الأجر على قدر المشقّة، ولكنْ!

تقترن أعمال المسلم التي يبتغي بها وجه الله، بقدر من المشقة، فيكون أعظمها مشقة أكثرها عند الله أجراً، إذا تحقّق الإخلاص. فمَن تصدّق بمئة دينار كان أعظم أجراً ممن تصدّق بدينار، لأن الصدقة بمئة دينار أشقّ على النفس من الصدقة بدينار، وكذا مَن تطوّع بصيام سبعين يوماً كان أجره أعظم ممن تطوّع بصيام عشرين.

وقد تبدو المسألة مطّردة، وكأنها قاعدة ثابتة، وليس الأمر كذلك. فالجهد نفسه ليس هو المقصود في الشرع، إنما المقصود رضوان الله تعالى، وهذا يكون بقدر ما يحقق من مقاصد دين الله، من إعلاء كلمة الله، ومن حفظ الأنفس والأعراض والعقول والأموال... فالجهد الذي ينال عليه المسلم الأجر هو المكافئ لتحقيق تلك المقاصد، وليس الجهد الذي يُبذل في غير الطريق الصحيح.

فإذا كان بجوارك مسجد يبعد عنك خمسين خطوة، وهناك مسجد آخر يبعد مئتي خطوة، فليس الأفضل أن تسير إلى المسجد الأبعد، ما لم يكن لهذا المسجد مزيّة أكبر، كأن يكون إمامُه أحسن تلاوة، أو يكون فيه درس علمي أو موعظة... كما أنه ليس من الأفضل أن تختار إلى المسجد طريقاً طويلاً وهناك طريق قصير!.

الأجر على قدر المشقة إذا احتاج العمل الصالح نفسه إلى المشقة. فالذي يجاهد بماله وبنفسه، أعظم أجراً من الذي يجاهد بماله فحسب، والذي يجاهد بنفسه أعظم أجراً من الذي يجاهد بكلمته، وقد يكون الجهاد بالكلمة من أعظم الجهاد إذا كانت أمام سلطان جائر يمكن أن ينكّل بصاحب الكلمة أو يقتله!.

وقد يسبق درهم مئة ألف درهم، إذا كان المتصدّق بالدرهم لا يملك إلا درهمين، فهو يتصدق بنصف ماله، بل يتصدّق من ضرورياته، والمتصدق بالمئة ألف يملك أضعافها. فصدقة الأول أعظم مشقة.

وإذا وجب على المسلم القيام بأمر فليس له أن ينشغل عنه بما هو أهون عليه ولا يحقق ذلك الواجب، لكن له أن يحقق ذلك الواجب بالجهد الأقل، فمن وجب عليه الحج فله أن يحج بالطائرة وإن كان جهده قليلاً أمام مَن يحج ماشياً على قدميه، ولكن ليس له أن يتصدق بدلاً عن حج الفريضة وهو مستطيع إلى ذلك سبيلاً. وإذا كان الأمر مندوباً أو واجباً على الكفاية، فمن بذل أكثر، وسدَّ الثغرة بشكل أوفر، فأجره على قدر ما بذل.

ونذكّر فيما يأتي بمصابيح من هدي القرآن والسنّة، تبيّن حقيقة ما ذكرنا:

قال الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). {سورة البقرة: 185}.

وقال سبحانه: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم لعلّكم تشكرون). {سورة المائدة: 6}.

وإذاً فليس العسر والحرج من مطلوبات الشريعة.

وقال تعالى: (لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم). {سورة الحج: 36}.

فالتقوى وصدق التوجّه والإخلاص... هي المطلوبة.

وقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده). {سورة الحج: 78}. وقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا. وإن الله لمع المحسنين). {سورة العنكبوت: 69}. فاللهُ يجزي العبد على قدر ما يبذل من جهد، فهو جهاد في الله وفق مرضاة الله.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مئة ألف". قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهم مئة ألف؟. قال: "رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدّق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عُرْضها مئة ألف". رواه النسائي، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إن لكم بكل خطوة درجة". رواه مسلم.

وعن عقبة بن عامر أنه قال: نذرتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لغنيّ عن نذرها. مُرْها فلتركب". رواه مسلم وأبو داود.

ومن دلائل هذه النصوص وغيرها خَلَصَ أئمة المسلمين إلى مثل هذه النتائج:

قال الإمام العز بن عبد السلام (577-660هـ): "قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة". من كتاب قواعد الأحكام 1/31.

وقال الإمام ابن تيمية (661-728هـ): "ومما ينبغي أن يُعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاقّ". مجموع الفتاوى 25/281.

وقال الإمام الشاطبي (ت: 790هـ): "المقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع". الموافقات 2/222.

وإن الأعمال الصالحة تحتاج إلى مشقة يسيرة أو عظيمة، وعلى المسلم القيام بها، وله الأجر على قدر المشقة التي تحتاجها، وليس له أن يتوانى تهرباً من المشقة. فالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدقة وطلب العلم... لا بد لها من مشقة. وفي مثل هذه الأمور قال الله تعالى: (هأنتم هؤلاء تُدعَون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم مَن يبخلُ، ومَن يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه. والله الغنيّ وأنتم الفقراء. وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). {سورة محمّد: 38}.

وسوم: العدد 771