الزكاة عبادة يومية كعبادة الصلاة خلاف ما يعتقده الذين يربطونها بشهر محرم فقط

دأب كثير من الناس على ربط عبادة الزكاة بشهر محرم فقط، بل من الناس من يسميها العشر إشارة إلى قدرها في بعض ما تجب فيه ، والعوام يسمونها أيضا عاشوراء حتى أن بعضهم يقول للمزكي : اعطيني عاشوراء ، وهو يريد الزكاة .

وعندما نعود إلى كتاب الله عز وجل، نجد دائما ذكر عبادة الزكاة مقترنا بذكر عبادة الصلاة ، وهما عبادتان متلازمتان ، الشيء الذي يعني أن عبادة الزكاة كعبادة الصلاة كتابا موقوتا ،ذلك لأنها عبادة مشروطة ببلوغ النصاب فيما يزكى عليه بدوران الحول بالنسبة لزكاة الأموال ، وبموعد الحصاد بالنسبة لزكاة الزروع ، وبعدد الرؤوس بالنسبة لزكاة الأنعام . ولا يمكن أن يقتصر أداء هذه العبادة على شهر معين كشهر محرم ،لأن كل يوم في السنة قد يكون موعد دوران الحول الموجب للزكاة التي لا يمكن أن تؤخر إلى حلول شهر محرم .

ولا شك أن البعض يتخذون شهر محرم، وهو بداية السنة الهجرية بداية لضبط زكاتهم ، ولكن ذلك لا يلزم جميع الناس .

ولقد ربط الله عز وجل بين عبادة الصلاة ، وعبادة الزكاة لأنهما تشتركان في تزكية النفس البشرية ، فالأولى  ناهية تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبها تستقيم النفس ، والثانية واقية تقي من شح النفس .

ومعلوم أن النفس البشرية مجبولة على حب المال حبا جما لأنه قوام الحياة ، وهو حب يوقع في الشح حرصا على المال وكراهة لضياعه ،لهذا تعبّد الله عز وجل الخلق بعبادة الزكاة، وهي إنفاق المال علاجا لهم من مرض الشح الخطير .

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى أداء هذه العبادة من مقتضيات الإسلام والإيمان ، فعلى سبيل المثال ، وفي سياق الحديث عن علاقة المؤمنين ببعضهم البعض في كتابه الكريم جاء ما يلي : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )) .

إن علاقة الولاء بين المؤمنين ذكورا وإناثا تقتضي صفات معينة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما أساس استقامة الحياة كما  أنهما متوقفان على عبادة الصلاة الناهية ، وعبادة الزكاة الواقية ، وهاتان بدورهما متوقفتان على طاعة الله عز وجل ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

والولاء بين المؤمنين في قوله تعالى إشارة إلى اللحمة الجامعة بينهم، وما تقتضيهة من تراحم وتناصر . وعبادة الزكاة وسيلة من وسائل التراحم والتناصر حين يعود الأغنياء منهم على فقرائهم بشيء مما آتاهم الله الذي أمر بذلك في قوله تعالى : (( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ))، فالمال مال الله عز وجل، والناس  مستخلفون فيه  كما قال جل جلاله : (( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم أجر كبير )) . فههنا ارتباط وثيق بين الإيمان والإنفاق إذ يتوقف الإيمان على الإنفاق .

ولما كان الشح آفة الإنسان لحبه المال حبا جما ، فقد عالجها الله عز وجل بدواء الإنفاق ، وأغرى الإنسان به لينقله من حب المال الحب الجم إلى جب إنفاقه في سبيله ، وتحقيقا لذلك أغراه بالأجر العظيم ، وهو إغراء يستميل الإنسان ويعزف على وتر حبه الربح ، وكراهته الخسارة، فقال جل جلاله : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )) . فحين يسمع الإنسان الشحيح بطبعه بهذه الصفقة المربحة  يقبل عليها بنهم شديد  ينسيه حبه المال حبا جما، بل ينقله من هذا الحب إلى حب الإنفاق لما فيه من مزيد ربح تعشقه النفس البشرية . ومن ذا الذي لا يرغب في أن ينال مقابل درهم ينفقه سبعمائة درهم وزيادة مضاعفة ؟

وبنفس الطريقة يغري رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالإنفاق سواء المفروض منه أو إنفاق التطوع ،فيقول عليه الصلاة والسلام : "  ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمان بيمينه ، وإن كانت تمرة ثم يربّها لعبده المسلم كما يربّي أحدكم مهره أو فصيله حتى تكون يوم القيامة مثل الجبل " . إن هذا الحديث فيه علاج  ووقاية من داء الشح أيضا . فمن ذا الذي لا يحب أن تصير تمرة ينفقها في حياته جبلا من الأجر يوم القيامة ؟

ولقد اشترط الحديث أن  تكون عبادة الإنفاق من كسب  طيب حلال في ذاته وفي طريقة كسبه وإلا فلا اعتبار لها عند الله عز وجل .

