الزهراء المجاهدة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم

حــكــــايــــات من بيـت الــنـبـــــــــوة ( 4 )

يقول المستشرق (لامنس) :

 إن المؤرخين المسلمين تناسوا فاطمة بنت محمد كما تناسوا بقية بنات الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم ــ فلم يحفلوا بها أول مرة حتى إذا ظهرت فكرة التشيع في الإسلام عادوا يطلبون الحديث عنها وأخذت شهرتها تذيع و تنتشر على حين ظلت أخواتها ليس لهن ذكر و لا عنهن حديث*."

تــقـــدمــــــــة

لا شك أننا ـ نحن المسلمين ـ نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحب آل بيته المؤمنين الطيبين الطاهرين ، ولاشك أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضم جميع أزواجه أمهات المؤمنين وأولاده وبناته وأحفاده وحفيداته ونحن نحترمهم كلهم ونحبهم كلهم دون تفريق بين زوجة وبنت وبين حفيد وولد فكلهم من رسول الله وكلهم ينتسب إلى جدي وسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ظهرت بعض الفرق والطوائف الضالة المنحرفة التي رفعت بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة التقديس وأحيانا التأليه والعبادة ، وخفضت بعضهم الآخر إلى درجة السب والشتائم ووصفهم بالكفر والفسوق والعصيان والفاحشة ظلما وكذبا وزوراً وأدخلت من ليسوا من آل بيت رسول الله في زمرة آل البيت وهذا كله انحراف وضلال وتشويه لمبادئ الشريعة الإسلامية ولحقائق التاريخ الإسلامي ، لقد خصص هؤلاء المنحرفون الضالون الأدعياء كل الحب والتقدير والتقديس للحبيبة فاطمة الزهراء حبيبة رسول الله وابنائها من بعدها ، بينما أهملت بقية أبناء وبنات وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ربما وصل الأمر إلى اتهامهن في دينهن وأعراضهن وسبهن ووصفهن بأشنع وأسفل الصفات ولا حول ولا قوة إلا بالله ، حتى أن أحد فساق الشيعة في البصرة لعنه الله لم يتورع أن يقول في خطبة له على المنبر في صلاة الجمعة : ( روي عن أم الفاسقين عائشة لعنها الله ) بل لعنه الله بفسقه وفجوره وكفره خاصة وأن الله أنزل الوعيد الشديد على من أساء إلى السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حديث الإفك ، يقول ربنا جل شأنه : ( إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لاتحسبوه شرا لكم بل هو خير لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره له عذاب عظيم ) .. فهل يرعوي أولئك المنحرفون الضالون ويعرفون ما ينتظرهم من العذاب الأليم ، والغريب في الأمر أن الآية الوحيدة التي ذكر فيها آل بيت رسول الله جاءت في نساء النبي ولم تذكر بناته وأحفاده وهي قوله الله جل وعلا : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن الله فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ) وهذه الآية الكريمة تعتبر دليلا قاطعا على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هم أيضا من آل بيت رسول الله وإن وإن ادعى الأدعياء وكذب المفترون على أزواج رسول الله أمهات المؤنين عليهم أفضل الصلاة والتسليم ، والقرآن الكريم يشير في قصة إبراهيم وزوجته سارة عندما بشرتها الملائكة بميلاد نبي الله أسحق عليه السلام ( صكت وجهها وقالت أألد وأنا عجوز عقيم وهذا بعلي شيخا ) وجاءت الآية الكريمة ترد عليها ( رحمة الله عليكم آل البيت ) أي آل بيت إبراهيم عليه السلام وهذا تأكيد آخر على أن زوجة إبراهيم سارة أم نبي الله إسحق رضي الله عنها هي أهل بيت سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ذلك الحين إذ لم يكن في بيت سارة إلا إبراهيم وزوجه فقط وأن الكلام كان موجهاً إليها ، ودليل آخر على ذلك زوجة نبي الله زكري عليه السلام حين بشرت بنبي الله يحيى عليه السلام ، وأنا حين أقرأ السيرة العطرة لسيدي رسول الله ولآل بيته الطيبين الطاهرين يحز الألم في نفسي حين أجد هذا التناقض وهذا الإنحراف الخطير في مفهوم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأنني انتسب إلى هذه الشجرة الطيبة الطاهرة المباركة إلى الحسن المثنى بن الحسن بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد حز في نفسي أن تكثر الكتابات والأقوال والسير والتمجيد والتعظيم والتقديس والقصائد والكلمات التي تصل في كثير من الأحيان إلى الكفر والشرك للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهمل ذكر بقية آل البيت حتى لا نكاد نسمع عنهم شيئا ، هذا مع حبي الشديد لجدتي الزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أبيها ، لذلك قررت الحديث والكتابة عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين عبر قصص هادفة موجهة تزيل الغبار والغبش والسخام الذي أثاره بعض المنحرفين الضالين عن آل بيت رسول الله الطاهرين الطيبين ، ورأيت أن تكون القصة الرابعة عن الزهراء المجاهدة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي بدأت جهادها الميمون في مساعدة رسول الله ودفع أذى قريش عنه ثم في حصار شعب أبي طالب مع أمها خديجة وأختها أم كلثوم ومع المؤمنين الطيبين الطاهرين من الرعيل الأول ومع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا أول الجهاد تبعه بعد ذلك حلقات أخرى كثيرة من الجهاد والهجرة مع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بحق المجاهدة الصابرة التي وقفت مع والدها رسول الله وقفة مشرفة بعد وفاة عمها أبي طالب شيخ الهاشميين وبعد وفاة أمها خديجة وبعد هجرتها إلى المدينة فكانت خير ابنة لخير أب رضي الله عنها وأرضاها ..

 أمر آخر دفعني و بشدة للكتابة عن الزهراء المجاهدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو التأثر العنيف الذي كان ينتابني كلما قرأت سيرتها الطاهرة وجهادها وصبرها والمحن والشدائد التي مرت بها منذ أن اشتدت عليها المحنة وحتى وفاتها في المدينة المنورة بعد وفاة والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر أو تزيد ، لقد وجدت في هذه الأحداث والمآسي والآلام والأحزان التي لاقتها الزهراء المجاهدة فاطمة بنت محمد رضي الله عنها مادة غزيرة ودروساً قيمة في الصبر والجهاد والتضحية والبذل والعطاء في سبيل الله وفي سبيل رفع راية الإسلام وراية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية ، لقد عاشت المجاهدة الصابرة فاطمة بنت محمد رضي الله عنها حياة ملؤها الصعاب والأهوال والمحن ملؤها الدروس القيمة رضي الله عنها وأرضاها وأسكنها الفردوس الأعلى يوم القيامة إنه خير مسؤول ..

أمر ثالث دفعني وبشدة للبدء بكتابة هذه السلسلة القصصية عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو الهدف لتصحيح الانحراف الفكري والعقيدي الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التقديس والتأليه للسيدة فاطمة الزهراء وزوجها وأبنائها الحسن والحسين عند بعض الطوائف الفاسدة المنحرفة الضالة وإهمال بقية آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين في حين كانت الزهراء فاطمة وزوجها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب مثالاً للتواضع والبساطة والتقشف والبعد عن زينة الحياة الدنيا ، فكان هذا الهدف في تصحيح الإنحراف الفكري والعقيدي هو الدافع الأهم لكتابة هذه السلسلة القصصية الهادفة لأبنائنا الطلاب وللناشئين ، وهذا كله مع حبي الشديد لجدتي فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأبنائها الكرام الأجلاء وزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم وأسكنهم فسيح جناته ، ولا أريد أن بفهم من كلامي هذا أنني أتحامل على بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين الطاهرين الطيبين ذلك لانتسابي إلى هذه الشجرة الطيبة المباركة فأنا منهم وهم مني ولكنني أردت أن أصحح خطأ تاريخيا أدى إلى كثير من الانحراف والضلال عند بعض الطوائف المنحرفة الضالة التي تدعى الحب لرسول الله وآل بيته فأوصلهم التطرف والغلو في كثير من الأحيان إلى الانحراف والضلال بل ربما أوصل بعض الغلاة إلى الشرك والكفر والخروج عن ملة الإسلام والعياذ بالله تعالى ، إنني لأتطلع إلى توفيق الله وعونه للوصول إلى هذا الهدف الهام الذي لا أرجو منه إلا رضاء الله جل وعلا ، كما أرجوه جل وعلا أن تكون هذه السلسلة المبسطة الهادفة عوناً لأبناء هذه الأمة على تصحيح الفكر وتقويم المسار والعودة إلى معين الإسلام الصافـي بعد أن ران على قلوب كثير من المسلمين وأبصارهم الغبش والضباب ، وبعد أن دخلت كثير من الشبهات والافتراءات والأضاليل عقول أبناء المسلمين وأفكارهم ، وأريد هنا من خلال هذا الكتاب أن أوجه دعوة صادقة إلى أبناء الشيعة لكي يتركوا الكثير من البدع والانحرافات والطقوس والأضاليل التي ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي طقوس ابتدعوها وساعدهم عليها أعداء الله وأعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والشعوبيين ، وأن يعودوا إلى معين القرآن الصافي وإلى حديث رسول الله الصحيح وبذلك يكون صلاحهم وهدايتهم بعد الانحراف والفساد والضلال ..

 وشبهة أخرى تثار حول فاطمة الزهراء يريد أن يروج لها المنحرفون الضالون ألا وهي حب رسول الله للزهراء فاطمة ، وبعض الأحاديث الصحيحة أو الضعيفة أو الموضوعة المختلقة التي يسوق لها المنحرفون من أجل إيقاع الناس بالفتنة ، وإثبات فضل فاطمة الزهراء على كل البشر وإضفاء صفات التقديس والغلو وربما التأليه عند بعض الغلاة للسيدة الطاهرة الصديقة فاطمة الزهراء وأقول لهؤلاء : لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة كما يحب بقية بناته وربما كان حب فاطمة الزهراء أكثر لأسباب عديدة أذكر هنا بعضها وأترك التفصيل في ذلك للقارئ الكريم ليبحث في أمهات الكتب ففيها الكثير :

** لقد كانت فاطمة الزهراء أصغر بنات الرسول دون خلاف في ذلك ، ومن منا لا يحب أصغر الأبناء أكثر من بقية الأبناء ، ولقد سئلت أعرابية عن أحب أبنائها إليها فقالت : ( الصغير حتى يكبر ، والمريض حتى يشفى ، والمسافر حتى يعود ) .. فحب الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الناحية أمر طبيعي يسري على معظم أبناء البشر، ولا يجوز أن يعتبر مبرراً للتقديس والتعظيم وإضفاء صفات ما أنزل الله بها من سلطان على السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها ...

** لقد كانت الزهراء فاطمة البنت الرابعة عند رسول الله في بيئة جاهلية تقدس الذكور وتغض من قدر الإناث فكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيداً للمساواة والعدل بين الذكور والإناث ، وتأكيدا على الرضى المطلق لما قسمه الله له خاصة وأن أبناءه الذكور قد ماتوا جميعا وأصبح المشركون يلقبونه بأبي الإناث أحيانا وبالأبتر الذي لا عقب له في أحيان أخرى ، فهذا التكريم للسيدة فاطمة أصغر البنات وآخر البنات هو الرد العملي على دعاوى المشركين وأكاذيبهم ..

** زواج أخواتها كلهن وبقيت هي وحدها دون زواج لخدمة الوالد الكريم في أشد الأوقات صعوبة حتى تزوج من أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق فكان هذا الزواج المبارك فاتحة خير على فاطمة أعانها على تحمل أعباء الدعوة ، وفتح أمامها طريق الزواج فيما بعد ..

** وفاة أخواتها كلهن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبقيت فاطمة الزهراء أنيسه رسول الله وقرة عينه حتى انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى مما زاد في حبه وتعلقه بالسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها ..

** إنجابها للحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وحب الرسول الكريم للأبناء والأحفاد رفع مرتبة هذا الحب درجات كبيرة ، ونحن لا ننسى حب الرسول الكريم لحفيدته أمامة بنت العاص بن الربيع التي قال عنها رسول في موضوع القلادة : ( لأهدينها لأحب الناس إليَّ ) .. فقالت نسوة في المدينة : لقد ذهبت بها بنت أبي قحافة يقصدون عائشة ولكن القلادة كانت من نصيب أحب الناس إلى رسول الله حفيدته أمامة ، وهنا يمكننا أن نلاحظ أن أنجاب فاطمة للحسن والحسين قد زاد من حب الرسول الكريم لابنته الزهراء فاطمة ..

** كانت فاطمة الزهرء أشبه الناس بأبيها حتى أنها كانت تسمى ( أم أبيها ) .. وهذا الأمر يجعلها امتدادا طبيعيا لرسول الله ، فمن نظر إلى فاطمة تذكر رسول الله للشبه الكبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

** فاطمة الزهراء هي التي واست أباها ورعته بعد وفاة أمها خديجة بنت خويلد وزواج جميع أخواتها فكانت في خدمة رسول الله حتى زواجه من الصديقة بنت الصديق عائشة ...

** الحياة القاسية والصعاب وشظف العيش التي عاشتها فاطمة الزهراء دون جميع أخواتها قبل الزواج وبعده ، هي التي لفتت قلب الوالد الرحيم إلى ابنته فاطمة أكثر من بقية أخواتها ، فعلى العكس من أن بناته زينب ورقية وأم كلثوم اللواتي ذقن العزة والرفاهية والترف ورخاء العيش في بيت أزواجهن ، كانت الزهرء فاطمة تعيش في شظف من العيش في بيت يلفه الفقر والحرمان والخشونة من كل جانب ..

 ولا أريد هنا أن أسترسل في هذا الموضوع وإنما أريد أن أقرر هنا أن حب رسول الله لابنته فاطمة لايبرر ما يعتقد به المنحرفون من تقديس وتعظيم فاطمة الزهراء أو إضفاء بعض الصقاة المنكرة عليها ( أم الأئمة المعصومين ) أو ( أنها ولدت من نور إلهي خاص ) أو ( أنها تلد ولا تحيض ) أو أن أمها خديجة حين ولدتها كان هناك نور بين مكان ولادتها موصول بالسماء أوغير ذلك من الصفات المنحرفة الضالة التي ما أنزل الله بها من سلطان ..

وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذه القصة بهذا الشكل إلى القاريء الكريم راجياً الله جل وعلا أن يعلمنا ماينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن ينفع بهذه السلسلة القصصية التاريخية أبناء المسلمين إنه خير مسؤول ..

محمد ماهر مكناس  [email protected]

ميسيساغا- كندا في .

الزهراء المجاهدة

فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم

في بيت النبوة

 في مكة المكرمة وبجوار بيت الله الحرام عاش الزوجان السعيدان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صاحب الحسب والنسب والشرف الرفيع وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الطاهرة صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع في سعادة وهناء بعد أن رزقهما الله بالمولودة الأولى زينب ، وكانت خديجة بعد ولادتها بزينب قد تجاوزت الأربعين من عمرها وكان ظن نساء قريش أن خديجة دخلت سن اليأس ولم تعد تنجب وذلك بعد ولادتها الأولى بزينب ولكن إرادة الله اقتضت أن تستمر خديجة أم المؤمنين بالحمل والولادة رغم كبر سنها ورغم تجاوزها الأربعين من العمر وذلك لتقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرح قلبه ويأنس بالأولاد والأحفاد في حياته وحياة زوجته خديجة ، ولم تمض أشهر قليلة على ولادة خديجة بزينب حتى شعرت بالحمل من جديد فكادت تطير من الفرح فها هي تنتظر ولدها الثاني رغم كبر سنها وتجاوزها الأربعين من العمر ، آثرت خديجة أن لا تخبر زوجها محمد بن عبد الله حتى يتأكد حملها ، ولما بدأت آثار الحمل تظهر عليها هرعت إلى زوجها محمد بن عبد الله تزف إليه البشرى بمولود جديد وهنا عمت الفرحة من جديد بيت النبوة وطار الخبر إلى نساء قريش اللواتي نشرنه في كل بطاح مكة المكرمة وأخذت الغيرة تشتد وتحتد عند نساء مكة وشوابها عندما علموا أن خديجة التي ودعت عهد الشباب قد حملت بولدها الثاني ، وتمر الأيام والشهور وقد مضى على ولادة زينب عام كامل أو يزيد حتى جاءها المخاض من جديد لتضع ولداً ذكراً وهنا عمت الفرحة أرجاء مكة كلها فهذا هو المولود الذكر لمحمد بن عبد الله ، وللذكر في الجاهلية معنىً آخر وكان ذلك في العام الثاني والعشرين قبل هجرة المصطفى إلى المدينة ، فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الفرح وفرحت خديجة وأغدقت العطايا والهدايا على ذوي الحاجة وأقيمت الولائم وذبحت الذبائح فلم يعد في بطاح مكة جائع أو محروم في تلك الأيام السعيدة ، وكان هذا الولد هو القاسم الذي يكنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له ( أبا القاسم ) حتى بعد وفاة القاسم بن محمد ، لقد خفق قلب خديجة وزوجها لهذا المولود الجديد إذ كان يتوقع له أن يكون سيداً من سادات قريش في قابل الأيام ، ولقد كانت فرحة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى لأن خديجة قد تزوجت سابقاً ورزقت من الأولاد فيما مضى ، أما محمد بن عبد الله فهذا هو الولد الثاني الذي وهبه الله لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاصةً وأنه جاء ولداً ذكراً ليخرس ألسنة الكفر والإلحاد التي كانت تصف الرسول بأنه أبتر لا عقب له ، وتمر الأيام ويكبر الأولاد والرسول الكريم ينظر إلى زوجته وأولاده بمنتهى الغبطة والفرح والسرور خاصة وأن زوجته قد تعدت مرحلة الشباب وتجاوزت الأربعين من عمرها ، ولقد كان من عادة أشراف مكة أن يقذفوا بأبنائهم إلى المرضعات للعناية بهم ورعايتهم فلم تنس خديجة بنت خويلد أن تهيئ أفضل المرضعات للمولود الجديد القاسم بن محمد بن عبد الله .

           ولكن فرحة الأبوين الكريمين بالمولود الجديد لم تكد تكتمل حتى مرض القاسم بن محمد مرضاً شديداً حاول الوالدان كل ما في وسعهما لانتشاله من المرض إلا أن إرادة الله اقتضت ولا راد لإرادته أن تنتهي حياة القاسم بن محمد ولما يتجاوز عمره سنة واحدة ، حزن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحزن على ولده القاسم وحزنت خديجة أشد الحزن على وليدها القاسم ولبنها الذي كانت ترضع منه القاسم لم يجف أو ينقطع حتى بعد وفاته ، ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على زوجه خديجة بعد البعثة وهي تبكي ابنها القاسم فقالت : ( يا رسول الله درت لبينة القاسم ، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته فقالت : لو أعلم ذلك لهون علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أسمعتك صوته في الجنة ، فقالت : بل أصدق الله ورسوله ) .. بهذا الإيمان الرائع وبهذا السمو الروحي كان بيت النبوة يستقبل المصائب والمحن والأحزان ، ويستقبل قضاء الله وقدره بالتسليم والرضى لاكما يفعل الجهال والمنحرفون من لطم الخدود وشق الجيوب وضرب الصدور وإسالة الدماء فكانوا كما قال الله جل وعلا عنهم وعن أمثالهم : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صتعا ) ...

ومن هذه الرواية نجد أن القاسم* بن محمد بن عبد الله قد مات صغيراً قبل أن يتم رضاعته وترك في الأسرة الكريمة حزناً شديداً ما لبث أن انقشع فيما بعد حينما شعرت خديجة بآثار الحمل من جديد فمسحت دموعها واستبشرت خيراً وطلبت من الله جل وعلا أن يعوضها فقيدها الرضيع بولد آخر تقر به عينها وعين زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثناء الحمل كانت خديجة مثالاً رائعاً للأم الصابرة والزوجة المخلصة فلم يشغلها حملها ولا أولادها عن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت خير زوجة لخير رجل على وجه المعمورة رغم كبر سنها ، ولكي نعرف قدر هذه المرأة العظيمة ما روي عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أنه قال بعد وفاتها : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي حين كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من الناس ) .. وتقول الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها : ( ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة ، وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما ماتت ) ..

وتمر الأيام والأسابيع والشهور والسيدة خديجة تثقل في حملها وتقترب شيئاً فشيئاً من المخاض وما إن دخلت في حملها الجديد شهرها التاسع حتى بدأت تستبشر بالمولود الجديد وتخبر زوجها بأن المولود الجديد سيأتي إلى الحياة في وقت قريب وستعم الفرحة والبهجة ربوع مكة بأثرها ، وتمضي أيام قليلة في الشهر التاسع من الحمل وتستعد خديجة بنت خويلد لاستقبال المولود الجديد ، وجاء المخاض وكانت خديجة في غرفتها في الركن الشرقي من بيت النبوة ، بينما كان محمد بن عبد الله في غرفته يتفكر في ملكوت السماء والأرض يتعبد ربه على عقيدة التوحيد وعلى الحنيفية السمحاء التي تعود إلى شريعة إبراهيم عليه السلام ، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بل طوال حياته كلها لم يسجد لصنم قط ، لقد كان محمد بن عبد الله يقف في محرابه يدعو ربه ، وينتظر اللحظة المرتقبة الحاسمة بشوق ولهفه وقلق زائد ، بل ربما بشيء من الخوف من المستقبل المجهول في كثير من الأحيان حتى سمع صيحة عالية من زوجته خديجة من الغرفة المجاورة تبعها صمت طويل ثم زغاريد الحاضرين فعرف من خلال ذلك أن زوجته خديجة أنجبت مولودها الثالث ، نعم لقد سمع محمد من الغرفة المجاورة أصوات الفرح تعلوا فتيقن باكتمال الولادة وجاءته البشرى وعمه الفرح والغبطة والسرور ، وما هي إلا دقائق معدودات حتى جاءت القابلة سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تحمل بين ذراعيها المولود الثالث لمحمد وكانت أنثى فحملها محمد بن عبد الله بين ذراعيه والفرحة ترتسم على وجهه والغبطة والسرور تسريان في كل جوارحه واتجه بعد ذلك إلى غرفة خديجة ليطمئن على صحتها وليبارك لها مولودها الجديد ، كانت خديجة في شبه غيبوبة من آلام المخاض والولادة ولما رأت زوجها الحبيب يقدم إليها حاملاً وليدته الجديدة ، أشاحت بوجهها قليلاً والدموع تلمع في مآقيها وقالت بصوت خافت مبحوح : إني وضعتها أنثى ، وليس الذكر كالأنثى ، خاصة في مجتمع جاهلي كان يقدس الأولاد الذكور ويحط من قدر الإناث بل ربما في بعض الأحيان يحتقر الإناث ويدفنهن وهن أحياء حتى قال قائلهم :

 بنونا بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد

أجل لقد أشاحت خديجة بوجهها بعد أن ولدت ابنتها الثالثة وهي تقول لقد وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ، هذه الكلمة قالتها ( حنا ) امرأة عمران حين وضعت السيدة مريم أم نبي الله عيسى عليه السلام : ( قالت رب أني وضعتها أنثى ، والله أعلم بما وضعت ، وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) .. فكانت هذه الأنثى مريم بنت عمران أفضل نساء العالمين ..

استبشر بيت النبوة بالمولودة الجديدة وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رقية بنت محمد ) فأقيمت الأفراح ونحرت الذبائح وعم البشر والسرور كل أرجاء مكة فرحاً بالمولودة الجديدة ( رقية بنت محمد ) وكان ذلك في العام الحادي والعشرين قبل الهجرة على خلاف بين المؤرخين في تاريخ ميلادها .. فرحت خديجة بمجيء المولودة الجديدة ( رقية ) وفرح معها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بعد وفاة ابنهما القاسم حيث عوضهما الله بمولودة جديدة أزاحت عنهما شبح الحزن والأسى بفقد ابنهما القاسم ، وكانت هناك في بيت النبوة زينب أول أولاد المصطفى من زوجته خديجة وكانت في عامها الثاني تحبو وترتع وتفرح وتمرح وإن كانت لا تدري لماذا تفرح ولكن ما لبثت أن كبرت قليلاً وعرفت أن لها أختاً تصغرها بعامين تقريباً فكانت لا تفارق أختها رقية إلا في أوقات النوم ، لقد عرفت هذه الطفلة الصغيرة معنى المحبة والأنس منذ نعومة أظفارها خاصة وأن أباها محمد بن عبد الله كان في شغل شاغل عنها في تفكره وتحنثه وتعبده وبدأت الأيام تمر سراعاً وتكبر زينب وأختها رقية ويزداد تعلقهما ببعض وتزداد الألفة والمودة والمحبة بين الطفلتين السعيدتين في كنف الوالدين الحبيبين ، عاشت الشقيقتان طفولة رائعة تظللها السعادة والمحبة والألفة ، لقد كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد في سباق مع العمر فلقد دخلت عقدها الخامس فكانت تنتظر مولودها الجديد حتى ظهرت آثار الحمل من جديد على خديجة زوج الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وثقلت في حملها ثم جاءها المخاض لتلد بعد ذلك مولوداً جديداً وكانت أيضاً أنثى فكانت الابنة الثالثة في بيت النبوة فسماهـا أبوهـا ( أم كلثوم ) بنت محمد ، عاشت هذه المولودة الجديدة في كنف الأبوين الكريمين وفي صحبة الأختين العزيزتين أسعد حياة وأهنأ عيشة تظللهم السعادة والألفة والمحبة والمودة ولم تمض سنة أو سنتين حتى بدت آثار الحمل من جديد على خديجة مرة أخرى ، لقد كانت خديجة في سباق مع العمر فهي لم تعد صغيرة فقد تزوجت في بداية عقدها الخامس وبين الحمل والولادة والرضاعة والفطام للبنات الثلاث جعلتها تقترب من العقد السادس فإلى متى ستظل في نضارتها وإنجابها وهي تقارب الخمسين من عمرها وفي هذا الحمل بالذات كانت تتمنى لو رزقها الله بغلام ذكر قبل أن يدركها سن اليأس ولكن إرادة الله كانت غير ذلك ومشيئته كانت غير ذلك ولا راد لمشيئة الله فجاءت البنت الرابعة التي كانت أشبه ما تكـون بوالـــدها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام والتي سماها رسول الله فاطمة بنت محمد بن عبد الله ..

ولدت السيدة فاطمة بنت رسول الله في يوم الجمعة في العشرين من جمادى الآخرة قبل البعثة بخمسة أعوام وذلك في نفس العام الذي اختلفت القبائل فيه على بناء الكعبة وخاصة وضع الحجر الأسود لما لهذا الحجر من قداسة وتعظيم عند القبائل العربية وعلى رأسها قريش ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بالعدل فرضي وأرضاهم جميعا برجاحة عقله وجميل فعله عليه الصلاة والسلام ، كانت فاطمة أصغر بنات الرسول الكريم وأحبهن إلى قلبه ، أما مايذكره بعض المنحرفين من أن خديجة لم تشعر بحملها لأن الملائكة كانت تحملها وأنها كانت تكلم أمها خديجة وهي جنين في بطنها ، وأن الرسول محمد قد أكل تفاحة من الجنة فتكونت جنينا وكانت قاطمة فكل هذه الأقاويل وغيرها كثير هي خرافات وأباطيل مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان خاصة وأن ولادتها كانت قبل بعثة الرسول بخمس سنوات ، لقد كانت ولا دة فاطمة رضي الله عنها ولادة طبيعية مثل بقية أخواتها ومثل باقي البشر ، ولا أريد أن يفهم مني أني لا أحب الزهراء فاطمة بنت رسول الله فأنا أحبها وأنتسب إليها ولكني أرفض الخرافات والبدع وألأباطيل التي ينسجها المنحرفون والجاهلون حول فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها وأسكنها الفردوس الأعلى إنه سميع مجيب .. لقد سماها رسول الله فاطمة ولا أحد يدري سببا لهذه التسمية ، أما ما يدعيه المنحرفون بأن الله سماها فاطمة لأنه فطمها ومحبيها عن النار ، أو قول بعضهم لأن الله فطمها وولدها عن النار فهذه الأقوال وغيرها خرافات وأكاذيب باطلة إذ لا يجوز أن ينقل بشر عن الله إلا عن طريق الوحي وفاطمة ولدت قبل نزول الوحي بخمسة أعوام أو تزيد .. وسميت أيضا بالزهراء لأنها كانت بيضاء مشربة بحمرة زهرية ، وهناك أقوال كثيرة في هذه التسمية يسوقها بعض الجاهلون والمتعصبون ولكنها كلها لا ترقى إلى الحقيقة وتفتقر إلى الدليل الشرعي المقنع ، وسميت أيضاً بالبتول لتبتلها في عبادة الله أما قول بعضهم بانها سميت بالبتول لأنها لم يصبها الحيض والنفاس طيلة حياتها فهذا أيضا أمر مرفوض ومكذوب ويفتقر إلى الدليل ، وسميت أيضا بالصديقة وسميت بالطاهرة وسميت بالحوراء وهذه التسميات وردت بها بعض الأخبار إلا أن المنحرفين كنوع من التقديس والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتدعوا عدداً كبيراً من الأسماء كنوع من الغلو والتقديس للسيدة فاطمة الزهراء وهذه الأسماء كلها مرفوضة ولا يعتد بها لافتقارها إلى الدليل الشرعي أو النقلي ، هذا ولقد رصدت عددا كبيراً من الأسماء للسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها تجاوزت الألف اسم ولا أدري من أين يبتدع المبتدعون مثل هذه الأسماء ..

نشأت فاطمة الزهراء نشأة هي أقرب إلى العزلة والوحدة منها إلى الحياة الأسرية الاجتماعية وخاصة بعد زواج أخواتها الثلاث ، فوالدتها خديجة مشغولة بأمور البيت وخدمة ودعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرساء الجو المناسب للدعوة إلى الله ، وكان والدها متفرغا للعبادة والتحنث فترة طويلة من الزمان ثم بعد ذلك انشغال والدها بأمور الدعوة إلى الله وإقامة صرح هذا الإسلام العظيم ، لقد كانت مهمة الوالدين قاسية وثقيلة وصعبة لذلك احتاجت خديجة إلى بذل الكثير من الوقت والجهد في سبيل هذه الدعوة وفي سبيل خدمة زوجها الحبيب رضي الله عنها ، ثم زادها عزلة زواج أخواتها الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم فبقيت في بيت النبوة وحيدة وكانت هي صغيرة العائلة وآخر العنقود عند أمها ، كانت فاطمة لاترى والدها لأيام وليالي حيث كان يتعبد في غار حراء وعندما يأتي إلى البيت فإنه ينفرد في غرفته يتعبد ويتفكر في ملكوت الله ولم يبق للصغيرة فاطمة إلا وقت يسير ترقد فيه في حجر والدها تنعم فيه بالرحمة والمودة والحب والعاطفة الأبوية الجياشة ، أما والدتها خديجة فكانت أيضا في شغل شاغل عن صغيرتها فاطمة التي لم يبق لها من أمها إلا دقائق معدودات بين فترة وأخرى تنعم فيها الصغيرة فاطمة بالحب والحنان والأمومة المحلقة الرائعة ولكنها رغم روعتها كانت قليلة لاتكاد تروي عاطفة الصغيرة فاطمة التي تعيش وحيدة في بيت النبوة ..

لقد شهدت الزهراء فاطمة منذ صغرها وحتى آخر يوم من حياتها أحداثا جساما فقد كان النبي الكريم يعاني من اضهاد قريش قكانت فاطمة وأمها وأخواتها في عونه عليه الصلاة والسلام في محنته ، كان يعاني من أذى عمه أبي لهب وزوجته أم جميل ، فكانت فاطمة تعينه وتزيح الأذى والأشواك والقاذورات من طريق رسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، كانت فاطمة ومنذ صغرها نحيفة الجسم ضعيفة البنية فقد لاقت من التعب والنصب والعذاب ما لاقت خاصة في فترة الحصار في شعب أبي طالب والتي دامت ثلاثة أعوام متواصلة فكانوا يتغذون على الأعشاب وأوراق الأشجار .. ولعل هذه الغربة وهذه الوحدة قد عاشت مع الزهراء فاطمة جل حياتها فعلى الرغم من طلاق أختيها وعودتهما إلى بيت النبوة إلا أنه سرعان ماتزوجت رقية وهاجرت مع زوجها إلى الجبشة وسرعان ما عاشت حياة الغربة في حصار شعب إبي طالب وسرعان مافقدت الركن القوي لبيت النبوة عمها أبا طالب ثم فقدت أمها خديجة رضي الله عنها والتي كانت الركن الثاني لبيت النبوة فقد كانت من أشراف بني أسد الذين يحترمونها ولا يعصون لها أمراً ، وعلى العكس من الحياة المرحةالهنية والطبيعة المشرقة التي امتازت بها بنات الرسول زينب ورقية وأم كلثوم ، وعلى العكس من حياة الرفاهية والثراء التي حظيت بها أخواتها ، فقد كانت الزهراء فاطمة تعيش حياة الجد والرصانة والتقشف والخشونة والفقر والانطواء على النفس ربما لا نجدها في أقرب الناس لها وهم أمها وأخواتها ، لقد كانت فاطمة تطمح إلى طي صفحة الماضي التي كان يلفها التعب والنصب والفقر والعوز وقلة ذات اليد حتى علمت بمحاولة ابن عمها علي بن أبي طالب لخطبتها ، وقبل زواجها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت فاطمة تعلم وضع ابن عمها علي من الفقر وضيق ذات اليد والخشونة والشدة وهذا ما يفسر لنا بكاءها عند خطبة علي لها فقد خطبها أبو بكر الصديق فرده رسول الله لفارق السن فهو من عمر أبيها وخطبها عمر بن الخطاب فرده كذلك ثم خطبها علي بن أبي طالب فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم عل خطبة علي رضي الله عنه رغم أنه لايملك من عرض الدنيا أي شيئ ، فلما بلغ ذلك فاطمة رضي الله عنها بكت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسيها وهي تبكي فقال : ( ما لك تبكين يا فاطمة .. فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم حلما وأولهم سلما ) .. وكان زواجها في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر الكبرى ..

كانت حياة الزهراء فاطمة بعد زواجها حياة تقشف وخشونة فقد كان أمير المؤنين علي بن أبي طالب رجلا خشنا أصلعا بطينا قصيرا ، كان رجل حرب وقتال وجهاد ولم يكن رجل ألفة ومحبة ورفق ولين ومعشر ومرونة ومودة ورحمة إضافة إلى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان فقيرا جدا لايملك من أعراض الدنيا إلا الشيء اليسير حتى أنه رهن درعه من أجل أن يدفع مهر فاطمة ، أما جهازها فقد كان سريرا مشروطا ووسادة من أدم حشوها ليف ومنخل ومنشفة وقدح ورحاءان وحرتان هذا كل ماكان يملكه الزوجان المؤمنان علي وفاطمة ، وإن كانا يملكان الكثير الكثير من التقى والورع والإيمان والشجاعة والإقدام قل مثيلها بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك حدثت شقاقات وخلافات كثيرة بين فاطمة وعلي مما أغضب فاطمة الزهراء وأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هم بتأنيب علي لو لا أنه ذهب ليلقاه يقعد على التراب بأرض المسجد يتعبد الله ويدعوه ، روي عن عمر بن سعيد قال : ( كان في علي شدة على فاطمة فقالت : والله لأشكونك لرسول الله .. فانطلقت وانطلق علي في إثرها فكلمته فقال : أي بنية اسمعي واستمعي واعقلي إنه لا إمرة لامرأة لا تأتي هوى زوجها ، وكان علي ساكتاً .. فال علي فكففت عما كنت أصنع وقلت لا آتي شيئا تكرهينه أبداً ) .. وعن حبيب بن ثابت قال : كان بين علي وفاطمة كلام فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل حتى أصلح بينهما ثم خرج .. فقيل له دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك .. فقال : وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي ) ..

لقد كانت السيدة فاطمة الزهراء تعيش في غربة حتى مع زوجها أمير المؤمنين علي وفي بيتها في المدينة المنورة حتى فجعت بوفاة أختها الأولى رقية ثم بعد ذلك أختها زينب ثم بعد ذلك أختها أم كلثوم ثم أخيرا فجعت بوفاة أبيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي الوحيدة من بنات الرسول التي شهدت وفجعت بوفاته عليه الصلاة والسلام بينما ودع رسول الله بقية أولاده وبناته ودفنهم بيديه الشريفتين ، لقد كانت حياة الزهراء فاطمة كلها أحزان ومآسي وصعوبات ومحن فلم تذق في حياتها من رغد العيش إلا النذر اليسير ، ولكن هذه الغربة للزهراء فاطمة لم تدم طويلا بعد وفاة والدها فبعد ستة أشهر أو تزيد رفت روحها الطاهرة إلى ربها لتلحق بوالدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

*********

الشقيقات الأربع

اجتمع في بيت النبوة أربع شقيقات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وذلك خلال فترة لم تتجاوز عشر سنوات من عمر الزواج السعيد الميمون بين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد الأسدية ، ولكن هل ظهر القنوط والتأفف في نفس خديجة أو في نفس الزوج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؟! .. وهل ولادة البنت الرابعة عكر عليهما صفو حياتهما في بيئة مجبولة على حب الذكور وتفضيلهم على الإناث بل في بيئة كان بعضهم يئد البنات أحياءً خشية العار في بعض الأحيان ؟! .. الحقيقة أن كلاً من خديجة وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم كان راضيا أشد الرضا بما قسمه الله لهما وبما قدره الله من ولادة الشقيقات الأربع دون أن يرزقهما الله بولد ذكر ، وأقبل محمد على زوجه خديجة مهنئاً بسلامة الحمل والولادة ثم استلم ابنته الرابعة ليدعوا لها ويبـارك لخديجة مـولودهـا الجديد الرابع ، عاشت الشقيقـات الأربـع زينـب ورقيـة وأم كلثـــوم وفاطمــة فـي بيت النبـوة فـي محبـة وألفـة وسعــــادة ، وترعرعن في كنف الأبوين الكريمين بل في كنف بيت النبوة ، لقد كان رسـول الله صلـى الله عليه وسلم يتطلع إلى السماء حامداً شاكراً راضياً مستبشراً بأن الخير كل الخير فيما قسمه الله له ومـا أراده الله له ، مما زاده محبـة وحنانـاً ورحمـةً ورعايـــةً لتلك الزهـرات القرشيات المتفتحات اللواتي أضفين على بيت النبوة سعادة وبشراً وحيوية ورضاء بما قسمه الله لم يعرفه زوجين آخرين في الوجود ، ولم تنقطع خديجة بنت خويلد عن الحمل والولادة فهي في سباق مع العمر حتى بعد الخمسين من عمرها على غير عادة النساء في ذلك الزمان إنما بقيت في حيويتها ونشاطها وإنجابها حتى بعد الخمسين من عمرها حيث ما لبثت أن حملت وأنجبت ولدها الذكر الثاني والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ( عبد الله ) .. والذي كان يسمى بالطيب أحياناً وبالطاهر أحياناً أخرى .. ولكن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم الذكور لم يعيشوا طويلاً إنما وافتهم المنية ولم يتجاوزوا سن الرضاعة إلى سن الفطام وذلك لحكمة بالغة أرادها الله جل وعلا لنبيه وللمؤمنين ولدين الإسلام في مستقبل الأيام ، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزنت خديجة حزنا شديداً على وليدها عبد الله أشد الحزن كما حزنت على ابنها القاسم قبل سنوات ، وتفيد روايات السيرة أن القاسم قد مات في سن الرضاعة قبل البعثة أما أخوه عبد الله الملقب بالطيب والملقب بالطاهر أيضاً فقد مات في سن الرضاعة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك خيم الحزن المقرون بالرضا بما قسمه الله على بيت النبوة إذ لم تطل فرحة الرسول وآل بيته الطيبين الطاهرين بولادة الغلامين القاسم وعبد الله حتى وافتهم المنية وجاءهم قدر الله حيث استرد الأمانة التي أودعها بيت النبوة وذلك في فترة قصيرة جداً من عمر الزمان ، ولعل مما كان يسيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وإلى آل بيته قالة السوء والاتهامات التي كانت ترد على ألسنة المشركين من زعماء قريش خاصة بعد بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وبدء انتشار الدعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان وعقيدة الشرك ، فقد نعته بعضهم بأبي البنات وأنه لا عقب له ولا ذرية من الذكور في مجتمع جاهلي لا يعترف بالذرية إلا من قبل الذكور إضافة إلى بعض النعوت و الصفـات الأخرى ، إلا أن قالة السوء التي صدرت عن العاص بن وائل السهمي أحد أشراف مكة حيث قال: ( دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له ولو مات لانقطع ذكره واسترحتم من أمره ) .. فأنزل الله في ذلك سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر.. إن شانئك هو الأبتر ) فانطفأ اسم العاص بن وائل السهمي انطفاءً تاماً ولم يعد أحد في الدنيا يذكره إلا في معرض الذم والسوء أما محمد بن عبد الله فقد عم اسمه بلاد العالم بأثره وأصبح معروفاً على كل لسان في الماضي والحاضر وحتى تقوم الساعة ، ومهما يكن من أمر ومهما بلغت دعاوى المشركين وأقوالهم واتهاماتهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن أشد الإيمان ويثق أكبر الثقة بأن الله بالغ أمره وناصر رسوله ، ومخلدٌ دعوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وأن قدر الله سيأتي ودعوة الله سيتم أمرها وتنتشر عبر المكان والزمان دونما حاجة إلى أولاد ذكور يحملون هذه الدعوة من بعده كما كان يظن سفهاء قريش وكبراؤها في الجاهلية ، وهكذا كانت إرادة الله حيث انتشرت دعوة الإسلام لتعم الأرض كل الأرض وتنتشر في جميع بلاد الله الواسعة ويصبح عدد المسلمين يزيد على ثلث سكان الأرض قاطبة ، وبذلك كان الأبتر هو العاص بن وائل الذي انقطع ذكره وانقطع أثره عبر التاريخ وصدق الله تعالى " إن شانئك هو الأبتر".

