألمّ به .

وفضيلة الشيخ من خواص تلاميذ الشيخ عبد الكريم الرفاعي، وحامل لواء الدعوة في جامع زيد بن ثابت بعده، وقد عرف بخطبه التوجيهية النافعة في جامع الإيمان بدمشق وبدروسه الدعوية والتربوية المؤثرة في مساجد دمشق، وبآثاره الإصلاحية الاجتماعية في أوساط أسر دمشق وتجارها .

تخرج الشيخ في كلية الشريعة بدمشق، وحصل على الدكتوراه في التفسير من جامعة الأزهر، وكان كتلة من النشاط، والحماس، والمثابرة في الدعوة إلى الله، والاتصال بالجماهير والتأثير فيهم.

هاجر إلى المدينة المنورة في أوائل سنة 1400هـ / 1980م، وجاور فيها، وكان له أثر محمود في المدينة المنورة، أحبه أهلها، وأحبهم، وكان دائم الحضور في المسجد النبوي، يلتقي بالوافدين إليه، ويعتني بطلاب العلم، ويرعاهم، ويشارك في جميع المناسبات الاجتماعية والدعوية.

عاد إلى دمشق قبيل سنوات من وفاته؛ ليرى آثار تلك المدرسة التي رعاها بعد شيخه ـ رحمه الله تعالى ـ قد امتدت آثارها، وعمت بركاتها .

وما زال الشيخ على نشاطه المعهود، وصلاته بمدرسته التربوية، وإكرامه للعلم وأهله، ودروسه، وتوجيهاته حتى انتقل إلى رحمة الله عزَّ وجل في ذلك الجوار المبارك، وسيوارى جثمانه الطاهر بالبقيع في المدينة المنورة بعد الصَّلاة عليه عصر هذا اليوم في المسجد النبوي الشريف .

نسأل الله أن يتغمد الفقيد برحمته، ومغفرته، ورضوانه، وأن يعوض الأمة عن فقد علمائها ودعاتها خيراً .

وسنوافي القراء الكرام بترجمة مفصلة عن فضيلة الشيخ في وقت قريب بعون الله تعالى.

الشيخ محمد عوض في دبي :

وكتب د. عبدالحكيم الأنيس مقالة بتاريخ 24/6/2014 ميلادي / الموافق 25/8/1435 هجري يقول فيها :

(( الشيخ محمد عوض من علماء دمشق والدعاة الربانيين المعروفين، ولد بدمشق، وتوفي بالمدينة المنورة سنة 1430هـ عن عمر يناهز ثمانية وسبعين عامًا، وقد زار الإمارات العربية المتحدة أكثر من مرة، وفي مساء الأحد 9/5/1999م كان هناك مجلس بدبي حضرهُ الشيخ محمد عَوَض، والشيخ محمد مطيع الحافظ، والشيخ عبد الكريم تتّان، وجمعٌ من المحبين، بدعوة من الشيخ خلدون مخلوطة إمام مسجد سوق الحمرية المركزي وخطيبه، وكان المدعوون أربعين شخصًا، ولكنْ حضر ضعفُهم.

♦ وقد افتُتح المجلس بتلاوة آيات من كتاب الله، منها قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

♦ وتكلَّم الشيخُ عبد الكريم تتان فقال: ما استفدتُه من الشيخ محمد عوض هو نقل الإسلام من النظري إلى العملي.

♦ ودعا إلى الالتزام بالفقه المذهبي، وإعادة دور المساجد، والدروس الفقهية المذهبية.

♦ وتكلَّم الشيخُ محمد عوض كلامًا مطولًا كنتُ قد دونتُ منه هذه الأقوال:

• نحنٌ جماعةٌ كسالى، ولو عرفنا فضلَ العلم والتعليم لم يبق في الدنيا جاهل.

♦ لما عُيِّنَ الشيخُ عبد الكريم الرفاعي في مسجد زيد بن ثابت (بدمشق) كان يقابِل المسجدَ خانٌ فيه خمرٌ وقتلٌ، وفي المسجد أربعون مصليًا فقال الشيخ: مِن هؤلاء سيكون العلماء، ومرَّ الشيخُ مرة على رجلٍ يشربُ الخمر فقال: تفضَّل سيدي. فقال له الشيخُ: الله يهديك، الله يهديك.

♦ قرأنا على الشيخ عبد الكريم (الدروس النحوية: الجزء الثاني)، وقال: هاتوا رفقاءَكم ودرّسوهم، وقرأنا الفقهَ، وقال كذلك.

♦ ومرةً دخلَ شاربُ الخمر ذلك - الذي قال للشيخ ما قال- فرحَّبَ به الشيخُ وأدناه، وقال له: ادعُ لنا عند الختمة، فرفع يديه، وقال: يا رب (حاجْتي) - أي كفاني ما أنا فيه - وتاب إلى الله.

