حديث الروح

عبدالإله أحمد بن الحسن عبقاري

هناك حيث النفوس جائعة، إلى غذاء الطمأنينة، إلى السكينة التي افتقدتها في فورة المادة التي طمست على الأبصار والبصائر، فغدا المرء حيران لا يلوي على شيء، هناك تنتحب المروءة، تتردى الفضيلة في الزمن الأغبر، يمضي أهل الفضل في درب الحياة يشقون عباب الامال لا تروعهم نكبات الدنيا، وشهواتها، صم عن الخوض في الباطل، لسانهم يقضي بالجد، والجد ديدنهم، وإذا الروح أيقنت بالبوار وعلمت أن هادم اللذات مفرقها عن سكن ألفته، فلا ضير للجادة تعود، وبمكارم الخصال تجود.

تعانق أبصارنا رواسي شامخات، فإذا هي آيات باهرات  تقف شاهدات على كر الأيام ومر السنين، على حمق ابن آدم وصغار شأنه حينما علم  أن الطود الأشم لم يتحمل الأمانة الإلاهية، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، حينها يسري في عروقك فداحة الاستخلاف وتدرك أمنيات الصالحين، يا ليت أمي لم تلدني، وقول آخر يا ليتني  كنت شعرة في صدر مؤمن، عرفوا فغرفوا، ورغبوا عن الدنيا فأتتهم راغمة، تجر أذيالها، فما زادهم ذلك إلا إيمانا وثباتا، فكانت النتيجة جنات ونهر عند مليك مقتدر.

     وإذا رأيت ثم رأيت في هذه الجبال الراسخة، تبدى لك الصغار يتناغون على سفحه جياعا، ورأيت فقر الناس و بؤس الناس، وظلم الناس للناس في عالم يسوسه سدنة الوسواس الخناس، عالم الرذيلة، ومحق البركة، وانعدام الضمير، لأن المادة هي معبود القوم.. المادة ولا شيء غير المادة.

     ولست أدري هل خلقنا –معاشر الأدميين- لنشقى، وربنا الغفور ذوالرحمة،يخبرنا الخبر اليقين: "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"   يأتي الجواب صريحا صحيحا، لا مراء ولا جدال فيه، إن السعادة مفتاحها شهد مصفى تتنزل آياته بينات في صدور قوم آمنوا لما علموا، فعملوا بمقتضى علمهم، فكانت العاقبة للتقوى، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

     سأمضي عابرا سبيلي والخوف ملء الجفون والخوف كحل العيون، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون، يطير قلب المؤمن بجناحي الخوف والرجاء، ثم لا يدري ألرضوان يمضي، أم لمالك يستقبل؟ فتهدا نفسه حينا من الدهر، محسنة الظن برب مالك ورضوان، صلاة ربي وسلامه على الملائكة أجمعين، وينظر بعيني المسترحم الذليل إلى القبة الخضراء، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم.

ولعل شفاعة تناله فإن محمدا صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لايخاف الفاقة أبدا، ونؤمن أن الله عز وجل قد أرضاه رضاء وزاده نوالا وعطاء " ولسوف يعطيك ربك فترضى".

اللهم صل على سيدنا محمد و على أله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.

وهل يرضى صاحب الخلق السني، الخل الوفي، صاحب الشفاعة العظمى والمنة الكبرى، والعطايا الجزلى، وأحد أفراد أمته في النار؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فلا شفاعة إلا شفاعته ولا لواء إلا لواؤه، مقصد الأنبياء والأصفياء ومن دونهم، أول شافع ومشفع، وأول من تنشق الأرض عليه، صاحب الحوض المورود، والظل الممدود، بأبي وأمي هو محمد بن عبدالله صادق الوعد الأمين، عليه أزكى الصلاة والتسليم.

و منِ نفسك بعقلك الراجح، يا صاحب النظريات، والفكر الألمعي، وأحسن الخوض في الرسول والرسالة، وقس قياس العاجزين واقع المسلمين الموبوء بالإسلام نور الله الممدود من السماء إلى الأرض إلى قوم تراهم بعيني عقلك الطافح بنظريات الشرق والغرب سذجا و غيبيين لا علاقة لهم بالمادة، معبودِكَ الجديد الذي ظلت عليه عاكفا، وانتظر ما شئت إنا منتظرون، وجادل في الله بغير حق إنا معرضون، وإذا استطعت أن تتخذ نفقا في الأرض أو سلما إلى السماء فلا تقصر، قد تبدى أن عقول البشرية جميعها في صمتها وتفكرها تشهد بأن خالق الخلق واحد لا مثيل له " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، يدمي حال المسلمين قلوب الأعداء ممن كان فيه بقية من حياء، قبل الأصدقاء ممن باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل فطعنات من بني جلدتنا قاتلة من جهتين، جسدا وهو المشترك بين الأحياء والخلائق، وروحا وهو الأشد إيلاما على المومنين، ذلك أن ظلم ذوي القربى شديد على قلوب الصادقين.

ويومئ المثقف الآفل نجمه في سماء الحداثة المفترى عليها برأس عصفت به نظريات جافة جفاف أفئدة استفرغت من آدميتها فهي كآلات بشرية ، فهي تقنطر الذهب والفضة، والخيول المسومة، وتتخير في النساء كيف تشاء، وتتلذذ بطيبات الدنيا تستنفذها، وإذا حدثثه عن عدل الإسلام وكرمه وقابليته لتقويم حياة الناس، أجلب عليك بخيله وركبه، ولوى عنقه مزدريا بنظرة، تكاد تميز من الغيظ إليك، فكل ذلك عنده خيال ومثال يطير بجناحي المزايدة السياسية والطوباوية المقيتة.

وسوم: العدد 820