ولقد ظل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته يتوق إلى ولد ذكر ويلتمس في ذلك الوسيلة حتى إذا وهبه الله على الكبر غلاماً من زوجه مارية القبطية امتلأت نفسه غبطة وامتلأ بيت النبوة فرحا بقدوم إبراهيم الذي كان آخر أولاده عليه الصلاة والسلام ، ولكن إرادة الله الذي أعطى قدرت استرجاع الأمانة لحكمة بالغة وإرادة حكيمة فلم يلبث إبراهيم في حضن الأبوين السعيدين سوى عامين أو تزيد حتى قبضه الله إليه وهو لم يتجاوز العام الثالث من حياته فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزن آل بيته الطيبين الطاهرين لفقد إبراهيم أشد الحزن فلم يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألمه ، ولم يملك دموعه فبكى طفله الأخير إبراهيم وهو قانع مستسلم لقضاء الله وقدره الذي شاء لحكمة عظيمة سامية ألا يكون لنبيه المصطفى خلفة من الذكور فقال بقلب مليء باللوعة والأسى : " إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون لا نقول ما يغضب الرب" ..

 وهنا أريد أن أنوه إلى أن الحزن وفق المعايير الشرعية المستنبطة من السنة النبوية الشريفة أمر جائز شرعاً بل ومطلوب ومرغوب ذلك لأن القلب الذي لا تهزه المصائت والأحزان هو قلب قاس كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة ولكن ضمن الضوابط الشرعية فلا يجوز لطم الوجوه أو دق الصدور ولا يجوز العويل والصراخ ولا يجوز تمزيق الثياب ولا تجوز تلك الطقوس الدخيلة على الإسلام والتي يتبعها بعض المبتدعين المنحرفين ممن يدعون حب الرسول أو حب آل بيته الطيبين الطاهرين ادعاءً كاذباً خارجاً عن تعاليم السنة النبوية المطهرة كما أريد أن أنوه إلى أن إطلاق كلمة ( لا تحزن ) بصورة عامة حتى يظن الناس أن الحزن حرام أو أمر معيب فهذا أيضاً أمر مخالف لسنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يظهر حزنه صلى الله عليه وسلم بشكل واضح وصريح وذلك بقوله : ( إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون ) .. يجب أن يكون في معلوم أبناء الأمة الإسلامية أن الحزن طبيعة بشرية ميز الله بها بني آدم عن سائر المخلوقات فإطلاق كلمة ( لا تحزن ) بشكلها العام أمر خاطئ ومخالف للسنة النبوية المطهرة .

 عاشت المجاهدة الصابرة فاطمة الزهراء بنت محمد رضي الله عنها مع أخواتها زينب ورقية وأم كلثوم قبل النبوة حيث استمرت حياتهن في أنس وسعادة إلى ما بعد الهجرة حيث توفيت بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم في حياة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يبق له من الولد حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا ابنته الزهراء فاطمة رضي الله عنهم جميعا ، لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أعظم أب في التاريخ أحب أبناءه بقوة وحنى عليهم بصدق وفارقهم بلوعة وحزن وأسى منقطع النظير ولكنه وهو النبي المرسل من رب السماء والأرضين لم ينس لحظة واحدة أن الله هو الذي أعطى وأن الله هو الذي أخذ وأنه يحتسب كل المصائب والمحن والأحزان عند الله جل وعلا ، فلم يجزع ولم يدق الصدر ولم يمزق الثياب ولم يقم بطقوس للحزن جاهلية مبتدعة كما يفعل الكثيرون من المنحرفين والمخالفين والضالين والخارجين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما احتسب كل مصائبه بصبر وأناة عند رب لا يغفل ولا ينسى ، لقد مات القاسم ومات عبد الله الطيب وهما لم يتجاوزا سن الرضاعة ومات إبراهيم فيما بعد وهو لم يتجاوز عامه الثالث وماتت خديجة فيما مضى من الأيام ومات عمه أبو طالب وجده عبد المطلب والرسول الكريم صابر محتسب وماتت بناته زينب ورقية وأم كلثوم والنبي الكريم حزين صابر محتسب ، وآذاه المشركون أيما إيذاء وهو صابر محتسب يحتسب كل هذه المصاعب والمصائب والمآسي والآلام عند رب كريم لا يضيع عنده مثقال ذرة في السماوات والأرض .

وهكذا نجد أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربت وسط الشدائد والمصائب والمحن والأحزان واجهتها بالصبر في الشدائد والرضى بما قسمه الله لها والتسليم بقضاء الله وقدره والتعالي على هموم الدنيا ومصائبها وأحزانها وزينتها ، فكان هذا الخلق الكريم زادها في طريق الدعوة إلى الله ومساعدة والدها رسول الله في تبليغ رسالة السماء إلى الناس كافة حتى آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ..

           ولعل من المفيد هنا ونحن نتحدث عن أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته أن نرد على شبهة المنحرفين في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة الابنة الصغرى ويفضلها على بقية بناته وبالتالي بنو على هذه الفكرة الباطلة أفكاراً وأوهاماً وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان واخترعوا قصصا وهمية وابتدعوا أحاديث مكذوبة تخص فاطمة بالفضل على كل آل بيت رسول الله معتقدين ومتوهمين أن الخلافة والإمامة يجب أن تكون في نسل فاطمة من علي رضي الله عنهم ثم خصصوا هذه الإمامة في نسل الحسين بن علي فقط دون الحسن ثم حصر أئمة آل البيت باثني عشر إماماً فقط حتى تقوم الساعة ثم اخترعوا فكرة الإمام الغائب الذي اختفى في السرداب وغير ذلك من الأكاذيب والافتراءات والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان .. نحن نحب فاطمة ونحب علياً ونحب أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ونحب أئمة الإسلام المؤمنين الطاهرين الطيبين ولكننا في الوقت ذاته لا نفرق بين واحد منهم ولا نقدس أحداً منهم كلهم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، نعم إن هذه الأفكار المنحرفة هي التي فرقت الأمة الإسلامية وهي التي ابتدعت في دين الله طقوساً ومبادئ وانحرافات عن دين الله ما أنزل الله بها من سلطان ، الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحب جميع أولاده ولئن كان حب فاطمة أكثر فهو لأنها أصغر البنات ولأنها الوحيدة التي بقيت حتى آخر حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولأنها وأختها زينب أنجبتا وبقي نسلهما حتى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن فاطمة هي الوحيدة من بناته التي عاشت حياة الفقر والحرمان ولم تتمتع بزينة الحياة الدنيا فقد عاشت جل حياتها مع الفقر والحرمان ، وليس لفضل خاص بها يبنى عليه مثل هذه الانحرافات ولعل أصدق ما نرد به على هؤلاء المنحرفين الضالين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع المرأة المخزومية التي سرقت : ( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .. لا محاباة في الإسلام ولا تفريق في حب رسول الله لأبنائه فكلهم من آل بيته المؤمنين الطاهرين الطيبين .

وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في بيت النبوة ، في أكرم بيت على وجه الأرض من سلالة عريقة ونسب شريف أصيل لم تعرف الدنيا أعز منه ولا أشرف ، عاشت الشقيقات الأربع في بيت كريم معطاء لم تحظ به لداتهن من المجتمع القرشي في مكة المكرمة ، فكانت كل واحدة منهن تمثل زهرة متفتحة وثمرة طيبة لزواج طاهر عفيف سعيد قام على الحب والسكينة والمودة والرحمة ، فكنَّ قرة عينه عليه الصلاة والسلام وكنَّ أنسه وسكينته بعدما ذاق في طفولته من اليتم وما قاسى في فتوته من الحرمان وما لاقاه في شبابه من المصاعب والأهوال وأحداث الزمان ، لقد عاشت الشقيقات الأربع في طفولة سعيدة ناعمة بعيدة كل البعد عن الخشونة وشظف العيش والفقر والحرمان كيف لا وأمهن خديجة بنت خويلد المرأة الثرية التاجرة التي كانت تسير القوافل بتجارتها في رحلة الشتاء والصيف إلى بلاد اليمن وبلاد الشام ، ولكن خديجة تركت الدنيا وما فيها وتركت المال والتجارة وتفرغت لزوجها وأولادها وأقبلت بكل طاقتها ترعى بيت النبوة كأحسن ما تكون الرعاية فكان كل جهدها منصب على رعاية هذا البيت الكريم وهذه الأسرة السعيدة الطيبة الطاهرة ، وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في كنف الأم الحنون والأب الطيب الكريم وترعرعن في المنبت الطيب الطاهر ، وعلى الرغم من وجود الخدم والموالي فإن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تتولى بنفسها مهمة تربية بناتها لتعدهن للمستقبل الزاهر المنشود في مستقبل الأيام القادمة ..

شبت الزهراء المجاهدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت في عون أمها خديجة التي جاوزت الخمسين فما كان منها ومن أختيها رقية وأم كلثوم بعد أن تزوجت أختهما الكبرى زينب إلا أن يحملن مع أمهمن أعباء البيت ومسؤولية العناية بالنبي الكريم خاصة بعد الرسالة والبعثة ، مما زاد أواصر المحبة والألفة بين الشقيقات الأربع في بيت النبوة .. فكن شقيقات رفيقات يجمعهن الملعب المشترك والفراش الواحد والغرفة الواحدة والطباع المتشابهة والمزاج النابه الأصيل فكانت حياتهن رفيهة هنية حتى أصبحت رقية وأم كلثوم بنتا رسول صلى الله عليه وسلم عروسان متفتحتان واعيتان ذواتا أصل شريف وحسب ونسب فكانتا محط أنظار العرسان من أشراف قريش ..

 ********

زينب العروس الهاشمية

 ما كادت زينب تقارب العاشرة من عمرها حتى بدأت أنظار الهاشميين تتطلع لخطبتها ، وإن كانت لم تبلغ سن الرشد بعد ، لقد أخذ أشراف قريش يتطلعون لخطبتها نظراً لما تتمتع به زينب بنت محمد من كريم الأصل وشرف النسب والمال والجاه والجمال ، لقد اجتمعت لديها كل الخصال الحميدة التي ترغِّب أشراف قريش للنيل بها زوجاً لأحد أبنائها ، ولكن ترى من سيقع عليه الاختيار من بين بين فتيان قريش ليحظى بهذا الشرف العظيم ؟.. ترى من الذي سيختاره محمد بن عبد الله زوجاً لأولى بناته زينب ؟.. ولكن المفاجأة كانت شديدة قاسية على على بني هاشم بشكل خاص وعلى قريش كلها بشكل عام عندما عرف الجميع أن صاحب الحظ السعيد هو أبو العاص بن الربيع أحد أشراف مكة المكرمة من قبيلة بني أسد وأحد أثريائها وتجارها المعروفين ، ولكن لماذا أبو العاص بن الربيع رغم ثرائه وعلو منزلته وشرفه وفي قريش وفي الهاشميين من يعادله شرفاً وثراء وتجارة ومكانة اجتماعية ؟..

 كان أبو العاص بن الربيع ابن أخت حديجة رضي الله عنها زوج الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وكانت خديجة تحبه منذ صغره كأحد أولادها وتنزله من قلبها منزلة الولد ، ومن هذا الباب كان أبو العاص بن الربيع يزور خالته مراراً بل يعيش عندها في كثير من الأحيان مما أتاح له منزلة سامية في بيت النبوة لم تتح لغيره من فتيان مكة المكرمة ، لقد كان يزور خالته خديجة متى شاء حيث يعامل بكل الود والمحبة والاحترام في بيت النبوة وذلك منذ صغره ، وكل ما دخل بيت خالته يجد المودة والترحاب والود الصادق في أعين الجميع خاصة وأن الشقيقات الأربع بنات الخالة كن في سن الصغر ، ولما شب وكبر أخذ يتطلع إلى خطبة ابنة خالته زينب بنت محمد ، خاصة وأنه كان يراقبها وهي تنمو وتكبر وتزداد أنوثة وجمالاً وحيوية ، فبدت عليها آثار النضوج وهي لم تغادر العاشرة من عمرها ، كانت تشارك أمها التي تجاوزت الخمسين من عمرها مسؤولية وأعباء الأسرة مما طبع شخصيتها بطابع الجد وتحمل المسؤولية منذ نعومة أظفارها وزاد من نضوجها وهي لم تتعد مدارج الطفولة إلى سن الصبا والشباب فهي في ذلك الحين لم تبلغ العاشرة من عمرها بعد ، ولكن خوف أشراف مكة من أن تضيع منهم فرصة ثمينة لا تعوض قد دفع أبو العاص بن الربيع في خطبة زينب بنت محمد ..

 كان أبو العاص بن الربيع من أشراف مكة وأثريائها وشبابها المشار إليهم بالبنان فقد امتلك الحسب والنسب والشرف الرفيع فهو من علية القوم شرفاً وحسباً ولكنه لم يكن هاشميا ، وأعراف المجتمع آنذاك تعطي ميزة خاصة للهاشميين على غيرهم من القبائل العربية ، كان أبو العاص بن الربيع من التجار الأثرياء المعروفين في مكة المكرمة المعروفين بكثرة أسفارهم وتجارتهم ، وفوق هذا وذاك فقد كان ابن أخت خديجة وابن خالة العروس الهاشمية زينب بنت محمد وكان باراً بخالته خديجة كثير الزيارة لها مما أتاح له التعرف على زينب بنت محمد عن كثب فعرف فيها الخصال الحميدة والأنوثة الناضجة والصبا والنضارة والجمال والبهاء فخفق قلبه لها منذ حداثة سنها وتمنى أن يكون هو لاغيره صاحب الحظ السعيد في الزواج من زينب ، كان أبو العاص بن الربيع رغم مشاغله الكثيرة وأسفاره المتعددة يعلم أن الشباب من أشراف قريش وخاصة الهاشميين يتنافسون فيما بينهم ليحظوا بزينب بنت محمد ولم يكن يخطر ببالهم أن المنافس الأشد هو ابن الخالة أبو العاص بن الربيع ، لقد كانت مكانة أبي العاص بن الربيع في بيت النبوة مكانة عالية مرموقة مميزة لم يصلها أحد في مكة ، فقد آثر أبو العاص أن يرتب الأمر مع خالته خديجة بشيء من السرية والكتمان فأودع سره ورغبته في خطبة زينب خالته خديجة التي وجد منها كل عون في تحقيق أمنيته الغالية للوصول إلى هدفه الأسمى وهو الزواج من زينب بنت محمد ، والجدير بالذكر أن هذه الأمور كانت تحدث قبل بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وعندما آنس أبو العاص بن الربيع بوادر الموافقة من خالته خديجة كتم الأمر في نفسه حتى لا يفسد بنو هاشم عليه زواجه من بنت الخالة زينب على الرغم من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها أبو العاص بن الربيع من قيافة وأناقة في المظهر وجمال في المنظر وقوة في الشخصية وسعة في الخبرة وكثرة في المال والتجارة قل أن تجدها في شباب مكة ، وعلى الرغم من عراقة الأصل وشرف الحسب والنسب إلا أن بني هاشم كانوا لا يفرطون ببناتهم إلى القبائل والأعراق الأخرى وهذا ما كان يخيفه ، مما دفع أبا العاص بن الربيع إلى أن يتقدم إلى محمد بن عبد الله ليخطب زينب فاستقبله رسول الله استقبالاً حسناً وأحسن لقاءه ووفادته وأصغى بملء سمعه إلى طلب أبي العاص بن الربيع فكان جواب الرسول الكريم بأنه الصهر الكفؤ صاحب الحسب والنسب والشرف الرفيع ولكن رسول الله أمهله حتى يستجلي رأي ابنته زينب فهي صاحبة الكلمة الأخيرة في موضوع زواجها ، وخرج محمد بن عبد الله إلى زوجته خديجة أن تستأذن ابنتها زينب وتأخذ رأيها في الزواج من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع ذلك لأن رسول الله صاحب الخلق العظيم لم يشأ أن يحرج ابنته أو يكرهها على من لا ترضاه وهي صاحبة الخفر والحياء فدفع إليها أمها خديجة فهي أقرب إلى قلبها وأقدر على معرفة سرها ففاتحتها بموضوع الخطوبة من أبي العاص ، وبعد ذلك تقدم رسول الله إلى ابنته الحبيبة زينب يسألها بلطفه المعهود فقال لها : بنيتي زينب إن ابن خالتك أبا العاص بن الربيع ذكر اسمك .. يعني جاء لخطبتك وهذه كناية لطيفة غاية في اللطافة من النبي الكريم .. فسكتت حياءً ، فعلم رسول الله من سكوتها وابتسامتها علامة القبول والرضى عاد إلى أبي العاص فصافحه وهنأه بالقبول ودعى له مباركاً هذا الزواج الميمون ..

 انتشر خبر خطوبة أبي العاص بن الربيع لزينب بنت محمد في جميع أرجاء مكة المكرمة ، وكانهذا الخبر مفاجأة كبرى لكل الهاشميين ، إذ كيف تضيع العروس الهاشمية من بين أيديهم ، وكيف تفلت سليلة بني هاشم بن عبد مناف إلى قبيلة أخرى ، أما بالنسبة لبيت النبوة فقد تهيأ لهذه المناسبة السعيدة خاصة وأنها أول فرحة يفرح بها النبي الكريم وزوجته خديجة فامتلأ البيت غبطة وسروراً وحركة وضجيجاً حيث كان من عادة العرب مثل هذا الصخب والأهازيج عند إعداد العروس وزفها إلى بيتها الجديد ، وتمت زفة العروس في بيت النبوة وعمَّ الفرح والسرور أرجاء مكة المكرمة وعندما حل المساء صحبت الأسرة المحمدية العروس الهاشمية زينب إلى بيت الزوجية ولبثوا هناك غير بعيد يباركون للزوجين السعيدين هذا اللقاء المبارك ويغبطونهم بالبشر والفرح ويهونون على العروس الهاشمية ألم البعد والفراق عن الأهل والأخوات ..

********* خطوبة مفاجئه

ما كادت زينب بنت محمد تزف إلى ابن خالتها أبو العاص بن الربيع وهي في ربيعها العاشر أو يزيد حتى طار عقل الهاشميين ، فهم يعتبرون أنفسهم أحق من بني أسد في بنات محمد رغم أن أبا العاص بن الربيع لا يقل عن الهاشميين أصلاً وحسباً ونسباً وشرفاً إضافة إلى أنه كان من أشراف قريش وأغنيائها وتجارها ولكن العادات والتقاليد الجاهلية كانت تقتضي أن تزوج الفتاة من أبناء عمومتها الأقربين ومن قبيلتها وعشيرتها خاصة وأن زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت في قمة الشرف والأصل والحسب والنسب والجمال ، كانت هاشمية قرشية يمتد نسبها إلى عدنان حتى يصل إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، ولكن أسكتهم أن صاحب الحظ السعيد أبو العاص بن الربيع الذي كان ابن أخت خديجة بنت خويلد الأسدية حبيبة محمد بن عبد الله ، وأصبحوا يشاورون على بنات محمد الأخريات رقية وأم كلثوم وفاطمة وهن لم يتجاوزن سن الطفولة إلى سن الفتوة والشباب .. كانت أم كلثوم عند زواج أختها زينب تزهو بربيعها الثامن أو التاسع وكان أختها رقية تكبرها بثلاث سنوات تقريباً ، وما إن بلغت رقية الحادية عشرة حتى بدأت أنظار أبناء قريش تحوم حولها لئلا تفلت من أيديهم فتزف إلى عريس آخر لا يمت إلى القرابة الهاشمية بصلة ، أما أم كلثوم فقد كانت عندها قناعة تامة أن الدور قد جاء على شقيقتها رقية وأنها لم تزل صغيرة على الزواج ولم يدر في فكرها في لحظة من اللحظات أن بني هاشم سيطلبونها عروساً هاشمية مع أختها رقية في يوم واحد .

كانت رقية تنمو وتكبر وتزداد أنوثة ونضارةً وجمالاً ودلالاً إضافة إلى ما تمثلكه من الأصل والشرف والحسب والنسب ، كانت تشارك أمها التي تجاوزت الخمسين أعباء الأسرة ومسئولية البيت مما طبع شخصيتها بطابع الجد وتحمل المسئولية ، فأصبحت فتاة ناضجة واعية وهي لم تتعد مدارج الطفولة إلى سن الفتوة والصبا والشباب فهي في تلك الفترة من حياتها لم تتعد الحادية عشرة من عمرها ، أما أم كلثوم فكانت أقرب إلى الطفولة منها للصبا والشباب فهي لم تتعد الثامنة إلى التاسعة من عمرها ، ولكن خوف أشراف مكة من بني هاشم من أن تضيع منهم فرصة ثمينة لا تعوض في خطبة بنات محمد بن عبد الله بعد أن ضاعت منهم زينب دفعهم إلى أن يسرعوا إلى بيت محمد بن عبد الله وعلى رأسهم شيخ قريش أبو طالب بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعبد العزى بن عبد المطلب والد العريسين الهاشميين عتبة وعتيبة ، لقد استقبل البيت المحمدي وفداً من آل عبد المطلب جاءوا يلتمسون مصاهرة ابن عمهم الصادق الأمين محمد بن عبد الله فقد خافوا أن يسبقهم إلى ذلك كفء كريم من شباب قريش ، كانت الشقيقتان الهاشميتان لا تزالان صغيرتين على الزواج أوعلى تحمل أعباء الزواج ، ولكن عندما طرق الباب وعلمت البنات أن وفد بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب قد جاء لزيارة محمد بن عبد الله خفق قلب الفتاتين الصغيرتين رقية وأم كلثوم وعلمتا أن الضيوف لم يأتوا إلا لأمر جلل ، فهم لا شك قادمون لخطبة رقية بنت محمد وجرى بين الفتاتين الهاشميتين حوار هادئ بريء :

أم كلثـوم : أظن أنه جاء دورك يا رقيه ..

رقـيـــــة : ولكني لا أزال صغيرة على الزواج يا أختي الحبيبة .

أم كلثـوم : ولكن شيخ قريش أبا طالب لا يمكن أن يقدم إلينا إلا لأمر جلل .

رقـيــــة : ربما .. ولكني لا أزال صغيرة على الزواج يا أختي الحبيبة .

أم كلثوم : لا عليك .. فلابد وأن نعلم بالخبر الأكيد بعد قليل .

 دخلت عليهم والدتهم خديجة بنت خويلد وطلبت منهم المساعدة في إعداد واجب الضيافة لشيوخ بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب فخفتا لمساعدة والدتهما .. كانت الصغيرة فاطمة بنت محمد تجلس في حجر والدها أثناء قدوم شيوخ بني هاشم ونظراً لصغرها فقد آثرت أن لا تفارق والدها بل بقيت تستمع لما يدور بينهم من حديث فسمعت شيخهم أبا طالب بن عبد المطلب يقول لوالدها ..

 أبو طـالب : انك يا بن أخي قد زوجت ابنتك زينب أبا العاص بن الربيع وإنه لنعم الصهر شرفاً وحسباً ونسباً غير أن بني عمك لهم عليك مثل ما لابن أخت خديجة وليسوا دونه شرفاً وحسباً ونسباً .

فأجابهم محمد : ( صدقت يا عم .. ) .

أبو طـــــالـب : ولقد جئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم .. وما أظن أنك تضن بهما على ابني عمك عتبة وعتيبة .

           كانت كلمة الشيخ أبي طالب مفاجأة محيرة لكل الحاضرين وخاصة للوالد الكريم الرحيم محمد بن عبد الله ذلك لأن رقية لم تتجاوز ربيعها الحادي عشر بينما أم كلثوم لم تتجاوز التاسعة من عمرها .. إنهما صغيرتان على الزواج .. صغيرتان على تحمل مسؤولية الزواج والبيت .. تفلتت فاطمة من حجر أبيها وهرعت تزف الخبر إلى أمها وأختيها وعندما دخلت غرفة الأختين سمعتهما تتحاوران ..

أم كلثــوم : أنا أؤكد لك أن الشيخ أبا طالب جاء لخطبتك ..

رقـيــــــة : لا أظن ذلك فهو يعلم أنني لا أزال صغيرة على الزواج .

أم كلثــوم : بل أؤكد على ذلك فأختنا زينب تزوجت ولم تتجاوز اثني عشر ربيعاً يوم زواجها .

 وهنا دخلت فاطمة الصغيرة لتلقي بنفسها في حجر أختها رقية وتقول بشيء من الدلع المحبب ..

فـــاطمـة : عندي لكم الخبر اليقين ..

أم كلثـوم : ماذا ..؟! خطبة رقية ..

فـــاطمـة : بشيء من الدلع والدهاء .. بل خطبتكما معاً .. وهي تشير بأصبعيها الاثنين ..

أم كلثـوم : ماذا تقولين يا فاطمة ؟! .

فـــاطمـة : أجل خطبتكما معاً .. فلقد سمعت الشيخ أبا طالب يقول : ( وجئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم ) .

رقـيـــــة : باستغراب وذهول .. رقية وأم كلثوم ؟! إننا لا نزال صغيرتين على الزواج ..

أم كلثـوم : أبهذه السرعة نتخطف من بيت والدينا ؟! .

رقـيـــــة : ولكن من هو صاحب الحظ السعيد يا فاطمة ؟!.

فـــاطمـة : تمط شفتيها متجاهلة .. لا أعرف هذا ما سمعته من الشيخ أبي طالب ولم أصبر حتى أسمع بقية الخبر بل هرعت إليكما لأزف لكما البشرى .

أم كلثـوم : إنني صغيرة .. لا أزال صغيرة يا أختاي .

فـــاطمـة : أنا لا أريد الزواج .. ولا أحب الزواج .. سأظل عند أبي وأمي .. سأعيش في أحضانهما ..

رقـيـــــة : تبتسم .. ليس هذا الأمر بيدك أو بيدي ..

أم كلثـوم : لا بد لك من الزواج .. فهذه سنة الحياة .

فـــاطمـة : بل سأظل في حضن والديَّ ولن أتركهما أبداً .

رقـيــــــة : ( تضحك ) .. لا تزالين صغيرة على هذا الأمر يا حبيبتي .

 وجمت الأختان الحبيبتان رقية وأم كلثوم لهذا الخبر المفاجئ الذي وقع عليهما كالصاعقة .. مفاجأة غير متوقعة وخيم على جو الغرفة صمت رهيب ووجوم شديد وراحت رقية وأم كلثوم تتبادلان النظرات الواجمة التي توحي بألف سؤال دون أي جواب ..

** لماذا التعجل في الزواج .. ؟ .

** ألسنا صغيرتين على الزواج .. ؟ .

** هل أستطيع حمل مسئولية الزواج والبيت .. ؟ .

** هل أستطيع فراق والدي الحبيبين .. ؟ .

** هل سيوافق أبوهما على هذه الخطبة المفاجئة .. ؟ .

 ولفهما صمت ووجوم خيم على جو الغرفة ، كما أصاب الأختين الحبيبتين رقية وأم كلثوم شيء من الحيرة والوجوم والخوف من المستقبل المجهول ، خاصة وأنهما لا تعلمان من هما العريسان القادمان وما هي طبيعة البيت الجديد الذي ستنتقلان إليه .. وهنا سمعت صوت والدتهما تناديهما لإعداد واجب الضيافة من المأكل والمشرب للضيوف من أشراف قريش ..

أما فاطمة بنت محمد الصغيرة فقد أطرقت وهي وحيدة في الغرفة بعد أن هرعت أختاها لمساعدة أمهما في إعداد الضيافة لشيوخ بين هاشم ، أطرقت ساهمة تفكر فيما يحدث لهذا البيت السعيد ، لقد انتُزعت زينب من هذا البيت منذ شهور ، وتركت في قلوب الأسرة الكريمة الوحشة والحزن وألم الفراق وعما قريب سيعود نفس المشهد القاسي من جديد حيث تفارق أختاها رقية وأم كلثوم وسوف يخيم على البيت من جديد أطياف الوحشة والحزن وألم الفراق ، بل هذه المرة سيكون الفراق أقسى والألم أشد وأمر ، ذلك لأن فاطمة الصغيرة ستبقى وحيدة فريدة في بيت النبوة لا أنيس لها ولا جليس فأخذت تبكي ألم الفراق قبل أن يحل الفراق وتندب حظها ووحدتها قبل أن تعيش هذه الوحدة ، لقد استطاعت فاطمة أن تعيش هذا الجو القاسي الأليم في خيالها قبل أن يتحقق في عالم الواقع ، أجل لقد بكت الصغيرة المدللة فاطمة وحق لها أن تبكي حين فقدت صحبة أختها زينب الكبرى وبكت أكثر وأكثر حين استشعرت فراق أختيها رقية وأم كلثوم وقد أزف وقت رحيلهما معاً حيث ستبقى وحيدة في بيت النبوة تكابد ألم الوحدة وقسوة الفراق وفي هذه الأثناء دخلت الوالدة الحنون خديجة بنت خويلد لتضم صغيرتها إلى قلبها وتمسح دموعها وتسألها وهي تعلم ما يبكيها ..

خـــديجــــة : ما يبكيك يا حبيبتي فاطمة .. ؟.

فـــاطمـــــة : لا شيء يا أماه .. لا شيء .

خـــديجــــة : بل هناك أشياء يا صغيرتي .. أخبريني يا فاطمة ما الذي يبكيك ..

فـــاطمـــــة : لقد أزفت لحظة الفراق يا أماه ..

خـــديجــــة : الفراق ... ؟! .

فـــاطمـــــة : أجل يا أمي الحبيبة .

خـــديجــــة : ماذا تقصدين يا فاطمة ؟ !.

 فـــاطمـــــة : لقد ودعنا زينب منـــذ شهــــــور إلى بيت زوجهـــا والآن .. ( تغلبها غصة قوية ثم موجة من البكاء الشديد ) ..

خـــديجــــة : والآن ماذا يا فاطمة ؟! .

فـــاطمـــــة : والآن جاء دور رقية وأم كلثوم دفعة واحدة ..

خـــديجــــة : ولكن زينب سعيدة في بيت زوجها وستكون رقية وأم كلثوم أيضاً سعيدتان في بيت زوجيهما أيضاً

فـــاطمـــــة : ولكني لست سعيدة بهذا الزواج .. سأظل وحيدة هنا يا أماه ..

خـــديجــــة : هذه سنة الكون يا بنيتي كل الفتيات مصيرهن إلى الزواج .

فـــاطمـــــة : ولكني لا أريد أن أغادر هذا البيت أبداً يا أماه .. لاأريد أن أتزوج ..

خـــديجــــة : قلت لك هذه سنة الحياة غداً ستكبرين وستكونين عروساً محل أنظار أشراف قريش ..

فـــاطمـــــة : ( وهي تبكي ) .. لا يا أماه .. لا أريد أن أكون عروساً .. لا أريد أن ينتزعني أحد منك ومن أبي ..

خـــديجــــة : لا شك أنك عندما تكبرين ستغيرين رأيك .

فـــاطمـــــة : بشيء من العصبية والإصرار بل أريد أن أظل بقربكما فلست أطيق فراقكما .

خـــديجــــة : ( تبسمت ) .. أجل يا صغيرتي لن تتركينا حتى تريدي أنت .

فـــاطمـــــة : ( بعفوية وطفولية ) إنني لا أريد فراقكما أبداً يا أمـاه .

 خـــديجــــة : هكذا كنا نقول في سالف الأيام ولكن الأيام غيرت أفكارنا ولا بد أن تغير أفكارك يا صغيرتي عندما يحين الأوان .

جلست خديجة بنت خويلد في حالة من الوجوم فهرعت إليها فاطمة لتجلس في حجرها وتعانقها عناقاً حانياً ثم أسبلت جفنيها تفكر وتسرح في حالها وعادت بها الذكرى إلى أيام طفولتها حيث كانت تنصرف بنفس الطريقة التي تراها في ابنتها فاطمة ، طريقة طفولية ساذجة بريئة ، عادت رقية وأم كلثوم بعد قيامهما بإعداد الضيافة لشيوخ بني هاشم وجلستا مع أمهما وفاطمة ، وساد جو الغرفة شيء من الصمت الرهيب والمفاجأة التي لم تكن بالحسبان وخجلت العروسان من سؤال أمهما عن العريسين الهاشميين القادمين بهذا الشكل المفاجئ ولكن الصغيرة فاطمة كانت أكثر جرأة منهما فسألت أمها ، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد ..

فـــاطمـــــة : يا أماه هل علمت سبب مجيء الشيخ أبو طالب مع شيوخ بني هاشم إلينا اليوم ؟ .

خـــديجــــة : طبعاً يا بنيتي .. وهل يخفى علي ما يسعون إليه ..

فـــاطمـــــة : ولكن كيف علمت بالخبر وأنا لم أخبرك بذلك .

خـــديجــــة : من يوم خطبة أختك زينب وشيوخ بني هاشم لا يقر لهم قرار ..

رقـيـــــــــة : ولكنك لم تخبرينا كي نعد أنفسنا لهذا الأمر ولا تصدمنا المفاجأة ..

خـــديجــــة : لم أرد أن أشغل بالكما حتى يتأكد هذا الأمر .. خاصة وأنكما لا تزالان صغيرتين على الزواج .

أم كلثـــــوم : والآن يا أمي ؟.

خـــديجــــة : الآن قد تأكد ظني وجاء شيوخ بني هاشم لخطبتكما .

فـــاطمـــــة : ومن يكون الخاطبان يا أماه ؟! .

خـــديجــــة : لا أعلم بالضبط ولكن ....

رقـيـــــــــة : أكملي لماذا توقفت عن الكلام يا أماه .

خـــديجــــة : أظن أنهما عتبة وعتيبة أبناء العم عبد العزى فهما أكثر فتيان قريش حسباً ونسباً وغنىً وأناقة وجمالاً .

أم كلثـــــوم : ولكن يا أماه ... ؟.

خـــديجــــة : ماذا يا بنيتي .. هل هناك من أمر .. ؟ .

أم كلثـــــوم : ولكن أمهما ..

رقـيـــــــــة : أجل أمهما ...

خـــديجــــة : أم جميل بنت حرب ..

رقـيـــــــــة : أجل أم جميل ..

خـــديجــــة : وماذا بها يا بنيتي ؟! .

رقـيـــــــــة : امرأة شديدة قاسية ..

أم كلثـــــوم : سليطة اللسان يا أماه ..

خـــديجــــة : إنها من أصل شريف ونسب أصيل ولا شك أنها ستفرح بكما عروسان هاشميتان لابنيها ..

رقـيـــــــــة : أرجو أن لا يكون ذلك يا أماه ..

أم كلثـــــوم : ألا يوجد في الهاشميين غير أولاد أم جميل بنت حرب ..

وهنا أشفقت الأم خديجة على ابنتيها الصغيرتين وتمنت من قلبها أن لا يكونا أبناء أم جميل بنت حرب ذلك لأن خديجة أعرف الناس بأم جميل وفظاظتها وطول لسانها ولكنها كتمت هذا الأمر بنفسها لأنها لا تستطيع أن ترد طلب الشيخ أبي طالب الذي يعتبر الرجل الأول ليس على الهاشميين وحدهم ولكن على قريش والقبائل العربية كلها وهنا بدأت الدموع تتساقط من عينها شفقةً وحزناً على الزهرتين المتفتحتين الناعمتين رقية وأم كلثوم أن تقعا تحت تسلط أم جميل زوجة العم عبد العزى .

رقـيـــــــــة : ما بك يا أماه ؟ .

خـــديجــــة : لا شيء .. يا ابنتي ...

رقـيـــــــــة : وهذه الدموع ..

خـــديجــــة : تذكرت يوم فراق أختك زينب والآن أعد نفسي لفراق أصعب وأمر ..

رقـيـــــــــة : أصعب وأمر ؟! .

خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..

رقـيـــــــــة : ولماذا أصعب وأمر ؟! .

خـــديجــــة : لأنني الآن سأفارق ثلاثة بنات دفعة واحدة .

أم كلثـــــوم : وهل هناك شيء آخر يا أماه ؟ .

خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..

أم كلثـــــوم : ولا تريدين اطلاعنا عليه ..

خـــديجــــة : لا يا بنيتي .. ولكني فارقت زينب إلى بيت خالتها وابن خالتها وهم كما تعلمون من دماثة الأخلاق والطيبة وحسن المعشر .. وأنا مطمئنة عليها كما لو كانت عندنا ..

رقـيـــــــــة : وماذا بعد يا أماه ؟ .

خـــديجــــة : أما أم جميل بنت حرب فلا اعلم عنها إلا شراسة الطبع وسلاطة اللسان وسوء الخلق ..

رقـيـــــــــة : وماذا عن أبنائها عتبة وعتيبة ؟ .

خـــديجــــة : هما زينة فتيان بني هاشم ولا يعيبان بشيء .

رقـيـــــــــة : إذن مالنا وأم جميل بنت حرب مادام العريسان كما تصفين ؟!.

خـــديجــــة : لا شيء إنما أخشى أن تؤثر عليهما أو تقسو عليكما ولا يستطيعان ردها عما تقول أو تفعل فهي امرأة متسلطة على زوجها وأولادها .

رقـيــــــــة : ولكننا لم نتأكد من ذلك بعد .

أم كلثــــوم : لندع هذا الأمر حتى تستقر الأمور على شيء ثابت ومحدد .

فـــاطمــــة : ( بصوت خفيض ) ..أذهب إلى غرفة والدي أجلس في حجره وأستطلع لكم الخبر ..

خـــديجـــة : لا حاجة لذلك فوالدك لن يقطع أمراً قبل أن يستشيرنا وخاصة بموضوع العروسين رقية وأم كلثوم

           وهنا يظهر محمد بن عبد الله قادم من غرفته يدخل على زوجته وبناته بوجهه البشوش ليعلن للعائلة الكريمة عن الخاطبين الهاشميين عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى ، وهنا أحست خديجة بنت خويلد بانقباض شديد من هذا الخبر رغم أنها لا تستطيع رفض مثل هذا الطلب الذي ربما فرق الأهل والعشيرة وأثار غضب الهاشميين عليها وهنا ما كان من خديجة إلا أن وافقت زوجها على خطوبة ابنتيها وتبعتها ابنتاها رقية وأم كلثوم بالموافقة على هذه الخطوبة رغم ما كانتا تضمرانه من خوف وحذر وترقب .

