شيخ المجاهدين في بلاد الشام، الشهيد الشيخ عز الدين القسّام

تمهيد":

ليسوا سواء.. من علم ولم يعمل بما علم، ومن علم وعمل بما علم، وجاهد في سبيل الله منذ وعى معنى كلمة الجهاد،ومكانة الجهاد والاستشهاد في الإسلام وعند الله الذي أمر الرسول القائد بالجهاد  وجعله ذروة سنام الإسلام كما ورد على لسان النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم... وإلاّ... فالعلماء والمشايخ والمثقفون كثر، بل هم أكثر من الهمّ على القلب كما يقولون، وقليل منهم الشكور الذي يشكر ربّه على ما أعطاه من علم بالعمل به، وليس بمجرد كلمات يلوكها لسانه الذّرب في المجالس والمحافل والمؤتمرات، وعلى المنابر الإعلامية والإعلانية.

ومن هنا تأتي أهمية الكتابة عن الشيخ المجاهد الشهيد عزّ الدين القسّام، رائد المجاهدين في بلاد الشام في العصر الحديث، وربما كان رائدهم في سائر بلاد المسلمين.

- من هو؟

إنه رجل فقير، وُلد لأبوين فقيرين بالمال والجاه، ولكنهما غنيان بإيمانهما، عزيزان بإسلامهما، مستقيمان في سلوكهما، يخافان الله عزّ وجل، فما كانا يأكلان، ولا يطعمان أولادهما إلاّ من الحلال الطيب، وكلّ حلال طيب، حتى لو كان أخشن خشونة من القتاد..

ولد محمد عز الدين - هكذا كان اسمه - في بلدة (جَبَلَة) على الساحل السوري الجميل عام 1300هـ - 1882م وعاش في كنف أبيه الشيخ الصوفي القادري عيشة الكفاف، وتعلم في (كُتّابه) ما تعلم مع أبناء (جبلة) من القراءة، والكتابة، والقرآن الكريم، وفهم شيئاً من العلوم الشرعية، كما أخذ عن بعض مشايخ بلدته شيئاً من العلوم العربية والشرعية والحساب، وكان متفوقاً على أقرانه في الحفظ والفهم والوعي، وآنس منه أبوه ذلك، فاستخار الله تعالى، ثم قرّر أن يعلمه في الجامع الأزهر بمصر.

- في مصر:

غادر الفتى عز الدين القسّام بلدته (جبلة) إلى مصر عام 1896 وهو ابن أربعة عشر ربيعاً، وانتسب إلى الجامع الأزهر، واستقر في (رواق الشام) عشر سنوات، كان فيها يتلقّى العلم والثورة وتعاليم الإسلام على أيدي علماء الأزهر، ومشايخ مصر الثائرين، يستمع إليهم بعقله وبقلبه، ويعي ما يريدون أن يصبوه في قلب الفتى السوري الذي يذكرهم بمواطنه السوري الشهيد سليمان الحلبي، قاتل كليبر.. كانوا يحدثونه عن الحروب الصليبية، وعن مظالم نابليون وطواغيته، وعن احتلال الإنكليز لمصر، وجورهم، وعن ثورة أحمد عرابي، ويحدثه تلاميذ المجاهد الثائر المفترى عليه: جمال الدين الأفغاني، عن أفكار الأفغاني الثائرة، وعن سيرة حياته.. كان يتردد على مجالس الشيخ محمد عبده، المفترى عليه أيضاً، وينهل من ينابيع عقله الكبير علماً، وعقلاً، ووعياً، وفهماً لمجريات الأمور في العالم الإسلامي الذي يعيش التعاسة، ويقتات الجهل والبؤس، ويغرق في بحار التخلف..

تأثر الفتى عز الدين بتلك الأفكار الثائرة التي تحض على التمسك بالإسلام عقيدة وجهاداً، وتندد بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والتخلف العلمي والحضاري، والهبوط الأخلاقي، والاستعمار الغربي الذي كشر عن أنيابه، وتحفز للانقضاض على ما بقي في بلاد المسلمين من ثروات، وفي نفوسهم من بقايا دين يجهلون حقيقة ما يريدوه منهم في هذه الحياة، من أجل الحياة الدنيا، والحياة الآخرة معاً..

