رحم الله الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري

رحم الله الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري لقد تطوع يوم كان محاميا للدفاع عن طلبة إسلاميين  بجامعة فاس ظلموا من طرف فصائل طلابية يسارية

 التحق بالرفيق الأعلى علم من أعلام هذا الوطن ، وخلف برحيله كرحيل كل علم مشهور فراغا ما أظنه سيملأ أبدا إلا أن يشاء الله عز وجل فيجعل له عوضا . واستحضرت حين نعي فضيلة الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري  وزير الأوقاف السابق رحمه الله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبض العلم ينتزعه من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلم  بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهّالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " رواه الإمام البخاري . ويجدر بالإنسان المؤمن أن يستحضر هذا الحديث كلما رحل عالم من العلماء لأن في الحديث تحذير من قبض العلم بقبض العلماء ، وكلما قبض العلم بقبض العلماء حل محلهم الجهّال الذين يضلون ، ويضلون ـ بفتح الياء وضمها ـ . ويمكن أن نقيس قبض العلم بقبض القيم الأخلاقية حيث لا تنتزع من الناس بل يقبض الله عز وجل أهل الحلم كما يقبض أهل العلم فيحل محل أهل الخلق من لا خلاق لهم . ولقد جمع الأستاذ المدغري تغمده الله بواسع رحمته وجميل عفوه بين الانتماء إلى أهل العلم وأهل الحلم حيث كان على درجة عالية راقية من حسن الخلق ودماثته . ولقد تشرفت برؤيته عن قرب أول مرة وفي  يدي أصفاد بقاعة المحكمة بفاس و كنت قد اعتقلت مع مجموعة من الطلبة الإسلاميين كان عددهم 26 معتقلا ، وذلك سنة 1981. وكان سبب الاعتقال هو الصدام مع الطلبة اليساريين الذين رفضوا تنظيم الطلبة الإسلاميين معرضا للكتاب الإسلامي تحت شعار : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق))  وسبب تنظيم هذا المعرض هو أن الباعة المتجولين للكتب والمطبوعات والمجلات والجرائد  كانوا يعرضونها بفضاء الحي الجامعي ، ولما كان التيار الفكري المهيمن يومئذ هو التيار اليساري أبى الطلبة اليساريون أن ينظم معرض للكتاب الإسلامي لأنهم كانوا يعتبرون الفكر الإسلامي فكرا رجعيا، إخوانيا ،ظلاميا، قروسطيا على حد تعبيرهم . وكان هذا الموقف منهم دليلا على مدى  تخلف وتحجر الفكر اليساري  السائد يومئذ في جامعة فاس، ذلك أن الفكر المؤسس على حقائق وعلى أسس ثابتة وصلبة من المفروض ألا يخشى غيره ، وألا يقصيه بل يحاوره ويغالبه ويناظره، ولم يكن شيء من ذلك من خصائص الفكر اليساري ، وما أظن أنه سيكون يوما ما من خصائصه إذ لا زال أصحاب هذا الفكر على عدائهم  التقليدي ضد الفكر الإسلامي  وأهله . ولقد سلك الطلبة الإسلاميون يومئذ الطريق القانوني لتنظيم معرضهم حيث تقدموا بطلب  إلى مدير الحي الجامعي وكان من رجال السلطة سابقا ،فوافق على طلبهم إلا أن الفوضى التي كانت سائدة في الجامعة ومحيطها حيث كان الطلبة اليساريون يعتبرون هذا الفضاء ملكا خاصا بهم لا ينازعهم فيه أحد ولا سلطة لأحد عليهم منع إقامة هذا المعرض حيث قرراليسار ألا ينظم هذا المعرض بعد أن عرف إقبالا كبيرا في يومه الأول ، وكان مقررا أن يستمر لمدة ثلاثة أيام إلا أن الطلبة اليساريين قرروا اقتحام مقره وإتلاف معروضاته ،فاندلع بسبب ذلك الصراع بينهم وبين الطلبة الإسلاميين صبيحة اليوم الأخير من أيام المعرض ، وتدخلت القوات العمومية بالقوة، فاعتقلت من هؤلاء ومن هؤلاء ، وحررت لهم محاضر في مخافر الشرطة التي قضوا بها أياما في ظروف مزرية ، ثم نقلوا بعدها إلى إصلاحية عين قادوس بفاس ، ونقلوا بعد ذلك  إلى المحكمة في يوم مشهود على متن شاحنة عسكرية لها زعيق ويتقدمها شرطي على متن دراجة نارية ذات أضواء وضجيج، والطلبة