 وهنا قعدت السيدة خديجة وحيدة في غرفتها بعد موافقتها على هذا القرار الصعب تفكر وقد شعرت بانقباض شديد لا تدري له سبباً سوى أنها لا تستريح إلى أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس زوجة العم عبد العزى بن عبد المطلب ذلك لما فيها من صلف أحمق وطيش أهوج وشراسة في الطباع وحدة في اللسان فهي صورة لا مثيل لها في الشريفات القرشيات اللواتي يتميزن بدماثة الأخلاق وحسن المعشر والاتزان والهيبة والوقار ، لذلك فقد أشفقت السيدة خديجة على ابنتيها الصغيرتين اللتين لا تزالان ترتعان في مراتع الطفولة ، خشيت أن تكون قد تسرعت وزوجها بإعطاء الموافقة على هذا الزواج غير المتكافئ والذي جاء بشكل مفاجئ بعيد عن كل التوقعات ، خشيت خديجة على ابنتيها من معاشرة تلك الزهرتين المتفتحتين لأم جميل بنت حرب بما تتصف به ولكنها رغم كل ذلك وافقت زوجها فما هي بالزوجة التي تفرق بين الأهل والأقارب والعمومة والعشيرة لقد همت خديجة أكثر من مرة أن تفضي إلى زوجها بما يعتلج في ضميرها من شكوك ومخاوف إلا أن محمد بن عبد الله كان في شغل شاغل عن أمور الدنيا كلها إنه منقطع في غرفته يتعبد ويتحنث وينتظر أمراً جللاً لا يعرف كنهه ومداه إلا الله رب العالمين ، عندها تراجعت خديجة عن رأيها لتترك الأمور تسير فالله معهم ولن يضيعهم وهو فوق كل العباد ونعم بالله .

جلست العروسان الهاشميتان في الغرفة المجاورة بعد أن خرجت خديجة تتجاذبان أطراف الحديث ، ووقفت الصغيرة المدللة فاطمة ترقبهما عن بعد في شيء من الحيرة والترقب ذلك لأن الأمر لم يكن كما عهدت أثناء خطبة أختها الكبرى زينب ، فالأمر اليوم يختلف تماماً عما شاهدته من أختها زينب يوم إعلان خطبتها لابن خالتها أبي العاص بن الربيع لقد كانت زينب بادية البشر والإشراق ، وكانت الابتسامة المشرقة لا تغادر ثغرها ، كانت تستعد للفرح في غبطة وسرور رغم حيائها ، أما رقية وأم كلثوم فقد علا وجههما الاكتئاب والقلق والوجوم ولم تستطع فاطمة الصغيرة أن تميز في ذلك الوقت بين زواج قام على الألفة والمودة والرحمة والتعاطف وزواج آخر تعقده أواصر القربى والعشيرة وهنا همست رقية إلى أختها أم كلثوم .

رقـيــــــــة : ما بال الأسرة تتعجل زواجنا ..

أم كلثــــوم : أليس من الضروري أن نأخذ فرصة للتعرف على البيت الجديد والأسرة الجديدة .

رقـيــــــــة : وقد التفتت إلى أختها تسألها باهتمام زائد ، إنك تعلمين أن أبانا لن يقضي هذا الأمر دون موافقتنا فماذا أنت فاعلة يا أم كلثوم .

أم كلثـــوم : لست بالتي تعق أباها فتعرضه للحرج أمام أهله وعشيرته وخاصة أعمامه شيوخ بني هاشم ..

رقـيـــــــة : ولكن كيف لنا أن نعيش مع أم جميل ؟! .

أم كلثـــوم : لا عليك يا أختاه فسنكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..

رقـيـــــــة : تبتسم في وجه أختها وتضرب كفها بكف أختها وتقول : أجل سنكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..

*******

العروسان الهاشميتان

انتشر خبر خطوبة عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم بنتا محمد بن عبد الله في جميع أرجاء مكة ، وتلقت القبائل هذا الخبر بالفرح والرضا تارة وبالسخط والحقد تارة وبالغيرة والحسد تارة أخرى وكان فتيان قريش يتسابقون للتقرب من هذا النسب الشريف ولكن ضاعت منهم رقية وأم كلثوم كما ضاعت أختهما زينب بنت محمد من قبل ، لقد تفاجأ الجميع لهذا الحدث الهام خاصة وأن رقية وأم كلثوم لا تزالان أقرب إلى الطفولة منهما إلى الفتوة والصبا ، وحسماً للموقف وإسكاتاً للقيل والقال فقد آثر العريسان يدفعهما أبوهما عبد العزى وأمهما أم جميل بنت حرب للإسراع في هذا الزواج الميمون ، كان عتبة وعتيبة زينة فتيان قريش وشبابها شرفاً وخلقاً وثراءً إضافة إلى ما يتميزان به من جمال المنظر وأناقة المظهر ودماثة الأخلاق وحسن المعشر .

           تهيأ البيت المحمدي لهذه المناسبة السعيدة خاصة وأن أم جميل أرادات أن تكون فرحتها بزواج ابنيها عتبة وعتيبة حدثاً هاماً لم تسمع القبائل العربية مثله خاصة وأن العم عبد العزى كان من أصحاب المال والتجارة والثراء ، وانتقلت الفرحة العارمة إلى البيت المحمدي فامتلأ البيت غبطة وفرحاً وسروراً وحركةً وضجيجاً حيث كان من عادة أشراف العرب إحداث مثل هذا الصخب والأهازيج عند إعداد العروس وزفها إلى بيتها الجديد ، بعث محمد بن عبد الله ليجهز ابنتيه بأزكى العطور وأنفس الألبسة الحريرية وبعثت خديجة بنت خويلد إلى التجار ليأتوها بأفخر ما لديهم من بضائع فارس وبلاد الشام واليمن من ألبسة ومتاع وحلي وزينة تليق بالعروسين الهاشميتين ، أما العم عبد العزى والد العريسين فقد فتح بيته في مكة للزوار الوافدين والمهنئين فكان يصرف بسخاء منقطع النظير فرحاً وابتهاجاً بزواج ابنيه عتبة وعتيبة خاصة وأنه كان من التجار الأثرياء المعروفين في مكة .

           وجاء موعد الزفاف وحان موعد الفرحة الكبرى ليس للعروسين الهاشميتين فحسب وإنما لجميع الأهل والأقارب وأخذت أجواء مكة تردد أصداء هذا الحفل المبارك وقام الرسول الكريم وزوجته خديجة بذبح الذبائح وإكرام الضيوف كما قام العم عبد العزى والد العريسين بذبح الذبائح وإكرام الضيوف ودعي كل أهل مكة إلى هذا الحفل الطيب المبارك المشهود ، وتمت زفة العروسين رقية وأم كلثوم في بيت النبوة وعم الفرح والسرور أرجاء مكة وعندما حل المساء صحبت الأسرة المحمدية العروسين الهاشميتين الصغيرتين إلى بيتهما الجديد لتزفان إلى عريسيهما حيث لبثوا هناك غير بعيد يباركون للعروسين وأزواجهما السعيدين هذا اللقاء المبارك الميمون ويغبطونهم بالفرحة والبشر ويهونون على العروسين الهاشميتين الصغيرتين آلام البعد والفراق عن الأهل والأخوات ، ثم عاد الجميع ليتركوا العروسان عند زوجيهما ينعمان بالألفة والمودة والسعادة خاصة وأن عتبة وعتيبة لم يكونا غرباء عن العروسين فهما أبناء العمومة الأقربين ..

عاشت رقية وأختها أم كلثوم في بداية حياتهما حياة سعيدة مرفهة مع زوجيهما ولكن هذه الحياة لم تكن تخلو من بعض المنغصات والكلمات الجارحة والتعليقات المستهجنة من حماتهما أم جميل بنت حرب إضافة إلى إرهاقهن بالطلبات المتكررة والأعمال الكثيرة في بيتها ، ولكن الأختين ظلتا صابرتين مادام العريسان يعاملانهما بالحب والمودة والأخلاق الحسنة أما العم عبد العزى فكانت فرحته بالعروسين لا تقدر بثمن لدرجة أنه كثيراً ما يتلقى الاستهزاء والسخرية من زوجته أم جميل بنت حرب لإفراطه في حبه وتدليله للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم إلا انه كان يأخذ كلامهما على محمل الدعابة والمزاح ويتجاهل سلاطة لسانها بشيء من الحكمة والصبر .

           كان عتبة وعتيبة يخرجان بين فترة وأخرى في تجارة أبيهما عبد العزى فيترك كل منهما عروسه الغالية وزوجته الحبيبة في كنف أهلها ليعودا بعد رحلة شاقة وهما أكثر شوقاً وأعمق محبة .. فلقد تعودت كل من رقية وأم كلثوم عند مغادرة زوجها إلى التجارة أن تنتهز هذه الفرصة لتنضم إلى بيت النبوة وإلى حضن أمها وأبيها وإلى أختها الصغيرة فاطمة فراراً من الوحدة أولاً ومن لسان أم جميل ثانياً والتماساً لذكريات الطفولة السعيدة مع أمها وأخواتها وكانت خديجة تنتظر مثل هذه الزيارات المتكررة من هذه البنت أو تلك بفارغ الصبر وذلك لتترك المجال لزوجها الذي كان يجلس وحيداً يتعبد إما في غرفته أو في غار حراء الذي أخذ يتردد عليه بشكل متكرر .

 لقد كانت خديجة تحس بما ينتظر زوجها من النبوة والرسالة وذلك مما سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل الذي بشرها بأن زوجها هو نبي هذه الأمة وأنه هو الرسول الخاتم إلى البشرية جمعاء فكانت خديجة تراقب زوجها عن كثب وتترك له كامل الحرية في تعبده ووحدته لذلك فقد كانت تأنس لأية بنت تقدم إليها .. كانت رقية وأختها أم كلثوم تقضيان وقتيهما في كنف العائلة الكريمة تشاركانهم أفراحهم وذكرياتهم وتساعدان في تدبير شؤون المنزل وذلك عندما تقدمان إلى بيت النبوة خاصة وأن خديجة قد تداركها الكبر وأتعبتها مواسم الحمل والولادة المتكررة إضافة إلى رعاية زوجها الذي بدأت تظهر عليه إرهاصات النبوة وآثار الرسالة فكان من الواجب على خديجة أن تؤمن لزوجها الجو المناسب من الهدوء والرتابة والطمأنينة والسكينة انتظاراً لوحي السماء الذي لا تستطيع هي أن تدرك كنهه رغم اليقين الذي كان ينتابها بأنه قادم لا محالة .

********

الحدث الجلل

سارت الحياة في بيت رقية وأم كلثوم بنتا محمد بن عبد الله رتيبة هنيئة هادئة ترفرف عليها أجنحة السعادة والمحبة والهناء ولا يعكر صفو هذه الحياة إلا بعض الترهات والكلمات والممارسات الخاطئة من أم جميل بنت حرب بين حين وآخر ، أما بيت النبوة فقد كان يشهد تحولاً جذرياً وإرهاصات تنذر بميلاد حدث عظيم وأمر جديد جلل لا يستطيع أحد أن يعلم مداه إلا خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفت من ابن عمها ورقة بن نوفل ضخامة الحدث الذي ينتظر خديجة وزوجها ، لقد كان ورقة بن نوفل من أحبار النصرانية ويقرأ التوراة والإنجيل والكتب المقدسة ويعلم منها إرهاصات ظهور نبي جديد يعتبر خاتم الأنبياء والمرسلين سيظهر في هذا الزمان في منطقة جبال فاران التي تحف مكة من كل جوانبها ، لقد أخبرها ورقة بن نوفل أن بعثة نبي جديد قد حلَّ وقتها وأن النبي المرتقب لابد وأن يظهر في هذه المنطقة بالذات كما ورد في الكتب المقدسة والأخبار المتواترة وأنه يأمل أن يكون محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم ، لقد كان ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد ينتظران هذا الحدث الجلل بفارغ الصبر ليؤمنوا بهذا النبي الخاتم ويؤازروه ويقفوا معه في دعوته إلى الله حين يعاديه أهله وعشيرته فضلاً عن القبائل العربية الأخرى التي ناصبت العداء للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم منذ اللحظة الأولى ، كانت خديجة تعلم هذا الأمر وتنتظر وتترقب هذا الحدث الجلل الذي سيغير حياتها وحياة عائلتها وحياة المجتمع المكي بل حياة العالم بأسره ، وفي مثل هذه الظروف كانت أم كلثوم بنت محمد في زيارة أهلها بعد أن ودعت زوجها عتيبة بن عبد العزى الذي سافر في تجارة والده إلى بلاد الشام ، فالتقت عند الباب بأمها فدخلت على عجل لترى أختها زينب وأختها فاطمة ، كانت خديجة تسير بتلهف واضطراب شديد فسألتها ابنتها أم كلثوم ..

أم كلثـــوم : ما بك يا أماه ؟! .

ولم ترد خديجة على سؤال ابنتها وإنما أسرعت باهتمام كبير ولهفة عظمى إلى غرفة زوجها تطمئن عليه ولما رأته واطمأنت عليه عادت إلى بناتها أم كلثوم وفاطمة وزينب وقد عاودها البشر والهدوء وملأت وجهها البشاشة وأخذت خديجة تحدث ابنتها أم كلثوم حديثاً عجباً لم تعهده من قبل .. فلقد كانت خديجة عائدة لتوها من عند بن عمها ورقة بن نوفل الذي حدثته عن الحادث الذي حدث لزوجها محمد بن عبد الله في الأمس في غار حراء ، وهنا قاطعتها ابنتها أم كلثوم لتسألها :

أم كلثـــوم : ولكن ما الذي حدث لوالدي يا أماه ؟! .

خـــديجــة : لقد عاد يوم أمس مساءً من غار حراء .

زيــنـــــب : وماذا في الأمر فهو دائماً يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه ثم يعود بعد أيام ..

خـــديجــة : لقد عاد بوضع غريب ، كان مضطرباً شاحباً يرتجف من الخوف ، كانت الرعدة تدب في أوصاله ، لم يسأل عن طعام أو شراب ، وسكتت خديجة لتأخذ أنفاسها ..

أم كلثـــوم : أكملي يا أماه لقد أثرت شجوننا ..

خـــديجــة : لم يسأل عن طعام أو شراب وإنما يقول بصوت خائف مضطرب زملوني دثروني .

فــــاطمــة : نعم يا أماه لقد رأيته وخفت عليه كثيراً ..

زيــنـــــب : وماذا بعد يا أماه ؟ .

خـــديجــة : وبعد أن هدأت هذه الرعدة وزال عنه الخوف سألته ما الذي حل به فأخبرني ..

أم كلثـــوم : ماذا أخبرك يا أماه ؟.. لقد شغلت بالنا .

خـــديجــة : أخبرني بأنه كان يتعبد وحيداً في غار حراء وإذا بطائر كبير جداً غطت أجنحته عنان السماء هبط عليه في غار حراء وغطه بجناحيه بشدة وقال له اقرأ .. فقال له : ما أنا بقارئ .. ثم غطه ثانية بجناحيه بشدة أكثر وقال له اقرأ .. فأجابه بخوف شديد ما أنا بقارئ .. ثم غطه ثالثة وبشدة أكبر وقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق .. اقرأ وربك الأكرم .. الذي علم بالقلم .. علـم الإنسان ما لـم يعلم ) .. ثم تركه وغاب وهو في حالة من الذعر والخوف الشديد .. ليعود إلى داره في مكة وهو يرتعد ويقول زملوني دثروني ..

 كانت الفتيات الثلاث أم كلثوم وزينب وفاطمة يستمعون إلى والدتهن بإصغاء كامل وخوف شديد .. وساد جو الغرفة صمت شديد قطعته زينب وهي تقول ..

زيــنـــــب : وماذا بعد يا أماه ؟! .

خـــديجــة : لا شيء .. لا شيء !! .

رقـيــــــــة : تبتسم .. بل هناك أشياء يا أماه اخبرينا فكلنا آذان صاغية ..

خـــديجـــة : قلت لا شيء بعد .. هذا ما حصل لوالدكم .

زيــنــــــب : وأين كنت ؟! لقد رأيتك تعودين إلى البيت وأنت في حالة من الخوف والذعر ..

خـــديجـــة : لقد ذهبت إلى ابن عمي ورقة بن نوفل لأقص عليه الخبر ..

رقـيــــــــة : لماذا توقفت .. ؟! أكملي ماذا قال لك ابن العم ورقة بن نوفل فهو حبر من أحبار النصارى ويعلم علم الكتب المقدسة السابقة ؟..

خـــديجـــة : قال لي إنه والله الناموس الذي نزل على عيسى وموسى من قبل ، وأقسم لي أنه إن صدق قولي هذا فإن محمداً هو نبي هذه الأمة المنتظر وهو النبي الخاتم وأن ورقة بن نوفل سيكون من أوائل المؤمنين به وإن قومه سيكذبونه ويؤذونه ويخرجونه من مكة ويقاتلونه وإنه سيكون عوناً لمحمد إذا ما أدرك محنته في مستقبل الأيام .. سكتت خديجة فترة من الزمن تلتقط أنفساها وأبناؤها في وضع لا يحسدون عليه من الخوف والحيرة ولكنهم ينتظرون من والدتهم بقية الحكاية .. فقالت فاطمة الصغيرة ..

فــــاطمـــة : أكملي يا أماه هل انتهت الحكاية ؟ .

خـــديجـــة : تضم صغيرتها إلى صدرها وتقبلها .. لا لم تنته بعد يا حبيبتي .. إنها ليست حكاية إنها حقيقة واقعة ونبوة ورسالة يا بنيتي فلقد سمعت من ابن عمي ورقة قولاً عجيباً وشعراً رقيقاً في والدكم الحبيب ..

زيــنــــــب : هات أسمعينا ماذا قال ابن العم ورقة ؟ .

خـــديجـــة : لقد أنشدني هذه الأبيات وأنا في أشد حيرتي :

لججت وكنت في الدنيا لجوجـــا                لهـــــم طالـمـــا بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف                   لقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين علا رجــــائــــي                   حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قــــــــول قــس                   من الرهبان أكره أن يعوجا

بأن محمــــــــداً سيسود فينا                      ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضيـــاء نور                       تقوم به البرية ان تعوجا

فيلقي من يحاربه خســــــاراً                           ويلقى من يسالمه فلوجا

فياليتي إذا ما كان ذاكـــــــــم                       شهدت وكنت أولهم ولوجا

 وعندما انتهت خديجة من شعر ورقة بن نوفل أخذت الدموع تنهمر من عيونها لتمنعها عن الكلام فترة من الوقت ، لقد أنصتت زينب وهي أكبر البنات سناً وأنصتت أخواتها معها رغم حداثة سنهن إلى هذا الخبر العظيم خبر نزول الوحي من السماء على والدهن ولم يدركن بعد معنى الوحي أو معنى النبوة في عصر كله جاهلية مطبقة وأوثان وأصنام تعبد من دون الله أما موضوع النبوة أو موضوع البعثة أو الرسالة أو موضوع الوحي من السماء فهذه الأمور كلها لا علم لهن بها من قريب أو بعيد خاصة وأن يكون الوالد الحبيب هو النبي المنتظر لهذه الأمة وهو الرسول الخاتم وهو المبعوث رحمة للعالمين لقد كانت هذه الأمور كلها مفاجأة شديدة ، وكان أمر النبوة حدثاً عظيماً في تاريخ الأسرة لم تستطع عقولهن الفتية معرفة كنهه أو الوصول إلى أبعاده الحقيقية ، لبثت أم كلثوم في مكانها ساكنة هامدة شاردة الفكر لا تدري ما تقول ولا تعرف من أين تبدأ ولا إلى أين ستنتهي ولا تعرف بماذا تجيب والدتها عن هذا الخبر العظيم ، لقد كانت على العكس من والدتها التي كانت فرحة مسرورة بهذا الحدث العظيم ، أما زينب أكبر البنات فقد استشعرت ببعد نظرها خطورة الموقف فقالت لأمها ..

زيــنــــــب : حدث جلل ولكننا لا ندري إلى أين سيقودنا ؟ .

خـــديجــــة : إلى الخير طبعاً .. إلى خير الدنيا والآخرة .

زيــنـــــــــب : ولكني سمعت ابن العم ورقة يذكر الأمر بشيء من الخوف والهلع على والدي ..

نظرت الأم خديجة إلى ابنتها ولم تعقب على كلامها وكأنها لم ترد من ابنتها أن تقطع عليها فرحتها بذلك الحلم السعيد بنبوة زوجها وبعثته ورسالته السماوية إلى الناس أجمعين .

زيــنــــــب : لقد قال ذات مرة أن قريشاً ستعاديه وتحاربه وتضيق عليه وتخرجه من مكة إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً .

خـــديجــــة : ربما ولا ضير في ذلك فمحمد وراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهرة وهو الصادق الأمين الذي لم يطعن بصدقه وأمانته وشرفه وحسبه ونسبه ورجاحة عقله أحد من العرب قاطبة .

زيــنـــــــــب : ولكن ابن العم ورقة بن نوفل قال إن هذا الأمر محدث عنه في التوراة والإنجيل وإن هذا الأمر هو سنة جميع الأنبياء والمرسلين حتى يظهرهم الله على من عاداهم .

خـــديجـــــة : بشيء من الحزم .. وليكن ذلك فو الله لأقفن معه أنا وبنو أسد حتى آخر قطرة من دمائنا .

زيــنــــــــب : أرجو ذلك يا أماه وإن كنت أشفق على والدي من ظروف الأيام القادمة والمصائب والمحن التي تنتظر والدي الحبيب .

كان هـذا الحــــوار يدور بين الأم وبناتهــا الثلاث زينــب أم كلثوم وفاطمة أما رقية فقد بقيت عند زوجها عتبه لأنه آثر أن يبقى مع أبيه في مكة بينما سافر أخوه عتيبة مع القافلة إلى بلاد الشام ، ولكنها رغم ذلك فقد اشتاقت إلى أهلها فاستأذنت زوجها ليوصلها إلى بيت أهلها تمكث فيه يومان أو ثلاثة مع أمها وأبيها وأخواتها وبينما خديجة وبناتها في هذا الحوار اللذيذ إذ قرع الباب ودخلت رقية لتنضم إلى العائلة الكريمة وليكتمل عقد الأسرة إلا من الوالد الحبيب الذي كان مشغولاً عن الدنيا باتصاله مع ربه وخالقه ، وبعد قدوم رقية سادت فترة صمت رهيبة وكأن قدوم رقية قطع على العائلة الكريمة حديثها فبادرت تسأل أمها ..

رقـيـــــــة : أراكم صامتون .. هل هناك من أمر ؟! .

زيــنـــــب : أجل يا أختي الحبيبة ..

رقـيــــــــة : أخبروني إذن .. واسمحوا لي أن أشارككم متعة الحديث .

زيــنــــــب : لقد جاء الناموس إلى الوالد الكريم .

رقـيــــــــة : الناموس ؟! .

زيــنــــــب : أجل وأصبح والدنا نبي هذه الأمة .

رقـيـــــــــة : الناموس .. نبي هذه الأمة .. ما هذه الكلمات التي لا أستطيع فهمها ؟!.

خـــديجــــة : لقد جاء الناموس الأكبر الذي نزل على أنبياء الله إبراهيم وموسى وعيسى على والدك يا رقية .. وهذا يعني أن محمد بن عبد الله أصبح نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم .. كما أخبرني ابن العم ورقة بن نوفل ..

رقـيـــــــــة : لقد فاجأتموني بهذا الخبر السعيد .. لا شك أن بني هاشم سيكونون أول الناس إيماناً بالدين الجديد ..

زيــنــــــب : بل ربما أبعدهم وأشدهم عناداً ومعاداة للوالد الحبيب.

رقـيـــــــــة : دعونا من هذا الكلام فالمستقبل بيد الله ولا يعلمه إلا الله .

خـــديجــــة : ونعم بالله يا حبيبتي ..

أم كلثـــوم : مالك يا زينب ؟ .. تعالي حديثنا أحاديثك العذبة ..

زيــنـــــب : لا شيء ولكني أحسب أن هذا الحدث جلل وأن الأيام القادمة ستكون صعبة ومريرة وقاسية يا أختاه .

أم كلثـــوم : أما تحبين أن تكوني ابنة نبي هذه الأمة ؟! .

زيــنــــــب : بلى يا أختي الحبيبة .. وأي فتاة لا يفرحها مثل هذا الشرف العظيم ؟! .. ولكن ؟! ..

أم كلثــــوم : ولكن ماذا ؟! .

زيــنـــــب : أشفق على والدي الحبيب فالعرب كلهم سيحاربون الدين الجديد عن قوس واحدة كما ذكر الخال ورقة بن نوفل وهذا ما يخيفني ..

رقـيــــــــة : لا تخافي يا أختي مادام أبي نبي الله فالله هو الذي يحميه ويحفظه من كل مكروه .

زيــنــــــب : أرجو ذلك .. ونعم بالله .. فلقد سمعت أمي تقول لأبي بعد نزول الوحي في غار حراء . ( الله يرعاك ويرعانا يا أبا القاسم .. أبشر يا بن العم وأثبت واللهِ ما يخزيك اللهُ أبداً .. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ) .

أم كلثـــوم : وقد ابتسمت وابتسمت معها شقيقاتها الثلاث زينب ورقية وفاطمة وهم يبتهلون إلى الله أن يحفظ أباهم من كل مكروه .

وفي هذا الجو العاصف كانت خديجة في صمت ووجوم فقد أدركت صعوبة الموقف وشدة الأيام القادمة فالعرب لن يتخلوا عن دينهم ودين آبائهم وأجدادهم بسهولة حتى ولو كانوا على باطل ذلك لأنهم ورثوا هذا الدين وهذه ا لأصنام والأوثان منذ القدم وتوارثوها أباً عن جد فليس الأمر بهذه السهولة ، لا شك أن زوجها سيواجه المصاعب والشدائد والمحن في المستقبل القريب عندما يصدع بدعوته ويجهر بدينه ويدعو الناس كل الناس إلى الدين الجديد الذي جاء به من عند الله الواحد القهار ، لقد أحست خديجة بنت خويلد بالخطر الجسيم الذي ينتظر العائلة الكريمة فأخذت تفكر وتفكر بينما أولادها يفرحون ويلعبون ويمرحون بهذا الخبر العظيم خبر الوحي من السماء خبر الرسالة والنبوة خبر الدين الجديد وقد عجزت أفكارهن عن الإحاطة بهذا الحدث الجلل الذي سيهز الدنيا بأسرها ، والوحيدة من البنات التي أحست بالخطر هي زينب أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عركتها الأيام وصقلتها المسؤولية فبدا على وجهها شيء من الفتور والوجوم والكآبة والترقب والحذر من المستقبل المجهول الذي لا تعرف عنه أي شيء .

******

حديث ذو شجون

 كانت الصغيرة فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم تشعر بالغبطة والسعادة في بيت أبويها خاصة وأنها لاتزال صغيرة على فهم الأحداث والعقبات التي سوف تعترض والدها الحبيب ودعوته السماوية فعلى الرغم من حبها الشديد لوالدها محمد بن عبد الله إلآ أنها لم تشعر أن طريق النبوة محفوف بالمخاطر والعقبات ، أما شقيقاتها أم كلثوم ورقية وزينب فقد كن يشعرن بالغبطة والسعادة في بيت الزوجية حتى لكأنهن يشعرن أنه لا يوجد أسعد منهن بين لداتهن في كل أنحاء مكة المكرمة فقد كان عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى وابن الخالة أبو العاص بن الربيع من خيرة شباب مكة وكان كل واحد منهم خير زوج وحبيب وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المنغصات ، لقد كان كل من الأزواج الثلاثة عتبة وعتيبة وأبو العلص بن الربيع دمث الأخلاق حسن المعشر يحب زوجته ويحترمها ويجلها ولا يتصرف أي تصرف يسيء إليها أو يجرحها بل لقد كان كل منهم يفتخر بين أقرانه بأنه حظي بالعروس الهاشمية رقية أو زينب أو أم كلثوم بنات محمد مع الحسب والنسب والشرف الرفيع ، لقد كان كل من الأزواج الثلاثة في تلك الآونة من خيرة الناس خلقا وحسبا ونسبا لخير العرائس آنذاك في مكة المكرمة خلقا وحسبا ونسبا .

           سافر عتيبة في قوافل أبيه للتجارة فذهبت أم كلثوم إلى بيت أمها وأبيها لتنعم بالألفة والمحبة مع أمها وأخواتها فترة غياب زوجها وما إن يعود زوجها من سفره حتى يستقبل زوجته الحبيبة وتستقبله زوجته الحبيبة أم كلثوم بنت محمد بمزيد من الشوق ومزيد من الحب ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً حيث أصبح يساورها الخوف والجزع عند سفر زوجها وأصبحت تفضل أن يكون دائماً بجانبها أو قريباً منها لما تراه من حالة والدها ولما تسمعه من أخبار من أمها ، فقد كان أبوها في تلك الفترة يحب الاعتزال عن الناس حتى عن أهله ، كان يجلس في غرفته طويلاً يتعبد ويتحنث ويتفكر في ملكوت السموات والأرض وأصبح من عادته أن يذهب إلى غار حراء ويبيت الأيام والليالي هناك مكتفياً من زاد الدنيا ببعض الماء والرطب ، لقد أصبح محمد بن عبد الله بعيداً عن أهله حتى عن أحب الناس إلى قلبه خديجة بنت خويلد وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، ونظراً لهذا التغير المفاجئ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه للعزلة والتعبد المستمر والتفكير الطويل في ملكوت الله فقد زادت الإرهاصات والدلائل على أنه هو النبي المنتظر المبعوث رحمة للعالمين ولكن الإنسان دائماً يخاف ما يجهل وهذا ما كان من أمر الأخوات الأربع في بيت النبوة زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة بنات محمد صلى الله عليه وسلم حتى جاء الأمر إلى محمد بن عبد الله أن يصدع بالدعوة إلى الله وينذر عشيرته الأقربين ، وبدأ الوحي ينزل من السماء على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : ( يا أيها المزمل .. قم الليل إلا قليلا .. نصفه أو انقص منه قليلا .. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا .. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا .. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا ) .. فكانت هذه الآيات الكريمة تكليف من الله جل وعلا لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة وتكليف له بالعبادة وقيام الليل ، ثم توالت الأيام حتى نزلت الآيات بتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدين الإسلامي الجديد ودعوة أقربائه وعشيرته الأقربين ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) .. ثم توالت الأيام ليأتي التكليف بإنذار الناس من حوله .. ( يا أيها المدثر قم فأنذر .. وربك فكبر وثيابك فطهر .. والرجز فاهجر .. ولا تمنن تستكثر .. ولربك فاصبر ) .. ثم توالت الأيام ليأتي الأمر الإلهي إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة إلى دين الإسلام جهرة علانيــة على رؤوس الأشهاد .. ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عـن المشركين ) ..

وفي مثل هذه الأجواء كانت الأحاديث تدور في بيت النبوة ، وكانت الشقيقات الأربع يتجاذبن أطراف الحديث عند كل لقاء بشيء من الاضطراب والخوف من المستقبل المجهول ، كانت كل من رقية وأم كلثوم تزداد خوفاً واضطراباً لما كانت تسمعه من خالها ورقة بن نوفل من الصعاب والتكذيب والمشاكل والأذى التي ستواجه النبي المنتظر فكان الأمر في الأيام السالفة لا يعنيهما أما اليوم وقد أصبح والدها هو النبي المنتظر فقد أصبح هذا الأمر يمسهما ويمس عائلتهما بشكل مباشر ، لقد كانت كل منهما تحس بالخطر القادم المحدق وتحس بالمسؤولية الواجبة على أفراد الأسرة النبوية ، وكثيراً ما يدور بين أفراد الأسرة حديث ذو شجون عن هذا الحدث الجلل الذي قلب كيان الأسرة بشكل كامل ، بل كيان مكة بأثرها ..

رقـيـــــــــة : ما بالك يا زينب ؟! أراك حزينة .

زيــنـــــــب : لا شيء .. أفكر في والدي بعد أن أصبح نبي هذه الأمة .

أم كلثـــــوم : وماذا في الأمر يا أختي الحبيبة .. ألا يسرك أن تكوني بنت نبي هذه الأمة ؟! .

زيــنــــــب : لا يا أختي الحبيبة .. الأمر ليس كذلك .. وإنما أحس بالمخاطر التي ستحدق بوالدي الحبيب بعد إعلان الدعوة والرسالة على قومه .. إن قريشاً لن تتخلى عن مجدها وزعامتها للقبائل ولن تتخلى عن دينها الذي ورثته أباً عن جد بمثل هذه السهولة .

أم كلثـــوم : لا عليك فإن الله لن يضيعنا .

زيــنـــــب : ونعم بالله يا أختي الحبيبة ..

ابتسمت زينب وابتسمت أخواتها فهم الآن واثقون كل الثقة أن الله سيحفظهم ويرعاهم ولن يضيعهم أبداً ، وفي مثل هذه الأجواء الساخنة المتوالية كانت خديجة وبناتها في حيرة من أمرهم ولكن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في طريقه بكل ثقة بأن الله سيحفظ دعوته ودينه وسيحفظ رسوله أما العقبات والمحن فهذا هو طريق الدعوة الإلهية على مر العصور والأزمان ، ولما نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة أهله أولاً ، خديجة وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فآمنوا به جميعاً ، ثم قام بدعوة عشيرته الأقربين أعمامه أبي طالب وحمزة والعباس وأبنائهم ، ثم ما لبث أن آمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وهو لا يزال فتى فكان علي رضي الله عنه من السابقين للإسلام بعد خديجة زوجة رسول الله وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، ثم ما لبث أن آمن أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان والزبير بن العوام ، ثم أخذ الإسلام ينتشر في مكة المكرمة رغم مظاهر الخوف والحذر من قريش التي كانت تتابع هذا الأمر بحزم وقوة وتقاوم هذه البذرة الطيبة بالتعذيب والتنكيل ..

           عاد عتيبة بن عبد العزى من سفره ليجد مكة وقد تغيرت وبدا له أن أمراً جللاً قد حدث في مكة كان يلمحه في كلام الناس وهمساتهم ونجواهم وكل ما استطاع فهمه أن نبياً جديداً قد ظهر في مكة المكرمة ، لم يدر بالاً لهذا الأمر بادئ ذي بدء ولكن لما سمع أن نبي هذه الأمة هو محمد بن عبد الله والد زوجته أم كلثوم قد جعله في حيرة من أمره وذهب إلى بيته ليرى زوجته وقد علا وجهها الذهول والوجوم ، حيث لبثت أم كلثوم في مكانها ساكنة شاردة على غير عادتها لا تدري ماذا تقول ولا من أين تبدأ الحديث ، كانت عادتها أن تستقبل زوجها الحبيب بالبسمة والبشر والفرح والسرور ، ولكن ماذا حدث في هذا اليوم ؟!.. وما الذي قلب حال زوجته الحبيبة أم كلثوم .. ؟! .

عــــتـيــبــة : ما بك يا زوجتي الحبيبة ؟.

أم كلثـــــوم : لا شيء وسكتت وهي تسرح بأفكارها وكأنها تسبح في بحر لجي من الأحلام يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب فلا تدري بماذا تجيب زوجها الحبيب .

عــــتـيــبــة : بل هناك شيء كبير قد حصل يا أم كلثوم .. أجيبيني أيتها الحبيبة ما الذي حصل ؟.

أم كلثـــــوم : لقد نزل الوحي من السماء على والدي ..

عــــتـيــبــة : الوحي ؟!.. وماذا تعنين بالوحي يا أم كلثوم ؟! .

أم كلثــــوم : الناموس الذي ينزل على الأنبياء من السماء ..

عــــتـيـــــة : وهو يبتسم .. الناموس ؟!! .. لقد عقدت المسألة أكثر أوضحي يا أم كلثوم .

أم كلثـــــوم : لقد أصبح والدي نبي هذه الأمة .

عــــتـيــبــة : ( يبتسم بشيء من السخرية ) نبي هذه الأمة ..!! محمد بن عبد الله الفقير اليتيم نبي هذه الأمة ؟! .

أم كلثـــــوم : في فرحة غامرة واعتزاز وفخر عندما سمعت زوجها يردد ( محمد نبي هذه الأمة ) دون أن تتكلم بكلمة واحدة .

عــــتـيــبــة : ( في ذهول شديد يردد هامساً ) محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة !! ثم يضحك بأعلى صوته لا شك أنك واهمة يا أم كلثوم .

أم كلثـــوم : بل لست واهمة يا عتيبة .. محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة وأنا على ثقة تامة من ذلك .

عــــتـيــبــة : بشيء من السخرية والشدة .. لا شك أنك واهمة وأبوك أيضاً واهم يا أم كلثوم ؟ .

أم كلثـــــوم : إنني أؤكد لك أن الوحي من السماء قد نزل على والدي .

عــــتـيــبــة : أبعدي عن رأسك هذا الهراء وهذه الأفكار السخيفة ، فلقد انتهى عهد الأنبياء والمرسلين يا عزيزتي

أم كلثــــوم : أتعتقد أن محمد بن عبد الله كاذب يا عتيبه .

عــــتـيــبـة : ليس بالضبط .. فما علمت عليه من كذب وإنما ربما كان واهماً أو أصابه مس من الجنون ..

 أم كلثــوم : اسمع يا عتيبه .. إنني أدعوك إلى الدين الجديد دين الإسلام الذي آمنت به لتحظى بخيري الدنيا والآخرة ..

عـــتـيــبـة : بشيء من الحدة والعصبية .. أفعلتها يا أم كلثوم ؟! .

أم كلثـــوم : نعم لقد أسلمت يا عتيبة وأسلم كل من في بيتنا والدتي وأخواتي .

عـــتــيـبـة : لا بد أن يكون لهذا الأمر رد ستجدينه قريباً يا أم كلثوم بنت محمد .

أم كلثـــوم : اسمع مني يا بن العم فلقد آمن عدد من رجــــالات قريش .

عـــتـيــبـة : وهل فكرت يا أم كلثوم بعد تصرفك هـــــذا بمصيــر زواجنا ؟.

أم كلثـــوم : وما علاقة زواجنا بما أدعوك إليه من الحق ؟! .

عــتـيــبــة : هل فكرت يا أم كلثوم حين أسلمت وتبعت الدين الجديد ماذا سيحدث لو أني بقيت على دين آبائي وأجدادي .

أم كلثـــوم : نعم فكرت وأرجو أن تكون من السابقين إلـــى الإسلام يا بن العم ..

وهنا صمت عتيبة بن عبد العزى بعد أن سمع من زوجته أم كلثوم هذا الكلام فترة ما لبث أن هب مسرعاً وخرج من بيته متوجهاً إلى دارة الندوة بينما بقيت أم كلثوم وحيدة تنتظر ما يؤول إليه حال زوجها على أحر من الجمر ..

 أما رقية فقد لاقت من زوجها عتبة بن عبد العزى كلاما مماثلا لما سمعته أختها أم كلثوم إلا أن عتبة كان أشد فظاظة وجلافة من أخيه عتيبة حيث تكلم مع زوجته رقية بأسوأ الكلام كيف لا وهو ابن أم جميل بنت حرب حمالة الحطب التي كانت مشهورة بسلاطة اللسان وفحش الكلام ..

 أما زينب فقد كان زوجها أبو العاص بن الربيع مثالا للأدب والأخلاق الفاضلة فقد عز عليه أن تؤمن زوجته بالدين الجديد بينما لايستطيع هو أن يغير دينه ودين آبائه وأجداده ويفقد الشرف والرفعة بين أقرانه من أشراف قريش ، لقد كان هناك خلاف بين زينب وزوجها إلا أن هذا الخلاف لم يتطور إلى الإتهام والسباب والطعن بشخصية رسول الله فآثر أبو العاص بن الربيع أن يذهب إلى دار الندوة ليستطلع الخبر ويرى ماذا سيؤول إليه أشراف قريش بشأن الدين الجديد ..

 كان أشراف قريش مجتمعين في دار الندوة يتدارسون ويتشاورن تلك الشائعات والأقاويل عن ظهور نبي في مكة ، وأن محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وفي هذا الوقت بالذات صعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وأخذ ينادي بالقبائل قبيلة قبيلة ليجتمعوا إليه ليحدثهم بأمر هام وأخذ الحاضر يبلغ الغائب حتى اجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف فيهم خطيباً .. روي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله تعالى قوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الصفا فصعد عليه فهتف : ( يا صباحاه ) فقالوا من هذا .. قالوا : محمد فاجتمعوا إليه فقال : ( أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ ؟ ) قالوا ما جربنا عليك كذباً أبدا .. قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) .. قال عمه عبد العزى : تباً لك يا محمد ما جمعتا إلا لهذا .. فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب وتب .. ما أغنى عنه ماله وما كسب .. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ) .. ومنذ ذلك اليوم أصبح اسم عبد العزى بن عبد المطلب ( أبي لهب ) وأصبح اسم زوجته أم جميل بنت حرب ( حمالة الحطب ) وهنا بدأ العداء السافر بين قريش وغيرها من القبائل العربية وبين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

عاد عتيبة إلى بيته بعد منتصف الليل واجماً مطرقاً يعلو سيماه الهم والحزن والأسى فاستقبلته زوجته أم كلثوم بنفس همه وحزنه وأساه ولم تزد في كلامها على كلمة الترحيب المعتادة .