وتأثر بمدرسة الجهاد التي أنشأها العالم الثائر محمد رشيد رضا، فانطلق- القسام- ينهل من معين العلماء المجاهدين، ويتابع معهم أخبار العالم الإسلامي، والحركات الجهادية التي تبذل جهدها لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه، وكان القسام يواكب هذا بقراءات كثيرة وعميقة في كتب العلوم الشرعية والعربية، وكتب التاريخ، وسير العظماء، حتى اكتسب ثقافة عريضة؛ كانت أوسع من الفسحة الزمنية التي أمضاها في ردهات الجامع الأزهر..

  

أفاد من بطون كتب التاريخ، ومن التاريخ الحي على ألسنة العلماء الوعاة وطلبة العلم، دروساً وعبراً أسقطها على الواقع البائس المعيش،  فازداد ثورة ولهيباً، وحزناً وآلاماً من عيشة الخزي والهوان..

لقد امتلأت نفسه بحقائق الإسلام وقضايا المسلمين، فجعلت منه شخصية فذة تتمثل الإسلام عقيدة وأخلاقاً، وسلوكاً كفاحياً، فكان- من بعد- حرباً على الجهل والفقر والظلم والتبعية والتخلف والخرافات والبدع، وداعية إلى الالتزام بالإسلام المصفي ملاذاً وحيداً، وقاعدة انطلاق للنهوض بالأمة، وتحدي أعدائها، والتصدي لألوان الغزو الفكري والحضاري والعسكري الصليبي- الصهيوني اليهودي.

- العودة إلى الوطن:

بهذه الشخصية الثائرة على كل أشكال التخلف عاد الشاب الشيخ عز الدين إلى بلدته(جبلة) التي تغفو على الشاطىء الشامي، ويمتزج شخيرها ويضيع في أمواج البحر، دون أن تقوى تلك الأمواج على إيقاظها من سباتها، مثلها مثل كل المدن والبلدات والقرى في العالم الإسلامي الذي استنام ثم هجع في أحضان التخلف وانعدام الوعي.. ولكن شخصية القسام كانت الأقوى، فأيقظت البلدة من سباتها العميق.. أيقظتها كلمات نسيتها وذكّرها بها الشيخ الشاب بخطبه الواعية المستنيرة، وبدروسه في مسجدها الكبير الذي يؤم المصلين فيه، ويعظهم، ويخطبهم، ويدعوهم إلى إرسال أولادهم إلى المدرسة التي يعلم فيها نهاراً، وإلى مجيء الأميين منهم، وأكثرهم أميون، مجيئهم إلى المدرسة ليلاً، ليعلمهم، لوجه الله تعالى، القراءة والكتابة والقرآن العظيم..

لم يكتف الشيخ الشاب بهذه الدعوات في المسجد الذي غدا إماماً فيه، بل انطلق يغشى المضافات والمجالس، يسهر معهم، ويتحدث إليهم، يعلمهم أمور دينهم، ويفتح عقولهم وقلوبهم وعيونهم وآذانهم على الواقع المزري الذي يرتعون فيه.. كان يهاجم الجهل والفساد والظلم الواقع عليهم، ويندد بالظالمين من أصحاب الأملاك والمزارع الكبيرة الذين يسومونهم سوء العذاب؛ يشغلونهم ونساءهم وأطفالهم في مزارعهم، ثم يلقون إليهم فتات الطعام، وبالي اللباس..

