إشراقات من سورة الأنعام 15

إشراقات من سورة الأنعام ( الولاء والبراء )

تابع

د. فوّاز القاسم / سوريا

(( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) ))

 إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات . . قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة . . هي قضية هذه العقيدة الأولى ، وهي الحقيقية الكبرى فيها . وان العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة . .

إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض , نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات , لتحدد على ضوئها موقفها , ولتسير على هذا الضوء في طريقها ; وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات , لترسم طريقها على هداها .

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله .

فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد , وإلى جور الأديان ; ونكصت عن لا إله إلا الله , وإن ظل فريق منها يردد على المآذن:"لا إله إلا الله" ; دون أن يدرك مدلولها , ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها , ودون أن يرفض شرعية "الحاكمية " التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد حاكمين  أو كمؤسسات تشريعية , أو كشعوب .

فالأفراد , كالمؤسسات , كالشعوب , ليست آلهة , فليس لها إذن حق الحاكمية . .

إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية , وارتدت عن لا إله إلا الله . فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية . ولم تعد توحد الله , وتخلص له الولاء . .

البشرية بجملتها , بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات:"لا إله إلا الله" بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة , لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله !

فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات !

ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء: ( قل:أغبر الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض , وهو يطعم ولا يطعم ? قل:إني أمرت أن أكون أول من أسلم , ولا تكونن من المشركين). .

ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني "الولي" . . وهي الخضوع والطاعة , والاستنصار والاستعانة . . يتعارض مع الإسلام , لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليستنقذ البشرية منه . .

وإن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله ، هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة . . الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء .

وبالتالي فالواجب اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ; ومواجهة الجاهلية الجديدة ، كالتي واجهها رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة حين تنزّلت هذه الآيات . .

وما أحوج العصبة المؤمنة اليوم ، أن تستصحب في مواجهتها لهذه الجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن هذه الآيات الباهرة  :

قل :إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه , وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو , وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . .

فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها , وبإعراضها وعنادها , وبالتوائها وكيدها , وبفسادها وانحلالها . . ما أحوج من يواجه هذا الشر كله , أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر . . مخافة المعصية والولاء لغير الله ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة . . واليقين بأن الضار والنافع هو الله . وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه . إن قلبا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف "إنشاء" الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية . . وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال الراسيات !

ثم ما أحوج العصبة المؤمنة - بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم ; وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته ; وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر . ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى . وأن تقول ما أمر رسول الله [ ص ] أن يقوله ; وأن تقذف في وجه الجاهلية , بما قذف به في وجهها الرسول الكريم , تنفيذا لأمر ربه العظيم:

 ) قل:أي شيء أكبر شهادة ? قل:الله , شهيد بيني وبينكم , وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ? قل:لا أشهد . قل:إنما هو إله واحد , وإنني بريء مما تشركون ). .

إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض , من الجاهلية التي تغمر الأرض , هذا الموقف . لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية , قاطعة فاصلة , مزلزلة رهيبة . . ثم تتجه إلى الله وهي تعلم أنه على كل شيء قدير , وأنه هو القاهر فوق عباده . وأن هؤلاء العباد - بما فيهم الطواغيت المتجبرون - أضعف من الذباب , وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله ; وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله , وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتكمين في الأرض , قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق . وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت , وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد , وتنذرها هذه النذارة , وتعلنها هذا الإعلان , وتفاصلها هذه المفاصلة , وتتبرأ منها هذه البراءة . .

إنّ هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي ; إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان . منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن . وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما ; وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشيء الإسلام في الأرض إنشاء . . فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين . والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره . والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله . . لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة . . والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . .

 

مقدمة الوحدة - الرابعة من سورة الأنعام هذه الجولة - أو هذه الموجه - عودة إلى مواجهة المشركين المكذبين بالقرآن الكريم , المكذبين بالبعث والآخرة . . ولكنها لا تواجههم بتصوير تعنتهم وعنادهم ; ولا تواجههم بمصارع الغابرين من المكذبين من أسلافهم - كما سبق في سياق السورة - إنما تواجههم بمصيرهم في يوم البعث الذي يكذبون به ; وبجزائهم في الآخرة التي ينكرونها . . تواجههم بهذا الجزاء وبذلك المصير في مشاهد حية شاخصة . . تواجههم به وهم محشورون جميعا , مسؤولون سؤال التبكيت والتأنيب , وسؤال التشهير والتعجيب: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ? وهم في رعب وفزع , وفي تضعضع وذهول يقسمون بالله ويعترفون له وحده بالربوبية: (والله ربنا ما كنا مشركين)! . . وتواجههم به وهم موقوفون على النار , محبوسون عليها , وهم في رعب وفزع , وفي ندم وحسرة يقولون: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)! . . وتواجههم به وهم موقوفون على ربهم , وهم يتذاوبون من الخجل والندم , ومن الروع والهول ; وهو - جل جلاله - يسألهم سبحانه: (أليس هذا بالحق ?)فيجيبون في استخذاء وتذاوب: (بلى وربنًا). فلا يجديهم هذا الاعتراف شيئا: (قال:فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). . ويواجهون به وهم قد خسروا أنفسهم وخسروا كل شيء إذن ; وجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم ; وهم يجأرون بالحسرة على تفريطهم في الأخرة , وأخذهم للصفقة الخاسرة !

مشهد وراء مشهد , وكل مشهد يزلزل القلوب , ويخلخل المفاصل , ويهز الكيان , ويفتح العين والقلب - عند من يشاء الله أن يفتح عينه وقلبه - على الحق الذي يواجههم به رسول الله [ ص ] والكتاب الذي يكذبون به ; بينما الذين أوتوا الكتاب من قبلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم !