خطابة الجمع كالغيث لا ينفع إلا إذا نزل بأرض خصبة تهتز وتربو وتنبت

" عندما يستهزىء الخطيب بالعقول "عنوان مقال منشور على أحد المواقع استرعى انتباهي، فبادرت بقراءته لمعرفة ما يتضمنه ، فبدا لي أنه يعالج فكرة  فشل من يمارس الخطابة في استمالة مخاطبيه بسبب تطورهم المقابل لجموده . ومعلوم أن فن الخطابة غايته هي استمالة من يخاطب من مخاطبين للتأثير فيهم عقلا أو عاطفة أو هما معا ،وهو ما يقتضي  وجود تفاعل بين الخطباء والمخاطبين ، ولا يحصل ذلك إلا إذا كان الخطيب  خبيرا بأحوالهم وبكيفية التأثير فيهم . وإذا كان المخاطبون على قدر عال من المعرفة ، وكان من يخطب فيهم متواضع المعرفة أو فاقدها ،فإنه لا يستطيع استمالتهم بله التأثير فيهم .

ومعلوم أن فن الخطابة لا تخلو أمة من الأمم رمت فيه بسهم ، وقد سجل التاريخ خطبا مشهورة لخطباء مفوهين صار بعضها يدرّس للمهتمين بهذا الفن . وتزخر كتب الأدب عند كل الأمم بتلك الخطب التي نالت الإعجاب ولا زالت كذلك على مر العصور .

ومعلوم أن الخطابة في المجال الديني مختلفة تماما عن مثيلاتها في مجالات الحياة الأخرى، وإن كانت تلتقي معها في الهدف والغاية، وهو استمالة المخاطبين والتأثير فيهم ، فهي أقدم فن في التاريخ البشري بشهادة القرآن الكريم ،وهو الرسالة الخاتمة الموجهة للناس كافة، حيث يخبرنا عن خطابة الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وتوجد سور وآيات منه  فيها إشارات إلى مخاطبتهم لأقوامه بغرض إقناعهم والتأثير فيهم واستمالتهم إلى عبادة الله الواحد الأحد عوض عبادة الأوثان والأصنام بشرا وحجرا ونجوما وكواكب ونيرانا وغير ذلك مما كان يؤله جهلا وضلالا . ومقابل خطابة الرسل والأنبياء كانت هناك خطابة من كانوا يعارضونهم لصد الناس عن دعواتهم .

ونظرا لأهمية الخطابة في دين الإسلام ،فقد تعبد بها الله عز وجل العباد ، وجعلها عبادة أسبوعية من تخلف عنها طبع على قلبه ، وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : "  لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرّق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم " وهذا يدل على أهمية خطابة الجمعة وعلى خطورة التخلف عنها ،لأنها  في دين الإسلام أصبحت من صميم العبادة ، وهي تسد مسد ركعتي  صلاة الظهر إلا أنها لا تعوض عند من فاتته . ولما كانت على هذا القدر من  الأهمية ،فإنها منزهة ككل عبادة عن العبث والابتذال سواء من جهة من يخطب أو من جهة من يخاطب، لذلك يمنع اللغو أو الانشغال عن خطابة الجمعة لقدسيتها كعبادة ولأهميتها، وهو ما لا يشترط في غيرها من أنواع الخطابة في مختلف المجالات ، وهذا ما جعل بعض الناس يتساءلون دائما لماذا يمنع المخاطبون في الجمع من الكلام ، ويهددون ببطلان صلاتهم إن فعلوا ذلك .

وتكتسي الخطابة في الجمع أهميتها من تناولها بالحديث كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم  المنزهين عن الباطل والعبث، ونظرا لملابستها القرآن الكريم والحديث الشريف، فإن غيرهما من الكلام فيها يكتسي أهمية  أيضا ، ولا ينفك عن قداستهما ما لم يخالف مضمونهما بيانا أو تأويلا .

ولما كانت الخطابة عموما تتوجه إما إلى العقول أو إلى العواطف ، فإن خطابة  الجمع لا تختلف عن عموم الخطابة في ذلك ،لأنها تشتغل على أمرين هما الترغيب والترهيب ،اللذين يعتمد فيهما على الإقناع والتأثير ، فيتوجه الأول إلى العقل، بينما يتوجه  الثاني إلى العاطفة ، وبين العقل والعاطفة تناغم أو علاقة جدلية، لأن العقل إذا ما اقتنع، استجابت وانضبطت له العاطفة  حتما.

وإذا كانت الخطابة في مختلف المجالات يلجأ أصحابها إلى كل الطرق والأساليب لاستمالة الناس والتأثير فيهم ، والتركيز على العاطفة أكثر من التركيز على العقل ، فإن خطابة  الجمعة باعتبارها من صميم الدين أو التدين لا  تسمح بمن يمارسها باعتماد ما يعتمده الخطباء في مجالات أخرى من طرق ووسائل غير مشروعة،  بل تلزمه بضوابط على رأسها الالتزام بما ألزم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من صدق القول . فإذا كان الخطباء في مجالات غير المجال الديني يعتمدون الكذب والتلفيق والخداع  والتمويه والتهويل ...وغير ذلك من الأساليب غير المشروعة ، فإن خطباء الجمعة لا يسمح لهم بذلك، لأنهم في خطبهم إنما يبلغون عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم الحق ولا شيء غير الحق ، ولهذا إذا ما حاولوا استغلال خطابة الجمعة لدعاية أو لفائدة جهة  ما أنكر عليهم ذلك ، واتهموا في صدقهم  ومصداقيتهم .