   

نفذت كلمات الشيخ الشاب إلى عقولهم وقلوبهم، فبادروا إلى إرسال أولادهم إلى مدرسته، وصاروا هم تلاميذ المدرسة الليلية، وصاروا يغشون دروسه وخطبه المسجدية، فأحسوا أن لهم كياناً وشخصية وكرامة، وشعروا بالظلم الواقع بهم، وتململوا، وأفصح بعضهم عن معاناته، فثارت ثائرة كبار الملاك، وعرفوا أن القسام الشيخ هو الذي حرك النيام بأفكاره التي لامست قلوبهم، وأثرت بهم، وجمعتهم حوله، فثار الإقطاعيون على الشيخ، وحاولوا الدس عليه لدى الاتحاديين العلمانيين مثلهم، وهددوا الشيخ الشاب، ولكن.. هيهات.. هيهات أن ينثني أو يتراجع من عرف الإسلام، وتشبّع بروحه التي قررت التكريم والكرامة لبني آدم..

  

انطلق الشيخ يستقطب الفلاحين والعمال والفقراء، بما أوتي من الصدق والإخلاص والوعي، ومن براعة الحديث، وتواضع النفس، ودماثة الأخلاق، وكياسة التعامل، واستقامة السلوك، وتوثب الروح، واستنارة البصيرة، ومن تسامٍ عما يقتتل حوله الناس، ويتزاحم الطامعون والطامحون في الاستيلاء على الحطام، ومن زهد بما في أيدي الناس. ومن تقشف في حياته البيتية، وفي طعامه ولباسه، ومن تضحية بالمال والوقت والجهد والراحة، ومن جرأة في قول الحق، ونصر المظلوم، ومن استعلاء على المستكبرين وأصحاب النفوذ.. كان الفقراء- وأكثرهم من أتباع الدعوات- يرون فيه القدوة والعالم المحبوب، والصديق الصدوق.. كانوا يرونه واحداً منهم، فهو يزورهم في بيوتهم المتواضعة، وفي مزارعهم وقراهم وأماكن عملهم، يشاركهم في أعمالهم، ويؤاكلهم على موائدهم البسيطة ويحضر أعراسهم وأفراحهم، ويظهر الحزن عليه في مآتمهم وأتراحهم ومصائبهم، ويساعد من يستطيع مساعدته منهم، يبذل جهد المقل، فأحبوه، واستمعوا له وأطاعوه، وصار مثلاً أعلى لهم، فقد كان بحق، قدوة عملية لهم، لا يكتفي بالكلام المعسول، بل يقرن كلامه بالعمل، وربما سبق عمله قوله، وبهذا تميز من سائر من عرفوا من المشايخ والوجهاء والزعماء.

- جهاده:

كان الشيخ عز الدين ابن زمانه، يعرف ما يحيط به وبإخوانه المسلمين في كل مكان، وأن المسلمين أمة واحدة، وجسد واحد، إذا اشتكى شعب منهم، وجب أن يتداعى سائر المسلمين لنصرة ذلك الشعب، بعيداً كان أو قريباً.. ولهذا كان جهاده يمتد إلى المكان الذي يطوله بجهده ويده ولسانه:

1- ضد الإنكليز في مصر؛ فقد سمع الكثير عن جرائمهم ومظالمهم، كما شاهد الكثير بأم عينه، وعرف الكثير من أحاديث مشايخه وزملائه طلبة العلم، فامتلأت نفسه كرهاً لهم، وحقداً عليهم، وانطلق لسانه يذمهم، ويدعو إلى محاربتهم وإخراجهم من مصر.

2- وعندما هاجم الطليان طرابلس الغرب، عام 1911  ثار القسام، وخطب ضدهم، واستنفر أبناء الساحل السوري لقتالهم، فتجمع معه بضع مئات من المقاتلين، وجمع الأموال لشراء السلاح، وتسليح المقاتلين، والإنفاق عليهم وعلى أسرهم، وكلهم من الفقراء،. كان القسام يقود المظاهرات في اللاذقية وجبلة وسائر المدن والبلدات الساحلية، ويدعو الناس إلى التطوع من أجل الدفاع عن طرابلس.. واختار من المتطوعين مئتين وخمسين متطوعاً، وسافر بهم إلى سيناء الإسكندرونة، وأقاموا في الإسكندرونة أربعين يوماً ينتظرون السفينة التي ستقلهم إلى ليبيا، كما وعد الخليفة العثماني وبابه العالي، ولكن الاتحاديين( القوميين العلمانيين الطورانيين الذين كانوا الحكام الفعليين للدولة العثمانية، نكصوا وتخاذلوا أمام إيطاليا، وحالوا بين الشيخ المجاهد وجنوده المتطوعين، وبين السفر من أجل القتال والدفاع عن ليبيا، فعاد الشيخ القائد بمن معه إلى( جبلة) وبني مدرسة بالمال الذي كان جمعه، وتابع مهمته التعليمية والتربوية فيها؛ يعلم الصغار في النهار، والكبار في الليل.