ووسَّع الشيخُ المسجدَ وأصبح طابقين.

♦ وكان رجلٌ شاربٌ للخمر وقاتلٌ دخلَ المسجدَ مرة، وأنا أخطبُ عن الزكاة، وتطرقتُ إلى شارب الخمر.. وبعد الصلاة عاتبني، فقلتُ: والله ما رأيتُك...

ثم تابَ... وقال: أريدُ أنْ أتزوج. فقال له الشيخُ عبد الكريم: اذهبْ إلى فلانٍ يزوجك. وقال له: اعملْ حفلًا ، وادعنا. وذهبنا، وطلبَ مني الشيخُ أن أخطب، فخطبتُ عن فضل التوبة.

وطلبَ الخاطبُ التائبُ أنْ يتكلَّم فقال: يا رجال أنا تبتُ إلى الله، فتوبوا، فقالوا: تبنا، وخرجوا يبكون، وهم يقولون: توبوا يا رجال، إنّا تُبنا، وأنا أسمِّي ذلك اليوم في دمشق: يوم التوبة.

♦ وتاب رجلٌ شاربُ خمر، وأراد عملًا يكسب منه رزقًا حلالًا، فقال لي الشيخُ: دبِّر له عملًا، وذهبتُ إلى محافظ دمشق د. ياسين الأسطة فقلتُ له: إمّا أنْ ترى له عملاً، وإمّا أنْ يعود فيشرب ويقتل، فقال: أوظفه. وجعلهُ ملاحظَ حدائق براتبٍ ممتاز، وسُرَّ الشيخُ عبد الكريم وقال: هذا يكفينا عند الله. وقد تابَ بتوبته آخرون.

♦ يا إخواني: يكفينا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَنْ تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)[1].

♦ أنا أقول: إنَّ دور الشباب في الدعوة إلى الله أعظمُ من دور المشايخ.

♦ كان لدينا شابٌّ من عائلةٍ كبيرة في دمشق وجاهًة ومالًا وزعامة، فقال الشيخُ عبد الكريم: هاتِهِ... وبدأتُ أسلِّمُ عليه ذهابًا وإيابًا فلم يردَّ عليَّ سنة، ومرةً رأيتُه مع رفقائه فتقدمتُ إليه وقلتُ له: أنا أحبُّك تعالَ معي إلى المسجد مرة واحدة، وأنا أضمنُ لك النجاح، ونجعلك نائبًا، فجاء، فاستقبله الشيخ، وقال له: اشتقنا إليك. وكسبه للدعوة، فجاء وأتى معه بإخوانه، وكان منه خيرٌ كثيرٌ.

♦ في عام 1962 كان هناك مؤتمرٌ من 40 دولة: كيف نعيد الشباب إلى المساجد؟ وقيل هنا الشيخ عبد الكريم فيمكن أنْ نسأله ونستفيد منه، فقال لهم: إنْ تواضعتم أيها العلماء للشباب جاؤوا معكم إلى المساجد، فإنَّ الشباب غرقى، ولا يعرفون من يتكلم، فإنْ جئتموهم من فوقهم لم يعرفوكم، وإنْ جئتموهم من تحت أنقذتموهم وجئتم بهم إلى الساحل، وهذا قول الله: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215].

♦ كنتُ مع رئيس الجامعة في القاهرة فقال: كيف نقضي على الفقر؟

فقلت: بشقِّ تمرة.

قال: كيف؟

قلت: هكذا في الحديث.

قال: أي حديث؟

قلت: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)[2]، وفي مصر ستون مليوناً، فلو تصدَّق كلُّ واحدٍ منهم بشق تمرة جمعنا ثلاثين مليون تمرة.

فقال: والله قضينا على الفقر.

♦ خطبتُ على المنبر عن عفو الناس بعضهم عن بعض، ثم قلتُ: لنْ أتكلَّم حتى يعفو كلُّ واحدٍ منكم عن أخيه. فبكى الناسُ وعفوا، ثم تكلَّمت.

وفي اليوم الثاني ذهب رجلٌ من المصلين إلى "موفَّق قنطار" صاحب دار الفارابي، وقال له: كيف يفعلُ الشيخ محمد عوض هذا؟ يَطلبُ منّا أنْ نعفو عن إخواننا على المنبر ولي على شخص خمسون ألفاً فعفوتُ عنه، إذا رأيته لآخذنَّها منه - وكان قد رفع دعوى على ذلك الشخص فذهب إلى المحكمة وأسقطها-، فقال له موفَّق قنطار: إذا لم يَرجع لك حقُّك كاملاً وأكثر فخذْهُ مني.