وما يغفل عنه كثير من الناس الدور الكبير الذي تلعبه عبادة الزكاة في توثيق علاقة المسلمين فيما بينهم ، وفي إشاعة المحبة والرحمة والتآزر بينهم ،و بذلك يستقر مجمعهم  ويسوده الأمن والسلم . وبسب تضييع هذه العبادة بشكل أو بآخر تعم مجتمعنا وباقي المجتمعات الإسلامية آفات خطيرة منها شيوع اعتراض الفقراء السابلة لسلب أموالهم ، وتسور اللصوص منهم البيوت لسرقة ما فيها حتى  أن بيوت الله عز وجل لا تسلم من سرقة أحذية المصلين ، فعقب كل صلاة يلتمس بعض المصلين نعالهم أو أحذيتهم فلا يجدونها ، وهو أمر مؤسف جدا  حين تطال السرقة أقدس البقاع ، وهي مستشرية في الأسواق  شر البقاع . ومن الآفات أيضا أن تساوم النساء الفقيرات في أعراضهن ، وهي آفة تشيع الفاحشة في مجتمعنا بشكل غير مسبوق .

وهناك آفات أخرى تترتب عن تعطيل عبادة الزكاة التي لا يكاد من لا تجب عليهم يذكرونها إلا إذا كانوا ممن يرغبون في نصيبهم منها . وقد لا يبالي بها كثير ممن تجب عليهم ، ولا يعرفون نصابها ولا ميقاتها، وهو أمر خطير لأن في ذلك تعطيلا لركن من أركان الإسلام .

وعلينا كمسلمين أن نصطلح مع عبادة الزكاة إن كنا نرغب بالفعل في محاربة أخطر الآفات المترتبة عن تعطيل هذه العبادة . ولن يسلم مجتمعنا من تلك الآفات إلا إذا زال حقد  فقرائنا على  أغنيائنا ، ولم يبق المال دولة بين هؤلاء.

إن في المستشفيات مرضى فقراء يعوزهم الدواء الباهظ الثمن ، وإن في المدارس متعلمين يهددهم الفقر بالانقطاع عن الدراسة، ويحتاجون المال لمحاربة الجهل والأمية والضياع ، وإن في السجون غارمين ينتظرون من يعتق رقابهم بتسديد ديونهم ، وإن في المجتمع حالات بؤساء جياع وفي العراء ودون كساء ترنو أبصارهم إلى أغنيائنا لسد الرمق ، وستر العورة ، والاستقرار في مساكن تصون كرامتهم الآدمية ، ولا يتم ذلك إلا بتصالحنا مع عبادة الإنفاق .

ولا يعد من الإنفاق في شيء الكسب الحرام كبيع الخمور والمخدرات على سبيل المثال لا الحصر ، بل يعتبر الاتجار في هذه الممنوعات بمثابة زيت يصب على نار الإجرام والسرقة والسطو والانحراف  ، ذلك أن أصحاب هذه الخبائث إنما يروجونها غالبا في أوساط الشباب المعوز حتى إذا بلغوا درجة الإدمان سطوا على مال الأبرياء للحصول على المخدر أو المسكر . وكيف ينفق مسوق المسكرات والمخدرات وهو يدمر شباب الأمة ؟ وكيف يقبل الله عز وجل نفقته المكتسبة من خبائث  ؟

ومن المشاهد المؤسفة أيضا ألا تؤدى الزكاة كما أراد الله عز وجل حيث يعمد بعض التجار عندنا إلى توزيع قروش لا تسمن ولا تغني من جوع على قوافل المتسولين الذين يمتهنون الكدية والتسول . وعوض إغنائهم كما هي الحكمة من عبادة الزكاة، يشجعون بتلك القروش على امتهان حرفة تهين كرامتهم ، وتعلمهم التواكل، والكسل، والمكر في كسب عيشهم ، وقد تصير عند البعض مرضا نفسيا بحيث يكون هدفه جمع القروش وتخزينها حتى توافي بعضهم المنية وفي حوزتهم كميات كبيرة منها وقد ماتوا وهم في أسوأ حال من الإهمال والضياع .

فمتى سيأتي الوقت الذي يؤذن فيه في الفقراء أن هلمّوا إلى بيت المال لأخذ الزكاة ، فلا يقبل عليها أحد وقد أغنته الزكاة كما كان ذلك في عهد الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ؟

ومتى سنعود إلى صوابنا ونتصالح مع عبادة الزكاة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما ضاع منا كأمة إسلام  جعلها الله عز وجل خير أمة أخرجت للناس ؟؟؟

وسوم: العدد 792