3- وعندما احتل الفرنسيون الساحل السوري عام 1918 نادى القسّام بالثورة عليهم، وباع بيته الذي لا يملك سواه، واشترى بثمنه أربعاً وعشرين بندقية، وخرج بأسرته إلى قرية(الحفة) في جبل صهيون، والتحق بمن معه من تلاميذه المجاهدين إلى الثورة التي قادها المجاهد عمر البيطار في جبال اللاذقية، وانطلق إلى القرى يدعو الناس إلى الالتحاق بالثورة لمقاتلة الفرنسيين وطردهم من البلاد التي احتلوها.. وكان المسجد منطلقه في كل قرية وبلدة ومدينة، وبهذا أعاد القسام إلى المسجد دوره ووظيفته الجهادية، كما كانت أيام الرسول القائد، وخلفائه الراشدين فمن بعدهم من القادة الفاتحين.

كان القسام حركة دائبة لا تهدأ، يتصل بقادة الثورات في المناطق السورية، ويغير على الدوريات والحاميات الفرنسية، وينسق بين المجاهدين في حلب وجبل الزاوية ودمشق، يساعده في ذلك الشيخ المجاهد كامل القصاب الذي كان يمده بالسلاح والمال، ويجعل من نفسه صلة الوصل مع الثوار الآخرين.

وعندما علم القسام أن الفرنسيين سوف يجتاحون سورية، ويحتلون دمشق، سارع مع صاحبه الأثير( القصاب) إلى دمشق، وشارك في معركة ميسلون، وكانت معركة غير متكافئة، وعرف تخاذل الطامحين إلى الحكم، الطامعين فيه بأي سبيل، فأسرها في نفسه لقابل الأيام.

عاد القسّام إلى جبال اللاذقية ليتابع كفاحه الدامي ضد الغزاة الفرنسيين، ولكنه وجد المجاهدين في أسوأ حالاتهم، فقد نفد ما عندهم من زاد وعتاد أو كاد، وانقطعت الإمدادات التي كانت ضئيلة وغير مناسبة للمهمات الكبيرة التي تصدّوا لها، وغادر بعضهم إلى تركيا، واستسلم آخرون لليأس، فعادوا إلى أعمالهم محبطين. ومع ذلك، صمّم القسّام على متابعة الجهاد والقتال مع من بقي معه من المجاهدين...

حاول الفرنسيون إغراءه، ولكن.. هيهات لمن باع نفسه لله، أن يستجيب لمغريات الدنيا، فقد نوى الشهادة في سبيل الله، فماذا يستفيد من ذهب الدنيا وما فيها من مُتع ومتاع؟

وعندما لم يستجب للإغراء، ولا تمكنوا منه في ساحات القتال، رغم الأعمال الوحشية التي ارتكبوها بحق الفلاحين الفقراء الذين كانوا يتعاونون مع القسّام، ويؤوون رجاله، اجتمع (الديوان العرفي) في (دولة العلويين) وحكم على القسّام وبعض رجاله المقربين منه بالإعدام، ووضعوا مكافأة كبيرة لمن يدل عليه، قدرها عشرة آلاف ليرة..