أم كلثـــوم : أهلاً بك يا عتيبة .

عــتــيـبــة : صمت قليلاً .. لقد لقيت أباك ..

أم كلثـــوم : بلهفة عارمه .. وماذا جرى بينكما .

عــتــيـبــة : لا شيء .. لقيته في الكعبة ودعاني ..

أم كلثـــوم : أكمل يا عتيبه .. دعاك إلى ماذا ؟ .

عــتــيـبــة : دعاني للدخول في الدين الجديد .

أم كلثـــوم : وبماذا أجبته ؟ .

عــتــيـبــة : وهـــل أدخل في دينه وأدع أشراف العرب يتحدثون عني؟!! .

أم كلثـــوم : أشراف العرب !! يتحدثون عنك ! .. ولماذا يا عتيبة ؟!!.

عــتــيـبــة : سيقولون عتيبة بن عبد العزى الهاشمي القرشي ترك دين آبائه وأجداده ليتبع زوجته وأبيها .

أم كلثـــوم : سامحك الله يا عتيبة .. وهل تترك الحق والصدق من أجل قالة الناس .

عــتــيـبــة : دعينا الآن من هذا الحديث .

صمت عتيبة في وجوم وذهول وأشاح بوجهه عن زوجته الحبيبة أم كلثوم وسكت عن الكلام وسكتت أم كلثوم عن الكلام وابتعدت عنه لتجلس في ركن آخر بعيداً عن زوجها فلقد كانت تحلم أن يستجيب زوجها فور سماعه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأن يكون عتيبة بن عبد العزى عوناً للرسول صلى الله عليه وسلم وسنداً له في الأيام العصيبة القادمة يوم يكذبه قومه ويؤذونه ويحاربونه ويحاصرونه ولكن ويا للأسف لقد آثر أن يبقى على دين قومه دين الشرك ويترك الانصياع للحق المبين الذي جاء به خير المرسلين رغم حبه الشديد لزوجته أم كلثوم ورغم حبه الشديد لابن عمه محمد بن عبد الله الذي يعرف عنه أنه الصادق الأمين ، أجل لقد كان الموقف بين الزوجين الحبيبين عصيباً صعباً فلقد كان أمل أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون زوجها الحبيب من السابقين إلى الإسلام وتوقعت منه أن يلبي داعي الله ولا يقف في صف المشركين عبدة الأصنام والأوثان خاصة وأنها تعرف عنه شرفه وعراقة أصله ورجاحة عقله وانصياعه للحق إذا استبان له الحق ، إضافة إلى هذا أو ذاك قرابته من والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها في هذه المرة أخطأ ظنها فيه فلقد آثر الحفاظ على مركزه وشرفه وعلو نسبه في المجتمع المكي وترك الحق والصدق والنبوة ، وفي كل يوم يجري بين الزوجين الحبيبين حديث ذو شجون ما يلبث أن يتبعه صمت طويل ملئ بالحزن والأسى ..

أم كلثـــوم : يا بن العم ..

عــتــيـبــة : لبيك يا أم كلثوم .

أم كلثـــوم : هل تشك بصدق أبي ؟ .

عــتــيـبــة : ما كنا نشك في صدقه قبل هذا الوهم الذي جاء به هذه الأيام .

أم كلثـــوم : والله أن أبي لصادق وليس بواهم يا عتيبة .

عــتــيـبــة : ولكن الأمر الآن قد تطور إلى مدى آخر .

أم كلثـــوم : وكيف ذاك ؟ !.

عــتــيـبــة : لقد قال إنه جاءه الوحي بكلام فيه هجاء لأبي وأمي .

أم كلثـــوم : ولكن من الذي بدأ الهجاء يا عتيبة ؟ .

عــتــيـبــة : لا أدري ولكن أباك الآن قد أشعل الحرب بيننا وبينه.

أم كلثـــوم : أليس والدك الذي قال لابن أخيه أمام أشراف مكة كلها : ( تباً لك يا محمد ألهذا دعوتنا ) .

عــتــيـبــة : وليكن .. فلقد قام بهجاء أبي وأمي يا أم كلثوم .

أم كلثـــوم : أليست أمك هي التي تمشي بين الناس وتكيل لوالدي أحط الشتائم .

عــتــيـبــة : .......

أم كلثـــوم : أليست والدتك هي التي كانت تضع الشوك والأقذار في طريق أبي إلى الكعبة المشرفة .

عــتــيـبــة : ........

أم كلثـــوم : أليست أمك هي التي حاولت أن تضرب والدي بفهر من حجر لولا أن أعمى الله بصيرتها عنه .

عــتــيـبــة : ........

أم كلثـــوم : أليست ...

عــتــيـبــة : بشيء من العصبية .. كفى .. كفى .. يا بنت محمد .. إنني لأظن أن البيت لم يعد يسعنا معاً يا أم كلثوم بنت محمد .

أم كلثـــوم : سامحك الله يا بن العم فما أردت إلا أن تنصاع للحق المبين وللدين الجديد ولك بعد ذلك عز الدنيا والآخرة .

عــتــيـبــة : يخرج من بيته والهم والغم والعصبية تكلل هامته .

 وتكررالأمر مع الأختين الحبيبتين رقية وزينب مع زوجيهما عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع وحصلت بين كل زوج وزوجته مساجلات ومحاورات تزيد حدتها وتنقص حسب الجو المحيط ، فليس من السهل على الزوجين أن يعارضا قريشا ويتركا دين الآباء والأجداد ويتركا العز والشرف والرفعة بين سادات قريش من أجل محمد أو من أجل بنات محمد عليه الصلاة والسلام فبقيا على الشرك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ..

 أما الصغيرة فاطمة بنت محمد فلقد كانت بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء العاصفة والتناقضات العجيبة والمهاترات والحورات الشديدة القاسية ذلك لأنها بقيت في أحضان أمها وأبيها تنهل من أخبار الدين الجديد وتقرأ وتردد آيات القرآن التي تنزل بين الفينة والفينة على والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد عاشت الزهراء فاطمة منذ نعومة أظفارها في أجواء الإيماء وفي معين الإسلام وفي ظلال القرآن ، لم تعد تسمع عن دين الشرك وعبادة الأصنام والأوثان إنما عاشت حياتها كلها في ظل الدين الجديد دين الإسلام ، كانت فاطمة بنت رسول الله تعيش في أسعد حال وهي في أحضان الأبوين الكريمين الرحيمين الذين أضفيا عليها كل الحب والسعادة حتى ظنت أنه لا يوجد في فتيات مكة من هي أسعد منها ، ولكنها لحداثة سنها لم تحسب حسابا للأيام القادمة الصعبة ولم تحسب حسابا للمحن والصعاب التي تنتظرها وتنتظر عائلتها في مستقبل الأيام القادمة ...

الفـــــــراق الـمـــــر

 أصر الأزواج الثلاثة أبو العاص بن الربيع وعتبة وعتيبة إبنا أبي لهب على عنادهم وبقوا على دين الشرك دين آبائهم وأجدادهم ، واستمرت الغمة على زينب ورقية وأم كلثوم بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستمرت الجفوة مع أزواجهن ، إذ كيف يعيش الحب والود بين قلب مسلم مؤمن بالله مؤمن بالدين الحق ، وبين قلب كافر مشرك يؤمن بعبادة الأصنام والأوثان ، وكيف تكون المودة والرحمة بين قلب اهتدى بنور الله وبين قلب ران عليه ظلام الجاهلية والشرك ، لا شك أن الفارق كبير والبون شاسع خاصة وأن قريشاً والقبائل الأخرى قد ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء وأخذوا يحاربون المسلمين في دينهم وأموالهم وأرزاقهم وحتى طردهم وإخراجهم من ديارهم ، كيف تستقيم المودة والحب بين بنات رسول الله وأزواحهن يتآمرون مع هؤلاء الناس الظالمين الأشرار ، لقد طالبت قريش بني هاشم أن يسلموهم محمداً ليقتلوه لأنه سب آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم وسفه أحلامهم وخرج على دين الآباء والأجداد وجاء بدين جديد إلا أن عشيرة النبي الأقربين من بني هاشم رفضوا وبشدة هذا الأمر بل على العكس من ذلك وقفوا مع رسول الله وآزروه ونصروه ودافعوا عنه ضد جميع القبائل التي لا تزال على الشرك ، إلا ما كان من عمه أبي لهب وأولاده عتبة وعتيبة وزوجته أم جميل بنت حرب الذين آثروا الوقوف مع المشركين من قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضد الدين الجديد الذي أنزله الله على نبيه الكريم .

           ولقد بدأ عداء قريش للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم منذ اللحظة الأولى منذ أن قام ينذر عشيرته الأقربين ، ومنذ أن قام يصدع بالحق المبين كما أمره ربه أمام الناس جهاراً نهاراً حتى بدأت موجات العداء والإيذاء للرسول الكريم تصدر من أقرب الناس إليه من عمه أبي لهب وزوجة عمه حمالة الحطب ، لقد اجتمع أشراف قريش في بيت الندوة ليتشاوروا في أمرهم في موضوع محمد وما جاء به من الدين الحديد فكان أول قرار ظالم يصدر عن دار الندوة التي أنشئت خصيصاً لنصرة المظلوم على الظالم حيث اتفقوا على طلاق بنات الرسول الثلاثة زينب ورقية وأم كلثوم وإعادتهم إلى بيت أبيهم فقالوا : ( إنكم قد فرغتم محمداً من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن ) .. ومشوا إلى أصهار رسول الله فكان أولهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت محمد وطلبوا منه أن فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من قريش فأجابهم أبو العاص بن الربيع وما ذنب زوجتي وأولادي إذا أنتم عاديتم محمد بن عبد الله ، أما صهري الرسول صلى الله عليه وسلم عتبة زوج رقية وعتيبة زوج أم كلثوم فلم يكن يصعب على أمهم حمالة الحطب أن تقنعهم بالطلاق فوافقوا على هذا الطلب الظالم الجائر ، لقد قامت حمالة الحطب أم جميل بنت حرب بإثارة حفيظة زوجها أبي لهب على العروسين الهاشميتين بعد أن أقسمت أمام الناس ألا يظلها وبنتي محمد سقف واحد ، وهكذا ظلت أم جميل تثير حفيظة زوجها أبي لهب حتى قال لأولاده أمام ملأ من أشراف مكة : ( رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد ) .. وقد كان الظن بابني العم ألا يفعلا أسوة بابن الخالة أبي العاص بن الربيع ، بل كان الظن بالعم أن لا يقف هذا الموقف المشين من حفيدتي أخيه عبد الله وابنتي محمد الذي كان أشد الناس ابتهاجاً وفرحاً بولادته فأعتق جاريته التي بشرته بولادة محمد بن عبد الله ، ولقد كان الظن بالعم أبي لهب وزوجته حمالة الحطب أن يكتفيا بطلاق رقية وأم كلثوم إرضاء لزعماء قريش من المشركين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لقي من عمه أبي لهب ومن زوجته حمالة الحطب كل سوء وشر فما كان أحد أشد عداوة منهما للنبي صلى الله عليه وسلم ولا بلغ أحد من إيذائه قدر ما بلغاه ، ولا سمع أن أحداً من بني هاشم ظاهر قريشاً على حفيد هاشم كما فعل أبو لهب وزوجته حمالة الحطب ، وعلى النقيض مما فعله أبو لهب فقد وقف الهاشميون جميعاً في صف النبي الهاشمي حتى أولئك الذين بقوا على دين الشرك وعلى رأسهم عمه أبو طالب إلا أنهم آزروه ونصروه ووقفوا سداً منيعاً في وجه قبائل العرب كلها بل لقد نالهم من الظلم والحصار والمقاطعة وهم مشركون تماماً كما نال محمداً وأصحابه المسلمين فقعدوا مع محمد وأصحابه في شعب أبي طالب وطبق عليهم الحصار بشكل كامل إلا أبا لهب الذي كابر وظاهر المشركين ضد ابن أخيه محمد وضد عشيرته الأقربين من بني هاشم ..

 ولعل من المفيد هنا أن نذكر قصة إسلام عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب ونقارن موقفه المشرف بموقف العم الآخر أبو لهب الذليل المخزي السافل إذ وقف مع الظالمين ضد ابن أخيه وترك الوحوش تنهش لحم ابن أخيه ، ذكرت كتب التاريخ أن عم الرسول المصطفى حمزة بن عبد المطلب أقبل من رحلة صيد ذات يوم متوشحاً قوسه فلقيته امرأة من قريش تقول له : ( يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ؟! لقد رآه ها هنا جالساً فآذاه وسبه وسفه دينه وبلغ منه ما يكره فاحتمل حمزة بن عبد المطلب الغضب ولم يكن قد أسلم وقت ذاك واندفع في الطريق بشده حتى عثر على أبي الحكم بن هشام جالساً في القوم بالبيت العتيق فأقبل إليه وأمسكه من تلاليبه وهزه هزةً عنيفة ثم أخذ قوسه وضربه على رأسه فشجه شجةً منكرة ثم قال له : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد ذلك علي إن استطعت ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم من يومه هذا ، لاشك أن البون شاسع جداً بين الأخوين حمزة بن عبد المطلب وعبد العزى بن عبد المطلب ، حمزة آمن وصدق فكان من المؤمنين السابقين إلى الإسلام وكان سيد الشهداء وكان من المبشرين بالجنة أما عبد العزى فقد أنزل الله به قرآناً يقرأ مدى الأزمان فهو أبو لهب الذي سيصلى ناراً ذات لهب .

 طلق كل من عتبة وعتيبة زوجته تلبيةً لقرار زعماء قريش من المشركين وإقراراً لقرار كلٌ من أبي لهب وحمالة الحطب والديهما ، وعادت أم كلثوم بنت محمد مع أختها رقية إلى بيت النبوة بعد طلاقهما من زوجيهما عتيبة وعتبة ابنا أبي لهب ، وقد تم إعلان هذا الطلاق أمام زعماء قريش في دار الندوة إمعاناً في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراراً لعداوة أبي لهب لابن أخيه محمد بن عبد الله ، عادت كل من رقية وأم كلثوم إبنتا محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت النبوة كسيرة الخاطر حزينة القلب فقد كانت كل واحدة تنتظر من ابن العم أن يكون شهماً كريماً يرفض الظلم تماماً كما تصرف ابن الخالة أبو العاص بن الربيع مع أختهما زينب ، ولكن أبا لهب ووراءه زوجته حمالة الحطب كانوا للعريسين عتيبة وعتبة بالمرصاد فأقسم أبو لهب وهو أحد زعماء قريش وأحد رؤوس الكفر على ابنيه أن طلقا بنتي محمد .

 ومهما يكن من أمر ومهما تحدث المؤرخون عن خلاص رقية وأم كلثوم من بيت حمالة الحطب ومن سلاطة لسانها وفحش قولها فإنني مع هذا الحادث الأليم أرى غير ما تحدث به المؤرخون حيث كانوا يصفون هذا الزواج زواج كريمتي رسول الله من عتيبة وعتبة بأنه كارثة أو مصيبة إلا أنني أرى أن عتيبة وعتبة ابنا العم عبد العزى كانوا من خيرة شباب بني هاشم وكانوا على درجة عالية من دماثة الطباع وحسن الخلق وكانت رقية وأختها سعيدتين فرحتين مسرورتين في بيت زوجهما كما أنني أستشف فرحة العم أبي لهب بهذا الزواج المبارك الميمون فلولا رغبته الجامحة بالاستئثار ببنتي محمد بن عبد الله لما قدم بنفسه مع الشيخ أبي طالب لخطبة العروسين الهاشميتين ، إنني لأظن أن عتيبة وعتبة ابنا أبي لهب ما كانا ليطلقا بنتي محمد لولا القسم الذي أقسمته أمهما حمالة الحطب فكل منهما كان يحب زوجته ويتعلق بها ويحترمها ويعزها إلا أن إلحاح حمالة الحطب وقسمها أمام الأشهاد ألا يظلها وابنتي محمد سقف واحد دفع العم أبو لهب رغم حبه الشديد لحفيدتي أخيه أن يقسم أمام الأشهاد على ابنيه لكي يطلقا ابنتي محمد وهو كما أظن كاره لهذا الأمر ، لأنه لن يجد بعد رقية وأم كلثوم في العرب كافة من تماثلهما شرفاً وحسباً ونسباً إضافة إلى النضارة والجمال والتربية الراقية والأخلاق السامية فلقد قام العم أبو لهب تحت ضغط اجتماعي قوي بهذه الخطوة الظالمة مارسها عليه رؤوس الكفر أمثال أبي جهل بن هشام وغيره ، ومهما يكن من أمر فإن الطلاق صعب سواء للرجل أو المرأة ولكنه للمرأة أصعب خاصة في مجتمعات الجاهلية في تلك الفترة من الزمان ولقد عادت رقية وأختها أم كلثوم إلى بيت النبوة حزينتين مكسورتي الخاطر تندبان حظهما فاحتسبتا هذه المصيبة عند الله الذي لا تضيع عنده المظالم ، لقد عز على العروسين الهاشميتين في بداية زواجهما أن تتركا بيت النبوة وهما صغيرتين ولكن عودتهما الآن مطلقتين لهو أشد وأصعب وأقسى مهما تحدث الناس عن صعوبة العيش مع حمالة الحطب ، لقد كان زواجهما تجربة صعبة إذ انتزعتا من حضني أبويهما وهما صغيرتان أما طلاقهما فقد كان صفعة قاسية لكل معالم الود والقربى ، أما الصغيرة فاطمة فقد كانت فرحة مسرورة لعودة أختيها رقية وأم كلثوم إلى بيت النبوة لتؤنسا وحدتها وتشاركاها هموم الأيام العصيبة التالية دون أن تعي معنى الطلاق في تلك الحقبة من التاريخ ..

 عادت رقية وأم كلثوم من بيت الزوجية مطلقتين تحملان همومهما إلى بيت النبوة ولكن بيت النبوة لم يعد كما كان فقد تغيرت الحياة فيه بشكل عام ، الوالد الكريم مشغول بتعبده ودعوته للناس ، مشغول بتلقي الوحي بين فترة وأخرى ، مشغول بالأعباء والتكاليف التي فرضها عليه ربه جل وعلا ، مشغول بدعوة عشيرته الأقربين ، مشغول بالعداوة الشديدة التي أبداها قومه من قريش وغيرها من القبائل العربية ، لقد كان بيت البنوة سابقاً بيت الألفة والمحبة والراحة والهدوء والطمأنينة والسكينة ، أما الآن فقد مضى عهد الراحة والهدوء ومضى عهد الصفاء والرخاء وأقبل عهد الجد والعمل والصبر والمصابرة والمقاومة والمجادلة والدعوة إلى الدين الجديد الذي أنزله الله على نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان محمد رسول الله يقوم الليل كله إلا قليلاً يتفكر في ملكوت السموات والأرض ويتعبد الله جل وعلا ، يناجي ربه في ظلمة الليل عندما يكون الناس نياماً ويخاطب زوجته خديجة فيقول لها ( لقد مضى عهد النوم يا خديجة ) .. أجل لقد مضى عهد النوم وجاء عهد السهر والاضطهاد والامتحان والابتلاء والعذاب في سبيل الله لقد كان الوالد الحبيب يعود إلى بيته مهموماً حزيناً مما يلاقيه من عنت قريش وعداوتهم وصدهم عن سبيل الله ، ليلقى زوجته الحبيبة الأصيلة خديجة بنت خويلد تمسح دمعته وتجفف عرقه وتهون عليه مصائب الدنيا وتقوي عزيمته وتدفعه إلى الإصرار والصمود في وجه كل العقبات حتى يزول ما به من حزن وهم وأسى ..

 عادت رقية وأم كلثوم لتشاطرا أبويهما ما يلاقيانه من صعوبات وعقبات في سبيل الله ، لقد أراد المشركون أن يشغلوا رسول الله بإعادة بناته إليه ولكن الله أراد أن تعود العروسان الهاشميتان إلى بيت النبوة لتساعدا أبويهما وتقفا معهما في هذه المحنة العصيبة فكانتا خير معين للأبوين الكريمين في اشد الأيام محنة وقسوة وصعوبة ..

*********

الزواج الميمون

 خاب ظن مشركي قريش وخاب ظن أبي لهب حين قال لأبنائه ( رأسي من رأسيكما حرام إذا لم تطلقا بنتي محمد ) .. وخاب ظن حمالة الحطب زوجة أبي لهب حين أقسمت على أبنائها أن لا يظلها وابنتي محمد سقف واحد فلقد كانت عودة العروسين الهاشميتين عودة محمودة هادئة رتيبة ، دون صخب أو مضض وبيت النبوة في أمس الحاجة لعودتهما ومساعدتهما فلقد تجاوزت خديجة عامها الخمسين وأصبحت لا تستطيع وحدها سد المطالب الرئيسية لبيت النبوة ، خاصة وأن خديجة أصبح شغلها الشاغل رعاية زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقوف إلى جانبه في محنته ومصائبه مع قريش وعدائها السافر للدين الجديد ، عادت رقية وأم كلثوم للوقوف بجانب الأم الكريمة ومساعدتها في جميع شئون البيت ريثما يجيء الفرج القريب من الله المجيب ، أما الصغيرة فاطمة فقد وجدت بالأختين الحبيبتين السعادة والسلوان بعد الوحدة والعزلة والفراق فكانت عودة الأختين الحبيبتين خير سلوان لها بعد انشغال والديها عنها في أمر الدعوة إلى دين الله القويم ..

 وفي هذا الأثناء تقدم لخطبة رقية شاب شهم شريف من أشراف مكة ، ثري من أثريائها صاحب تجارة ومال وفير فلقد شاءت إرادة الله جل وعلا أن يبدل العروس الهاشمية رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم زوجاً مؤمناً صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، أبدلها الله بأفضل شباب مكة حسباً ونسباً وشرفاً وأصلاً ، أبدلها الله بشاب بهي الطلعة جميل الملامح فخم السمات رضي الخلق موفور المال ذلك هو عثمان بن عفان ابن أبي العاص ابن أمية بن عبد الشمس أعزه الله في الجاهلية فكان من أعرق فتيان قريش نسباً وشرفاً وعزةً ، يلتقي نسبه مع الرسول الكريم من جهة الأب عند عبد مناف بن قصي وينتهي نسبه إلى الرسول الكريم من ناحية الأم عند عبد المطلب بن هاشم فجدة عثمان لأمه هي البيضاء بنت عبد المطلب جد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، قال بن مسعود رضي الله عنه يصف عثمان بن عفان : ( كان عثمان أوصلنا للرحم وكان من الذين آمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) .. وفي جو الحزن والكآبة الذي خيم على العروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم ، وفي جو الترقب والحذر الذي خيم على بيت النبوة تقدم عثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله شرف المصاهرة ضارباً في ذلك أحلام قريش وآراءها وخططها عرض الحائط ، فلقد كان من يمن رقية بنت رسول الله أن تترك بيت الكفر والضلال والشرك لتنتقل وبسرعة إلى بيت النور والهداية والإيمان فوافق الرسول الكريم على هذا الزواج الميمون وبارك للعروسين السعيدين زواجهما وحياتهما الجديدة .

           ونكاية بالمشركين من قريش فقد قام الصحابي الجليل عثمان بن عفان صاحب المال الوفير والشرف والجاه بإعلان زواجه من رقية بنت محمد رضي الله عنها في حفل دعى إليه القاصي والداني حيث أقيمت الولائم وذبحت الذبائح وجاء الناس من كل حدب وصوب ليباركوا هذا الزواج الميمون ولقد كان حظ النساء في هذه المناسبة أكبر وأوفر حتى أن النساء كنَّ يغنين ويضربن بالدفوف في حفل الزواج الميمون هذا ..

أحسن شخصين رأى إنسان       رقيـــــة وبعلها عثمـــــان

 كان عثمان بن عفان من أشراف قريش وتجارها المعدودين وشبابها المشار إليهم بالبنان امتلك النسب العريق والحسب الشريف فهو من علية القوم شرفاً وحسباً ونسباً فهو وإن لم يكن هاشمياً فهو أعز وأكرم من كثير من الهاشميين الذين خذلوا رسول الله وظاهروا أعداءه من المشركين وأخيراً طلقوا بناته وأعادوهم إلى بيت أهلهم لا لذنب اقترفوه أو جريمة جنوها وإنما بدافع من الحقد والكراهية لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقيدة التوحيد التي سفهت آلهتهم وأصنامهم وأحلامهم .

           لقد كان عثمان بن عفان صاحب خلق رفيع ودماثة في الطباع وسمو في الأخلاق وكان محبوباً في قومه وعشيرته حتى المشركين منهم فقد كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في كثير من الأحيان كان صادقاً أميناً تقياً ورعاً كريماً جواداً سباقاً إلى الخير ، كان عثمان بن عفان تاجرا يسير القوافل إلى بلاد الشام واليمن في رحلتي الشتاء والصيف وإن كان سفره ضمن هذه القوافل قليلاً إذ كان يؤثر المبيت في مكة ويرسل غيره في تجارته ، وكان يتميز على أقرانه من شباب مكة بالجدية والحزم وقوة الشخصية وسعة فـي الخبرة وكثرة في المال وجمال في المنظر وأناقة في المظهر قل أن تجد مثل هذه الصفات تجتمع لشاب من شباب مكة بل لشاب في كل القبائل العربية ، وعلى الرغم من حضور كل المسلمين وعدد وفير من المشركين حفل زواج عثمان بن عفان من كريمة الرسول صلى الله عليه وسلم رقية إلا أن زعماء قريش من المشركين آذاهم هذا الزواج الميمون وسفه أحلامهم وكسر كلمتهم فلم يحضروا هذا العرس الكريم بل باتوا بغيظهم وحقدهم يتهامسون عن هذا الخصم العنيد الذي يزداد قوة ومنعة كلما ازدادوا طغياناً وعدواناً ..

           اشتد أذى قريش على المسلمين المؤمنين الذين اتبعوا الدين الإلهي الجديد فكانت كل قبيلة تحاول أن تفتن غلمانها المؤمنين عن هذا الدين الجديد واشتد الأذى وعم البلاء ووصل الأمر إلى حد السجن والضرب والتقييد بالسلاسل وأحياناً التعذيب حتى الموت كما حدث لأم عمار سمية أول شهيدة في الإسلام حيث قام عدو الله أبو جهل فبقر بطنها وهي حامل فماتت ومات الجنين معها فكانت أول شهيدة في الإسلام وكذلك ياسر والد عمار الذي لاقى العذاب الشديد بسبب إسلامه بالدين الجديد ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على أصحابه وهم يُعذبون وليس لديه من قوة ترد الضرر والأذى عن هؤلاء المؤمنين الطيبين الطاهرين فكان يدعو لهم الله أن يحتسب لهم أجر هذا الأذى يوم القيامة فكان يقول لسمية وزوجها وابنها وهم يُعذبون في الحر الشديد على بطحاء مكة ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) .. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الهاشميين وعلى رأسهم عمه أبي طالب ، وفي حماية بني أسد وعلى رأسهم خديجة بنت خويلد الأسدية وفي حماية أخواله وأقارب أمه من بني زهره فلم يتجرأ المشركون في تلك الفترة من التاريخ أن يصلوا إليه بالأذى والتعذيب إذا ما استثنينا بعض الشتائم والبذاءات التي كانت تصدر عن سفهاء قريش إلا أنه بشكل عام كان يتحرك بكامل حريته وملء إرادته ، وكان يبذل جهداً كبيراً شاقاً من أجل الدعوة إلى الله ونشر دين الله بين قبائل العرب ، وكان ينتهز الفرص والمناسبات التي تجمع القبائل العربية وخاصة في موسم الحج لتبليغ الرسالة وتأدية الأمانة ..

 بقي في بيت النبوة بعد زواج رقية من عثمان بن عفان رضي الله عنه كل من أم كلثوم وفاطمة بنتا محمد صلى الله عليه وسلم فكانت كل منهما تقف مع أمهما خديجة إلى جنب رسول الله تعيناه على مصائب الدنيا ومصاعبها وتقفان إلى جنبه في وجه عدوان قريش والمشركين من القبائل الأخرى ، إضافة إلى مساعدة أمها خديجة في أعمال البيت المختلفة ، كانت فاطمة الزهراء ضعيفة البنية نحيفة لا تقوى على مسؤوليات بيت النبوة ، لقد ظلت كل من أم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهما تكافحان وتجاهدان ضد عدوان المشركين فترة طويلة من الزمان خاصة وأن والداهما في تلك الفترة كان في شغل شاغل في الدعوة إلى الله ونشر دين الإسلام وتبليغ أوامر الله لكل من يستطيع الوصول إليه ، ولكن قريشا زادت من أذاها واضطهادها للمسلمين الصابرين الصادقين بشكل كبير حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه في الهجرة إلى الحبشة وكان على رأس المهاجرين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت محمد رضي الله عنها وقعدت أم كلثوم مع أختها الصغيرة فاطمة تتحملان المصائب والأذى من المشركين بعد سفر أختهما رقية مع زوجها عثمان بن عفان إلى الحبشة ، إضافة إلى تحمل أعباء البيت ومساعدة الأبوين الكريمين على مصاعب الحياة .

*********

الحصار الظالم

 بدأت دعوة الإسلام تنتشر في مكة بشكل لافت للنظر حتى وصل إلى بيوت زعماء قريش من المشركين فأحسوا بالخطر الداهم على سيادتهم وزعامتهم ، عندها اجتمع زعماء قريش في دار الندوة وتعاهدوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف وحصارهم حصاراً شديداً حتى يتخلوا عن محمد بن عبد الله ويسلموه إلى قريش لتقتله وتتخلص من خطره الداهم عليهم ، بعد أن سفه أحلامهم وسب آلهتهم ونال من عزتهم وسيادتهم على القبائل العربية وللتأكيد على هذه المعاهدة وهذا الاتفاق الظالم قاموا بكتابة هذه المعاهدة على صحيفة علقت في سقف الكعبة من الداخل دلالة على أهمية هذه الصحيفة وأهمية الالتزام بها ، قام بكتابة هذه الصحيفة ( بغيض بن عامر بن هاشم ) الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده التي كتب بها الصحيفة .. ولقد كان من بنود هذه الصحيفة الظالمة :

أن لا يبيعوهم أية سلعة كانت . أن لا يشتروا منهم أية سلعة كانت . أن لا يتزوج من بناتهم . ولا يزوج شبابهم . أن يمنعوا عنهم المأكل والمشرب والميرة والمؤونة . أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم .

 انحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو عبد مناف مؤمنهم وكافرهم للوقوف مع محمد بن عبد الله ضد بقية القبائل وذلك بدعوة من الشيخ أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزعيم الهاشميين إلا أبا لهب عم الرسول فإنه تحالف مع قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشيرته الأقربين ، ودخل بنو هاشم في الحصار دعماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الصابرين معه ، دخل بنو هاشم مسلمهم وكافرهم للوقوف بجانب الحق المبين ضد الظلم والظالمين ولاقوا في هذا الحصار صنوف العذاب لاقوا الجوع والمرض والبرد الشديد والعطش حتى وصل بهم المقام أن يجمعوا الحشائش من الأرض وأوراق الشجر ليأكلوها ويطعموا أبناءهم الذين علت صيحاتهم من ألم الجوع والعطش والمرض ، ولكن زعماء قريش لم يبقوا على قلب واحد في عدائهم للرسول الكريم وعشيرته الأقربين وذلك بعد أن فشل حصارهم أمام صمود المؤمنين الصابرين وأمام صمود حتى المشركين منهم من بني هاشم ضد ظلم قريش ، لقد رأى بعض المنصفين المآسي والأحزان والجوع والمرض والبرد الذي دب في أوصال أبناء العمومة من بني هاشم والأقارب من بني أسد والقبائل الأخرى فكانوا يرسلون المؤن والزاد والطعام والألبسة خلسة إلى شعب أبي طالب حيث تم حصار الرسول الكريم وصحبه المؤمنين الطاهرين مع بقية من عشيرة الرسول الأقربين ..

 كانت الزهراءالمجاهدة فاطمة مع أختها أم كلثوم ووالديها في ذلك الحصار الظالم وكانت تصارع الجوع والمرض وتساعد والديها وتساعد المرضى والجياع من المحاصرين الصابرين ، كانت أم كلثوم تشفق على أختها فاطمة الصغيرة النحيفة التي لا تستطيع مواجهة الصعاب ومقاومة الجوع والمرض ، فكانت تقف إلى جانب أختها الصغيرة فاطمة وتؤثرها على نفسها في كثير من الأمور كيف لا وقد أصبحت أكبر البنات في بيت النبوة حيث هاجرت أختها رقية مع زوجها إلى الحبشة وبقيت أختها زينب بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع في مكة المكرمة ..

 بقي بنو هاشم محاصرون محبوسون في شعب أبي طالب في ضيق شديد وذلك من أول المحرم سنة سبع من البعثة وبقوا تحت الحصار الظالم ثلاث سنوات حتى بلغهم الجهد وأمضهم المرض والجوع وسمع الناس أصوات صبيانهم يتضاغون بالبكاء من شدة الجوع والبرد والمرض والعطش ، ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن الله جل وعلا أطلع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو محاصر في شعب أبي طالب أن الأرضة ( وهي حشرة من حشرات الأرض ) قد أكلت جميع ما في الصحيفة من جور وظلم وقطيعة إلا ذكر الله عز وجل ، وهنا جاء التحدي الصاعق لقريش فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بخبر السماء فخرج أبو طالب شيخ بني هاشم إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه محمد بن عبد الله قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا فقالوا قد أنصفت وصدقت يا أبا طالب ، فلما فتحوا باب الكعبة المقفل وأنزلوا الصحيفة وجدوا بأم أعينهم معجزة الرسول الكريم ، وجدوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أكلت الأرضة كل ما في الصحيفة من كلمات الظلم ولم يبق مما كتب فيها إلا كلمة واحدة هي ( باسمك اللهم ) .. ولكن المشركين بعد هذه المعجزة الظاهرة البينة لم يزدادوا إلا ظلماً وكفراً وجحوداً ..

 والحقيقة أن المآسي والأحزان والجوع والمرض والبرد والعطش الذي كان يلاقيه بنو هاشم قد أثار العواطف الإنسانية عند عدد من زعماء قريش كان على رأسهم المطعم بن عدي وحكيم بن خويلد وغيرهم خاصة وأنهم أعطوا الشيخ أبي طالب عهداً إن صدق محمد في خبر الصحيفة بفك الحصار ورفع الظلم إضافة إلى ذلك فقد تيقنوا من صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته ودينه وتيقنوا أيضاً أن خبر السماء يأتيه بالبينة والصدق فتعاهدوا على فك الحصار وإلغاء الظلم وكان ذلك بعد ثلاث سنوات مريرة قضاها المؤمنون مع عشيرتهم في أسوأ حال خاصة وأن عدداً من بني هاشم قد قضوا نحبهم وهم تحت هذا الحصار الظالم ، خرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الشعب مع صحابته المؤمنين وعشيرته الأقربين بعد ثلاثة أعوام وهم أكثر عزيمة وإصراراً على دعوتهم وفرح المؤمنون بالفرج المبين وعادت أواصر القربى والنسب وعادت العلاقات الاجتماعية بين أبناء العمومة وعادت المعاملات المادية والبيع والشراء والزواج وذلك بفضل الله أولاً وبفضل الصبر والمصابرة التي كسرت هذا الحصار الظالم ..

 عادت فاطمة وأم كلثوم إلى بيت النبوة بعد شوق زائد وقد أمضهما الحصار وأنهكهما التعب والجوع والمرض عادت فاطمة وأختها أم كلثوم لتسلم زمام بيت البنوة بدلاً عن أمهما خديجة بنت خويلد التي أنهكها طول العمر والتعب والشقاء والجوع والمرض في فترة الحصار الظالم فكانت أم كلثوم هي الراعية الأولى في بيت النبوة تلبي حاجة والديها وأختها الصغيرة فاطمة ، ولقد كانت بنات الرسول أم كلثوم وفاطمة خير من يرعى بيت النبوة بعد أن تراجعت صحة والدتهما خديجة فكانتا تقومان بدلاً عن أمهما بكل مسئوليات هذا البيت النبوي الكريم ..

********** عام الأحزان والمصاعب

لم تكتمل فرحة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين الطيبين وصحابته المؤمنين بفك الحصار الظالم من قريش فلم يمض على فك الحصار ستة أشهر حتى مات الشيخ أبو طالب عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والسند القوي المتين أمام مشركي قريش فحزن الرسول الكريم أشد الحزن على وفاة عمه أبي طالب وحزن أكثر أن دعاه إلى الإسلام والإيمان فأبى ، وبعد وفاة الشيخ أبي طالب بأيام ماتت السيدة خديجة بنت خويلد زوج الرسول الكريم وأم المؤمنين فزاد حزن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على وفاة زوجته المؤمنة الطاهرة التي وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة مشرفة حتى قال عنها رسول الله بعد وفاتها : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها ) .. كان لوفاة الشيخ أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم وفاة خديجة بنت خويلد زوج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على بيت النبوة فقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحزن وحزنت أم كلثوم على عمها ووالدتها أشد الحزن أما فاطمة الصغيرة فقد كان وقع المصاب الأليم عليها أشد وأمر فلقد كانت الصغيرة المدللة عند أمها التي تحبها وترعاها وتحنو عليها ولكنها الآن فقدت أمها منبع العطف والحب والحنان ، لقد حاولت أم كلثوم بنت محمد أن تضفي على أختها الصغرى فاطمة مزيداً من الحب والرأفة والرحمة والحنان ولكن لا شيء يعوض حب الأم وعطفها وحنانها ، لقد كانت تهرع إلى حضن والدها الحبيب ولكنها كانت تلمح ملامح الحزن والألم والأسى على وجه والدها بل ربما لمحت قطرات من الدموع تجول في عينيه فتعانقه لعلها تخفف عنه ذلك المصاب الأليم ..

وفي هذا الوقت بالذات اشتد أذى قريش على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بعد أن كثر أتباعه وانتشرت دعوته لتصل إلى القبائل والمدن المجاورة مما ينذر بالخطر على سيادة قريش وزعامتها على القبائل العربية ، لم يتجرأ سفهاء قريش على التعرض المباشر والعداء السافر والأذى الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم في حياة عمه أبي طالب وزوجته خديجة وذلك لما كان للعم أبي طالب من مركز وشرف ومكانة ليس في بني هاشم أو قريش فحسب وإنما في القبائل العربية كلها وكذلك الأمر بالنسبة لخديجة التي كان وراءها بنو أسد لا يتأخرون عن أمر تأمرهم به خديجة بنت خويلد ، أما بعد وفاتهما فقد خلت الساحة لسفهاء قريش وصبيانها ليعتدوا على الرسول وعلى بناته أم كلثوم وفاطمة بشتى أنواع الأذى والضرر فلم يتورعوا عن ضربهم بالحجارة أو إلقاء الشوك والقاذورات أمام بيتهم والرسول الكريم وبناته الطيبات صابرين محتسبين كل هذه المصاعب عند رب رحيم لا يغرب عنه مثقال ذرة ي السموات والأرض ..