وإذا كان من شروط الخطابة عموما طلاقة اللسان ، وفصاحته ، وجهورية الصوت ، وسلامة التعبير ... وغير ذلك مما يسهم في قوة الاستمالة والتأثير ، فإن خطابة الجمعة تشترك مع غيرها في ذلك، لكن دون مبالغة توحي بالتصنع ، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلك المتنطعون " والتنطع في الكلام هو التفاصح فيه، وتكلفه ،ومثله التشدق وهو الكلام بملء الفم مبالغة في التفصح. كما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قوله : " إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها " والتخلل باللسان هو تحريكه كما تحرك البقرة لسانها  يمينا وشمالا لأنها تستعمله في الأكل خلاف الأنعام التي تقضمه بأسنانها  ويشيه بها من يتكلف التفصّح ، وهو أيضا التقعر في الكلام  . ولا عيب في خطابة  من أوتي الفصاحة والبلاغة طبعا وسجية وسليقة  دون تكلف بل هو أمر محمود ومطلوب ،علما بأن الفصاحة والبلاغة دون تكلف تسهم في استمالة المخاطبين والتأثير فيهم، لأنها تساعدهم على إدراك مضامين الخطب بشكل جيد وبيسر وسهولة .

ولا يمكن أن تكون الفصاحة والبلاغة هدفا في خطابة الجمعة كما يتخذها الخطباء كذلك في مجالات أخرى ،والذين يتخذونها حيلة للتمويه على تهافت كلامهم  بغرض التأثير فيمن يخاطبون، وهو استخفاف بهم .ولا عيب في علو صوت خطيب الجمعة  دون تكلف أيضا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه ،وعلا صوته ، واشتد غضبه كأنه منذر جيش .

والمفروض في خطابة الجمع أن تكون مسايرة لما يطرأ على حياة المخاطبين تعالجها على ضوء التصور الإسلامي توعية لهم بكيفية التعامل معها ليظلوا داخل إطار انتمائهم لدينهم ، ولا ينساقوا ولا يميلوا مع تحكيم الأهواء فيها عوض تحكيم شرع الله عز وجل . ولا يحسن بخطباء الجمع أن يتنكبوا الحديث عما يعرض للناس في حياتهم ،و يطرقوا مواضيع وقضايا بعيدة عن اهتماماتهم ومشاغلهم لأن في ذلك غش لهم ، واستخفاف واستهزاء بهم  تماما كما يسخر من عار يعطى خاتما للزينة عوض لباس يستره .

ومعلوم أنه كما يلزم خطباء الجمعة بما يلزمهم من ضوابط ، فإن مخاطبيهم لهم أيضا ما يلزمهم ، وما يلزمهم ليس السكوت والاستماع فقط بل إيلاء خطب الجمع ما تستحقه من أهمية لكونها جزءا من العبادة . ولا يمكن أن تثمر تلك الخطب أو تؤتي أكلها إلا إذا صادفت عقولا تستوعب مضامينها وقلوبا تتفاعل معها ، فهي تماما  كالغيث الذي إذا نزل بأرض خصبة اهتزت وربت وأنبتت . وإذا كانت العقول والقلوب التي تتلقاها كالقيعان وهي الأرض التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا فائدة ترجى من أصحابها لأنه لا سبيل للتأثير فيهم أو استمالتهم لما فيه خيرهم وصلاحهم . والمخاطبون بخطابة الجمع شأنهم كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  حيث قال : " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع بها الله الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". وينطق مضمون هذا الحديث على المخاطبين بخطابة الجمع، فهم ثلاثة أصناف : صنف ينتفع بما يسمع ، وصنف ينفع بما يسمع ، وثالث لا ينتفع ولا ينفع ، وهذا الأخير هو الذي يجعل شغله الشاغل  انتقاد خطابة الجمع ، لا يرضيه خطباء  ، ولا تعجبه خطب ، ولا يستوعب له عقل ، ولا تتحرك له عاطفة . وقد يعرف هذا الصنف من طريقة التحاقهم المتأخر  ببيوت الله ، وقد أمروا بالتبكير إليها، ومن طريقة جلوسهم بها حيث يتخذون جدرانها متكأ  يمينا وشمالا، ولا يستقبلون إماما ، ويلقون سمعا ، ويستعجلون مغادرتها ، وما يكاد الواحد منهم يتخطى بوابات المساجد وهو حريص على إبداء الامتعاض لمن حوله  حتى يبدأ في كيل النقد الجارح للخطباء وهو لمّا يلق بالا لما قالوا ولا فقه عنهم شيئا ،بل كان مشغولا بساعة في يده أو بأخرى معلقة على الجدار يعد دقائقها وثوانيها ساخطا وناقما على من يخاطبه بل كارها له لا يطيق النظر إليه ، ومثل هؤلاء يستهزؤون بخطابة الجمع وبخطبائها خصوصا نوع يعتقد أنه فوق نصحهم ووعظهم وإرشادهم ، وأنه إنما يؤم المساجد لأداء ركعتي الجمع  ليس غير تنطعا وكبرياء .

وعود على بدء نقول إذا كان بعض الخطباء  يستهزؤون بعقول مخاطبيهم  بخطب دون مستواهم  ودون اهتماماتهم ومشاغلهم ودون أقدارهم ، فإن بعض هؤلاء المخاطبين  يستهزؤون أيضا  بالخطباء حين يعرضون جملة وتفصيلا عن خطب الجمعة مهما كان خطباؤها لأنهم في حقيقة أمرهم  كالقيعان لا فائدة ترجى منها .

وسوم: العدد 822