عندها نصحه صديقه القصاب بالرحيل إلى فلسطين، لمتابعة الجهاد هناك، حيث الأرض المقدسة أسيرة محتلة من قبل الإنكليز وقائدهم الجنرال اللنبي الذي قال بعد أن احتلها: "الآن انتهت الحروب الصليبية" وتذاكرا وعد بلفور المشؤوم بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين التي قرر الإنكليز وتعهدوا أن تكون وطناً قومياً لأعدى أعداء المسلمين والإنسانية: اليهود، وسوف يمكّنونهم في فلسطين، والجهاد هو الجهاد في أي أرض مسلمة يجتاحها الغزاة، في مصر، وفي طرابلس الغرب، وفي بلاد الشام، وقبلها فلسطين والقدس والمسجد الأقصى.. فالإنكليز أساس البلاء، ويجب محاربتهم وطردهم من فلسطين، قبل أن يستفحل خطر اليهود ويتمكنوا من الأرض المقدسة التي باركها الله وبارك ما حولها.

4- الكفاح الدامي في فلسطين: غادر القسام عرينه في جبال اللاذقية، وتوجه إلى بيروت، ومنها إلى فلسطين، يصحبه ابنا أخيه، ورفيقا درب جهاده: الحاج عبيد، والحنفي، وسكنوا قرية(الياجور) قرب حيفا في بيوت من تنك.. كان هذا أواخر عام 1920 ثم انتقلوا إلى حيفا، وصار إمام مسجد الاستقلال وخطيبه المفوّه الذي استقطب المصلين الذين كانوا يفدون إليه من الأحياء والقرى المجاورة، ليستمعوا إلى هذا الشيخ الوافد من سورية الشمالية، ويدور على لسانه كلام جديد لا عهد له به وبأمثاله.. كلام لا يعرفه كل من استمعوا إليه من الخطباء.. كلام يتجاوز الآذان ليستقر في العقل والقلب..

أدرك القسام أن الحرب الصليبية الجديدة ستكون أضرى من سابقاتها، وأن اليهود سيكونون طلائعها ووقودها، وهذا يعني أن يعدّ للأمر عدته، فليس هؤلاء كأي استعمار لأي بلد مسلم، لا يلبث أن يزول.. إن استعمار اليهود استيطاني خبيث، سوف يتشبث في الأرض، ويحرق ما عليها، من أجل أن يبقى فيها..

المهمة شاقة؛ فالمعركة بين علم وجهل، بين غزاة جاؤوا مسلحين بأحدث أنواع السلاح، وأغنياء، ولهم أهداف بعيدة، وماكرون خبثاء، والمسلمون جهلة متخلفون فقراء، وليس معهم سلاح يقاومون به الغزاة، وزعماؤهم متناحرون على المناصب، منكبّون على الشهوات والمتع الرخيصة، يكيد بعضهم لبعض، ويتزاحمون على أبواب المستعمرين،يقدمون لهم فروض الطاعة والولاء، وينفقون أموالهم على الغواني من اليهوديات الساقطات…

إذن.. لا بد من وضع خطة محكمة ينفذها في كفاحه المرير، ويتعهد تلاميذه ورجاله بتنفيذها من بعد موته، لأن المعركة طويلة طويلة...

كان من أولويات خطته، أن يدرس الساحة التي سيتحرك عليها دراسة بشرية وجغرافية، وهذا يعني أن يكون مع الناس، وأن يقيم صلات عميقة معهم من خلال المسجد والمدرسة، فعمل إماماً وخطيباً لجامع الاستقلال، وأقام مدرسة كتلك التي أقامها في بلدته (جبلة) لتعليم الصغار والكبار، يعلمهم فيها ويعظهم ويربيهم وينقلهم إلى ساحة الوعي بدروسه بعد الصلوات، ثم عمل مأذوناً شرعياً، ورئيساً لجمعية الشبان المسلمين التي أنشأها في حيفا، وفتح فروعاً لها في عدد من القرى المحيطة بها، وبهذا كان الغطاء كافياً ليتصل بسائر الناس، وكلهم من العمال الذين يعملونه في الميناء، أو الفلاحين الفقراء الذين يعملون في أراضيهم أو أراضي المزارعين الكبار..