بحث الرسول الكريم في مكة عن ركن قوي يركن إليه يساعده ويعينه ويحميه لتبليغ الرسالة السماوية ولكن زعماء قريش كلهم قد تألبوا عليه أو وقفوا على الحياد في أسهل الأحوال لذلك فكر في الانطلاق خارج مكة المكرمة فتوجه مع خادمه زيد بن حارثه إلى الطائف أقرب المدن إلى مكة المكرمة ، ومن يركب سيارة اليوم ويتوجه من مكة المكرمة إلى مدينة الطائف عبر طرق ممهدة مزفته ليصعد الجبال ويهبط الوديان يستطيع أن يستشعر كيف ذهب محمد رسول الله من مكة إلى الطائف عبر المسالك الوعرة ليصل إلى مدينة الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام ، فأقام فيها عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم وزعمائهم إلا جاءه وكلمه ولكنهم رفضوا دعوة الله وأصروا على كفرهم وعنادهم وقبل أن يغادر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الطائف كان زعماء الطائف قد أغروا صبيانهم وسفهاءهم ليقفوا على جانبي الطريق محملين بالحجارة والأوحال فأخذوا يرمون رسول الله وخادمه حتى دميت قدماه صلى الله عليه وسلم أما زيد بن حارثه الذي كان يحاول أن يحمي رسول الله بنفسه فقد شح رأسه وجرح حتى تمكنوا من الخروج من الطائف ، وانصرف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى مكة وفي طريق العودة جلس على صخرة وأخذ يدعوا ربه ويقول : ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل عليَّ غضبك ، أو ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .. وفي هذه اللحظات الحاسمة جاءه جبريل ومعه ملك الجبال فقال : ( يا محمد إن الله يقرئك السلام وهذا ملك الجبال معي لو أمرته أن يطبق عليه الأخشبين لفعل ) .. فقال الرسول الكريم ذو القلب الرحيم : ( بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) .. هذه العظمة وهذه النفس السامية وهذه الروح الطيبة الرحيمة الشفوقة الحريصة على نشر دين الله في كل بقعة يمكن أن يصل إليها ، لا يمكن أن تتحقق إلا لنبي مرسل من عند الله بل إلا لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

عاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى مكة ودخل مكة بجوار المطعم بن عدي الذي أجاره وحماه فدخل المسجد الحرام وصلى فيه وعاد إلى بيته لتستقبله ابنتاه أم كلثوم وفاطمة بمزيد من الشوق والخوف واللوعة وأخذت أم كلثوم تضمد جراح أبيها وقلبها يقطر حزناً وألماً على ما أصابه بينما ذهبت الزهراء فاطمة لتعد الطعام لوالدها بعد رحلة شاقة وجوع شديد ..

لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبليغ دعوة السماء إلى الناس كافة رغم الجحود والصدود التي كان يلاقيها من المشركين ، خاصة وأن زعماء قريش وعلى رأسهم عمه أبو لهب وأبو جهل الحكم بن هشام كانوا يسيرون خلفه يكذبون دعوته ويتهمونه بالمس والجنون والكذب وغير ذلك من الصفات السيئة لكي ينفض الناس عن رسول الله ويبتعدوا عن طريق الحق والصواب الذي جاء به من عند الله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواسم الحج والتجمعات العربية يلتقي بوفود القبائل العربية فرداً فرداً ويعرض عليهم أن يؤمنوا بالدين الجديد الذي جاءه من الله جل وعلا وكان يسأل عن وفود القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة ويقول لهم : ( يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة ) وكان عمه أبو لهب يمشي وراءه ويقول : ( لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب ) .. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى بيته ليرى ابنتيه فاطمة وأم كلثوم تواسيان آلامه وتضمدان جراحه وتبذلان كل جهد لإسعاد والدهما الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الصغيرة فاطمة فكانت أنسه في غربته وسلوته في وحدته وفرحه ومرحه كلما عاد إلى بيت النبوة ..

*********

خطبة رسول الله

 بعد وفاة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقي الرسول في حزن شديد لا تميل نفسه إلى النساء بعد وفاة أحب الناس إليه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها ، وتمضي الأيام ثقيلة حزينة على رسول الله وهو يعاني ألم الفراق وألم الوحدة بعد وفاة خديجة أم العيال وربة البيت والمعينة على نوائب الدنيا ومصائبها ، وكان الصحابة يرقبون آثار الحزن والأسى على النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم فيشفقون عليه من تلك الوحدة ويودون لو أن رسول الله تزوج بعدها بمن تسليه هموم الدنيا وأحزانها ولكنه أبى في تلك الفترة من التاريخ أن يميل قلبه إلى أية امرأة في الوجود بعد خديجة ، ولم يجرؤ أحد من الصحابة أن يعرض على الرسول فكرة الخطبة والزواج لمعرفتهم مدى حب الرسول الكريم لزوجه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ، إلا ما كان من زوجة عبد الله بن مظعون خولة بنت حكيم السلمية ذات الهجرتين رضي الله عنها ، فجاءته ذات مساء متلطفة مترفقة وهي تقول : ( يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة ) .. فأجاب : ( أجل كانت أم العيال وربة البيت ) .. فاقترحت عليه أن يتزوج وقالت : أفلا أخطب عليك ؟.. وفي هذه اللحظة بالذات تذكر الرسول الكريم زوجته أم المؤمنين خديجة وتذكر ( نفيسة بنت منبه ) حين جاءته منذ سنوات طويلة تعرض عليه الزواج من خديجة ، فقالت خولة بنت حكيم : أخطب لك عائشة بنت أحب الناس إليك ، وأصغى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفتح قلبه إلى صاحبه أبي بكر الصديق أول رجل آمن به وصدقه بعد ابن عمه علي ومولاه زيد بن حارثه والذي وقف إلى جانبه منذ اللحظة الأولى باذلا ماله ونفسه وكل ما يملك في سبيل هذه الدعوة المباركة فأجابها : ( ولكنها ماتزال صغيرة يا خولة ) .. فقالت : ( تخطبها اليوم إلى أبيها ثم تنتظر حتى تنضج ) .. ولكن من للبيبت يرعى شؤونه ومن لبنات الرسول الصغيرات أم كلثوم وفاطمة يرعاهن ويخدمهن ، فالزواج من عائشة زواج آجل لا يحل مشكلة بيت النبوة في ذلك الوقت بالذات ولا يمكن أن يتم قبل سنتين أو ثلاث سنوات ، وهنا عرضت على الرسول زوجة أخرى هي خير زوجة لتلك المرحلة الصعبة ألا وهي ( سودة بنت زمعة العامرية ) فهي امرأة ثيب تمتلك من الخصال الحميدة ما تمتلك وإن كانت لا تمتلك حظا وافرا من الجمال ، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطبتهما معا ، فمرت أولا ببيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه فذكرت له ذلك ثم جاءت بيت زمعة فدخلت على ابنته ( سودة ) فسألتها ماذا وراءك ياخولة ؟.. قالت أرسلني رسول الله لأخطبك عليه ، فقالت سودة وهي مندهشة فرحة : وددت ذلك ، ادخلي على أبي فاذكري له ذلك ، فدخلت ( خولة ) على أبيها ( زمعة ) وهو شيخ كبير فحيته بتحية الجاهلية ثم قالت : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة ، فصاح الشيخ : كفؤ كريم .. كفؤ كريم .. فماذا تقول صاحبته ؟.. أجابته : خولة تحب ذاك ، فسألها أن تدعوها إليه فلما جاءت سألها : أي بنيتي سودة زعمت خولة أن محمد بن عبد الله أرسل يخطبك وهو كفؤ كريم فهل تحبين أن أزوجكه ؟.. قالت : نعم .. فالتفت زمعة إلى خولة وطلب منها أن تدعو إليه محمدا ، فمضت إليه تدعوه إلى الزواج وبنى رسول الله بسودة رضي الله عنها بمكة المكرمة قبل الهجرة وعائشة يومئذ لم تتجاوز ست سنين من عمرها ، فكانت أول أمهات المؤمنين بعد خديجة رضي الله عنها وكان ذلك في السنة الثالثة قبل هجرة الرسول المصطفى صلى الله إلى المدينة ، وكانت أم المؤمنين سودة قد هاجرت مع زوجها المؤمن السكران بن عمرو إلى الحبشة مع بقية المؤمنين المهاجرين آنذاك فكانت صاحبة الهجرتين ، وتساءل الناس في مكة وهم لايصدقون أن يحدث مثل هذا الزواج الميمون وتساءلوا : أرملة مسنة غير ذات جمال تخلف خديجة ذات الحسب والنسب والجمال ؟.. ولكنهم نسوا أن رسول الله إنما خطبها إكراما لها وجبرا لخاطرها وعزاء لها عن زوجها المهاجر إلى الحبشة السكران بن عمرو الذي كان مع المهاجرين الأولين إلى الحبشة ثم مات عنها وتركها بعده تعاني محنة الغربة ومحنة الترمل ، لقد تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرة الصابرة في شيخوختها بعد هجرتها الأولى إلى الحبشة وبعد وفاة زوجها فمد يده الرحيمة إليها يهون عليها ما ذاقت من قسوة الحياة فكانت أول زوجة بعد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ، كانت سودة بنت زمعة راعية بيت النبوة قبل الهجرة وراعية بنات الرسول الكريم أم كلثوم وفاطمة حتى تزوجتا في مدينة رسول الله بعد الهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة رضي الله عنها وأرضاها وأسكنها فسيح جناته .. أما ما كان من خطبة الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( جاءت خولة فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان أم عائشة فقالت لها : أي أم رومان ما ذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟!.. قالت : وما ذاك ؟.. قالت أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة !.. قالت وددت إنتظري أبا بكر فإنه آت ، وجاء أبو بكرفقالت له يا أبا بكر ، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ، أرسلني رسول الله أخطب عائشة ، فقال وتصلح له ؟.. إنما هي ابنة أخيه ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك فقال ارجعي إليه فقولي : إنك أخي في الإسلام ، انا أخوك وابنتك تصلح لي ) .. ثم تم زواج الرسول الكريم من الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر وكان عمرها ست سنوات وكانت أصغر من بنات الرسول كلهن وكان حفل الزواج متواضعاً رتيباً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور عائشة ويمازحها ويدللها قبل الهجرة ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة ..

 وعلى الرغم من أن فاطمة أصغر بنات الرسول الكريم إلآ أن عائشة كانت تصغرها بستة أعوام لذلك فمن فضل الزهراء فاطمة رضي الله عنها أنها لم تترك بيت النبوة إلا بعد زواج النبي بعائشة والدخول بها بأربعة أشهر رغم أنها أكبر من أم المؤمنين عائشة بستة أعوام …

**********

 الهجرة إلى المدينة

 جاء موسم الحج وأقبلت القبائل العربية بقضها وقضيضها إلى مكة المكرمة لأداء الحج حسب ما توارثوه عن الآباء والأجداد من لدن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ، وعلى الرغم مما دخل عقيدة التوحيد عند العرب من شوائب ولوثات الشرك إلا أن تعظيم بيت الله الحرام وتقديس الكعبة المشرفة والأماكن المقدسة ظل ماثلاً قائماً عند معظم القبائل العربية أو ربما كل القبائل العربية ، أقبلت وفود الحجيج من كل أرجاء الجزيرة العربية وتحت ضيافة قريش القائمة على خدمة الحجيج في مكة المكرمة .. انتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة وأخذ يتصل بوفود الحجاج ويكلمهم فرداً فرداً راجياً من الله جل وعلا أن يشرح صدور بعض المشركين وتتفتح قلوبهم إلى هذا الدين القويم ، وكان من بين القادمين وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من مدينة يثرب والتي يقطنها بعض قبائل اليهود ، فقد كان أهل المدينة من الأوس والخزرج يسمعون من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج من بين جبال فاران فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود ، وكان اليهود لا يحجون إلى مكة المكرمة ، فلما رأى نفر من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله والى دين الله الجديد وتأملوا أحواله وسألوا عن سيرته في قومه قال بعضهم لبعض ( تعلمون والله يا قوم أن هذا الرجل هو النبي المنتظر الذي تواعدكم به يهود المدينة فلا يسبقنكم إليه ) .. آمنت وفود الأوس والخزرج بسرية تامة وعادوا إلى أهلهم بالمدينة فأسلموا بإسلامهم حتى لم تبق دار من دور الأنصار في مدينة يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون إسلامهم .

اشتد أذى قريش واضطهادها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين الطيبين الطاهرين فأمر النبي أصحابه بالهجرة إلى مدينة يثرب والتي سميت بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بالمدينة المنورة ، حيث تحالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبيلتي الأوس والخزرج المقيمتين في مدينة يثرب على النصرة والحماية بعد أن آمن زعماء هاتين القبيلتين وكثير من الأوسيين والخزرجيين فكانت هذه الهجرة المباركة هي بداية الدولة الإسلامية التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء العالم ، هاجر معظم أصحاب رسول الله من المؤمنين الطاهرين الطيبين إلى مدينة يثرب وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بناته فاطمة وأم كلثوم ونفر قليل من أصحابه في مكة ، وبقيت ابنته زينب بنت محمد في حماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان من أشراف بني أسد فلم تهاجر إلى مدينة يثرب بادئ ذي بدء أما رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقد هاجرت مع زوجها عثمان بن عقان وابنها الرضيع عبد الله إلى الحبشة ، ولم يدم الأمر طويلاً حتى فتحت قريش أعينها على أصحاب رسول الله وقد هاجروا بقضهم وقضيضهم إلى مدينة يثرب وشكلوا فيها قاعدة قوية بحماية الأوس والخزرج وأحست قريش أن هذه القوة المؤمنة المدعومة من قبيلتي الأوس والخزرج قد تشكل قوة ضاربة تهدد كيان قريش كلها وتهدد زعامتها على القبائل العربية كلها ، اجتمع قادة قريش وزعماؤها في دار الندوة في مكة وتباحثوا أمرهم في شأن محمد وفي تكاثر أتباعه وتعاظم قوته فلم يجدوا حلاً إلا في قتل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك لأنه إذا وصل إلى أتباعه في مدينة يثرب ستكون لهم قوة وشأن يضربون بها قوة قريش وسيادتها وزعامتها على كل القبائل العربية ولكن من سيقتل محمداً ووراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهره وغيرهم من المتعاطفين معه وإن لم يكونوا قد أسلموا بعد ، من سيتورط في مثل هذا الأمر الجلل ولكنهم توصلوا أخيراً إلى حل يرضي الجميع ألا وهو أن تشترك جميع القبائل في قتله صلى الله عليه وسلم فيتفرق دمه بين القبائل وترضى قبيلة بتي هاشم بالدية إذ لا تستطيع قتال قبائل العرب كافة ، لقد كانوا يتآمرون ويتفقون على قتل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ..

           اختارت كل قبيلة من القبائل العربية فتىً جلداً شديداً يمثلها في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت هذه الأخبار تصل إلى زينب عن طريق زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان واحداً من أشراف قريش المجتمعين في دار الندوة ، وكانت زينب بدورها توصل أخبار قريش وما يخططون له لوالدها وأخواتها فاطمة وأم كلثوم وتلح على أبيها أن يغادر مكة حتى لايصبه أي مكروه من زعماء قريش ، وكان أبو العاص بن الربيع يشفق على رسول الله من تخطيط قريش وتآمرها واتفاقها على قتله ، وكانت زينب عند سماعها لمثل هذه الأخبار من زوجها تلح على رسول الله أن يغادر مكة المكرمة حتى لا تطاله يد سفهاء قريش ، وكانت زينب تنقل إلى والدها كل ما تسمع وكل ما يقال في أندية قريش ولكنها لم تعلم أن القيام بالهجرة هو أمر من السماء لم يحن موعده بعد ، وفي اليوم الموعود تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجرة من السماء فطلب من صاحبه الصديق أن يجهز الرواحل والدليل وزاد الطريق وكل ما يلزم للهجرة الميمونة إلى مدينة يثرب وذلك كله بسرية تامة بعيداً عن أعين الرقباء من قريش ومسامعها ، وفي نفس الوقت بالذات كانت قريش قد اتخذت قرارها وجهزت كل قبيلة من القبائل فتىً يمثلها في قتل محمد صلى الله عليه وسلم وعلمت زينب الخبر ولكنها لا تستطيع أن تقدم لوالدها الحبيب أية مساعده ولكنها كانت تعلم حق العلم أن الله سيحمي والدها من كيد قريش وعدوانها ، وتحت جنح الظلام اجتمع فتيان القبائل حول بيت محمد وانتظروا خروجه لصلاة الفجر كعادته ، وكان عبد الله بن أبي قحافه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد جهز ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبات ينتظره في مكان ما متفق عليه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين العصبة المشركة الذين تآمروا على قتله ، خرج من بين أظهرهم وهم نائمون فأخذ يحسو التراب على رؤوسهم واحداً واحداً وهو يقول : ( شاهت الوجوه .. شاهت الوجوه ).. وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليقتلوك أو يثبتوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .. خرج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من مكة المكرمة وهو بخاطب مكة ويقول : ( والله لإنك أحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك ) .. أفاق فتية مكة المتحلقين حول بيت رسول الله والمتربصين برسول الله من غفوتهم على نبأ خروج محمد بن عبد الله من بين أظهرهم دون أن يعلموا واستشاطت قريش غضباً وأخذت بمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل جهة من جهات مكة ، وسرى الهمس بين مشركي مكة عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان ويطاردونه في كل اتجاه ، وأعلنوا عن جائزة كبيرة لا يحلم بها أي فتى من فتيان مكة لمن يأتي بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أحياءً أم أمواتاً .. وانطلق الشباب الغر في كل اتجاه وكل واحد منهم يحلم بالجائزة السخية التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد وصاحبه .. كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبئ مع صاحبه في غار خارج مكة هو غار ( ثور ) الذي يقع جنوب غرب مكة بعكس اتجاه طريق يثرب للتمويه على المشركين حتى تهدأ الأوضاع وتفقد قريش أملها في الإمساك بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدها ينطلقوا إلى مدينة يثرب بمعية الله وحمايته ..

 كان فرسان قريش يطوفون في كل اتجاه ويبحثون في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار الذي يختبئ به رسول الله وصاحبه حيث أشفق الصديق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال هامساً : ( يا رسول الله لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا ) .. فيرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بحماية الله ثقة كاملة مطلقه : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالهما ) .. ما أجمل هذه الكلمة وما أعظم هذه الثقة وما أروع هذا التسليم المطلق بمعية الله وحفظ الله وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه في هذه الحادثة بالذات : ( إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) .. وهنا أريد أن أقرر فكرة هامة ألا وهي فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن من آمن الناس علي في ماله وصحبته أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ) .. والذي وصفه الله جل وعلا بأنه صاحب رسول الله وشريكه في رحلة الهجرة بينما نسمع بعض السفهاء المارقين يتهمونه وابنته الصديقة بنت الصديق بأبشع الصفات قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وفي هذه الأثناء كانت زينب أشد الناس قلقاً وخوفاً على رسول الله ذلك لأنها كانت في مركز الأحداث وتسمع كل يوم الكثير الكثير من الشائعات والأكاذيب عن قتل محمد والإمساك بمحمد فكانت تبكي ما وسعها البكاء وزوجها أمامها وهو من زعماء مكة وأشرافها ولا يستطيع أن يحرك ساكناً ، كانت زينب تعيش أشد حالات الخوف والفزع والهلع على مصير والدها وهي تسمع عن خروج صناديد مكة وفرسانها في مطاردة والدها خاصة وأن الشائعات في مثل هذه الأجواء المضطربة تكثر ويشتد أثرها فكثيراً ما كانت تسمع عن قتل والدها أو قتل صاحبه أو عن أ سر والدها وإحضاره إلى مكة موثقاً مكبلاً بالأغلال أمام أشراف قريش أو غير ذلك كثير من الشائعات الكاذبة المضللة ، ولكنها رغم كل شيء فقد كانت واثقة بنصر الله وحمايته ورعايته لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في مدينة يثرب فقد كانوا يعيشون فترة حرجة على أحر من الجمر وهم أيضاً يسمعون أنباء المطاردة الشرسة العنيدة التي تقوم بها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدأت الأنباء تتسرب إلى زينب وأختيها أم كلثوم وفاطمة في مكة المكرمة وإلى أصحاب رسول الله في مدينة يثرب عن اقتراب وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدينة يثرب حيث لا يستطيع فرسان قريش من الاقتراب من هذه المنطقة التي لا سلطة لهم عليها ، خاصة وأن قبيلتي الأوس والخزرج متحالفون مع رسول الله ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون مع بزوغ شمس كل يوم ويصعدون رابية مرتفعة ينظرون نحو الجنوب لعلهم يروا طيف قادم من بعيد أو خبراً من الركبان يطمئنهم عن وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا شبح بعيرين من بعيد فاستبشروا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرع فرسان يثرب باتجاه البعيرين القادمين ليستقبلوا موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينشدون بصوت مرتفع يشق عنان السماء :

طلـــــع البـــــــدر علينــا

 

مــن ثـنيــــــات الـــــوداع

وجب الشـــكــر علينـــــا  

مــــــــــا دعــــــا لله داع

أيهـــــــا المبعــوث فينــا

 

جئـــت بـــالأمــــر المطاع

جئت شـــرفت المــدينــة  

مــرحبـــاً يـــا خيـــــر داع

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مأمنه في دار الهجرة في مدينة يثرب التي بارك الله فيها للمؤمنين وجعلها مركز انطلاق لهذا الدين القويم وبداية أول دولة إسلامية في التاريخ حيث انتشر الإسلام يعد ذلك في كل أصقاع المعمورة ، وهذه معية الله ، وهذه حماية الله للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، وهذه منة من الله جل وعلا على الرسول الكريم وعلى أصحابه الغر الميامين الطيبين الطاهرين ، فقد حفظ الله نبيه حتى أكمل الرسالة وأدى الأمانة ونصح أمة الإسلام وأتم بناء الدولة المسلمة التي أراد الله فيها الخير العميم ليس لمدينة يثرب فحسب وليس للمؤمنين وحدهم وإنما للبشرية جمعاء ..

           كانت بنات الرسول الكريم زينب وأم كلثوم و فاطمة رضي الله عنهم في مكة المكرمة في أشد الشوق الممزوج بالخوف والحذر على والدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل إلى مدينة يثرب اطمأنت فاطمة وأختاها زينب وأم كلثوم إلى وصول أبيهما بحفظ الله ورعايته إلى مدينة يثرب ، كانت كل منهم تعد الأيام والليالي لكي تجتمع بالوالد الكريم في مدينة يثرب الطيبة التي سميت بعد وصول الرسول الكريم إليها بالمدينة المنورة ، وبعد أن استقر المقام للرسول وأصحابه في مدينة يثرب بحماية ودعم قوي من قبيلتي الأوس والخزرج بعث رسول الله ( زيد بن حارثة ) ومعه ( أبو رافع ) إلى مكة المكرمة ليصحبا بنات الرسول أم كلثوم وفاطمة في هجرتهما إلى المدينة التي أعزها الله بوصول الرسول الكريم إليها ، كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أرسل مع ( زيد بن حارثة ) رسالة إلى ابنه ( عبد الله ) يطلب إليه أن يلحق به مصطحبا لأمه ( أم رومان ) واختيه ( أسماء وعائشة ) .. وتهيأ الجمع للسفر وخرجوا مع بعضهم صحبة يريدون دار الهجرة والفرحة تعم الجميع والأمل يرفرف عليهم بلقاء الأحبة محمد وصحبه الطيبين الطاهرين ..

           لقد كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة هو بناء مسجد قباء أول مسجد في الإسلام حيث شارك في بنائه جميع المسلمين ، حتى ابنتا رسول الله ( أم كلثوم وفاطمة ) رضي الله عنهما وشارك معظم المسلمين من المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء هذا المسجد الذي نراه اليوم صرحاً شامخاً من صروح مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد إتمام بناء مسجد قباء والذي كان مسجداً متواضعاً أركانه من جذوع النخل وسقفه من عسيب النخل ، انطلق رسول الله على ظهر ناقته والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار يتجمعون حوله كلٌ يريد أن يأخذ بخطام ناقته ليذهب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، أما رسول الله فكان يقول : ( دعوها فإنها مأموره ) .. وظلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير حتى بركت قرب بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهذا المكان بالذات هو موقع بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقع المسجد النبوي الشريف الذي لا يزال شاخصاً عبر التاريخ الطويل ليعيد لنا ذكرى هجرة الرسول الكريم إلى المدينة المنورة ، ومن ذلك اليوم بدأت دولة الإسلام وبدأت راية الإسلام ترتفع ، ومن هذه البقعة الطاهرة بالذات ابتدأ المد الإسلامي ليصل إلى كل بقاع الدنيا حتى عم العالم بأثره ، ولقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابنتيه أم كلثوم وفاطمة في حجرة صغيرة من الحجرات التي بنيت لرسول الله محاذية للمسجد النبوي ، ثم ما لبثت أن لحقت بهم رقية بنت رسول الله مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم ، أما زينب فقد بقيت وحيدة في مكة المكرمة بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع أحد زعماء بني أسد ، كانت فاطمة وأختها أم كلثوم ترعيان رسول الله في غربته وفي موطنه الجديد وتقومان على خدمته ورعايته فقد كانتا بحق سيدات بيت النبوة في تلك الفترة من التاريخ بلا منازع بعد أن توفيت والدتها خديجة وتزوجت أختاها زينب ورقية ولم يبق إلا ألأختان فاطمة الصغيرة أم أبيها وأم كلثوم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

 ولقد خصص رسول الله حجرة لأم المؤمنين سودة بنت زمعة وحجرة أخرى لعروسه الصغيرة الفتية الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها وأرضاها فبعد أن اطمأن المسلمون في دار الهجرة وطاب لهم المقام بين إخوتهم من الأنصار وبعد أشهر من وصول عائشة إلى المدينة تحدث ابو بكر الصديق مع الرسول الكريم بشأن إتمام الزواج الذي عقده بمكة قبل ثلاث سنوات فلبى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا راغبا وأسرع مع رجال ونساء من المهاجرين والأنصار إلى بيت الصديق حيث كان ينزل مع أهله في أحد أحياء الخزرج .. وهنا تحكي لنا أم المؤمنين عائشة قصة هذا الزواج المبارك الميمون فتقول : ( جاء رسول الله بيتنا فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء فجاءتني أمي وأنا في أرجوحة بين عذقتين فأنزلتني ثم سوت شعري ومسحت وجهي بشيء من الماء ثم أقبلت تقودني حتى إذا كنت عند الباب وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي .. ثم أدخلتني ورسول الله جالس على سرير في بيتنا فأجلستني في حجره وقالت : هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك ، ووثب القوم والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله في بيتي ، مانحرت علي جزور ولا ذبحت من شاة حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول وحمل إلينا بقدح من لبن شرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تناولته فشربت منه على استحياء ) .. كانت عائشة عروسا حلوة خفيفة الجسم ذات عينين واسعتين وشعر جعد ووجه مشرق مشرب بالحمرة وقد انتقلت إلى بيتها الجديد الذي هو عبارة عن حجرة من الحجرات التي شيدت لرسول الله حول المسجد النبوي من اللبن وسعف النخيل وضع فيها فراش من أدم حشوه ليف ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير وعلى فتحة الباب أسدل ستار من الشعر ، أما مكان بيت عائشة اليوم فهو نفس المكان الذي دفن فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وأرضاهم ، وفي هذا البيت المتواضع عاشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حياة زوجية حافلة بالأحداث الجسام وبدأت تأخذ مكانها المرموق في بيت النبوة وفي حياة رسول الله وفي التاريخ الإسلامي كله ، لقد كان المسلمون يحسون بوجودها وبقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت لها شخصيتها المميزة منذ اليوم الأول لدخولها حياة رسول الله ، وكان رسول الله قد عقد عليها في شوال وعمرها ست سنوات وبنى بها في شوال وعمرها تسع سنوات في السنة الأولى للهجرة ، وهنا أود أن أشير إلى أن العلاقة بين أم المؤمنين عائشة وبين الزهراء فاطمة هي علاقة حب ومودة واحترام متبادل خاصة من السيدة عائشة لقاطمة بنت رسول الله التي تكبرها بست سنوات ولكن دعاة السوء قد شوهوا هذه العلاقة الطيبة الطاهرة وهذه المحبة السامية وأخذوا يفترون الأكاذيب على فاطمة بنت رسول الله وعلى الصديقة بنت الصديق التي برأها الله من فوق سبع سموات قاتلهم الله أنى يؤفكون ، فقد أخرج أبو داود والحاكم عن عائشة الصديقة بنت الصديق قالت : ( ما رأيت أحداً كان أشبه كلاما وحديثا برسول الله من فاطمة ، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها وكذلك كانت هي تصنع ) ..

************

غزوة بدر الكبرى

التم شمل بيت النبوة في المدينة المنورة بعد وصول رقية وزوجها عثمان بن عفان إلى المدينة ، ولم يبق في مكة إلا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بقيت مع أولادها بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان أحد زعماء قريش ، لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حدثاً هاماً في تاريخ الإسلام بشكل عام فقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار وأصبحوا مجموعة متماسكة صلبة تتمسك بعقيدتها وتؤمن بربها وتصدق رسولها فكانت هذه العصبة المؤمنة الموحدة نواة لدولة الإسلام الأولى ما لبثت أن قويت واشتد عودها وأصبحت لها كلمتها في كل القبائل العربية ، اشتدت شوكة الإسلام في المدينة المنورة حيث دخلت قبيلتان كبيرتان في الإسلام بشكل كامل هما الأوس والخزرج واتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبائل يهود على الدفاع المشترك عن المدينة المنورة ضد أي عدوان خارجي وخاصة ما يتوقع أن يكون من قريش ووافقت القبائل اليهودية مجتمعة على هذه المعاهدة ..

 كانت مدينة يثرب تقع على طريق قوافل قريش التجارية بين مكة وبلاد الشام .. وكانت أكبر قوافل قريش التجارية بزعامة أبي سفيان بن حرب في طريق عودتها من بلاد الشام إلى مكة مروراً بمدينة يثرب ، ورأى المسلمون الفرصة سانحة لاسترداد بعض الحقوق المغتصبة للمسلمين الذين فروا بدينهم من ظلم قريش واضطهادها وذلك في اعتراض قوافل قريش التجارية وضرب عصب التجارة لقريش وتحطيم قوتها المالية والاقتصادية خاصة وأن قريشاً قد وضعت جل أموالها في تجارتها إلى بلاد الشام ، وجاءت الأخبار إلى قريش كالصاعقة المدمرة فهزت أركان قريش وتزعزعت مكانتها وسيادتها وسمعتها واقتصادها ومالها وهيبتها وكبريائها ، هل يتجرأ محمد بن عبد الله الذي خرج بالأمس طريداً هارباً ضعيفاً من مكة ومن معه من القلة القليلة من المسلمين أن يواجه قريشاً بقوتها وعظمتها وكبريائها وجبروتها ، هل يستطيع محمد ومن معه أن يتحدى قريشاً تحدياً سافراً بسلطتها وزعامتها ، وتتابعت الأخبار التي يتناقلها الركبان عن اقتراب عاصفة مدمرة عاتية بين قريش بكبريائها وعزتها وسيادتها على كل القبائل العربية وبين محمد ومن معه من المؤمنين وذلك عندما وجدوا الدعم والسند القوي من الأوس والخزرج في مدينة يثرب ، خاصة وأن فئة قليلة من المسلمين استطاعت أن تستولي على قافلة صغيرة سابقة بقيادة عمر بن الحضرمي ، ولكن قافلة أبي سفيان غير قافلة ابن الحضرمي لأن قافلة أبي سفيان تضم معظم أموال قريش ، لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المؤلمة المتواترة عن اعتراض محمد صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بن حرب حتى تأكد لهم الخبر حين قدم ضمضم بن عمرو الغفاري الذي كان عائداً من الشام مع أبي سفيان فوقف أمام الكعبة على بعيره وهو يصبح بأعلى صوته بعد أن شق ثوبه ( يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، الغوث الغوث ، أموالكم في قافلة أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ما أرى أن الوقت يسمح لكم أن تدركوها ) .. تعالت أصوات الغضب تستنكر هذا التصرف من محمد وأتباعه من المهاجرين والأنصار فقال أبو جهل عمر بن هشام : ( أيحسب محمد وأتباعه أن قافلة قريش مثل قافلة ابن الحضرمي ، لا والله ليعلمن محمد وأصحابه غير ذلك ) .

           وفي هذا الوقت بالذات مات عبد الله بن عثمان حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزنت رقية حزناَ شديداً على ولدها الصغير الذي لم يكد ينهي رضاعته من أمه حتى وافته المنية ليترك بعد ذلك الحسرة والحزن والأسى في قلب الأبوين الكريمين ، حزنت رقية بنت رسول الله رضي الله عنها حزناً شديداً على وفاة ابنها عبد الله وهو الولد الأول والوحيد عندها وعاشت تحت وطأة الثكل المرير وجاءتها الحمى فأقعدتها طريحة الفراش فترة طويلة من الزمن ..

           لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه في المدينة المنورة أنصاراً كثراً ومقاماً محموداً ودعماً سخياً حتى أصبح في مقدورهم أن يهددوا قوافل قريش ويقطعوا عليهم أهم طرق التجارة ، لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المتواترة المؤلمة عن اعتراض محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه قافلة أبي سفيان ، أما القافلة بقيادة داهية العرب أبي سفيان بن حرب الذي ما إن سمع باعتراض المسلمين للقافلة حتى اتجه بالقافلة باتجاه الساحل دون أن يمر في المدينة المنورة ودون أن يمر بمنطقة بدر الطريق المعهود لقوافل الشام وبذلك استطاع أن ينجو بالقافلة ، وفي ذلك فقد كان حرياً بالمشركين حين نجت القافلة أن يرضوا بنجاة القافلة وعودة أموالهم وتجارتهم إليهم إلا أن عمرو بن هشام أبو جهل أصر على الاستمرار في الطريق إلى المدينة لقتال محمد وصحبه وقال قولته المشهورة : ( والله لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القبان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ) .. وهنا استقر رأي زعماء قريش على حرب محمد فانطلقوا بألف مقاتل من خيرة مقاتلي قريش بكامل عدتهم وعتادهم وخيلهم ورواحلهم وركابهم بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام ..

           وفي هذه الفترة الحرجة كانت الزهراء فاطمة وأختها أم كلثوم بنتا رسول الله رضي الله عنهما تساعدان أختهما المريضة رقية التي اشتد بها المرض وأقعدها طريحة الفراش لا تستطيع القيام بأي عمل أو جهد كما أنهما كانتا تقومان على رعاية بيت النبوة الجديد جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانتا تبذلان قصارى جهدهما في إعداده وفرشه انتظاراً لعودة الوالد الحبيب من بدر متنصراً غانماً .

           وتواردت الأخبار عن تجهيز قريش جيشاً كبيراً لقتال محمد رسول الله وصحبه وذلك بعد نجاة قافلة أبي سفيان وبدأت بوادر الحرب تظهر في الأفق وما هي إلا أيام معدودات حتى نشبت الحرب وانتصر المسلمون بقيادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على مشركي قريش انتصاراً ساحقاً مدمراً لجيش الكفر والشرك بقيادة أبي جهل عمر بن هشام حيث قتل فيها زعماء قريش وعلى رأسهم أبو جهل عمر بن هشام ، عاد المسلمون يحملون الغنائم الكبيرة ويسوقون أمامهم الأسرى مكبلين بالأصفاد وكلهم من زعماء قريش وساداتها وفي هذه الفترة كانت الشقيقتان الحبيبتان أم كلثوم وفاطمة بنتا محمد تقفان إلى جانب أختهما الحبيبة رقية التي كانت تزداد مرضاً وحزناً والحمى لا تكاد نفارقها ، لقد كانت الشقيقتان فاطمة وأم كلثوم تواجهان الصعاب والأحداث الجسام بكل صبر وثقة بالله جل وعلا فلقد شهدتا وفاة عمهما أبي طالب وشهدتا وفاة أمهما خديجة بنت خويلد وشهدتا حصار قريش وعدوانها على أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه أشد الأذى وشهدتا مرض أختهما رقية ، أما عثمان زوج رقية فلقد كان نعم الزوج المؤمن الصالح الصابر .

عاد المسلمون المجاهدون من غزوة بدر الكبرى فرحين مسرورين بما آتاهم ربهم من نصر ومنعة وأسرى كثيرين وغنائم ضافية وفي هذا الوقت بالذات كانت رقية بنت رسول الله تصارع سكرات الموت ، واشتدت عليها سكرات الموت ثم ما لبثت أن اختلجت شفتاها في حشرجة غير مفهومة وعيناها معلقتان على زوجها الحبيب عثمان بن عفان وأختيها فاطمة وأم كلثوم ثم ما لبثت أن رفت روحها الطاهرة وغابت عن الوجود ، أما عثمان فقد ظل واجماً شاخصاً ينظر إلى زوجته المهاجرة الصابرة رقية بنت رسول الله يتزود منها بنظرات ملؤها الحزن والأسى في رحلة فراق لا لقاء بعدها في هذه الحياة ، بينما أختاها أم كلثوم وفاطمة تبكيان في حرقة وألم وحزن شديد على فراق الفقيدة الغالية رقية بنت محمد ، لقد خيم الحزن والأسى مرة أخرى على بيت النبوة وتوفيت رقية بنت محمد بعد وفاة والدتها خديجة ، بعد حياة حافلة بالصبر والهجرة والجهاد في سبيل الله حافلة بالإحداث الأليمة حافلة بالصعاب والمسرات حافلة بالحب والفراق فتركت بصمات الحزن والأسى على الزوج الكليم وعلى الأب الرحيم وعلى الأخوات الكريمات فترة طويلة من الزمان ..

لقد فجع بيت النبوة من جديد بالمصاب الأليم بفقد الحبيبة الغالية رقية بنت محمد وهي في ريعان الصبا بعد فقد أم المؤمنين خديجة ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته المتوفاة وزوجها إلى جانبها يبكي في حرقة وأسى فاستودعها الله وطلب من النساء اللواتي حولها قائلاً : ( اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الآخرة كافورا ) .. وما إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ابنته رقية حتى تبعه عثمان بن عفان فغادرا مخدع الحبيبة المتوفاة بخطوات مترنحة ونظرات شاردة وقلب حزين فوقفا خارج البيت منتظرين حتى انتهت النساء من غسلها وتجهيزها كما أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها الرجال المؤمنون إلى مسجد النبي فصلوا عليها ثم حملوها إلى مرقدها الأخير الذي لا يؤوب منه راحل في ثرى طيبه الطيبة رضي الله عنها وأرضاها ، أما الأخوات الطيبات الطاهرات أم كلثوم وفاطمة الزهراء فكانتا أشد الناس حزناً على رقية التي كانت الشقيقة والصديقة والتي عانت في حياتها أشد المعاناة ولكنها صبرت واحتسبت حتى جاءها أمر الله ، رحم الله السيدة رقية بنت رسول الله فقد كانت مثالاً رائعاً للمرأة المسلمة المجاهدة الصابرة ..

أما ما كان من زينب التي لا تزال تعيش مع زوجها في مكة المكرمة فكانت تسمع أخبار الحرب بين قريش بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام وبين والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت ترى وتسمع أخبار الإعداد والاستعداد للحرب حتى تجمع من المشركين أكثر من ألف مقاتل من خيرة مقاتلي قريش بكامل عدتهم وعتادهم ورواحلهم وتموينهم وجهزوا أمرهم للتوجه إلى مدينة يثرب وكان بين المقاتلين المشركين زوجها أبو العاص بن الربيع ، نظرت زينب في حيرة من أمرها وتصورت والدها الذي لا يملك من القوة إلا النذر اليسير فكيف سيصمد أمام هذه القوة الهائلة من قريش ، ثم إنها في هذه الحرب الظالمة إما أن تفقد زوجها الذي يقاتل مع قريش وإما أن تفقد أباها وأخواتها الذينهم في جيش المسلمين ، ونظراً لهذه الحالة البائسة التي تمر بها فقد صمت آذانها عن سماع أي خبر لأنها لاتريد سماع فجيعتها في زوجها ولا بأبيها ولا بإحدى أخواتها فعاشت في هذه الأيام حزينة بائسة مضطربة تتوجس الخطر والمصيبة ولكنها في نهاية المطاف أوكلت أمرها إلى الله فهو الذي يتولى أمور الخلائق كلها ، ولم تمض أيام قليلة على بدء الحرب الظالمة حتى جاءتها عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأتها بالسلام والسؤال :

عاتكة : كيف حالك يا زينب ؟..

زينب : في حالة سيئة يا عمتاه ..

عاتكة : أما سمعت آخر الأخبار ؟..

زينب : لا أريد أم أسمع أية خبر يا عمتي ..

عاتكة : ولكن ...

زينب : مقاطعة .. ولكن ماذا يا عمتاه .. فأنا أنتظر أحد خبرين ولا أريد سماع أي منهما ..

عاتكة : أي خبرين ؟.. ولماذا لا تريدين سماعهما ؟..

زينب : خبر اليتم أو خبر الترمل .. وهل هناك غير ذلك يا عمتاه ؟..