وحين جاء موعدُ المحاكمة - وكانتْ استمرتْ سنين - ذهب الرجلُ المطلوبُ إلى المحكمة فوجدَ الدعوى أُسقطت، فحملَ المبلغَ وزيادةَ عشرة آلاف، وجاء إلى صاحب الحقِّ وقال له: خذ، أنتَ قلتَ: ستكسرُ رأسي وتأخذ حقَّك، والآن عفوتَ، ولن تكونَ أحسنَ مني.. فأخذ المبلغَ وجاء إليَّ وهو يقولُ: الله يجزيك الخير، الله يجزيك الخير.

♦ دعانا أبي مرةً وقال: أُشْهِدُ اللهَ أني أسقطت حقوقي عنكم، فليس لي حقوقٌ عليكم، حتى لا يتأخر دعائي لكم.

وأخيراً أنا لي إليكم حاجةٌ ولن أتكلَّم بعدها:

أنْ تدعوا لي ثلاث دعوات:

أنْ يغفرَ اللهُ ذنبي.

وأنْ يرزقني الحبَّ النبوي.

وأنْ لا يقطعنا عن العلم والدعوة بقاطعٍ حتى الموت، وأنْ يأتينا الموتُ ونحن على الدعوة والعلم.

ثم أنشد منشدٌ صيِّتٌ أناشيد، منها هذه الأبيات:

أتيتُ إليكَ يا ربَّ العبادِ          بأوزاري وذلِّي وانفرادي

وها أنا واقفٌ في الباب أبكي    زماناً ما بلغتُ به مُرادي

عسى عفوٌ يُبلِّغني الأماني     فقد بَعُدَ الطريقُ وقلَّ زادي

وختم الشيخ بقوله :

♦ كنّا في مجلسٍ كهذا مع الشيخ عبد الكريم الرفاعي، فقال:

يا أولادي ما خلا قلبٌ من حب، فمَنْ تعلَّق بالعالي علا، ومَنْ تعلَّق بالداني دنا.

ومَنْ علَّق قلبَه برسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الدنيا وما فيها تساوي قيمته.

كان شيخنا الشيخ عبد الكريم يقولُ عن هذا الحديث (المرء مع مَنْ أحبَّ)[3]: هذا ميزان.

قلت: كان أغلب هذا اللقاء من وحي قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

[1] رواه مسلم.

[2] رواه البخاري ومسلم.

[3] رواه البخاري ومسلم.

تهفو إليك الشام :

وكتب الشاعر الإسلامي يحيى بشير حاج يحيى قصيدة في رثاء الشيخ الداعية محمد عوض جاءت تحت عنوان (تهفو إليك الشام)، وهي منشورة في رابطة أدباء الشام:

تبكي القلوبُ إذا أفاد بكاءُ     أيفي رحيلك لوعةٌ ورثاءُ ؟

هاجرتَ تبغي وجه ربك صادقاً    لم تُغرك الألقابُ والأسماءُ

ونصرتَ دينك حاملاً راياته       تفديه غيرة مؤمن وإباءُ

وصدعت بالحق المبين ولم تهن     لما تجارت بالألى الأهواءُ

تهفو إليك الشام وهي مشوقة       وتحنُّ للقيا بك العلماءُ

ذكرتنا (عبد الكريم ) فمثله      لا ليس ينسى والعهود وفاءُ

ما زلت تذكره حياتك كلها        ذكر الحبيب إذا يعزُّ لقاءُ

يا خير تلميذ لأفضل مرشدٍ         تبكيكما الأيتامُ والفقراءُ

كنتَ المثال وكان قدوة عصره   والفضل تعرف أهله الفضلاءُ

لم تكتنز مالاً، ولم تأبه له          فكنوزُكَ المعروفُ لا الأشياءُ

في الشام شاماتٌ يعزُّ نظيرُها     فهي النجومُ إذا دهتْ ظلماءُ

تشكو المنابرُ فقدَها ورحيلها           وبها أسى لفراقها ورجاءُ

ضمتك أرضُ الطيبين بطيبةٍ           وحنا عليك نخيلها وقباءُ

وأوتْ لدوح الغوطتين حمامةٌ          ترجو الأمانَ وأزهرَ الحناءُ

 المراجع :

-نسيم الشام – بقلم ولده الشيخ فايز عوض .

-موقع الشيخ معاذ الخطيب .

-صفحة الشاعر يحيى حاج يحيى .

-رابطة العلماء السوريين .

-رابطة أدباء الشام – قصيدة يحيى حاج يحيى .

-الشيخ محمد عوض في دبي – د. عبد الحكيم أنيس .

وسوم: العدد 720