كان القسّام يزورهم في بيوتهم المتواضعة، ويسهر معهم ويقص عليهم القصص الهادفة من حياة النبيين والصالحين والمجاهدين الفاتحين، ويزرع في قلوبهم الإيمان الصحيح، ويثير فيهم النخوة والكرامة وإباء الضيم ورفض الظلم والبغي، فأحبه الفلاحون والعمال وسائر الفقراء.. أمّا الزعماء والوجهاء والأغنياء، فقد كانت علاقاته بهم جيدة، ولكنه كان حذراً منهم ومن صلاتهم بالإنكليز واليهود، فلم يطلعهم على ما يدور في خلده، لأن مطامحهم غير ما يدندن القسّام حوله ويدعو إليه.. وبهذا تناء عن شرورهم وإيذائهم إلى حد ما، وأمن مكرهم..

- مدرسة القسّام:

إنها مدرسة الرسول القائد، صلى الله عليه وسلم.. مدرسة جمعت بين التربية والجهاد، فهر يربّي أبناءها على حب الموت في سبيل الله، والجهاد من أجل نصرة دينه، وتحرير مقدساته، وكل الأرض الشامية مباركة مقدسة، بل كل بلاد المسلمين تفرض على المسلمين أن يذودوا عنها عدوان المعتدين، وأن يبذلوا في سبيل تحريرها من أيدي الغاصبين كل غالٍ ونفيس.. لذلك رأينا القسام يبيع بيته في (جبلة) ويشتري به سلاحاً يوزعه على المجاهدين لقتال الاستعمار الفرنسي، وتحرير سورية الشمالية منه، وطرد جيشها المحتل لأرضها..

وفي حيفا وفّر ما استطاع من مال، واشترى به السلاح، ودرّب المجاهدين عليه، ثم سلحهم به.. طاف كثيراً من القرى، وتعرف إلى الناس، واصطفى منهم صفوة اعتمد عليهم، وربّاهم على الدين والفضيلة، وعلى الزهد والعفة، وعلى حب الإسلام ونبيّ الإسلام، وعلى الجهاد سبيلاً للتحرير، وعلى حب الموت في سبيل الله، وترك المظاهرات والمؤتمرات والمفاوضات للزعامات اللاهثة وراء الحلول السلمية والاستسلامية، ترك لهم الشعر والشعراء، والخطب (العصماء) والعواطف البلهاء، وأكبّ على التخطيط والعمل والتنفيذ بسرية وكتمان وعمل دؤوب لتكوين نواة حركة جهادية، وسهر عليها، ولم يضيع شيئاً من الوقت، ولم يبخل بمال أو جهد أو راحة عليها، فقد كان يعلم أنه في سباق مع الأعداء ومع الزمن، مع وعي تام لكل ما يتطلبه السباق من أسس علمية سليمة، ومن مبادئ إسلامية تحدّد له الغاية والأهداف والوسائل النظيفة المتاحة على أرض المعركة..

لقد بذل القسّام من الجهد والوقت والمال كلّ ما كان عنده، ولم يستبق منه لنفسه ولأسرته شيئاً.. كان يخرج مع تلاميذه ليلاً.. يخرجهم إلى الخلاء.. إلى المقالع الحجرية التي جنّد أكثر العاملين فيها، ومعه المدرّب والمدربان، ليعلموا المجاهدين فكّ السلاح، بارودة كان أم مسدساً، وعلى تركيبه، وعلى تنظيفه وصيانته، وعلى استخدامه والتصويب به.. بدأ من نقطة الصفر معهم، ليكون البناء سليماً قائماً على أسس سليمة، حتى يدوم ويستمر إلى ما شاء الله، إلى النصر والتحرير..

وكان تلاميذه يزدادون تعلقاً به، وحبّاً له ولما يدعو إليه، فقد رأوا فيه القدوة العملية، والمسلم الحق الذي يطابقون بينه وبين ما علمهم وما عرفوا من سمات القادة الربانيين..