عاتكة : تبتسم .. ولكن أوَ ما بلغك النبأ العجيب ؟..

زينب : وهي تنظر بتلهف وشوق .. لا والله ياعمتي .. أي خبر هذا ؟..

عاتكة : لقد انتصر محمد على قريش ..

زينب : في لهفة .. انتصر أبي على قريش ؟!..

عاتكة : أجل يا بنيتي .. انتصر محمد في قلة من أصحابه على قريش في كثرتها وعدتها ..

زينب : بلهفة وتعجب .. لك الحمد يا رب .. لك الشكر يارب .. تلتفت إلى عاتكة .. ولكن كيف ؟..

عاتكة : لا أدري .. ولكن الأخبار هكذا وصلت إلينا ..

زينب : تصيح من الفرحة .. انتصر أبي .. وافرحتاه !!..

عاتكة : أمر عجيب .. ستكون له أسوأ النتائج على قريش وكبريائها وزعامتها وسيادتها على القبائل ..

زينب : وقد بدا على وجهها الخوف والذهول .. ولكن ماذا عن أبي العاص والد هذين الطفلين ؟..

عاتكة : اطمئني .. لم يقتل أبو العاص وإنما وقع في الأسر ..

زينب : تتقدم إلى عاتكة تعانقها وتقبلها بحرارة ولهفة .. شكراً لك يا رب .. شكراً لك يارب ..

********

عثمان ذو النورين

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين جعل عمر أمر الشورى بينهم وأحد الخمسة السابقين إلى الإسلام والذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، وكان أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقية بنت محمد رضي اللله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما : ( إنهما أول من هاجر إلى الله بعد لوط ) .. وكان عثمان أول من شيد المسجد وأول من ختم القرآن في ركعة واحدة ..

لم يستطع عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يخرج من حزنه ولا أن ينسى الحبيبة بنت الحبيب رقية بنت محمد رضي الله عنها ، لقد أحبها بكل قلبه وبذل في سبيلها كل ما يملك من عواطف الحب ، وودعها بكل ما يملك من لوعات الحزن والأسى ، لقد كان حبه لرقية بنت محمد رضي الله عنها شديداً عنيفاً مخلصاً فلما اختارها الله للقاء ربها لم يستطع أن يستحمل هذا المصاب الأليم ، لقد آثر عثمان في تلك الفترة من الزمان العزلة والابتعاد عن الناس قدر ما يستطيع وآثر العزوف عن النساء فلم ينفتح قلبه لامرأة بعد رقية حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض عليه ابنته حفصه فأبى واعتذر لأن قلبه لا يزال معلقاً بالحبيبة الغالية رقية رضي الله عنها ، وكانت أم كلثوم تلمح عثمان وهو يلازم أباها رسول الله فلا يفارقه ، فلقد كان كل منهما يواسي الآخر في هذا المصاب الأليم بفقد الحبيبة الغالية رقية بنت محمد ، إلى أن كان يوم من أيام شهر ربيع حيث أوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته يستريح بصحبة ابنتيه أم كلثوم وفاطمة فإذا عمر بن الخطاب يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له بالدخول ، دخل عمر على رسول الله مستثار الغضب يشكو للرسول الكريم صاحبيه أبا بكر الصديق وعثمان بن عفان فقال : لقد عرضت ابنتي حفصه بعد أن مات عنها زوجها خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنه على أبي بكر فسكت ولم يجب وكأنه ليس له حاجة في النساء ، ثم عرضت ابنتي حفصه على عثمان بن عفان فرد علي وهو حزين كئيب بقول ما أريد أن أتزوج اليوم ، كانت أم كلثوم تستمع إلى الحوار الذي يدور بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، فسمعت أباها عليه الصلاة والسلام يقول لعمر ممازحاً ملاطفاً له : ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة ) ..

وعندما سمعت أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى خفق قلبها لما سمعت وأخذت تسأل نفسها ، ترى من هو خير من أبي بكر وعثمان على اعتبار أن عمر والد حفصة ؟! لا شك إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خفق قلبها أكثر وهي تسأل نفسها ترى من هي خير من حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها لا شك أنها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت تفكر وتفكر هل هي المقصودة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لتشغل مكان أختها الراحلة إلى رحاب ربها ، وهل حقاً هي العروس التي تناسب الرجل الطيب التقي الورع الجواد الكريم عثمان بن عفان ، ولقد عجبت أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدثها عن هذا الأمر من قبل وهي تعلم حق العلم أن أباها لا يزوج أي بنت من بناته حتى يستشيرها في الأمر ، وعادت بها الذكرى إلى الماضي البعيد أيام الطفولة والصبا والشباب فتخيلت نفسها مع أختها رقية طفلتان بريئتان تسرحان في مدارج الطفولة ، ثم فتاتان يافعتان كانتا محط أنظار فتيان بني هاشم بل فتيان مكة كلها ، ثم عروسان رائعتان في يوم واحد في بيت حمالة الحطب ، ثم مطلقتان عائدتان إلى بيت النبوة في يوم واحد فهل تلتقي مع أختها رقية أيضاً في زوج واحد وإن اختلفت الأيام وتباعدت قبل أن يضمهما ثرى طيبة الطيبة في مكان واحد أيضاً ، لقد كان قلبها يخفق بل كان يرف وكأنه يريد أن يطير ليس لأن عثمان بن عفان من أطيب وأكرم وأنقى شباب المدينة آنذاك فحسب ولكنها لأنها أحبت أن تكون حلقة الوصل بينها وبين أختها رقية في الحياة قبل أن يضمها مع أختها رقية ثرى طيبة بعد وقت لا يعلم مداه إلا الله ، وبينما كانت أم كلثوم ساهمة تفكر في ماضيها ومستقبلها والروابط العجيبة التي ربطت بينها وبين أختها رقية إذ وصلتها دعوة والدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهرعت إلى غرفة أبيها ليزف إليها البشرى فقد جاءه أمر السماء أن يزوج أم كلثوم للصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وفي شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة تم عقد زواج أم كلثوم بنت محمد على عثمان بن عفان على مثل صداق رقية ومثل صحبتها وزفت إلى بيت عريسها في حفل متواضع يناسب المصاعب والأحزان التي كانت تحيط بهذا الزواج المبارك الميمون ولما دخلت بيت عثمان تراءى لها طيف أختها رقية تنتظرها داخل بيت عثمان ما لبث هذا الطيف أن غاب لتنتبه أم كلثوم إلى نفسها وإلى عريسها الذي كان ينتظر لحظة اللقاء .

عاشت أم كلثوم مع زوجها المؤمن الطيب الكريم أسعد أيام حياتها بعد الكد والتعب والمصائب والآلام والأحزان والجهاد الطويل ، عاشت ستة أعوام في كنف الزوج الحبيب رأت فيها عزة الإسلام وانتصاراته المتوالية وشاهدت والدها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يخرج من غزوة ليبدأ غزوة أخرى وينتقل من نصر إلى نصر آخر مؤيداً بدعم من الله جل وعلا ، كان عثمان بن عفان الذي سمي بعد زواجه من أم كلثوم بعثمان ذي النورين غازياً كريماً صادقاً مجاهداً مع رسول الله بنفسه وماله وكان كثيراً ما يصطحب زوجته المجاهدة الصابرة أم كلثوم رضي الله عنها في غزوات رسول الله تعين المسلمين في كثير من أمور الحرب ، أما الزهراء فاطمة فقد أغبطها زواج أختها أم كلثوم من الصحابي الجليل صاحب الحسب والنست والتقى والورع فكانت فرحتها في تلك اللحظات لاتقدر بثمن ..

نعود إلى الزهراء فاطمة بنت محمد رضي الله عنها فقد كان من يمنها أن حضرت صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش فكان هذا الصلح فاتحة خير للإسلام والمسلمين تمكن فيه المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفرغوا لقبائل العرب كافة ولملوك العرب والعجم حيث ابتدأت الدعوة الإسلامية تأخذ مسارها العالمي ليس في جزيرة العرب فحسب وإنما في كل الدول المحيطة بجزيرة العرب ، وكان من يمن الزهراء فاطمة رضي الله عنها أيضا أن خرجت مع رسول الله في النصر الأكبر يوم الفتح المبين ألا وهو فتح مكة وذلك بعد عامين من صلح الحديبية وهنا وقفت فاطمة الزهراء في مكة المكرمة لتتذكر أيام الطفولة والصبا حيث عاشت أجمل لحظات حياتها في بيت النبوة مع أمها وأخواتها وعاصرت كل الأحداث التي مرت ببيت النبوة رضي الله عنها وأرضاها ، ولقد كان من يمن الزهراء فاطمة رضي الله عنها أن أدركت خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في شهر رجب من سنة تسع للهجرة ولبى المسلمون داعي الجهاد رغم المسافة البعيدة والحر الشديد والعدو القوي ، وفي العام الثامن للهجرة حضرت فاطمة الزهراء وفاة أختها زينب وفي العام التاسع للهجرة حضرت فاطمة الزهراء وفاة أختها الثالثة المجاهدة الصابرة أم كلثوم رضي الله عنها حيث حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزنت فاطمة وحزن المسلمون كافة حزناً شديداً على وفاة بنات الرسول الثلاثة حيث قام رسول الله بدفنهم في ثرى طيبة الطيبة ، ثم وقف رسول الله أمام قبر ابنته أم كلثوم دامع العينين مثقل القلب يعتصره الحزن والألم فها هو ذا يدفن بيديه الكريمتين الطاهرتين ابنته الثالثة بعد زينب ورقية وابنيه القاسم وعبد الله ، والتفت إلى عثمان رضي الله عنه وهويقول : ( والذي نفسي بيده لو كان عندي ثالثة لزوجتكها يا عثمان ) ..

********

في بيت الزوجية

 عاشت فاطمة في بيت النبوة أسعد أيام حياتها وظلت ملازمة لأبيها سيد الأنبياء والمرسلين طيلة حياته عليه الصلاة والسلام ، لقد زهدت الحياة وآثرت ما عند الله وآثرت العيش قرب والدها النبي الكريم تنهل من معين القرآن ومن منابع الإيمان ما وسعها ولم تلق بالاً لزواج والدها من سودة بنت زمعة فلقد كانت أم المؤمنين سودة بنت زمعة عونا لها على متطلبات بيت النبوة وكانت تقوم على خدمتها وخدمة والدها وخدمة بيت النبوة بنفس راضية ، ولكن الأمور في بيت النبوة لم تبق على حالها بعد هجرة رسول الله إلى المدينة فما إن اطمأن المسلمون في مدينة يثرب واستتب لهم الأمر حتى طلب أبو بكر الصديق من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنفاذ عقد النكاح من ابنته عائشة فلبى رسول الله هذا النداء من صاحبه الصديق أبي بكر وتم الزواج المبارك وانتقلت الزوجة الشابة الفتية عائشة إلى بيت النبوة لتعلن بدء مرحلة جديدة في بيت النبوة فلقد كانت أم المؤمنين عائشة عروسا خفيفة الجسم والروح ذات عينين واسعتين وشعر جعد ووجه مشرق مشرب بحمرة جذابة كانت عائشة صغيرة شابة بل أصغر من فاطمة بست سنوات ولكنها في الوقت نفسه كانت ذكية لمَّاحة الذكاء فلقد كونت شخصيتها في بيت النبوة وصقلتها بالهدي النبوي الشريف ،وقي هذا الوقت بالذات كانت أقرب إلى سن الطفولة منها إلى سن الفتوة والشباب ، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل جهدا أكبر في تعليمها وتربيتها وتدريبها وتلقينها أمور الدين والفقه والتشريع حتى أصبحت فقيهة زمانها فيما يخص فقه النساء وكانت جريئة لا تخاف من الحق ولا تخجل من عرض الأمور الخاصة بالنساء في أدق صورة ، لقد اكتمل نمو السيدة عائشة أم المؤمنين في بيت النبوة ونمت شخصيتها وزاد نضوجها على يدي خير خلق الله محمد بن عبد الله ، وهنا أحست فاطمة بنت رسول الله أن والدها النبي لم يعد لها وحدها كما كان في سالف الأيام فلقد دخلت إلى حياته زوجته البكر الفتية عائشة بنت أبي بكر خاصة وأنها لم تعد صغيرة في بيئة كانت تزوج بناتها وهن في سن التاسعة أو العاشرة وهاهي قد بلغت عامها الثامن عشر ، وهنا يثير بعض المغرضين مقالة كاذبة عن السيدة فاطمة رضي الله عنها وهي أنها لم تكن تمتلك حظا وافرا من الجمال كأخواتها مما أخر في زواجها ولكن الحقيقة أن السيدة فاطمة هي أشبه أخواتها بأبيها محمد بن عبد الله حتى أنها لقبت بأم أبيها للشبه الكبير به ، والمعروف أن رسول الله محمد بن عبد الله كان من خيرة شباب قريش أناقة وجمالا وشخصية واعتدالا وهذا خير رد على أولئك المفترين ، أمر آخر فإن فاطمة تقدم لها الكثير من العرسان وتقدم لها أبو بكر وعمر فاعتذر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي مجتمع المدينة المنورة يكفيها أنها ابنة رسول الله ليتقدم لخطبتها المئات بل الألوف من خيرة المهاجرين والأنصار إلا أن رسول الله كأنه كان يحتفظ بها زوجة لابن عمه الذي لم يمتلك من حظوظ الدنيا شيئا بينما امتلك الكثير من حظوظ الآخرة ، وهناك فرية أخرى يفتريها المنحرفون الضالون ألا وهي الغيرة والحسد والكراهية بين السيدتين الكريمتين الطاهرتين فاطمة بنت رسول الله وعائشة بنت صاحب رسول الله وخاصة عند بعض الطوائف المنحرفة الضالة الذين يكرهون السيدة عائشة ويتهمونها بأبشع الصفات والله جل وعلا قد برأها من فوق سبع سموات ، وللرد على هؤلاء فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها ) .. وبذلك نجد أن كلام هؤلاء الفاسدين المنحرفين مردود عليهم ، ولا عجب أن نرى أن الزهراء فاطمة قد كانت في طريقها إلى بيت الزوجية بعد خمسة أشهر من دخول عائشة بيت النبوة ..

 والواقع أن عليا كان يتحين الفرصة السانحة ليكلم رسول الله في فاطمة ولكنه كان يتريث لقلة ماله وضيق ذات يده ، فكيف يمكنه أن يطلب بنت رسول الله وهو لا يملك من متاع الدنيا أي شيء ، حتى البيت فهو لايملك البيت الذي سيعرس فيه ، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة خامره الأمل بأن الفرصة أصبحت مواتية لتحقيق رغبته خاصة حين علم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد تقدما لخطبة الزهراء فاطمة فردهما رسول الله برفق بالغ ، ولقد شجعه بعض الصحابة على التقدم لخطبة الزهراء وذكروا له قرابته من الرسول الكريم ومكانته عنده ومكانة أبويه من قبل عند رسول الله فقد كفله أبو طالب في صغره ورعته أم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم إضافة إلى أنه كان من السابقين إلى الإسلام ، عندها تشجع علي بن أبي طالب وأخذ طريقه إلى رسول اله فحياه وجلس قريبا منه على استحياء لايذكر حاجته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك أن عليا جاءه لأمر لايقوى على الإفصاح عنه فأقبل عليه يسأله في تلطف :

** ما حاجة بن أبي طالب ؟..

** أجاب بصوت خفيض وهو يغض من بصره : ذكرت فاطمة بنت رسول الله ..

** فقال عليه الصلاة والسلام : ( مرحباً وأهلاً ) .. ثم أمسك لايزيد على ذلك ..

 ظل علي بن أبي طالب صامتا حائرا قلقا لا يدري بماذا يجيب رسول الله على هذه الكلمة المقتضبة ولا يدري بماذا يجيب أهله وأصدقاءه الذين كانوا ينتظرونه بترقب فسألوه :

** ماذا قال لك رسول الله ..

** ما أدري والله شيئا .. تحدثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر فما زاد على قوله :

 ( مرحباً وأهلاً ) ..

** يكفيك من رسول الله كلمة واحدة منهما ..

 تشجع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه والأمل يحدوه ليتقدم وبشكل مباشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه في اليوم التالي فوقف من رسول الله غير بعيد وقال :

** أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ومالي من شيء ..

** التفت إليه رسول الله وسأله مترفقا : ( وهل عندك شيء ؟.. )

** لا يا رسول الله .. ماعندي شيء ..

** ( أين درعك التي أعطيتك يوم كذا ؟.. )

** أجاب علي وقد غلبه التأثر لما يلقاه من رسول الله من بر ولطف ورعاية : هي عندي يا

 رسول الله ..

** قال عليه الصلاة والسلام : ( أعطها إياها ) ..

 انطلق علي بن أبي طالب مسرعا وجاء بالدرع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ليجهز العروس بثمنها ، فتقدم عثمان بن عفان فاشترى الدرع بأربعمئة وسبعين درهما حملها علي بن أبي طالب إلى رسول الله ووضعها أمامه فتناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ثم دفع بعضها إلى الصحابي الجليل بلال الحبشي ليشري ببعضها طيبا وعطرا ثم دفع الباقي إلى أم سلمة لتشتري جهاز العروس ، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( انطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار قال : فانظلقت فدعوتهم فلما أخذوا مجالسهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله المحمود لنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع لسلطانه ، المهروب إليه من عذابه ، النافذ أمره في أرضه وسمائه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، ونيرهم بأحكامه ، وأعزهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمد ، إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا لاحقا وأمرا مفترضا ، وحكما عادلا ، وخيرا جامعا ، أوشج بها الأرحام ، وألزمها الأنام ، فقال عز وجل : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ، وأمر الله يجري إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قدره ، ولكل أجل كتاب ، يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي ، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي ، على أربعمئة مثقال من فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة فجمع شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأمة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) .. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشهدهم أنه زوج ابنته فاطمة من علي بن أبي طالب وختم خطبة الزواج بمباركته للعروسين الهاشميين والدعاء لهما بالذرية الصالحة ثم قدم إلى الضيوف وعاء فيه تمر ، بهذا الأسلوب المتواضع البسيط تمت خطبة فاطمة الزهراء بنت رسول الله سيدة نساء المسلمين في عصرها لابن عمها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما .. وبهذه البساطة التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا عقدت أهم وأخطر مصاهرة عرفها الإسلام بتاريخه الطويل ، بينما نجد البذخ والترف والإسراف في كل شيء في حفلات الأعراس التي تقام كل يوم لرجال ونساء ما وصلوا إلى الشرف الذي وصل إليه العروسان علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله رضي الله عنهما وبذلك تمت عقدة النكاح في شهر رجب بعد مقدمهم إلى المدينة المنورة ، وبنى بها بعد رجوع المسلمين من بدر في شهر المحرم من السنة الثانية للهجرة .. وأما ما يذكره المنحرفون الضالون من أن فاطمة بنت رسول الله قد تزوجت من علي زواجاً إلهياً مقدساً لتكون هي أم الأئمة المعصومين من آل البيت وغير ذلك من الأقوال الفاسدة المنحرفة فهذا كله تهويل وافتراء وكذب ما أنزل الله به من سلطان ولا يوجد له أي سند واقعي أوتاريخي صحيح وهو ابتداع وتهويل لأغراض في نفس هؤلاء المنحرفين الضالين ، إذ أن فكرة تقديس آل البيت بجملتها فكرة مبتدعة ابتدعها اليهودي عبد الله بن سبأ ليفسد على المؤمنين دينهم وليفرق أمة المسلمين رغم أن رسول الله حذرنا من هذه الفتنة حيث يقول : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله )

*************

أولاد فاطمة الزهراء

 لقد أكرم الله سبحانه وتعالى الزهراء فاطمة بأن جعل ذرية النبي الكريم في ذريتها وجعل عقب رسول الله في أولادها وأحفادها وحدها دون بقية أبنائه وبناته ، لأن أبناء النبي الذكور ماتوا جميعاً وهم أطفال أما بتاته فلم يتركن وراءهن أطفالاً ما عدا السيدة زينب بنت رسول الله التي أنجبت علياً والذي مات صغيراً وأمامة بنت أبي العاص والتي تزوجها الإمام علي بعد فاطمة الزهراء وبطلب منها ولكنها لم تنجب له أولاداً ، ولقد روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لم يبعث الله نبيا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري فإن الله جعل ذريتي من صلب علي ) .. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي ، وكل ولد أب فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم ) ..

 ولقد كان من نتاج هذا الزواج الميمون أولاد فاطمة الزهراء وأحفاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خاصة أن جميع أولاده وأحفاده الذكور قد ماتوا وهم صغار في حياة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، فكانت ولادة الحسن بن علي في السنة الثالثة للهجرة ، وولادة الحسين بن علي بعد عام واحد في السنة الرابعة للهجرة وولادة زينب بنت علي الشهيرة بعقيلة بني هاشم والتي تعرف بزينب الكبرى وذلك في السنة الخامسة للهجرة ، وولادة أم كلثوم بنت علي في السنة السابعة للهجرة ، وقد اختلف في العام الذي ولد فيه محسنا وكذلك في العام الذي مات فيه ، أما ما يرويه بعض السفهاء الضالين المنحرفين من أن الزهراء فاطمة كانت حاملاً بمحسن وأسقطت حملها حين ضربها عمر بن الخطاب ضربا مبرحا فهذا كله محض افتراء وكذب على صحابة رسول الله المقربين المبشرين بالجنة فقد كانت السيدة فاطمة وأولادها وزوجها محل احترام وإجلال وتقدير من جميع الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب وذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم ..

 تفتح قلب الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم للحفيدين الغاليين ووجد فيهما متنفسا كبيرا لما يفيض به قلبه الكبير من حب وعاطفة للأولاد بعد أن مات له كل أولاده الذكور خاصة وأنه قد وصل إلى سن السابعة والخمسين من عمره ، لقد كان اسما الحسن والحسين نغمة حلوة في فم الرسول الكريم يستعذبها ولا يمل من ترديدها لأنه يرى فيها أنسه عمن فقد من أبنائه وبناته وأحفاده ، روى الطبراني عن فاطمة بنت محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله ما من نبي إلا وولد الأنبياء غيري ، وإن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى ) .. وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لفاطمة : ( ادعي ابنيَّ فيشمهما ويضمهما ) ..

 وفي العام الخامس للهجرة ولدت فاطمة بنتا سماها رسول الله زينب بنت علي بعد وفاة خالتها زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فكانت له سلوانا عن ابنته الفقيدة الغالية زينب بنت محمد ، وفي العام السابع للهجرة ولدت فاطمة ابنتها الثانية فسماها جدها رسول الله أم كلثوم بنت علي ، على اسم خالتها أم كلثوم بنت محمد ، وهكذا كانت فاطمة الزهراء في سباق مع الزمن لتنجب أكبر عدد من الأولاد لتقر بهم عين والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لقد كان رسول الله يرنو دائما إلى بيت ابنته فاطمة وقلبه الكريم يخفق حبا وعطفا وحنانا عليها وعلى زوجها وأولادها الكرام رضي الله عنهم وإذا وجد سعة من الوقت دخل دار الأحبة فسعد وأسعد أهلها بعطفه وحبه وأسبغ على السبطين الحبيبين فيضا من حنانه ، روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال : ( طرقت بيت النبي في بعض الحاجة فخرج وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ــ أي ملتف ــ فلما فرغت من حاجتي قلت ما هذا الذي أنت مشتمل عليه يا رسول الله ، فكشفه فإذا هما الحسن والحسين وقال : هذان ابناي وابنا إبنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ) .

 ولقد كان أبو محمد الحسن بن علي رضي الله عنه سبط رسول الله صلى الله علية وسلم وريحانته أول أولاد الزهراء فاطمة فقد ولد في الخامس عشر من رمضان من العام الثالث للهجرة أي بعد الزواج الميمون بعام واحد أو يزيد قليلا ، ولقد كان رسول الله يحبه حبا شديدا حتى كان يقبل ذبيبته ويعانقه ويداعبه ، وكان يصعد ظهر الرسول الكريم وهو ساجد فيطيل السجود من أجله ، ولقد روي عن أسامة بن زيد حب رسول الله أنه قال : ( كان النبي يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمنا ثم يقول : اللهم ارحمهما إني أرحمهما ) .. وعن البراء بن عازب قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه وهو يقول : اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ) .. وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه ريحانتي من الدنيا وإن ابني هذا سيد وعسى الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين ) .. ولقد تحقق هذا الأمر في الصلح الذي أقره مع معاوية فوحد الأمة وحقن دماء المسلمين وأصلح الله به بين فئتين كبيرتين من المسلمين كادت الحرب أن تمزق أوصالهم وكان الحسن بن علي سبط الرسول الكريم أشبه الناس برسول الله في وجهه رضي الله عنه وأرضاه ، كان سيدا حصيفا ذكيا تقيا قال له بعضهم لقد كنت تسعى للخلافة فقال : ( لقد كانت جماجم العرب يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت تركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) ...

 أما أبو عبد الله الحسين بن علي رضي الله عنه فقد كان الولد الثاني لفاطمة الزهراء والسبط الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت ولادته بعد ولادة الحسن بعام واحد تقريبا وذلك في الخامس من شعبان من العام الرابع للهجرة ، ولقد كان رسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويحمله على عاتقه الشريف ويلاعبه مع أخيه الحسن حتى قال فيه : ( أحب الله من أحب حسينا ) .. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء الحسن والحسين فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد فأراد الناس زجرهما فلما سلم قال للناس : ( هذان ابناي من أحبهما فقد أحبني ) .. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى ) .. ولقد بشره رسول الله بالجنة حين قال : ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين ) .. قال عبد الله بن الزبير عند مقتل الحسين رضي الله عنه : ( أما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه ، كثيرا في النهار صيامه ، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغناء والملاهي ، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء ، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام ، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد ) .. والجدير بالذكر هنا أن جبريل عليه السلام أخبر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمصرع الحسين وآل بيته في كربلاء كما جاء في مسند الإمام أحمد ونقله بن الأثير أن رسول الله أفضى بهذا الخبر إلى أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فلما قتل الحسين رضي الله عنه أعلمت الناس بذلك ، ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته يجل الحسن والحسين ويعظمهما ويكرمهما ثم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته يحب الحسن والحسين ويجلهما ويكرمهما كذلك .. وكان عثمان بن عفان في خلافته كذلك حتى أن الحسن بن علي كان يوم حصار الخليفة الشهيد عثمان بن عفان متقلدا سيفه بنافح عن الخليفة الشهيد عثمان بن عفان ضد المعتدين فخشي عثمان عليه فأقسم عليه أن يرجع بيته خوفا عليه رضي الله عنهم وأرضاهم .. هذا وقد ذكر الرواة والمؤرخون أن فاطمة رزقت بولد ثالث اسمه محسنا ولكنه مات صغيرا ..

 أما بنات فاطمة الزهراء بنت رسول الله من علي بن أبي طالب فهما زينب وأم كلثوم ابنتا علي سماهما الرسول تيمنا بأسماء بناته زينب التي توفيت قبل ولادة زينب بوقت قصير وأم كلثوم التي مالبثت أن لحقت بأختها فكانت زينب وأم كلثوم ابنتا علي رضي الله عنهما هما سلوان رسول الله عن ابنتيه الفقيدتين فيما بعد ، ولدت زينب بنت علي بن أبي طالب عقيلة بني هاشم رضي الله عنها في السنة الخامسة للهجرة فكان من يمنها وقوع صلح الحديبية الذي أفاء الله به على المسلمين بعد ولادتها بوقت قصير ، أما أختها أم كلثوم فقد ولدت بعدها بسنتين في السنة السابعة للهجرة والتي تزوجها الفاروق عمر بن الخطاب أمير المؤمنين قبل البلوغ في حداثة سنها ، ولقد كان للسيدة زينب بنت علي دور كبير في أحداث كربلاء المفجعة سيتم عرضها وبشكل مفصل عند الحديث عنها في كتاب مستقل بإذن الله ..

********

مكانة الزهراء فاطمة

 للسيدة فاطمة الزهراء بنت محمد رضي الله عنها مكانة عظيمة تماماً كبقية آل بيت رسول الله من أزواجه أمهات المؤمنين وأولاده وأحفاده ، ولقد أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً جماً في بداية حياتها لصغر سنها فهي أصغر أولاده الذين بقوا معه على قيد الحياة ، ولأنها الوحيدة التي بقيت معه حتى آخر حياته عليه الصلاة والسلام ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحنو عليها لضعف بنيتها ومرضها خاصة وأنها عاشت جلَّ حياتها في الفقر والمرض والحرمان وشظف العيش وخشونة العيش مع زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العكس من كل أخواتها اللواتي عشن حياة ثراء رغيدة مع أزواجهن ، ونظراً لأن الزهراء فاطمة عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت رعايته الكريمة أطول مدة ممكمة فقد تعلمت الكثير من رسول الله من الفقه وأحكام الدين والعلوم الشرعية حتى أصبحت فقيهة زمانها خاصة في ما يخص فقه النساء ، كما شهدت نزول الوحي ونزول القرآن الكريم على رسول الله في أوقات كثيرة وروت عدداً من الأحاديث النبوية الشريفة ، وقد ورد في فضلها ومكانتها بعض الأحاديث النبوية الشريفة حتى أن الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها كانت تقول : ( ما رأيت احداً قط أفضل من فاطمة غير أبيها رسول الله ) .. كانت الزهراء فاطمة صاحبة دين وتقى وورع ، وكثيرة التعبد والخشية من الله جل وعلا ، ولكن على الرغم من تأكيدنا على فضل ومكانة السيدة فاطمة الزهراء إلا أن كثيرا من المنحرفين الضالين أخذوا يبتدعون كمّاً هائلاً من الصفات والفضائل حتى وصلوا في كثير من الأحيان إلى درجة التقديس والتأليه للسيدة فاطمة الزهراء وهذا كله منكر وباطل وانحراف لايزيد في فضل السيدة فاطمة ومكانتها من قريب أو بعيد ، نحن نحب السيدة فاطمة بنت رسول الله لمحبة رسول الله لها ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران ) .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها ) .. وروي عن أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة أنها قالت : ( ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحدبثاً برسول الله من فاطمة ، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها وكذلك كانت هي تصنع ) .. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة ) .. وهذا الحديث يتوافق مع الآية القرآنية التي تتحدث عن مريم بنت عمران : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) .. بينما نجد كلام المنحرفين الضالين عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها مليء بالالخرافات والبدع والصفات المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، فلقد جمعت من كتب اولئك المنحرفين كثر من ألف وخمسمئة اسم للزهراء فاطمة لا أدري من أين أتوا بهذه الأسماء ، وقد رفعوا مرتبتها من خلال تلك الأسماء إلى مرتبة القداسة والوحي والعصمة وصفات كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان ولا تليق بالمؤمنين الطاهرين الطيبين فضلاً عن حبيبة رسول الله فاطمة بنت محمد رضي الله عنها خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله ) .. ولقد جاء في الحديث الشريف أيضا : ( أن الله جل وعلا خيره في بداية البعثة أن يكون ملكاً رسولاً أو أن يكون عبداً رسولاً فقال : بل عبداً رسولاً يارب ، أجوع يوماً فأذكرك وأشبع يوماً فأشكرك ) .. بهذا التواضع والبساطة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أزواجه وبناته رضي الله عنهن جميعا ، ولا أريد هنا أن استعرض أقوال الفاسدين الضالين المنحرفين عن فاطمة الزهراء بنت رسول الله رضي الله عنه وأرضاها لكي لا أفسد على القارئ الكريم صفاء هذا الحديث عن بيت النبوة ولكني سأذكر بعض هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر مثل : ( بضعة رسول الله والحقيقة أن كل أبناء رسول الله وبناته بضعة منه ، سيدة آل البيت ، وأم الأئمة الإثنى عشر ، وأم الأئمة المعصومين ، وقال بعضهم إن الله سماها فاطمة لأنه فطمها ومحبيها عن النار ، وقال بعضهم إن خديحة لم تشعر بحمل فاطمة لأن الملائكة كانت تحملها ، وأن فاطمة كانت تكلم أمها خديجة وهي جنين في بطنها ، وقال بعضهم سميت بالزهراء لأنها كانت تزهر لأهل السماء كما تزهر النجوم لأهل الأرض ، وقيل سميت بالبتول لأنها لم يصبها الحيض والنفاس في حياتها قط ، فلا أدري كيف ولدت جميع أولادها دون حيض أو نفاس ، وقال بعضهم إن فاطمة تزوجت من علي زواجاً إلهيا قدسيا لم تعرفه البشرية أبداً حتى في زواج الرسول الكريم من خديجة ) وهذه المغالات والتقديس والانحرافات التي يطلقها الغلاة المنحرفون لاتزيد الزهراء فاطمة شرفاً ورفعة فهي الصديقة الطاهرة البتول دون أن نعطيها من الصفات أكثر مما تتصف به رغم احترامنا ومحبتنا للزهراء فاطمة بنت رسول الله وهناك العديد من الصفات الأخرى التي يطلقها الغلاة المنحرفون ضربت صفحاً عنها في هذا الكتاب ولكنني سأخصص لهذا الموضوع كتاباً مستقلاً للدفاع عن آل بيت رسول الله الذي يضم جميع أزواجه وأبنائه وبناته وأحفاده للرد على أمثال هؤلاء السفهاء بالحجة والمنطق السليم والأدلة القاطعة خاصة وأنني أنتسب إلى هذه الشجرة الطيبة المباركة إلى جدتي الزهراء فاطمة رضي الله عنها وأرضاها ..

 ولدت الزهراء فاطمة ولادة طبيعية تماماً كبقية أخواتها دون أن يكون لها في ولادتها أية صفة أو ميزة إضافية عن بقية أخواتها سوى أنها الصغيرة المدللة وآخر العنقود لأنها أصغر بنات الرسول ، وهذا أمر طبيعي عند معظم الآباء في تدليلهم أصغر الأبناء ، فقد سئلت أعرابية من أحب أبناءك إليك فقالت : ( الصغير حتى يكبر ، والمريض حتى يشفى ، والمسافر حتى يعود ) .. أما اعتقاد بعض المنحرفين أن فاطمة تشكلت من تفاحة من الجنة أكلها رسول الله فصارت نطفة في صلبه كانت منها فاطمة فهذا محض افتراء على فاطمة أولاً وعلى رسول الله ثانيا خاصة وأن ولادة فاطمة كانت قبل البعثة ، وكذلك الكثير من الترهات والخرافات التي يسوِّق لها المنحرفون الضالون مثل قولهم أن فاطمة تمتلك العصمة كالأنبياء وكان يأتيها الوحي من السماء وأن نساءً من حوريات الجنة نزلوا لتوليد خديجة أثناء ولادتها بفاطمة فهذا كله وغيره محض افتراء ويحتاج إلى دليل ، خاصة وأن فاطمة قد ولدت قبل البعثة فمن أين كل هذه الافتراءات والأضاليل والرسول ذاته لم يبلغ بالرسالة ولم يأته الوحي بل لم يعرف الوحي آنذاك ..

 إن فضائل الزهراء فاطمة بنت رسول الله كثيرة جداً فهي التي بذلت وضحت في سبيل الإسلام وفي سبيل إعلاء كلمة الله ، وهي التي تعلمت وتفقهت في بيت النبوة ، وهي التي قامت على خدمة أبيها رسول الله ورعايته حتى آخر حياته فكانت نعم الفتاة المؤمنة الطاهرة التقية النقية البارة بأبيها رسول الله ، ولكن رغم فضلها ومكانتها في الإسلام إلا أن ذلك لا يرفعها إلى مرتبة القداسة والعصمة والوحي وأحياناً التأليه والعياذ بالله ، مما يطلقه المنحرفون الضالون المخالفون لمنهج الإسلام ولحدبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الإطراء ، فكيف يتجرأ أمثال هؤلاء المنحرفين على إطراء السيدة فاطمة وتعظيمها وتقديسها وإضفاء صفات الإلهام والوحي والعصمة عليها وعلى أبنائها وأحفادها ، فهذا كله محض افتراء وابتداع مرفوض ومردود على أصحابه وانحراف عن خط الدين الإسلامي القويم الذي حرم الابتداع في دين الله أصلاً فقال عليه الصلاة والسلام : ( وإياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) .. نحن نحب فاطمة بنت رسول الله كما نحب أخواتها الطيبات الطاهرات فكلهنَّ من رسول الله دون تفريق أو تفريط أو تعظيم أو تهويل أو انحراف عن خط الفطرة الإسلامية السليمة

**********

فتح مكة المكرمة

 الأيام تمضي سراعا والإسلام يشتد عزيمة ومضاء والرسول الكريم محمد رسول الله يسير من نصر إلى نصر ومن نجاح إلى نجاح ودعوة الله تنتشر بين قبائل العرب كما تنتشر النار في الهشيم ، وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف عظيم يداعب خياله وفكره وأحلامه ذلك هو مكة المكرمة التي فيها المشاعر المقدسة وفيها بيت الله الحرام قبلة المسلمين وأول بيت مقدس وضع للناس وقبلة المسلمين ، لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحطم كبرياء قريش وأن يحطم الشرك والكفر وأن يحطم الأصنام والأوثان لأن قريشا بقوتها وزعامتها للعرب تقف حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام بشكل كامل بين القبائل العربية كلها ، ثم بعد ذلك لينفتح المجال واسعا أمام دعوة الله لتصل إلى جميع أقطار العالم كما هو الحال الآن ، لقد كان هذا الحلم الكبير يتراءى للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم في كل لحظة ، مكة المكرمة ، البقعة المقدسة ، المشاعر المقدسة ، بيت الله العتيق ، أول بيت مقدس وضع للناس ، مكة المكرمة مكان ولادته ومرتع صباه ومكان زواجه من أم المؤمنين خديجة ومكان ولادة جميع أولاده من خديجة ، مكة المكرمة موطن البعثة وبداية النبوة وبداية الوحي الذي وصل الأرض بالسماء ، مكة المكرمة التي لاقى فيها كل خير ولاقى من أهلها كل عداوة وشر ، مكة المكرمة موطن قريش العدو الأكبر المعاند المشاكس لانتشار الإسلام ، مكة المكرمة التي أحبها رسول الله وقال لحظة خروجه منها : ( والله إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قريشا أخرجتني منك ما خرجت ) .. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد العودة إلى مكة بعد خروجه منها منذ ثماني سنوات أو تزيد بعد أن بنى دولة الإسلام في المدينة المنورة ..

 كانت فاطمة الزهراء بنت رسول الله تشهد أباها وهو يمسح ظلمات الكفر بنور الإسلام والإيمان ويقترب من الهدف الكبير الذي وضعه نصب عينيه وهو تحطيم دولة الكفر والشرك وتحطيم دولة الباطل وذلك بفتح مكة المكرمة ، وبعدها سينفتح الطريق وستدخل جميع القبائل العربية في دين الله أفواجا ، كانت الزهراء فاطمة تتأهب مع والدها وأختها أم كلثوم وزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم ، وكذلك مع جيش المسلمين للسفر إلى مكة قبيل الفتح وكأنها تتأهب للذهاب برحلة سياحية رغم أنها الحرب ورغم أن قريش لن تسلم زعامتها وعزتها وشرفها لمحمد بن عبد الله بسهولة ويسر ، ولكنها كانت واثقة بالله أولا ثم بجيش المسلمين الذي خرج بأمر من الله وفي سبيل الله وعلى بركة الله ، كانت تمني نفسها بالعودة المباركة إلى البلد المبارك الذي غابت عنه ثماني سنوات ، كانت الزهراء تسائل نفسها هل بقيت مكة على العهد بها قبل الهجرة أم أنها تغيرت مع تغير الأيام ؟.. وهل بقي بيت النبوة في مكة المكرمة كما كان قبل سنوات أم عبثت به أيدي الطغاة من المشركين بعد خروج النبي وأهله مهاجرا إلى المدينة ؟.. ترى من يسكن في دارهم في مكة ؟.. وماذا عن الكعبة الشريفة إنها في أشد الشوق إلى بيت الله الحرام ، أما يزال الناس يعظمونها ويحجون إليها ؟.. أما تزال الأصنام والأوثان مزروعة في ساحة الحرم المقدس ؟.. ثم أخذت معالم البلد الحبيب مكة المكرة تمر بخاطرها وفكرها مر السحاب تتذكر مثوى أمها تتذكر مرتع طفولتها ، تتذكر رفيقات الطفولة والصبا الذين تركتهم وهاجرت ، تتذكر بيت أختها زينب وبيت عمها أبي لهب وزوجته حمالة الحطب ..