مصفدون مثنى مثنى . وعرضوا على محكمة فاس بعد الخضوع لتحقيق أمام قاضي تحقيق ، وكانت تلك هي الفرصة التي سنحت لي لرؤية المرحوم الأستاذ المدغري رحمه الله عن قرب حيث كان يمتهن المحاماة ، وقد انتصب بقامته المهيبة أمام منصة القضاء للمرافعة والدفاع عن الطلبة الإسلاميين متطوعا مقابل تطوع العشرات من المحامين اليساريين للدفاع عن الطلبة اليساريين . ولقد كانت مرافعته رحمة الله عليه راقية بلغة عربية  رفيعة وبهدوء وسكينة كانت معهودة فيها . ولن أنسى أبدا عبارته أثناء مرافعته ردا على كلمة المدعي العام ومرافعات المحامين اليساريين الذين اغتنوا الفرصة للنيل منا كطلبة إسلاميين حقدا من عند أنفسهم ،وكأننا لم نكن مواطنين مغاربة أو كأننا كنا مجرمين ضبطنا متلبسين بأخطر الجرائم ، وكانوا في المقابل يدافعون  باستماتة عن الطلبة اليساريين مع أنهم كانوا هم المعتدين ، وكنت ساعتئذ أرى في أولئك المحامين مجرد طلبة يساريين أنهوا دراستهم الجامعية ولم تنته مراهقتهم الفكرية  اليسارية . ومقابل تلك المراهقة  الفكرية ،وقف المرحوم الأستاذ المدغري شامخا مفحما ، وكانت عبارته كالآتي : " أنا هنا للدفاع عن كل أبنائنا الطلبة هؤلاء وهؤلاء "، وكان ذلك صفعة موجعة للمحامين المتحيزين للطلبة اليساريين . وأثنى رحمه الله على الطلبة الإسلاميين وعلى تدينهم وحسن خلقهم ، ولم ير في تنظيمهم معرضا للكتاب الإسلامي ما يستدعي وقوفهم أمام القضاء ، وانتقد منعهم من تنظيم معرضهم خصوصا وقد سلكوا الطريق القانوني ، ولم يجامل الطلبة اليساريين كما فعل المحامون اليساريون بل أهدى إليهم عيبهم وقد منعوا معرض إخوانهم الإسلاميين بأسلوبه الحكيم الرزين وبأدب رفيع . ولقد كان تعامل القضاء مع فضيلته يعكس  مدى احترامهم له ، والذي كان يفرضه على كل ما يقابله أو يحاوره . ولقد شعرت يومئذ ويدي مصفدة ، وأنا لا أدري ما العقوبة التي كانت تنتظرني أنا ومن معي  بطمأنينة وارتياح وتابعت مرافعته رحمه الله باهتمام شديد وكنت أرى فيه مسيحا مخلصا كما يقال . وبالفعل لم تنته جلسة المحاكمة إلا وقد سرّح الجميع باستثاء ستة طلبة، ثلاثة من الإسلاميين وثلاثة من اليساريين، وقد قضى الإسلاميون مدة محكوكيتهم وكانت شهرا نافذا ، بينما استفاد اليساريون من عفو ملكي بمناسبة عيد العرش، وكانت محكوميتهم شهرين نافذين لم يقضوا منها سوى شهرا واحدا وهكذا  سوّى العفو الملكي بين العقوبتين ، وسوّت المحكمة  بين الجاني والضحية، وكان رجل الموقف المشرف يومئذ فضيلة المرحوم الأستاذ المدغري الذي سررت غاية السرور يوم عين وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية  وقد رد الاعتبار لهذه الوزارة التي كان اليسار يري أنها  يجب أن تبقى مجرد وزارة لمراقبة أهلة العيد ، إلا أن الله عز وجل أراد لهاغير ذلك  وهيأ لها سعي المرحوم المشكور، فصار لها  من الشأن ما كان اليسار لا يريده لها . ولقد لعب رحمه الله دورا كبيرا في الدفاع عن الإسلاميين وعن حقهم في المشاركة في الحياة السياسية ، وكأن دفاعه عن الطلبة الإسلاميين يوم كان محاميا خط له نهج الدفاع عن الإسلاميين ، ولم يكن صاحب عصبية ولا تحيز بل كان متحرر الفكر ، وصاحب حوار بالتي هي أحسن يعتمد الحجة والإقناع . وكان رحمه الله ورعا متدينا متشبثا بهويته الوطنية والإسلامية كأشد ما يكون التشبث ، وكان جميل المعشر  بهي الطلعة ، يحبه كل من يراه أو يحاوره . وما أظنني أهلا لوصفه كعالم وفقيه ، ورجل قانون بل ذكرته  ذكرى طالب وقد آزرني أنا وإخواني الطلبة الإسلاميين يوم ظلمنا اليسار طلبة ومحامون ، والله العلي الكبير أسأل أن يرحمه رحمة واسعة ويبعثه مقاما محمودا مع النبيئين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ،وإنا لله وإنا إليه راجعون .    

وسوم: العدد 734