كان القدوة في التضحية والبذل والعطاء.. كان لله وفي الله، فكانوا كذلك معه. ولهذا تحملوا حزمه وشدته في التدريب على السلاح في سائر الأحوال، وعلى الاخشيشان والمشاق.. يأمرهم أن يخلعوا أحذيتهم ويمشوا حفاة فوق الأشواك والصخور، وأن يتسلقوا الأشجار والجبال، فتكون المسارعة إلى طاعة الأوامر بحبّ وطيب نفس.. يأمرهم بالنوم في العراء في الليلة الباردة والمطيرة، ويمنعهم من تناول الطعام والشراب، فينامون بلا وطاء ولا غطاء، ولا طعام ولا شراب، استعداداً لما سوف يستقبلهم ويستقبلون من أيام عوابس، وليالٍ عجاف.. وكان من أقسى ما يؤمرون به، أن يناموا في بيوتهم على الحصير، وزوجاتهم ينظرن إليهم يفعلون هذا مرة أو مرتين في الأسبوع، ويطلبن تفسيراً لهذا التصرف الغريب، وكأنه هجران في المضاجع، فيسكت الواحد منهم، ولا يستطيع إفشاء السّر الذي ائتمنه عليه الشيخ القائد الآمر.

كان المبدأ الذي يعتمده شعاراً وسلوكاً، ويأمر خاصته به: علنية الدعوة، وسرية التنظيم.. وعلى هذا نشط في زيارة القرى، والاحتكاك بأهلها، يلقي دروسه ومحاضراته في مساجدها ومضافاتها وفروع جمعية الشبان المسلمين التي يرأسها، وكانت كلماته تشقّ طريقها إلى القلوب فتأسرها.. تعلمهم الإسلام وما ينبغي أن يتحلى به المسلم من عزة وكرامة وإباء، وكيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ودينهم ضد الغزاة من اليهود والإنكليز المستعمرين المحتلين، وكان - في الوقت نفسه - يعرف كيف يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسم فيهم الإيمان وما يستتبعه من صدق وإخلاص وتضحية وجهاد في سبيل الله.. ينظمهم، ويفكر معهم في الطريقة المثلى للتحرك في مناطقهم بسرية وكتمان، حتى استطاع أن يبثّ القيادات ويوزعهم في كثير من القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل وصل تنظيمه هذا إلى مدينة اللاذقية في سورية، لتكون قاعدة التسليح فيها.

وهكذا استمر خمسة عشر عاماً يخطب ويحاضر ويحض على الجهاد، ويحث على التضحية والبذل والجود بالمال والروح، وكان يشتري السلاح سراً، ويدرب عليه من وقع اختياره عليه من الأتباع، ثم يأمر أعوانه بتدريب من يرونه أهلاً لحفظ السر والكتمان، على السلاح وعلى القتال، ويأمر من يلقاه من أصحاب الحمية والدين باقتناء السلاح، تمهيداً للقيام بثورة حدد أهدافها الثلاثة مسبقاً وهي:

1- تحرير فلسطين من الاستعمار الإنجليزي الذي يعد العدو الأول للفلسطينيين ولسائر المسلمين، لأنه وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين عبر وعد بلفور المشؤوم عام 1917م وسمح بهجرة عشرات الآلاف منهم إليها، ودرب شبابهم، وسلحهم، وتغاضى عن السلاح الذي كانوا يستوردونه من أوروبا وروسيا.

2-    الحيلولة دون تحقيق آمال اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وإنشاء دولة يهودية على أرضها، مهما كلفهم من جهد ودماء وأموال ومتاعب.

3- إقامة دولة عربية إسلامية في فلسطين، تكون نواة لدولة الوحدة التي تجمع العرب والمسلمين وكان شعاره في حركته: (هذا جهاد.. نصر أو استشهاد) يدور على ألسنة المجاهدين في فلسطين.

كان الشيخ عز الدين يعمل في سرية وتكتم، ولا يطلع على خطته إلاّ خاصة أعوانه ومساعديه الذين كانوا يخططون معه للعمليات التي ينفذونها ضد ثكنات الإنجليز، ومستوطنات اليهود القادمين من الخارج ليلاً، ثم يعودون إلى أعمالهم نهاراً، ويستأنفون أعمالهم العادية، فلا ينتبه لهم أحد.