 وفي أيام الاستعداد لفتح مكة كان هناك في مدينة رسول الله داهية من دهاة العرب يستطلع الأخبار حتى أبلغ قريشا بتأهب محمد بن عبد الله لفتح مكة المكرمة بجيش كبير لاطاقة لقريش به ، كان هذا الداهية هو أبو سفيان بن حرب قائد قوافل قريش إلى بلاد الشام وحامل لواء المشركين وزوج آكلة الأكباد هند بنت عتبة التي صنعت ما صنعت بشهداء أحد ، نظر أبو سفيان بن حرب فرأى من قوة الإسلام ومن استعداد جيش المسلمين للزحف على مكة ما روَّعه وأذهله فأخذ يبحث عن ملجأ آمن يلوذ به ، فدخل أول ما دخل على بيت ابنته أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة فما كاد يهم بالجلوس على فراش رسول الله حتى طوته وأبعدته عنه كراهية أن يجلس عليه وهو مشرك ورفضت جواره وردته من حيث أتى فانصرف محزونا كئيبا حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيئا ، فذهب إلى أبي بكر الصديق فرده ، ثم ذهب إلى عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع له عند رسول الله فأبى عمر بن الخطاب وقاال له : بعزة المؤمن : ( أنا أشفع لكم إلى رسول الله فوالله لولم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ) .. وهنا ذهب أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب فجلس عنده كرامة لصحبته مع أبيه أبي طالب وصمت طويلا ثم قال : ( إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لي عند رسول الله ) .. قال علي : ( ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه ) .. فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة الزهراء فقال لها وهو يشير إلى ابنها الحسن الذي استيقظ لتوه من النوم : يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟.. فقالت فاطمة : ( والله ما بلغ ابني هذا أن يجير بين الناس وما يجير أحد من المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرف أبو سفيان مخذولا مدحورا وجلس الزوجان الكريمان علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله يتحدثان عن عجائب القدر وعاديات الزمان حتى غلبهما النعاس فناما ..

 سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة بجيش يزيد على عشرة آلاف من المسلمين المجاهدين الأشداء ، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من العام الثامن للهجرة ، وخرجت فاطمة الزهراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبة زوجها وأولادها ليشهدوا المعركة الفاصلة والعودة الظافرة إلى البلد الحبيب مكة المكرمة ، إلى بيت الله الحرام ، إلى الكعبة المشرفة ، إلى مراتع الطفولة والصبا ، وعندما يقترب جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم القرى يزداد الشوق والحنين في نفس فاطمة الزهراء وتغمر الفرحة قلبها ، وتعمر الغبطة أرجاء نفسها حتي بلغ جيش الرسول الكريم منطقة ( مر الظهران ) عسكر النبي بجيشه ليعد ويخطط للمعركة الفاصلة بين الإسلام والكفر بين الإيمان والشرك ، بين عبادة الله الواحد القهار وعبادة الأصنام والأوثان ، وبنى المسلمون للنبي الكريم عريشا يأوي إليه من حر الصيف القائظ ، ولم يكد النهار يودع وجه الأرض حتى أقبل داهية العرب ( أبو سفيان بن حرب ) حامل لواء المشركين فبات طوال الليل على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر السماح له بالدخول إلى رسول الله ، ولما أصبح الصباح سمح له بالدخول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلن إسلامه أمام رسول الله فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافأه ثم انطلق عائدا إلى مكة المكرمة ، فصعد مكانا مرتفعا بحيث يسمعه أهل مكة ونادى بأعلى صوته معلنا شروط رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر قريش هذا محمد بن عبد الله قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ) .. وظل أبو سفيان بن حرب ينادي بأعلى صوته حتى سمع أهل مكة كلهم ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد الحرام وقلة قليلة من أصحاب أبي سفيان لجأوا إلى داره ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيم جيش المسلمين فقسمه إلى عدد من الفرق لكل فرقة عملها ومهمتها ونقطة دخولها إلى مكة المكرمة ثم كانت الرايه الأساسية لجيش المسلمين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان أول الداخلين إلى مكة المكرمة مع رسول الله حيث كان دخولهم من منطقة ( أذاخر ) ونزل بأعلى مكة المكرمة ، وبدات كتائب المسلمين تتدفق إلى مكة المكرمة من كل جهاتها ومداخلها حسب الخطة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بمكة حتى احاط جيش المسلمين بمكة المكرمة إحاطة السوار بالمعصم ودخل النبي الكريم إلى مكة المكرمة على راحلته من منطقة ( ذي طوى ) والصحابة الكرام حوله محنيا رأسه تواضعا وذلا لله جل وعلا الكبير المتعال الذي هيأ لرسوله هذا النصر المؤزر دون إراقة قطرة واحدة من الدماء .. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكرا متضرعا إلى الله الذي حمى هذه الدعوة المباركة ورعاها منذ اليوم الأول وحتى النصر النهائي على قريش أولا ثم على القبائل العربية كلها ثانيا ثم بعد ذلك انتشرت دعوة الإسلام العظيم في أرجاء المعمورة كلها ، وهنا قام المسلمون ببناء قبة واسعة في أعالي مكة المكرمة قريبا من قبر أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ليشرف بنفسه على سير المعركة الفاصلة وكانت فاطمة الزهراء وأختها أم كلثوم مع النبي الكريم في قبته وعلائم البشر والفرح على وجهيهما بالعودة الكريمة إلى البلد الكريم ، وتدفقت كتائب الفتح المبين من كل جهات مكة كالسيل الهادر تحيط بالمدينة المقدسة من كل جانب ولم يتجرأ واحد من المشركين على حمل السلاح وقتال جيش المسلمين ، لقد كانت معركة فاصلة ولكنها دون إراقة قطرة واحدة من الدماء فلقد استسلم المشركون جميعهم وألقوا سلاحهم ولم ييتجرأوا على مواجهة تلك الجموع المتدفقة من المسلمين إلى مكة المكرمة وهي تكبر : ( الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد .. لا إله إلا الله وحده .. نصر عبده .. وأعز جنده .. وهزم الأحزاب وحده .. لاشيء قبله ولا شيء بعده ) .. وفي هذا الوقت بالذات دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت الحرام ، إلى جوار الكعبة المشرفة ، فأخذ مع نفر من أصحابه يحطمون الأصنام التي كانت منتشرة حول الكعبة والرسول يتلو قوله تعالى : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ...

 استراح النبي الكريم فترة قصيرة في قبته حتى اطمأن أن جيش المسلمين قد سيطر سيطرة كاملة على كل أرجاء مكة المكرمة ومداخلها ومنافذها وأطرافها ، ولم يعد باستطاعة أحد من المشركين أن يبدي أية مقاومة وإنما استسلام كامل لجيش رسول الله ، عندها خرج رسول الله حتى جاء إلى البيت الحرام وسط جموع المسلمين الزاخرة فطاف بالبيت العتيق سبعا على راحلته ثم أمر ففتحت الكعبة المشرفة فوقف ببابها ودعا الناس من أهل مكة فخطب فيهم خطبة يدعوهم فيها إلى الإسلام وإلى عز الدنيا والآخرة ثم توجه بالقول إلى المشركين من أهل مكة فقال لهم : ( يا معشر قريش ما ترون أني فاعل يكم ؟.. قالوا أخ كريم وابن أخ كريم .. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .. بهذه المعاملة الكريمة السامية التي لا يمكن أن تصدر إلا عن نبي من أنبياء الله عامل الرسول أعداء الأمس الذين اعتدوا عليه وآذوه أيما إيذاء وأخرجوه من بلده وداره مهاجرا في سبيل الله ، وبهذه المعاملة السامية الكريمة والخلق الطيب الكريم استطاع رسول الله أن يسيطر على قلوب أعدائه من المشركين فدخلوا في دين الله أفواجا وآمن معظم أهل مكة بعد ذلك لرسول الله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وبهذا الموقف النبيل نزل قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) ...

 وأقبل المساء هنيئا نديا بعد نهار قائظ مليء بالأحداث الجسام وبعد أن تم الفتح المبين على النبي الأمين وأصحابه الغر الميامين من الأنصار والمهاجرين ، وبات العائدون من أهل مكة يضيفون إخوانهم من الأنصار الذين أضافوهم أحسن الضيافة قبل ثماني سنوات ، لقد كان هذا اليوم الميمون من أيام مكة المكرمة نقطة التحول في تاريخ الإسلام العظيم حيث انتشر دين الإسلام في ربوع جزيرة العرب كالنار في الهشيم ودخل الناس كل الناس في دين الله أفواجا ، كانت فاطمة الزهراء بجانب الوالد الكريم محمد عليه الصلاة والسلام تنعم بالنصر المبين على المشركين وتسرح في الخيال عبر الأيام والشهور والسنين التي مرت عليها صعبة قاسية ولكن بعد الصبر جاء الفرج وأنعم الله على المسلمين بالنصر المؤزر والفتح المبين ، وفي مثل هذه اللحظات المباركة الحالمة تذكرت الزهراء فاطمة أمها خديجة وتذكرت عمها أبا طالب وتذكرت حصار الشعب الجائر وتذكرت قسوة وضراوة الأحداث السابقة ، تذكرت الزهراء فاطمة أختيها زينب ورقية اللتان وافتهما المنية وضمهما ثرى طيبة الطيبة قبل أن تكتحل عيونهما بالعودة المباركة إلى مكة ظافرين منتصرين ، تذكرت مدارج الطفولة في البيت السعيد والأحداث الكثيرة التي عاشتها في الأيام السالفة وبينما هي غارقة في أحلامها طلع الفجر عليها فأمر رسول الله بلالا أن يصعد ظهر الكعبة المشرفة يؤذن لصلاة الفجر من فوق الكعبة المشرفة فيخشع الكون لذكر الله وإقامة الصلاة ويخرج المؤمنون الطيبون من مضاجعهم يحثون الخطى ليلبوا النداء في أول صلاة جامعة في الحرم المكي الشريف ..

 وهنا تساءلت السيدة فاطمة الزهراء عن دارهم فهي تحلم بالعودة إليها ولكنها علمت أن عقيل بن أبي طالب قد سكن بها بعد أن تركها النبي وهاجر إلى المدينة ، لقد أرادت الزهراء فاطمة أن تعود إلى دارها وتستقر في بيت النبوة الأول ولكن إرادة الله وإرادة رسول الله كانت غير ذلك ، فما لبثوا في مكة غير شهرين حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وأصحابه للاستعداد للرحيل والعودة من جديد إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى طيبة الطيبة بعد أن من الله على رسوله بالنصر المؤزر والفتح المبين وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ماتقدم من ذنبك وما تأخر ) ..

*********

حجة الوداع

 لقد كان من يمن الزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رافقت رسول الله في حجة الوداع دون جميع أخواتها ، وذلك لتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى مكة والمشاعر المقدسة لأداء هذه الفريضة العظيمة التي فرضها الله على الناس من لدن خليل الله إبراهيم عليه السلام ، وذلك نظرا للظروف الصعبة والحرب الشديدة الشرسة التي لم تنقطع لحظة من اللحظات بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين الطيبين الطاهرين من جهة ، وبين المشركين من قبائل العرب وعلى رأسهم قريش التي كانت تمتلك شرف الرفادة والسقاية والضيافة وتنظم أمور الحج لكافة القبائل العربية وتستقبل وفود الحجاج من كل حدب وصوب ، لذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطع الحج إلى بيت الله الحرام بعد الهجرة إلى المدينة وبقي في المدينة المنورة يعد ويستعد لهذا اليوم العظيم بعد أن ينتصر على قريش وعلى كل القبائل العربية .. ولكن بعد فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة وانتصار المسلمين انتصاراً ساحقاً على المشركين واعلان كلمة التوحيد وتحطيم الأصنام وإقامة دولة الإسلام ، دولة التوحيد الزاهرة بعد تحطيم دولة الكفر الخاسرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يحن إلى بيت الله الحرام وإلى المشاعر المقدسة التي قدسها الله جل وعلا من لدن أبينا إبراهيم بل منذ أبينا آدم عليهما السلام وحتى هذه اللحظة وفي ذلك يقول ربتا جل شأنه : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة فيه هدى للناس ) ..لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج إلى مكة المكرمة بعد سقوط دولة الشرك ة وقيام دولة التوحيد وتحطيم الأصنام والأوثان إلى الأبد ولكن ثقل الأعباء والمسؤوليات في بناء دولة الإسلام الجديدة في المدينة المنورة قد أشغله قليلاً عن هذا الهدف الجليل ، فمنذ فتح مكة المكرمة أصبح للإسلام دولة قوية راسخة وتحولت دولة الإسلام من دولة صغيرة محلية إلى دولة عالمية ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يراسل الملوك والأمراء والزعماء والقواد ويعرض عليهم هذا الإسلام العظيم ، لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينه تسع سنين لم يحج خلالها ولما جاء أمر الله أذن في الناس بالحج فاجتمع في المدينة بشر كثير ممن سهل الله لهم أمر الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة كانت الزهراء فاطمة تعد العدة للسفر إلى مكة المكرمة والغبطة تملأ كيانها والفرح والسرور يظهران على محياها وذلك بعد أن جاء الأمر الإلهي من السماء بالحج في هذا العام وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحض على اداء الركن الخامس من الإسلام حيث يقول جل وعلا : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات ) .. وقوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) .. ولكن هذه المرة جاء الأمر الإلهي صريحا واضحا مخصصا للحج في هذا العام ، فقد أرسل رسول الله رجاله للدعوة للحج وقال لهم : ( إن الله قد أمركم بالحج فحجوا ) .. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة من الله آت فقال صلِ ِ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ) .. أخذت فاطمة الزهراء رضي الله عنه وأرضاها تتجهز للرحلة العظيمة فهي في أشد الشوق إلى مكة المكرمة مسقط رأسها ومرتع صباها ولكنها في هذه اللحظة بالذات تذكرت أخواتها اللواتي طواهن الثرى في طيبة الطيبة فدمعت عيناها حزنا عل فراقهن خاصة في مثل هذه الرحلة الميمونة المباركة ، لقد سارعت الزهراء فاطمة إلى تلبية داعي الله في الحج بصحبة زوجها علي بن أبي طالب ووالدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كانت تتوق لتلبية داعي الله في الحج والعمرة خاصة وأنها كانت الحجة الأولى بالنسبة لها .. وأخذ المسلمون في المدينة يتجمعون ويتجهزون للذهاب مع رسول الله الديار المقدسة في أول حجة بعد فتح مكة بل أول حجة بعد الهجرة إلى المدينة المنورة .. لقد استعد معظم المسلمين للذهاب إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة تلبية لدعوة الله واستجابة لنداء خليل الله ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام إذ قال : ( اللهم إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) .

 صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في الخامس والعشرين من ذي القعدة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه ، ولما كان عند ميقات ذي الحليفية صلى فيها العصر ركعتين وصلى بها المغرب والعشاء وبات بها حتى الصبح فصلى بأصحابه الصبح ثم أخبرهم أن الوحي قد جاءه في الليل يعلمه ما يطلب في الإحرام وقال عليه الصلاة والسلام : ( أتاني الليلة آت من ربي فقال صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ) .. أقام ليلته تلك في ذي الحليفية وطاف على نسائه كلهن فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : ( كنت أطيب رسول الله ثم يطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضح طيباً ) .. ثم استوى على راحلته فحمد الله عز وجل وسبحه وأثنى عليه وأمر أصحابه أن يأخذوا مناسكهم من أفعال رسول الله وسار بالحجيج تجاه مكة المكرمة فلبى وكبر وأهل بالحج والعمرة معاً ...

 ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة في أوائل ذي الحجة طاف بالبيت سبعاً وسعى بين الصفا والمروة سبعاً ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفات فأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت ويسعوا بين الصفا والمروة ثم يحلقوا أو يقصروا ثم يحلوا وذلك لمن لم يكن معه بدنة .. وكانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) والتلبية واجبة فقد روي أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج ) .. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح ثلاثاً وستين بدنة وأعطى عليا فذبح باقي المئة من الهدي الذي ساقه المسلمون إلى حجة الوداع ، وكان رسول الله إذا رأى بيت الله الحرام يرفع يديه إلى السماء ويقول : ( اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيماً وتكريماً ومهابة ً وزد من شرَّفه وكرَّمه وحجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ويسراً ) ..

 سميت هذه الحجة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المؤمنين الطيبين الطاهرين بحجة الوداع لأن رسول الله قد ودع أصحابه فقال : ( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) .. وبالفعل فقد انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى ولم يحج بعد حجة الوداع مرة أخرى ، وكانت حجة رسول الله حجة متواضعة بسيطة لابذخ فيها ولا رياء وهو يقول : ( اللهم اجعلها حجة غير رياء ولا مناً ولا سمعة ) ..

**********

وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 عاد المسلمون بعد فتح مكة المكرمة وبعد أن حطموا معقل الشرك والكفر وقضوا قضاء مبرما على الأصنام والأوثان وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، عاد المسلمون بقيادة رسول الله إلى مدينة طيبة الطيبة بعد أن قضوا على زعامة قريش للقبائل العربية وبدأ الإسلام يمتد وينتشر في الجزيرة العربية بشكل واسع وفي كل الاتجاهات ليصل إلى اليمن وحضرموت ونجد وغرب وشمال وجنوب وشرق الجزيرة العربية حتى وصل إلى مشارف بلاد الشام ، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا ويزداد عددهم وتشتد قوتهم وعزيمتهم ، وأخذت دعوة الإسلام تأخذ صفتها العالمية فبدأ رسول الله يتفرغ لمخاطبة الملوك والزعماء والرؤساء كرجل سياسة ودولة وكنبي مرسل من عند الله ، ونعم المسلمون بالنصر المؤزر الذي تحقق على يدي رسول الله بفتح مكة المكرمة وامتد الحلم الجميل الهانئ وامتدت الغبطة والسرور على المسلمين عامين اثنين ولكن هل تدوم الأفراح والغبطة والسرور والهناء ؟..

 لقد سعدت فاطمة الزهراء بصحبة أبيها المصطفى تصبح وتمسي لترى طلعته البهية ووجهه الباسم المشرق البشوش ، وتنعم بفيض لا ينقطع من المحبة والمودة لها ولزوجها ولأبنائها فاستردت بعضا من صحتها ونشاطها وحيويتها وكأن زيارتها إلى مكة المكرمة ردت إليها روحها من جديد فعكفت على تربية أولادها بكل همة ونشاط إضافة إلى ترك الأعمال المجهدة إلى خادمة جاء بها زوجها علي بن أبي طالب بعد أن تيسرت له سبل الحياة نوعا ما ، ولكن المصائب والأحزان ما لبثت أن عادت تذر قرنها من جديد ، ففي السنة التاسعة للهجرة شيع المسلمون في مدينة رسول الله ثالثة بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت محمد زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه بحزن بالغ شديد ودفنها رسول الله بيديه الشريفتين في ثرى طيبة الطيبة والحزن والأسى يعتصر قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم ، ما أصعبها من محنة أن يدفن النبي كل أولاده عدا فاطمة الزهراء بيديه الكريمتين ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن حزنا شديدا ولكنه في مقابل ذلك كان يصبر ويحتسب هذه المصائب والأحزان عند رب لا يضيع عنده مثقال ذرة في السموات والأرض ، وبعدها فجع رسول الله بوفاة آخر أبنائه الذكور إبراهيم بن محمد من أم المؤمنين مارية القبطية وذلك في السنة العاشرة من الهجرة ، وتجلدت الزهراء فاطمة فلم يبق لرسول الله من الولد سواها ، ثمكانت حجة الوداع حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحج وأداء المناسك فكانت هذه الحجة آخر حجة لرسول الله حيث ودع فيها أصحابه بقوله : ( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، ثم ما إن أطل العام الحادي عشر للهجرة حتى كانت المصيبة الكبرى التي لا تعدلها أية مصيبة في الدنيا كلها ، فقد شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرض ألم به وذلك في أواخر شهر صفر الخير من العام الحادي عشر للهجرة فظن المسلمون وظن آل بيته الطيبين الطاهرين أنها وعكة طارئة لا تلبث أن تمضي وتزول ، وفي هذا الأثناء أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها يدعوها إلى بيته فهرعت خائفة مرتاعة ودخلت على أبيها بفزع وعنده أزواجه كلهم فلما رآها مقبلة هش للقائها وتبسم وقال : ( مرحبا بابنتي ) .. ثم قبلها وأجلسها إلى يمينه ثم سادت فترة صمت بعدها أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنته أن أجله قد حان فبكت بمرارة فقد أبيها فتعجب الحاضرون من بكائها دون أن يعرفوا سبب بكائها ، ثم أسر إليها ثانية وقال : ( وإنك أول أهل بيتي لحوقا بي .. يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ) .. فسرها ما سمعت فضحكت بعد بكائها وتعجب الحاضرون وتعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين وقالت : ( ما رأيت كاليوم فرحا أقرب إلى حزن ) .. ثم سألت فاطمة الزهراء عن ذلك حين انفردت بها فقالت : ( ماكنت لأفشي على رسول الله سره ) .. انصرفت فاطمة الزهراء محملة بمزيج من الفرحة والحزن والألم على أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد تأكد لها قرب وفاته من رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وتأكد لها أن مرضه هذا هو نهاية المطاف بوالدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأكد لها أن جولة الوحي جبريل عليه السلام بين السماء والأرض قد آن لها أن تتوقف أيضا إلى أن يشاء الله ، بعد أن أكمل الله هذا الدين وأتم نعمته على المسلمين بل على البشرية جمعاء ، يقول ربنا جل شأنه : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .. لقد حزنت السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وحق لها أن تحزن على فقد أبيها رسول الله في وقت قريب وأخذت الدموع تنهمر من عينيها غزيرة على فقد خير خلق الله محمد بن عبد الله ولكنها ما لبثت أن مسحت دموعها واستعدت للموقف الصعب الأليم ببسمة فاترة عليها مسحة الحزن والكآبة ، لقد علمت فاطمة الزهراء أن الله خيره بين البقاء في الدنيا نبيا وقائدا ورسولا وبين الانتقال إلى رحاب الله في جنة عرضها السموات والأرض في الفردوس الأعلى مع إخوانه النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ، فاختار رسول الله أن يكون إلى جوار ربه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، ومهما كان الأمر فإن فقد الأب أمر صعب ولكن فقد فاطة الزهراء لأبيها كان خطبا جللا ومصيبة عظمى لا تعدلها مصيبة في الوجود أبدا ..

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى آخر لحظة من حياته يعدل بين نسائه في القسم ، ولما اشتد مرضه دار على نسائه أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ حتى إذا بلغ بيت أم المؤمنين ( ميمونة بنت الحارث الهلالية ) إزداد به المرض واشتد به الألم وثقل مرضه فدعا أزواجه إليه واستأذنهم في أن يمرض في بيت الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها فأذنَّ له كلهنَّ فقامت عائشة رضي الله عنها بواجبها في خدمة وتمريض رسول الله خير قيام حتى وافته المنية وهو مضطجع في حجرها ورأسه الكريم بين سحرها ونحرها عليه الصلاة والسلام ، كانت الزهراء فاطمة رضي الله عنها تتردد إلى بيت أم المؤمنين عائشة لتكون إلى جانب أبيها رسول الله في الأيام الأخيرة من حياته بل في الساعات الأخيرة من حياته خاصة وأنها الوحيدة التي أعلمها رسول الله بأنه سيفارق الحياة وأن مرضه هذا هو نهاية المطاف ، فكانت فاطمة ترعى رسول الله إلى جانب أم المؤمنين عائشة وتساعدها في خدمته وتسهر على راحته وتحنو إليه وتصبر نفسها وتعدها للقاء المصيبة الكبرى التي ستتلقاها في وقت قريب ، لقد خانها تصبرها وتجلدها حين اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأخذ الماء بيد مرتجفة ويجعلها على رأسه من شدة الحمى والألم فانهمرت دموعها غزيرة وخنقتها العبرات فأخذت تبكي والدها وتقول : ( وا كربي لكربك يا أبتاه ) فيرد عليها الرسول الكريم بعطف وحنان وبكلمات متقطعة : ( لاكرب على أبيك بعد اليوم ) .. ثم حمَّ القضاء ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وترك الزهراء فاطمة وترك أزواجه كلهنَّ وترك المؤمنين بعده في حزن لايعدله حزن في الوجود كله ، وكان حظ الزهراء فاطمة من الحزن أشد وأكبر فقد غادرت بيت أم المؤمنين عائشة حزينة كئيبة تتجرع مرارة اليتم ولا تجد بعد رسول الله إلى العزاء سبيلا ، لقد انفجرت باكية لتعلن لمن حولها أن والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فارق الحياة ، لقد أذهلها المصاب وغشيها من الحزن والهم ما غشيها وبكت أباها طويلا وبعد أيام قليلة ذهبت إلى قبر أبيها في بيت أم المؤمنين عائشة وما تقوى قدماها على حملها من شدة الحزن والأسى حتى إذا وصلت قبر أبيها أخذت قبضة من تراب القبر وانفجرت بالبكاء وبكى الناس من حولها لبكائها وتقطعت قلوبهم لمصيبتها وأتبعوها بعيونهم الدامعة وقلوبهم المتصدعة ولما رأت خادم أبيها أنس بن مالك رضي الله عنه قالت له معاتبة : ( كيف مكنك قلبك أن تسلم للأرض جثة رسول الله ) .. والتفتت إلى الحاضرين تقول : ( كيف طاوعتكم نفوسكم أن تحثو التراب على رسول الله ) .. فحزن الجميع وبكوا دون أن يتجرأ أحد على معارضتها أو الرد عليها ..

 والعجيب في الأمر أن الله جل وعلا قد أخبر المسلمين في كتابه الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف ينتقل إلى الرفيق الأعلى في آيات من القرآن تتلى نذكر هنا على سبيل المثال قوله تعالى :

** ( إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) ..

** ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) ..

** ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) ..

** ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن

 ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) ..

 وكذلك فقد أخبر رسول الله عن وفاته في أحاديث متعدده نذكر منها أيضا على سبيل المثال :

** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( لتأخذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج

 بعد عامي هذا ) ...

** ومن الأدلة على وفاة الرسول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة : ( إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني به العام مرتين وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي ) ..

** روى البيهقي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( وضعت يدي عل صدر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات .. فمرت علي جمع آكل وأتوضأ ومايذهب ريح المسك من يدي ) ..

 ورغم هذه الآيات والأحاديث وغيرها كثير عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الصدمة القاسية على المسلمين أذهلتهم فلم بصدقوا أن رسول الله قد مات ، حتى عمر بن الخطاب الرجل الشديد الجلد لم يصدق أن رسول الله قد مات حتى قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فخطب بالمسلمين وبدأ بقوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انتقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) .. ( أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ) .. فوقف عمر بن الخطاب يبكي ويقول : ( والله لكأني أسمع هذه الآية لأول مرة ) ..

 وفي حادثة وفاة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم روي عن أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها قالت : ( بينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي فظننت أنه يريد من رأسي حاجة فخرجت من فيه نقطة باردة فوقعت على نقرة نحري فاقشعر لها جلدي فظننت أنه غشي عليه فسجيته ثوبا .. فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فإذنت لهما وجذبت إلي الحجاب فنظر عمر إليه فقال واغشيتاه ..! ما أشد غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قاما فلما دنوا من الباب قال المغيرة يا عمر مات رسول الله .. فقال له عمر كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايموت حتى يفني الله المنافقين ، قالت : ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال : وا نبياه ..! ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال : واصفياه ..! ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته وقال : وا خليلاه ، مات رسول الله ، ثم خرج إلى المسجد وعمر يخطب في المسجد ويقول : إن رسول الله لايموت حتى يفني الله المنافقين ، فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله يقول : ( إنك ميت وإنهم ميتون ، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) حتى فرغ من الآية ، وقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) .. ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت .. فقال عمر : أو أنها في كتاب الله ..؟! ما شعرت أنها في كتاب الله .. ثم قال عمر أيها الناس هذا أبو بكر وهو في أشبة المسلمين فبايعوه فبايعوه ) .. وقد روي مثل هذا الحديث من وجوه كثيرة حتى وصل إلى حد التواتر ولكن هذه الرواية أجمع في وصف وفاة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ..

*********

الخلافة بعد رسول الله

 على الرغم من الأحاديث الكثيرة التي جاءت في فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق ( عبد الله بن أبي قحافة ) .. وعلى الرغم من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي نصت وبشكل واضح وصريح على طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق أن يؤم المسلمين في مرضه عليه الصلاة والسلام ، ثم أن رسول الله جاء إلى المسجد وهو يتكئ على علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وهو في شدة مرضه إلى المسجد فأمر أبا بكر الصديق أن يؤم المسلمين والرسول يصلي إلى جانبه مقتديا به ، وعلى الرغم من ذلك فقد تشبث بعض المنحرفين الضالين بأحقية علي بن طالب بخلافة رسول الله والإمارة على المسلمين لقرابته ومصاهرته لرسول الله وهذا أمر ليس من الدين الإسلامي في شيئ لأن القاعدة الشرعية التي أقرها الإسلام في قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) هي التقوى وليست القرابة والمصاهرة والنسب ولو كانت القرابة هي الأساس لكان أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبنائه عتبة وعتيبة من أحق الناس بالخلافة ، أما المصاهرة فأبو بكر أيضا صهر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تزوج الرسول ابنته البكر عائشة ، وعمر بن الخطاب أيضا صهر الرسول فقد تزوج رسول الله ابنته حفصة ، وإذا كان علي بن أبي طالب قد تزوج ابنة رسول فاطمة فإن أبا العاص بن الربيع تزوج أيضا ابنته زينب وعثمان ابن عفان تزوج ابنتا الرسول رقية وأم كلثوم فهذا الأمر أمر المصاهرة والقرابة ليس له في ميزان الإسلام أي شيء إلا إذا اقترن بالتقوى والصلاح والإمكانيات إضافة إلى عملية الاختيار والمبايعة من قبل المسلمين ، ولقد عرض القرآن الكريم أمثلة واقعية حية لرفض شريعة الله في جميع العهود السالفة والأديات السابقة لفكرة القرابة والمصاهرة والنسب فقد حدثنا القرآن الكريم عن سيدنا نوح عندما غرق ابنه الكافر والله قد وعده أن ينجيه وأهله في الفلك وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( وإذ قال نوح رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) .. وقص علينا القرآن الكريم قصة إبراهيم مع أبيه : ( ولما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) وقص علينا القرآن الكريم قصة امرأتي نوح ولوط : ( وامرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) .. أما في الطرف الآخر فقد قص علينا القرآن الكريم قصة ( آسيه ) امرأة فرعون عدو الله : ( وامرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ) .. ولماذا نذهب بعيدا ونحن نرى كيف أن أبا طالب عم الرسول الكريم الذي دافع عن النبي وبذل في سبيل دعمه ودعم أصحابه المؤمنين كل جهد نجد أن رسول الله لم يغن عنه من الله شيئا ، ثم نجد رسول الله يخاطب كل أقربائه وأزواجه فيقول : ( يافاطمة بنت محمد سليني ماشئت لا أغني عنك من الله شيئا ) .. وهنا نخلص إلى الحقيقة الناصعة أن مجرد القرابة أو المصاهرة ليس لها في معيار الإسلام أية قيمة إلا إذا اقترنت بالتقوى ولامكانيات القيادية الأخرى ..

 هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة جدا عن فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق سنذكر بعض هذه الأحاديث للدلالة على فضل الصديق وأحقيته في الخلافة خاصة وأن عليا كان شابا يافعا لم يتجاوز الثاني والثلاثين من عمره فهل يمكن أن يتزعم مثله على شيوخ قريش من أصحاب رسول الله أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة ابن الجراح والعباس عم الرسول وغيرهم من الصحابة الكرام كما يدعي المنحرفون الضالون ، ويقول بعض المنحرفين الضالين أن عقب رسول الله وأحفاده كان من فاطمة فقط وليس من غيرها فأقول إن زينب بنت رسول الله قد أنجبت ولدين هما علي وأمامة التي بقيت إلى خلافة علي بن أبي طالب وتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء أما كونها لم تنجب أولادا فمن كان يعلم عند وفاة الرسول أنها لن تنجب في المستقبل ، وهل كان سبب عدم الإنجاب منها أم ربما كان من علي ، إن علي بن أبي طالب عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان من عمر عبد الله بن عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن أبي بكر فهل من المنطق أن يتزعم شاب صغير السن على الشيوخ الكبار ؟.. وهل عنده الخبرة السياسية التي عندهم ؟.. وهل عركته الحياة كما عركتهم خلال سني حياتهم الطويلة ؟.. الحقيقة أن الأيام أثبتت لنا أن علياً بن أبي طالب لم يكن أهلا للسياسة والرئاسة والإمارة رغم كل المواصفات الأخرى التي يمتلكها من الشجاعة والتقى والورع والقرابة من رسول الله ومصاهرة رسول الله وغير ذلك من الصفات الحميدة التي تميز بها علي رضي الله عنه إلا أن السياسة والقيادة والمرونة والخبرة العملية شيء آخر لم يكن يمتلكه علي رضي الله عنه خاصة بعد وفاة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، فكان عهده رضي الله عنه من أسوأ عهود الإسلام حروبا وقلاقل ومطاحنات وصراع على السلطة ، ثم إنه أول من نقل مركز الخلافة الإسلامية من مدينة رسول الله إلى النجف حيث قتله أتباعه المتشيعون له من أبناء العراق هناك ، ثم إن هؤلاء الذين يدعون التشيع لآل بيت رسول الله هم نفسهم الذين خذلوا الحسن بن علي رضي الله عنه وكادوا يورطونه بحرب طاحنة يذهب ضحيتها آلاف المسلمين من الطرفين علما بأنه رضي الله عنه جرح نتيجة خذلانهم له وعدم مناصرتهم له مناصرة حقيقية فقام رضي الله عنه بالتفاوض والمصالحة مع معاوية وحقن دماء المسلمين ، وهؤلاء الذين يدعون حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتشيع لهم هم نفسهم الذين خذلوا الحسين بن علي رضي الله عنه فلم ينصروه على عدوه رغم الوعود الكثيرة بالنصرة وأن ثلاثين ألف مقاتل رهن إشارته فلما قدم للحرب والقتال خذلوه حتى قتل شر قتلة مع عدد كبير من أهله ومؤيديه رضي الله عنه وأرضاه وأسكنه الفردوس الأعلى ، إذن شيعة العراق وإيران هم الذين كانوا السبب المباشر في خذلان علي بن أبي طالب وهم الذين قتلوه رضي الله عنه ، ثم هم الذين خذلوا الحسن بن علي وجرح وكاد أن يقتل من قبل شيعته وأتباعه لا من قبل أعدائه لولا حكمته في معالجة الأمور ومصالحة معاوية لجرى له ماجرى لأبيه ثم أخيرا لا آخرا استجرار الحسين بن علي رضي الله عنه ثم خذلانه مما مكن لعدوه أن يقتله مع عدد كبير من أهله وأصحابه وإذلال أهله وبناته رضي الله عنهم جميعا ، يجب أن لانغتر بشيعة العراق وإيران فقد كان تاريخهم أسودا ضد الإسلام والمسلمين ولا يزال ، فلقد كانت بذرة التشيع بذرة يهودية أول من بذرها في الأمة الإسلامية هو اليهودي عبد الله بن سبأ وبدعم وتأييد من الشعوبيين المجوس ، ولقد تواطأت هذه الطوائف المنحرفة مع التتارلذبح المسلمين والقضاء على الدولة الإسلامية بزعامة إبن العلقمي والطوسي وغيرهم أما اليوم فنجد كيف أنهم تواطؤوا مع الصليبيين الجدد في العراق ، فما كان للأمريكيين أن يدخلوا العراق إلا بسبب تحالفهم معهم وخيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين وتخاذلهم في الدفاع عن أرض العراق الحبيب ، ونورد فيما يلي بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تنص على فضل أبي بكر وأحقيته بالخلافة :

** روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : ( لما كان وجع الرسول الذي قبض فيه قال : ادعوا لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن ، ثم قال : يأبى الله ذلك والمؤمنون ، يأبى الله ذلك والمؤمنون ) ..

** روى الإمام أحمد في مسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر ائتني بكتف أو لوح أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد فلما ذهب عبد الرحمن قال : أبى الله والمؤمنون أن يختلفوا عليك يا أبا بكر ) ..

** وروى البخاري ومسلم : ( أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأمرها رسول الله أن ترجع إليه ، فقالت أرأيت إن حئت ولم أجدك قال : إن لم تجديني فأت أبا بكر ) ..

** وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن عبد الله بن زمعة قال : لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلالا للصلاة فقال : مروا من يصلي بالناس .. قال فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا ، فقلت قم ياعمر فصل بالناس قال : فقام عمر فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله : فأين أبو بكر ؟.. يأبى الله ذلك والمسلمون .. يأبى الله ذلك والمسلمون .. قال : فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس .. قال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر ويحك ماذا صنعت يابن زمعة والله ما ظننت حين أمرتني بالصلاة إلا أن رسول الله أمرني بذلك ولولا ذلك ما صليت ) ..

** وفي رواية أخرى : ( أن رسول الله أطلع رأسه من حجرته ثم قال : لا .. لا .. لا يصلي بالناس إلا بن أبي قحافة .. يقول ذلك مغضبا ) ..

** وروى الحاكم عن أيوب بن بشيرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه : أفيضوا علي من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج فأعهد إلى الناس .. ففعلوا .. فخرج فجلس على المنبر فكان أول ماذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أحد فاستغفر لهم ودعا لهم ثم قال : يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار على هيئتها لاتزيد إنهم عيبتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم .. ثم قال عليه السلام : أيها الناس إن عبدا من عباد الله قد خيره ربه بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ماعند الله .. ففهمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من بين الناس فبكى وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا .. فقال رسول الله : على رسلك يا أبا بكر .. انظروا إلى هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر فإني لا أعلم أحدا عندي أفضل في الصحبة منه ) ..

** وفي حديث آخر لأحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : خطب رسول الله الناس فقال : ( إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ذلك العبد ما عند الله .. فبكى أبو بكر الصديق .. قال فعجبنا لبكائه .. فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به .. فقال رسول الله : إن آمن الناس عندي في صحبته وماله أبا بكر .. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا .. ولكنها خلة الإسلام ومودته .. لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر ) .. وهذا يشير إلى فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما أنه كنايةعن توكيل أبي بكر في الصلاة بالناس بعد رحيله عليه الصلاة والسلام ..

** وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات منه عاصبا رأسه بخرقة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت من أبي بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل .. سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر ) .. وهذه إشارة واضحة إلى إمامة أبي بكر للناس ليخرج من داره مباشرة إلى المسجد دون غيره كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام .. وإمامة أبي بكر للناس تعني أنه أفضل المسلمين آنذاك .

** ويروى أن رسول الله في مرضه الذي مات فيه قد عهد للصديق أبي بكر أن يؤم الناس في الصلاة فكان الصديق أبوبكر يصلي بالمسلمين صلاة الصبح وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع وكشف ستر الحجرة ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر فأعجبه ذلك وتبسم صلوات الله عليه حتى هم المسلمون أن يتركوا ماهم عليه من الصلاة لفرحهم بقيامه من المرض فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة وكان آخر العهد به صلى الله عليه وسلم .. حيث توفي في ضحى هذا اليوم بعد أن أقر الله عينه برؤية المسلمين مجتمعين على أبي بكر الصديق قي صلاة الصبح ..

** وروى البيهقي ومسلم عن جندب قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول : قد كان منكم إخوة وأصدقاء وإني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وإن قوما ممن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجدا فلا تتخذوا القبور مساجدا فإني أنهاكم عن ذلك ) ..