- جهاد فاستشهاد:

كانت عيون الإنجليز واليهود مفتوحة على الشعب، ثم تركزت على الشيخ عز الدين، وقد استدعته سلطة الاحتلال الإنجليزي وحققت معه أكثر من مرة، وكان في كل مرة مثال العالم المجاهد الشامخ بعلمه وعمامته، يقارعهم الحجة بالحجة، ولا يخشى سجونهم وما فيها من بلاء..

ولما عرف الشيخ أن وضعه قد انكشف، وعرف أعداؤه بعض ما قام به، وما يخطط للقيام به، خرج بأعوانه إلى جبل جنين، لتثوير الفلاحين وتدريبهم على حمل السلاح، ومناجزة الإنجليز واليهود، وقبل أن يتحرك الشيخ وأعوانه لتنفيذ ما انتووا القيام به، كشفت سلطات الاحتلال مكانه، فحشدت أكثر من مائة وخمسين شرطياً بريطانياً وعربياً، وحاصرته في حرش (يعبد) صباح 20/11/1935 من ثلاث جهات، وكان بإمكان الشيخ وإخوانه أن يهربوا، ولكنه أبى الفرار من المعركة التي فرضت عليه، وقرر خوضها مع علمه بأنها معركة غير متكافئة، من حيث العُدد والعَدد والتدريب والمكان، فقد كان الشيخ وإخوانه في الوادي، وكان المهاجمون المحاصِرون في الجبل.

كان القائد الإنجليزي وضع الشرطة العرب في ثلاثة صفوف أمامية، فكانوا يتقدمون الحملة، وكان قد أوهمهم أنهم يهاجمون عصابة من اللصوص وقطاع الطرق، فأمر الشيخ إخوانه بألاّ يقتلوا أحداً من الشرطة العرب الذين كانوا يتقدمون نحو المجاهدين، وهم لا يعرفون أنهم يقاتلون الرجل الذي يحبون.. إلى أن أحيط بالشيخ وإخوانه، فطلب قائد الحملة من الشيخ أن يستسلم وإخوانه، لينجوا من الموت المؤكد، فأجابه الشيخ الذي يرى الموت ماثلاً أمامه:

"هذا جهاد في سبيل الله، ومن كان هذا جهاده، لا يستسلم لغير الله..".

ثم التفت إلى إخوانه وهتف بهم:

"موتوا شهداء".

فمات الشيخ وأربعة من إخوانه شهداء، وجرح اثنان، وأُسر أربعة، بعد ست ساعات من القتال الضاري، أظهر فيه الشيخ وإخوانه بطولة نادرة، وكانوا أمثلة حيّة تحتذى في التضحية والإخلاص لله والأمة والوطن، وكان لاستشهاد الشيخ وإخوانه دويٌّ هائل في فلسطين خاصة وبلاد الشام عامة.

ودفن الشيخ عز الدين في قرية (الشيخ) قرب حيفا، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والعلماء والسياسيين ولم يُخفِ بعض القادة الإنجليز إعجابهم بالشيخ وبطولته وجهاده.

أما بعد:

فقد تابع تلاميذه تنفيذ خطته من بعد استشهاده، وفجّروا الثورة الفلسطينية الكبرى بعد عام من استشهاده، واستمرت برغم المؤامرات عليها، حتى عام 1939 ثم استأنف تلاميذ تلاميذه انتفاضتهم الأولى عام 1987 والثانية عام 1998 وما تزال مستمرة، شعارها ذلك الذي رفعه رائد المجاهدين الاستشهاديين في العصر الحديث: هذا جهاد.. نصر أو استشهاد.. وسيكون نصراً مؤزراً إن شاء الله القوي العظيم، مهما تكاثفت الغيوم، واسودّت المؤامرات في الداخل والخارج، وبرغم أنوف المتآمرين مع بني صهيون من الفلسطينيين والعرب والبريطانيين والأمريكان... والله غالب على أمره، وناصر جنده الذين ربّاهم الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين القسّام. 

   

   

وسوم: العدد 730