 والروايات كثيرة جدا في موضوع فضل الصحابي أبي بكر الصديق فقد أمر رسول الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه بالصلاة بالناس حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضرالصلاة مرة وهو يتهادى بين علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأمر أبا بكر بالصلاة وقعد رسول الله يصلي بجانبه لشدة مرضه مقتديا به صلى الله عليه وسلم .. وإمامة الصلاة في ذلك الوقت أهم علامات القيادة والرئاسة والرسول كان يؤم الناس طيلة حياته فعندما أوكل أمر إمامة المسلمين من بعده إلى أبي بكر الصديق فهذه إشارة هامة لخلافة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة وزعامة المسلمين من بعده .. أما ما يدعيه المنحرفون الضالون من أن أبا بكر قد اغتصب الخلافة من علي بن أبي طالب وكذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قد اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب فهذا محض افتراء وكذب .. ذلك لأن إرادة الله شاءت أن لا يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبناء من الذكور حتى لا يكون للمسلمين حرج في اختيار الأصلح من الأمة وفقا للقاعدة الإلهية الثابتة : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ..

 هذه الدروس القرآنية الرائعة والأحاديث النبوبة السامية لتبين لنا وبشكل واضح جلي أن قرابة النسب وقرابة المصاهرة لا يمكن أن يكون لها فائدة وجدوى إلا بالتقى والعمل الصالح والخصائص والمواصفات القيادية الأخرى ، ولقد قال رسول الله لأحب الناس إليه لفاطمة الزهراء : ( يافاطمة سليني ماشئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا ) .. فهل هناك أكثر صراحة من قول رسول الله في هذا المجال .. ولا أريد هنا أن أتوسع في موضوع الخلافة والذي أدى إلى فكرة التشيع الضالة المنحرفة لأن هذا الكتاب وضع للشباب والشواب ، وسأقوم باعداد كتاب مستقل عن الخلافة والخلفاء الراشدين الأربعة ثم أتطرق إلى دحض فكرة التشيع الضالة المنحرفة بالحجة والمنطق السليم إن شاء الله ..

 كانت البيعة الأولى لأبي بكر الصديق في مسجد رسول الله حيث اجتمع بالمسجد عدد كبير من المهاجرين تخلف منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ونفر من بني هاشم الذين كانوا يطمحون أن تكون الخلافة لعلي بن أبي طالب وأن تظل محصورة ببني هاشم من بعده ، وكذلك تخلف عدد كبير من الأنصار حيث اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتشاورون أمر الخلافة والبيعة فذهب أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى سقيفة بني ساعدة ، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فخطب المجتمعين من الأنصار فقال : ( أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ، فقال عمر لم أكره مما قاله أبو بكرإلا هذه الكلمة فوالله لو أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق ، ثم قال : يا معشر الأنصار إن أولى الناس بأمر نبي الله هو ثاني اثنين إذ هما في الغار ، ثم قام عمر بن الخطاب ليحسم الأمر فقال : ابسط يديك يا أبا بكر فبايعه ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ، قال عمر : أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أرفق من مبايعة أبي بكر ، وبذلك تمت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار ما تخلف عن ذلك إلا عدد قليل من الصحابة ما لبثوا بعد أيام أن بايعوا الصديق رضي الله عنهم وأرضاهن ..

 وبعد مبايعة الصديق أبا بكر قام فخطب الناس في المسجد فقال : ( أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته وآخذ الحق له ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، لايدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل ، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ) .. وبعدها نظر الصديق أبا بكر فلم ير الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب بين المبايعين فدعا بالزبير فجاء فقال له : قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله فقام فبايعه ، ثم دعا علياً بن أبي طالب فجاء فقال له قلت بن عم رسول الله وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعه أمام الأشهاد ، ومنذ ذلك اليوم فإن علي ابن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلف أبي بكر وخرج معه لقتال أهل الردة ، وروى البيهقي عن أبي وائل قال : ( قيل لعلي بن أبي طالب عندما طعن وحضرته الوفاة ألا تستخلف علينا فقال ما استخلف رسول الله فأستخلف ، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم ) .. فاجتمعت الأمة بعده على معاوية بن أبي سفيان بعد أن صالحه الحسن بن علي وبايعه ، هكذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول بينما نجد المنحرفين الضالين يقولون عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ( صنمي قريش ) لعنهم الله بكفرهم وضلالهم .. أما ما يطلقه بعض الغوغاء من المنحرفين الضالين من أن أبا بكر وعمر قد ظلما السيدة فاطمة ومنعهاها حقها في الميراث وأن عمر ضربها ضربا شديدا مبرحا حتى أسقطت فهذا كله كذب وافتراء على صحابة رسول الله الطيبين الطاهرين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين خاصة وأن فاطمة بنت رسول الله لم يكن لها رغبة في أي عرض من أعراض الدنيا بعد أن علمت من سيدنا رسول الله صلى اللله عليه وسلم أنها أول أهله لحوقا به فهل من المعقول أن تطالب امرأة بإرث وميراث وأراض وعقارات وهي تستعد للرحيل عن هذه الحياة بعد أيام ؟..

**********

وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها

 كان لوفاة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وقعا أليما قاسيا على المسلمين جميعا ولكن هذا المصاب الأليم كان أشد وطأً على الزهراء فاطمة رضي الله عنها ، فلقد أذهلها المصاب الأليم عن الدنيا وما فيها ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لها الأب والأخ والأم والصديق والرفيق والمربي والموجه والنبي والرسول بل كان لها كل شيء في حياتها ، لم تفارقه منذ فتحت عينيها على هذه الحياة لحظة واحدة فلما ذهب عنها للقاء ربه فقدت كل أمل في هذه الحياة الفانية وعكفت تتعبد ربها وتبتهل إليه في دارها في الجهة الشرقية من المسجد النبوي الشريف ، كانت فاطمة الزهراء بنت رسول الله تنتظر البشرى التي بشرها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أسرع أهله لحوقا به بعد موته ، لقد عافت الدنيا بما فيها ولم يعد يهمها بعد وفاة أبيها أي شيء في هذه الدنيا ، وإنني لأتعجب من أولئك المنحرفين الضالين الذي يصورون فاطمة الزهراء تناطح وتقاتل وتقاوح وتُضرب وتُذل من أجل ميراثها من رسول الله في ( فدك ) وهي تعلم حق العلم أن ماتبقى من حياتها أيام معدودات ما تلبث أن تلحق بأبيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبرها الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، هل يعقل من أي شخص على وجه هذه المعمورة أن يتعلق بعرض من أعراض الدنيا وهو يصارع نزعات الموت ؟.. وهل يعقل أن الطيبة الطاهرة البتول الصديقة فاطمة بنت رسول الله أن تتعلق بميراث وهي على شفا حفرة من الموت لا تلبث أن تقع فيها ، لقد كذب أولئك المدعون المنحرفون الضالون من أن فاطمة كانت لاترضى بالخلافة إلا لزوجها وأبنائها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بينما كانت فاطمة بنت رسول الله في شغل شاغل عن أمور السياسة والخلافة بل أمورالدنيا بأسرها ، لم يكن يهمها بعد فقد أبيها من سيتولى أمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت تميل إلى جعل الخلافة لزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلقد دخل عليها علي بن أبي طالب ومعه رجال من بني هاشم فتحدثوا على مسمع منها بالذي كان من أمر البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وتذاكروا في أحقية علي بالخلافة لما له من الفضل والسبق إلى الإسلام والقرابة والمصاهرة لرسول الله وأنه حمل راية رسول الله في كثير من الغزوات ، ولكن في مقابل ذلك نجد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أقل فضلاً وتضحيةً وجهاداً في سبيل الله من علي بن أبي طالب وكان أمر الخلافة بإجماع الصحابة على أبي بكر الصديق الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤم المسلمين قبل موته فكان خليفة رسول الله بإمامته للمسلمين قبل موت الرسول وكان خليفة المسلمين المطاع بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت بيعة الصديق أبي بكر بإجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار وإن تأخر بعضهم عن البيعة أياما قليلة ..

 أما فاطمة الزهراء رضي الله عنها فقد عافت الدنيا بما فيها فقد أشغلها فقد أبيها عما سواه وأمضها الحزن الشديد على رسول الله حتى أنها كانت تقعد عند قبر رسول الله في بيت الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة وتمسك حفنة من تراب قبره عليه الصلاة والسلام وتبكي بكاء شديدا مرا على فقد أحب الناس إلى الله ثم إليها ثم إلى المسلمين عامة وهي تقول والحزن يعتصر قلبها : كيف واتتكم أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله .. كانت تبكى وتبكي وتبكي ثم ما تلبث أن تبتسم فيعود البشر إلى وجهها حين تتذكر أنها ستلحق بأبيها رسول الله خلال أيام قليلة ، لقد كانت الزهراء فاطمة تعلم حق العلم وتعرف حق المعرفة أن أجلها في هذه الحياة لن يطول فقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أقرب الناس لحوقا به كما ذكرنا في حديث سابق ، وتمر الأيام سريعة والزهراء في عزلة عن الناس لم تُر قطُّ إلا حزينة باكية شاكية إلى الله فجيعتها في أعز الناس إليها منذ مات أبوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد طالت عليها أيام الأحزان والعزاء وتمسكت بالصبر والمصابرة وهي تعلم أن أيامها في هذه الحياة أصبحت قليلة معدودة وإن كانت لا تدري ساعة الأجل وهي الآن مستعدة للقاء الله واللحوق برسول الله وإذا جاء أجلها فلن يتأخر أو يتقدم لحظة واحدة ..

 وفي يوم الإثنين الثاني من شهر رمضان سنة إحدى عشر للهجرة دعت إليها أم رافع مولاة أبيها رسول الله فقالت لها بصوت خفيض : ( يا أمَّه .. اسكبي لي غسلا لأغتسل ) .. فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم لبست أجمل ماعندها من جديد الثياب كانت قد نبذتها حزنا وحدادا على والدها رسول الله ثم تطيبت وقالت لأم رافع : ( إجعلي فراشي في وسط البيت ) فلما فعلت اضطجعت عليه واستقبلت القبلة تدعو وتستغفر ربها وتتهيأ للقاء الله ولقاء أبيها رسول الله ثم أغمضت عينيها وفارقت الدنيا وما فيها ورفت روحها الطاهرة إلى بارئها ولحقت بوالدها تماما كما أخبرها والدها رسول الله رضي الله عنها وأرضاها وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة ، وكانت وفاتها في الثالث من شهر رمضان المبارك سنة إحدى عشر للهجرة ، ولقد صلى عليها علي بن أبي طالب ودفنها بليل مع مجموعة من بني هاشم على أصح الروايات ، روى الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمى قالت اشتكت فاطمة سلام الله عليها شكواها التي قبضت فيها فكنت أوضيها فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك ، قالت : وخرج علي لبعض حاجته فقالت يا أمه ، اسكبي لي غسلاً فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل ، ثم قالت : يا أمة أعطني ثيابي الجدد فأعطيتها فلبستها ، ثم قالت : يا أمة قدمي لي فراشي وسط البيت ففعلت واضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها ثم قالت : إني مقبوضة الآن وقد تطهرت فلا يكشفني أحد ، فقبضت مكانها ، قالت : فجاء علي فأخبرته ) .. وروي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت : ( غسلت أنا وعلي بن أبي طالب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصية من الزهراء نفسها ) .. وكانت أسماء بنت عميس أول من عرف بوفاة الزهراء فاطمة رضي الله عنها عندما دخلت عليها فنادت يافاطمة الزهراء ، يا أم الحسن والحسين ، يا بنت رسول الله ، فلم تجب فدخلت عليها فإذا هي ميتة ، فقالت كيف أجترئ فأخبر ابني رسول الله بوفاتك ، ثم خرجت فتلقاها الحسن والحسين فقالا : أين أمنا ؟.. فسكتت فدخلا البيت فإذا هي ممتدة فحركها الحسين فإذا هي ميتة ، فقال : يا أخاه آجرك الله في أمنا ، فاجتمعت نساء بني هاشم في دارها وأقبل الناس إلى علي وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان فبكى لبكائهما ، وتفيد الروايات أن علياً صلى عليها ودفنها ليلاً ونزل في قبرها ولم يكن معه إلا أبناءه وبنو هاشم وعدد من الصحابة دون أن تكون هناك فسحة من الوقت لمشاركة بقية الصحابة في تشييعها والصلاة عليها ، وهكذا ودع المسلمون آخر بنات رسول الله فاطمة الزهراء بعد ستة أشهر فقط من وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك ضم ثرى طيبة الطيبة رسول الله وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وابنه ابراهيم رضي الله عنهم أجمعين ..

 وقد اختلف المؤرخون في مكان دفنها رضي الله عنها فذكر أنها دفنت في بيتها قرب مسجد رسول الله ، وقيل أنها دفنت في البقيع ، والحقيقة أنه لايوجد مكان معروف بالتأكيد على أنه قبر فاطمة بنت رسول الله ، فكان قبرها من خير القبور كما قال عليه الصلاة والسلام : ( خير القبور الدوارس ) على عكس بقية قبور آل بيت رسول الله التي تقام حولها الطقوس والبدع المحرمة والشركيات الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان ..

 لقد كانت الزهراء فاطمة وزوجها وأولادها سلوان رسول الله وأحباؤه في آخر حياته بعد أن ودع جميع أولاده وبناته ودفنهم بيديه الشريفتين في ثرى طيبة الطيبة أو في ثرى مكة المكرمة عليه أفضل الصلاة والتسليم ..

 وتفيد الروايات التاريخية أن علي بن أبي طالب هو الذي صلى عليها وعجل بدفنها مع عمه العباس بن عبد المطلب ليلا وكان معه ثلة من بني هاشم دون أن تكون هناك فسحة من الوقت وهنا أريد أن أرد على شبهة باطلة كثر الحديث عنها من قبل المنحرفين الضالين وكتبوا فيها الكتب والمجلدات واختلقوا كثيرا من الوقائع والأحداث الكاذبة المغرضة المنحرفة ، وأريد هنا أن أدحض كل هذه الإفتراءات والأكاذيب وأرد الحق إلى نصابه فالصحيح أن فاطمة طالبت بميراثها من أبيها وطالب علي بن أبي طالب بميراث زوجته فاطمة ولكن عندما بين خليفة رسول الله أنه سمع رسول الله يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .. رضيت بأمر والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تناطح أو تقاوح في المطالبة بهذا الإرث الذي تبين أنه ليس من حقها كما كانت تظن وانتهى الأمر على هذا الحد بكل بساطة لأن فاطمة تعلم حق العلم أن أيامها في هذه الحياة أصبحت معدودة ، والجدير بالذكر أن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله لم يأخذ هذا الميراث لنفسه وإنما رده الى بيت مال المسلمين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نحن معاشر الأنبياء لانورث .. ماتركناه فهوصدقة ) .. ولو اطلعنا على ما كتب المنحرفون الضالون عن هذا الموضوع البسيط موضوع أرض ( فدك ) لرأينا عشرات الآلاف من الصفحات التي تتهم أبا بكر الصديق بالظلم والفساد والخروج عن الملة حتى أن سفاءهم يسمون الصحابيان الجليلان أبا بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب ( بصنمي قريش ) لعنهم الله بكفرهم والحقيقة أن كل ماعمله الصديق أبا بكر هو تنفيذ أمر رسول الله فرد أرض ( فدك ) إلى بيت مال المسلمين لتوزع مع الصدقات ، والعجيب في الأمر أن هذا الحديث ثابت في الكتب الصحاح عند السنة وثابت أيضا في كتب الحديث عند الشيعة واستشهد به الخميني في موضوع ولاية الفقيه التي نقض فيه مبادئ الشيعة التي تنص على حصر الولاية والإمامة بآل بيت رسول الله فابتدع ما يسمى بولاية الفقيه ..

 وفرية أخرى يسوق لها المنحرفون الضالون من الفئات الضالة المنحرفة وهي أن فاطمة الزهراء قد حملت من علي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عمر بن الخطاب وضربها ضربا مبرحا حتى أسقطت جنينها وأحرق عليها باب بيتها وغير ذلك من الأكاذيب والافتراءات الكثيرة على أصحاب رسول الله المبشرين بالجنة وهي مردودة على أصحابها فما كان من أبي بكر الصديق أو عمر الفاروق أو أي فرد من الصحابة الكرام أن يؤذي بنت رسول الله أو أن يتعرض لها بما تكره إلا ما كان من أمر ميراثها من فدك حيث رده الصديق إلى بيت مال المسلمين تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

**********

فاطمة وعلي في سطور

 السيدة فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد الأسدية خير نساء المسلمين ، ولدت السيدة فاطمة الزهراء قبل بعثة المصطفي عليه الصلاة والسلام بخمسة أعوام وكانت ولادتها يوم الجمعة في العشرين من جمادى الآخرة في العام الذي تم فيه هدم الكعبة المشرفة على أصح الروايات ، حيث اختلفت القبائل العربية على وضع الحجر الأسود فحكم بينهم رسول الله بالحكم العدل قبل بعثته بخمسة أعوام ، وفاطمة الزهراء هي الإبنة الرابعة للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم بعد زينب ورقية وأم كلثوم ، لقد هجرت الزهراء فاطمة مباهج الدنيا ومتعها منذ صغرها وعاشت حياة كلها جد وتعب ومشقة ومرض وجوع ، لقد عركتها الأحداث الجسام التي مرت بها وبوالديها محمد رسول الله وخذيجة بنت خويلد ، وبعد وفاة والدتها كانت السيدة فاطمة سلوان رسول الله فكانت تخفف عنه الأحزان وترد عنه أذى قريش ، فقد روى البخاري وغيره أن عقبة بن أبي معيط كان من أشد الناس أذى لرسول الله فقد جاء بسلا جزور فوضعه على ظهر رسول الله وهو يصلي فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة فرفعته عنه ودعت على من فعل ذلك فلما رفع رسول الله رأسه قال : ( اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف ) .. وفي طريق هجرتها إلى المدينة قام الحويرث القرشي بنخس الدابة التي كانت تحمل السيدة فاطمة وأختها السيدة أم كلثوم فرمت بهما الدابة على الأرض وهما في الطريق الصحراوي إلى المدينة المنورة فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنتيه فاطمة وأم كلثوم ، ولما تم فتح مكة أشار رسول الله إلى أصحابه بقتل الحويرث حتى لو تعلق بأستار الكعبة فقتله علي بن أبي طالب ..

 أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلقد عاش منذ صغره في بيت النبوة قبل البعثة وبعدها ، فعلى الرغم من أن والده أبا طالب كان سيد بني هاشم ومن أشراف قريش بل كان شيخ قريش المطاع المحترم إلا أنه كان فقيرا كثير العيال مما دفع رسول الله قبل البعثة أن يطلب من عمه العباس أن يعينا أبا طالب في النفقة على عياله فيقوم رسول الله بكفالة علي بن أبي طالب ويقوم العباس بكفالة أخيه عقيل بن أبي طالب ، فكان لعلي أن يحظى بهذا الشرف العظيم وأن يعيش ويتربى في بيت النبوة منذ نزول الوحي على رسول الله فكان أول صبي يعتنق الإسلام في مثل سنه رضي الله عنه وأرضاه وكان من تكريم الله لعلي بن أبي طالب أن يبدأ حياته على عقيدة التوحيد دون أن يخالط الشرك قلبه ودون أن يسجد أو يتعبد للأصنام والأوثان كما هو الحال عند أقرانه من أبناء قريش قبل بعثة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم بالرسالة السماوية الخاتمة إلى الناس أجمعين ..

 ولقد عرفت الزهراء فاطمة ابن عمها علي بن أبي طالب معرفة أكيدة كاملة دقيقة ، ذلك لأنه نشأ وترعرع وعاش في بيت النبوة منذ نعومة أظفاره ، ويذكر المؤرخون أن علي بن أبي طالب لم يكن بهي الطلعة جميل الصورة أنيق المظهر بل كان فوق فقره المدقع قصيراً بطيناً شديد الأدمة أصلعاً أفطس الأنف دقيق الذراعين أشكل العينين كبيرهما ، وكان رضي الله عنه عظيم اللحية بيضاء ملأت صدره ومنكبيه ، وكان رضي الله عنه كثير شعر الصدر والكتفين حسن الوجه ضحوك السن خفيف المشي على الأرض ، على عكس الأزواج الذين تقدموا إلى أخواتها قبل البعثة وبعدها مثل أبي العاص بن الربيع وعتبة وعتيبة ابنا أبي لهب وعثمان بن عفان وغيرهم من صحابة رسول الله الذين كانوا يطمحون إلى مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا من الجمال والبهاء والثراء والشرف الرفيع ، لذلك نجد فاطمة بنت رسول الله أصابها التردد في قبول رجل لا يملك من متاع الدنيا أي شيء ، بل لا يملك بيتاً صغيراً يأوي إليه مع زوجه إذا أراد الزواج ، رغم ما يملكه من الخلق الكريم والدين والشرف والتقى والورع والسبق إلى الإسلام ، فأخذت تبكي عندما سمعت بخطبتها من علي بن أبي طالب ، ولكن الرسول الكريم قدم إليها يطيب خاطرها ويعلمها أن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، فذكرت له فقر خطيبها وغير ذلك من الصفات ، فقال لها رسول الله : ( إنه سيد في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، وإنه أكثر الصحابة علماً وأفضلهم حلماً وأولهم إسلاماً ) ..

 وأريد هنا أن أرد على بعض المغرضين والمستشرقين بأن فاطمة لم تكن جميلة بل ادعى بعضهم أنها قبيحة لعنهم الله فلذلك تأخر زواجها ، فأقول : إن فاطمة كانت أشبه الناس بأبيها رسول الله والمعروف أن رسول الله كان من أجمل شباب قريس وأبهاهم طلعة ، علماً بأنها تزوجت وكان عمرها ثمانية عشر عاماً وهذا السن مناسب جداً للزواج وإن كانت أخواتها تزوجن في سن أصغر من ذلك نتيجة التنافس بين بني هاشم وبني أسد على بنات رسول الله ، إلا أن فاطمة قد تزوجت في سن مناسبة جداً للزواج أضف إلى ذلك أن أبا بكر الصديق خطبها من رسول الله وأن عمر بن الخطاب أيضاً قد خطبها وأن كثيرا من الصحابة كان يتمنى مصاهرة رسول الله في إحدى كريماته الطيبات الطاهرات إلا أن رسول الله كان يعتذر بأنها صغيرة ، عندها أشار عمر بن الخطاب على علي بن أبي طالب أن يتقدم لخطبتها وقال له : يا علي أنت لها ، فتقدم علي لخطبتها وهو في الثانية والعشرين من عمره بينما كانت فاطمة في الثامنة عشرة من عمرها ، لقد كانت فاطمة الزهراء الله أعرف الناس بعلي بن أبي طالب وبحدة طبعه وشدة مزاجه وخشونة معاملته فكأنما هو رجل ما خلق إلا للحرب والقتال حتى أن أولاده الحسن والحسين سماهما حربا فغير الرسول الكريم أسماءهما فسماهما الحسن والحسين ، لذلك ترددت فاطمة كثيرا في قبول علي رضي الله عنه ، وبالطبع ما كان من فاطمة أن تخالف رأي أبيها رسول الله في اختيار علي بن أبي طالب خطيبا لها رغم أنها كانت تحلم بحياة زوجية هانئة في بيت فيه الحد الأدنى من رفاهية العيش الكريم وهي تعلم حق العلم أن خطيبها فقير معدم باع درعه من أجل أن يقدم مهرا متواضعا بسيطا للعروس الهاشمية فاطمة بنت رسول الله ، لقد أراد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أن يعلمها أن الرزق بيد الله والملك بيد الله يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء وأن هذه الدنيا فانية لا تعدل عند الله جناح بعوضة فوافقت على اختيار والدها في الزواج من علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتزوج علي فاطمة وأولم فذبح كبشا أهداه له سعد بن عبادة الأنصاري وبنى بها في بيت أمه فاطمة بنت أسد ولكن الرسول الكريم من حبه لابنته فاطمة أراد أن يسكنها بجانبه فتقدم الصحابي الكريم حارثة بن النعمان رضي الله عنه إلى رسول الله فقال : ( يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تحول فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أقرب بيوت بني النجار إليك وإنما أنا ومالي لله ولرسوله ، والله يا رسول الله المال الذي تأخذه مني أحب إلي من الذي تدع فقال رسول الله : صدقت بارك الله عليك فحولها رسول الله إلى بيت حارثة القريب من بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين ، لقد كان بيت السيدة فاطمة بنت محمد هبة من الصحابي الجليل حارثة بن النعمان وكان فرشها المتواضع خميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحاءين وسقاءين وجرتين وشيء قليل من العطر والطيب ، ترى أية فتاة في عصرنا الحاضر تقبل بمثل هذا الوضع وبمثل هذا المهر والفرش المتواضع ؟.. ولكن الزهراء فاطمة قبلت اختيار أبيها وطمعت بما عند الله وعافت الدنيا بما فيها من أجل إسعاد زوجها وأبنائها الكرام رضي الله عنهم ، لقد عاشت كل حياتها في شظف من العيش وفي الفقر والحرمان فكانت بنت رسول الله فاطمة تطحن وتعجن وتخبز وتربي أبناءها وليس لها معين إلا الله ، خاصة وأنها كانت نحيفة ضعيفة هد جسدها الحصار والهجرة والترحال والجهاد منذ بداية حياتها وحتى وفاتها رضي الله عنها وأرضاها ..

 كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحاول مساعدتها وإسعادها ولكنه كان رجل حرب وجهاد وخشونة لا يعرف من أمور البيت والأولاد والمجمالات والليونة إلا النذر اليسير ، فعدما رزقه الله ولده الأول أراد أن يسميه حرباً ولكن رسول الله الرؤوف الرحيم قال له بل سمٍّه حسناً ، وعندما رزق بولده الثاني أراد أن يسميه حرباً لشغفه بالحرب والقتال ولكن رسول الله سماه حسيناً ، وهكذا نجد أن أبا الحسن علي بن أبي طالب كان خشناً شديدا في جميع شؤون حياته رغم أنه كان يحاول قدر استطاعته أن يكون ليناً عطوفاً رحيما مع زوجه الزهراء فاطمة ، لقد حاول أن يستأجر لها خادما تعينها على مصاعب الحياة ولكن من أين له ذلك وهو الفقير الذي لا يملك من أعراض الدنيا إلا النذر اليسير ، وقال لها ذات يوم وقد عرف أن رسول الله قد عاد من إحدى غزواته الظافرة بغنائم وسبايا : ( لقد شقوت يا فاطمة حتى أسليت صدري وقد جاء الله بسبي فاذهبي إلى أبيك فالتمسي واحدة تخدمك فذهبت إلى بيت أبيها بخطوات وانية فهش وسألها : مابك يا بنية ..؟ قالت : جئت لأسلم عليك ، ثم عادت من حيث أتت لتنبئ زوجها أنها تحرجت من أن تطلب من أبيها شيئا ، فقام علي رضي الله عنه وصحبها إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتولى عنها السؤال وهي مطرقة باستحياء ، فقال الرسول الكريم : ( لا والله لا أعطيكما وأدع اهل الصفة تتلوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكن ابيع وأنفق عليهم بالثمن ) .. فانصرفا شاكرين وما يدريان أن شكواهما مست قلب الأب الرحيم وشغلته جل نهاره ولكنه رجل سياسة ودولة ولديه أفضليات وأولويات فهل خدمة ابنته أهم من إطعام الجياع والمعوذين ؟!.. وكانت المدينة المنورة آنذاك باردة شديدة البرودة في تلك الأيام ، فلما أقبل الليل وعسعس قدم رسول الله صلى الله إلى بيت ابنته فاطمة فرآهما وقد انكمشا في غطائهما مقرورين من البرد ليس لديهما إلا غطاء واحد إذا غطيا رأسيهما انكشفت قدماهما ، وإذا غطيا قدميهما انكشف رأساهما فهبا للقاء رسول الله الذي قدم إليهما مشفقا حزينا على هذا الوضع من الفقر والعوزفلم يعدهما بالمال والغنى وإنما قال لهما : ( ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟.. أجابا معاً : بلى يارسول الله قال : كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان دبركل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا وإذا أويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثا وثلاثين وتحمدان ثلاثا وثلاثين وتكبران ثلاثا وثلاثين ) .. ثم ودعهما ومضى بعد أن زودهما بهذا الزاد الروحي والمدد الإلهي وعلمهما درسا رائعا في مواجهة مصاعب الحياة وكان علي رضي الله عنه يقول : ( فوالله ماتركتهن منذ علمنيهن رسول الله ) .. وهكذا نجد أن الأحداث الصعبة والأيام القاسية التي مرت بالزهراء فاطمة قد طبعت حياتها ومنذ طفولتها بطابع الجد الممزوج بالحزن والكآبة فهي لم تذق من سعة العيش وبحبوحة الحياة وزينتها إلا في أيامها الأولى مع والدتها خديجة قبل بعثة الرسول الكريم ثم بدأت الأحداث تقسوا عليها منذ حصار شعب أبي طالب وحتى وفاتها رضي الله عنها وأرضاها ، لقد عاشت الزهراء فاطمة في قلب الأحداث العظام وسط الظروف الصعبة القاسية وفي صميم المعركة منذ طفولتها فلا عجب أن نراها قد آثرت الجد وابتعدت عن البهجة والفرح أضف إلى ذلك أنها هي وحدها التي لازمت رسول الله أطول مدة من حياتها فكل أخواتها قد تزوجن وبقيت الزهراء فاطمة ترعى بيت النبوة حتى تزوج النبي الكريم عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وبقية أزواجه أمهات المؤمنين ، عندها استطاعت أن تسلم الأمانة إلى أيد أمينة ربما لا تقل عنها رعاية وأمانة لأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أضف إلى ذلك فإن السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها قد اشتركت مع الرسول الكريم في معظم حروبه وغزواته فقد ذكر المؤرخون أن الزهراء فاطمة كانت في موقعة ( أحد ) تضمد الجرحى وتسقي العطشى من الجرحى والمحتضرين ، ولما انتقلت إلى بيت الزوجية كانت خير زوجة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقد حاولت أن تضفي على بيت الزوجية إشراقاً وحيوية ومرحا وأنسا بابتسامة وضاءة يلفها الحزن والأسى في كثير من الأحيان ، خاصة وأن زوجها علي بن أبي طالب لم يكن ذلك الرجل اللطيف الوديع الهين اللين البشوش المرح ، لقد كان الصحابي الجليل علي بن أبي طالب غير ذلك تماما كان أقرب مايكون إلى الشدة والصرامة والخشونة والغلظة والحزم والجد والصلابة ، لقد كانت فاطمة الزهراء أحوج الناس إلى زوج كأبيها رؤوف رحيم حنون شفوق لين ناعم لطيف كيف لا وقد وصفه رب العزة والجلال بقوله : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) .. وقوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) .. وقوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .. وغير ذلك كثير من الآيات ، وفي مثل هذه الأجواء ومثل هذه الصفات والطباع يجب أن لا نعجب إذا حصل بين الزوجين الكريمين فاطمة وعلي بين فترة وأخرى خلاف وجفاء قد يصل إلى حد الشكوى من الزهراء فاطمة حيث تلجأ إلى أبيها رسول الله تشتكي زوجها علي بن أبي طالب فكان رسول الله يقدم إليهما ويحاول الإصلاح بينهما ويروضها على مزيد من الصبر والاحتمال فقد روي أن بعض الصحابة رأوا رسول الله يسعى مساء إلى دار فاطمة الزهراء فلما خرج من عند ابنته كان وجهه يفيض بشرا وسعادة فقيل يا رسول الله دخلت وأنت في حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك فأجاب عليه الصلاة والسلام : ( وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي ) .. وحدث مرة أن الزهراء فاطمة ضاقت مما تجد من شدة زوجها وصلابته وخشونته فقالت له : ( والله لأشكونك لرسول الله ، وخرجت وعلي في إثرها حتى جاءت أباها فشكت إليه ما أنكرت من زوجها فتلطف الأب الكريم في ترضيتها وحملها على الرفق بزوجها علي بن أبي طالب واحتماله ، فقال علي وهو عائد بزوجته إلى بيتها : والله لا آتي شيئا تكرهينه بعد اليوم أبدا ) .. ولكن هل أبر علي بوعده وقسمه للزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.. الحقيقة لا فقد تكرر الخصام والنزاع وضاقت الزهراء بما تجد من شدة وصلابة زوجها ومن شظف العيش وقلة ذات اليد وكثيرا ما ذهبت إلى والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي إليه من زوجها وفي إحدى المرات خرجت غاضبة وأخذت معها ولديها الحسن والحسين إلى بيت والدها فخرج رسول الله غاضبا يبحث عن علي بن أبي طالب فوجده نائماً على التراب في المسجد فرق قلبه الرحيم عليه وحاول أن يصلح بينه وبين زوجته فاطمة ، إلا أن كل هذه الخلافات كانت خلافات زوجية بسيطة ربما تحدث مع كثير من الأزواج لأن الطباع تختلف بين رجل وآخر وبين زوجة وأخرى ، إلا أن ما قام به علي بعد ذلك أثار حفيظة الرسول وأغضبه غضباً شديداً على تصرف بدر من علي بن إبي طالب فقد تقدم بخطبة امرأة أخرى على الزهراء فاطمة هذه المرأة الأخرى كانت بنت أبي جهل عمرو بن هشام بعد أن أسلمت ، فهل هناك شيء تكرهه فاطمة أشد من أن يأتيها زوجها بضرة وهي التي احتملت شدته وجفوته وفقره وعوزه ورضيت بالكفاف من العيش من أجله ثم بعد ذلك يأتيها بضرة !.. وهذه الضرة هي بنت عدو الله أبي جهل عمرو بن هشام ، لقد هم علي بالزواج من بنت أبي جهل عمر بن هشام المخزومي على فاطمة وفي حسابه أنه لاحرج عليه فالزواج بأربعة من النساء حلال مباح شرعا وكان يعتقد أنه يجوز على بنات النبي ما يجوز على سائر المسلمات فيما أحله الله للمسلمين من تعدد الزوجات ، وتوقع أن لا يلام على ابتلاء الزهراء بضرة لها ، فلها أسوة بعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم سلمة بنت ذات الركب ، خاصة وأن بنت أبي جهل من الغنى والثراء ما قد يوسع عليه وعليها سبل العيش ، تقول الدكتورة بنت الشاطئ في هذا الموقف : ( ولكن الأمر جرى على غير ما توقع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلم يكد يبدي رغبته في خطبة بنت عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي على السيدة فاطمة حتى غضبت رضي الله عنها وغضب لها أبوها صلى الله عليه وسلم وكان الموقف بالغ الدقة والحرج فالنبي يعلم حق علي في الزواج ولو على فاطمة بنت محمد ، ومحمد في أبوته الرحيمة وبشريته السوية يؤذيه أن تروع أحب بناته بضرة ، ويشفق عليها من تجربة قاسية يعلم أنها لاقبل لها باحتمالها ، ألا ليت عليا قد صبر على واحدة أسوة بابن عمه حين اكتفى بخديجة زوجا مدى ربع قرن من الزمان إذن لأعفى الأب النبي من الموقف الصعب ، وإني لأتمثله عليه الصلاة والسلام يرنو إلى ابنته الغالية وهي تترقب البلاء في خوف وقهر فتكاد لفرط أساها وقلقها تذوب من ضعف وكمد ، ويود بكل ما يستطيع أن يدفع عنها ما تكره ، وأن يحميها من الخوف الذي يقرح أجفانها ويروع أمنها ويؤرق لياليها ولكن هل يحرم النبي ما أحل الله ؟.. كلا ..! ولكن للقضية وجه آخر ، إن علياً ذكر بنت عمرو بن هشام المخزومي ، فهل يرضى الله أن يجمع بيت علي بن أبي طالب بنت رسول الله وبنت عدو الله ؟.. ) .. روي في الكتب الصحاح الستة : أن رسول الله خرج إلى المسجد مغضبا حتى بلغ المنبر فخطب الناس فقال : ( إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، اللهم إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإن ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ، وإني أتخوف أن تفتن في دينها ) .. وفي رواية أ خرى جاء فيها : ( والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في بيت واحد أبداً ) ..

 وتتابع الدكتورة بنت الشاطئ قولها في هذه القضية فتقول : ( أو هل يقصر خيالنا عن متابعة علي بن أبي طالب وهو ينصرف من المسجد إثر سماعه خطبة صهره النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ طريقه إلى بيته بطيء الخطو مثقل القلب يفكر فيما كان ؟.. أتراه حقا قد أراد الزواج على فاطمة من بنت عدو الإسلام ؟.. كيف هان عليه مع جهاده الطويل الباسل المشهود في سبيل الدعوة المحمدية ، أن يروع أمن الحبيبة بنت الحبيب ويكسر قلبها وخاطرها ، بزواج مثل هذا الزواج مظنة أن يؤول بالرغبة عنها إلى سواها ؟.. وينتهي به المسار إلى البيت ، حيث يجد الزهراء في وحدتها تجتر أحزانها وتسامر همومها فيدنو منها حتى يأخذ مكانه إلى جانبها صامتا لا يدري مايقول ، وإذ رآها تبكي همس معتذرا وقال : ( هبيني أخطأت في حققك يا فاطمة ، فمثلك أهل للعفو والمغفرة ، ومضت قطعة من الليل قبل أن تجيب : غفر الله لك يابن العم ، فأقبل عليها مترفقا ثم راح يروي لها ما كان من حديث المسجد ويصف لها شعوره حين سمع ابن عمه يتحدث عن ضيقه بالأذى الذي سيلحق ابنته فاطمة وإنكاره أن يتزوج علي من بنت أبي جهل في بيت واحد ) .. والغريب في الأمر أن أصهار النبي صلى الله عليه وسلم سواء قبل البعثة أو بعدها كانوا خيرة الأزواج لطفا وحلما وحبا ورعاية لبنات الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نسمع أن اشتكت واحدة منهن من زوجها قط حتى عندما كانت رقية وأم كلثوم عند عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب وبوجود أمهما حمالة الحطب لم نسمع من رقية وأم كلثوم أية شكوى من زوجيهما ، وما كان طلاقهما عن رغبة من الزوجين عتبة وعتيبة وإنما هو أمر فرض عليهما من أبي لهب وامرأته حمالة الحطب ، بل أمر وتوجيه من كل زعماء قريش الذين أرادوا أن يفجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعز ما وهبه الله في هذه الحياة ابنتيه رقية وأم كلثوم ولكن الله جل وعلا أبدله وأبدل ابنتيه بزوج خير من أبناء حمالة الحطب عتبة وعتيبة ..

 ولعل من اللافت للنظر أن بعض الفئات الضالة المنحرفة تستشهد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاطمة الزهراء : ( إن ابنتي هذه بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ) يستدلون بهذا الحديث على فضل فاطمة على نساء العالمين دون أن يذكروا بقية الحديث الذي هو تسفيه وتوبيخ لتصرف زوجها علي بن أبي طالب الذي أغضبها وأغضب رسول الله في قبوله الزواج من ابنة أبي جهل ضرة للزهراء فاطمة فقال في حقه هذا الكلام ، ولكن علي بن أبي طالب تراجع عن خطئه بعد أن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

********

ثبت المراجع

تم أخذ المادة التاريخية مع شيء من التصرف فيما عدا ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تم نقله كما ورد في الروايات الصحيحة دون تصرف وذلك عن الكتب التالية :

الطبقات الكبرى                             لابن سعد الإصابة في معرفة الصحابة               لابن حجر جمهرة أنساب العرب مجمع الزوائد تاريخ الطبري                               الطبري سيرة ابن هشام                               لابن هشام الاستيعاب                                    لابن عبد البر عيون الأثر صحيح البخاري                             البخاري صحيح مسلم                                 مسلم مسند الإمام أحمد                            أحمد بن حنبل الذخائر                                                 لابن حزم تفسير الكشاف                               للزمخشري الشفا                                 للقاضي عياض تراجم سيدات بيت النبوة الدكتورة بنت الشاطيء

* إن فكرة التشيع هي فكرة دخيلة على الإسلام وليست من الإسلام كما يفهم من قول المستشرق وهي فكرة ضالة مبتدعة لا أصل لها في الإسلام ولا صلة لها بالإسلام من قريب أو بعيد لأن الله قد أكمل هذا الدين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل زيادة أو فكرة على هذا الدين فهي باطلة .. وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( ألا أن كل محدثة بدعة .. وكل بدعة ضلالة .. وكل ضلالة في النار ) .

* هناك روايات متعددة عن تاريخ ولادة القاسم بن محمد ولكني ارتحت إلى هذه الرواية التي تفيد أن تاريخ ولادته بعد ولادة زينب وقبل ولادة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم .

وسوم: العدد 734